(حين لا نخشى الظلمة)
أبو بكر إسماعيل.
ربما كانت ثيمة الوحدة بتنويعاتها المتعددة من أكثر المناطق التي استهوت خيال الروائيين فيعصرنا الحديث، مع قليل من التعميم المخل، يمكننا أن القول إنه قلما توجد رواية تخلو صفحاتها من شخصيات تصارع الوحدة وتكابد وحشتها وهي تشق طريقها نحو الخلاص والسلام الداخلي في مدة من ما -بغض النظر عن طول هذه المدة- على امتداد خط سير الأحداث. هذه المقالة هي سباحة في عوالم الوحدة التي نقرأها في شخوص الروائي الياباني هاروكي موراكامي.
إن ثيمة الوحدة في الحبكة الروائية هي محاكاة فنية لمعضلة اجتماعية قديمة ومتجددة خبرها الإنسان منذ وعى وجوده ذاتًا منفصلة ومدركة لما حولها، ثمة عدة مداخل نفسية وفلسفية يمكن التوسل بها لفهم طبيعة التفاعلات الاجتماعية التي يختبرها الفرد في وحدته متأثرا بها ومؤثرا، لكننا لن نلجأ إلى هذه الأدوات الأكاديمية والنقدية -رغم أهميتها- لندرس بها هذه الموضوعة، بل سنقف ونتجول لنرمي بعدة نظرات نلقي الضوء من خلالها على طبيعة هذه الوحدة لدى موراكامي من خلال شخوصه التي تمر بهذه التجربة بصورة فريدة في نظرنا، نحاول أن نفهمها ونستنطقها ونستمع إليها في ذات الوقت، وبالتحديد سنركز على روايته الماتعة التي حملت عنوان "تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجّه"، ثم نعرج بعد ذلك على مجموعته القصصية المعنونة بـ(Men without women).
وكما عودنا هاروكي في كثير من أعماله، فإن المونولوج الذي تنخرط فيه الشخصيات سواء كان حوار ذاتي مع نفسها أم جاء على لسان السارد، يتخذ موقعه -المونولوج- قطعةً فنية أصيلة ومكون فريد في كتابات هاروكي، لا يقل أهمية عن بقية عناصر السرد، مثل حبكة الرواية وأحداثها الشائقة لديه. وفي رحلتنا لفهم ملامح الوحدة الهاروكية نجد أن أهم سماتها هي تلك الحتمية التي تكتنفها وتجعلها قدرا لا جدوى من الفرار منه، بل ينبغي أن نتعايش معه في ليس في عزلتنا فقط، بل حتى في تفاعلنا مع أقرب الناس الينا سواء من أسرة أو زملاء أو حتى أحبة نقاسمهم رحلة الحياة نحو المجهول، الوحدة هاهنا ليست دربا موحشا بالضرورة، لكنها إعادةاكتشاف للذات وإبحار نحو أفق يتعذر على الرفقة أن توصلنا إليه. هذا ما يتضح لنا حينما يخبرنا السارد في طيات الرواية عن الصدمة التي تعرض لها تسوكورو بعد أن قررت مجموعته المفضلة أن تقطع معه كل الروابط دفعة واحدة وبدون تدريج، وهذه المجموعة -حتى نفهم عمق الصدمة التي تعرض لها البطل- لم تكن زمالة عابرة محكومة بتقاطع دروب الحياة، ربما كان ذلك سببا في تسهيل التئام شملها في البدء، لكنها لاحقا تطورت وتشكلت وخلقت رابطا عميقا بين أفراد المجموعة حىن غدت ملاذا وملجأ لكل فرد منهم في تلك المرحلة من حيواتهم، بل لعلها كانت أعمق تجربة في العلاقات الإنسانية على الإطلاق، يتاح لأفراد المجموعة أن يختبروها.
وعلى ما توحي لنا به المشقة العظيمة والمعاناة القاسية التي يكابدها عديم اللون -لقب تسوكورو- في وحدته كي يتعافى من هذه الصدمة، فسير الأحداث يكشف أن بطل الرواية المنكوب -رغم كل شيء- تمكن من شق طريقه في الحياة وتحقيق حلمه واكتشاف ذاته في شوارع طوكيو المزدحمة وبين محطات قطاراتها التي طالما هام بها وأغرم بروعة تصاميمها منذ الصغر، رغم الوحدة العميقة والعزلة الضاربة بجذورها في روح تسوكورو فقد تمكن من أن يصير مهندسا بارعا -كما أراد- ووجد عملا قريبا مما كان يطمح إليه. ونرى سنرى لاحقا، وحينما يفتح جرح الماضي ويقرر أن يفهم ما حدث -من قطيعة تعسفية- بعد انقضاء ستِّة عشر عاما على ما حدث، استجابة إلىإصرار محبوبته بأنه يحتاج إلى (closure "إغلاق") حتى يمضيا قدما في علاقتهما، يقرر بطلنا الوحيد أن يلتقي بهم، ليخوض حوارات مواجهة مليئة بالمفاجئات ومشحونة بالعواطف المكبوتة، يلاحظ فيها الجميع كل حدة أن عديم اللون هو الوحيد (الوحدة هنا مضاعفة) الذي حقق حلمه بينهم وعاش الحياة التي كان يطمح إليها منذ أن كان على أعتاب التخرج في الثانوية، في الأقل على المستوى المهني (Career).
وبطلنا -مثل كثير من شخوص هاروكي في أعماله المتعدد - عاشق للموسيقى الكلاسيكية وله ذائقة رفيعة تتكشف في طيات الرواية أثناء حوارتها، لكننا سنفتقد وله وهيام هاروكي بالقطط (سواء التي كانت صامتة أو متحدثة) في هذه العمل، وكذلك شغف شخصياته بالقراءة والاطلاع على منتوج الأدب كما في رائعته ( كافكا على الشاطئ) وعمله المعنون بي (the wind up bird chronicle)، فهذه العناصر هي زاد الوحدة في عوالم هاروكي.
ربما نجادل أن عديم اللون كان سيعيش حياة اجتماعية أفضل لولا انفصاله عن مجموعته، لكن أحداث الرواية توضح أن وحدة الرحلة وخلوها من الرفقة كانت قدرا محتوما على كل المجموعة كما سيتضح لاحقا، خصوصا حينما يخبرنا (أو) بصورة مفاجئة وغريبة أنه لم يجد مثيلا لتلك الرابطة العميقة والمحبة الصادقة التي تتخلل الروح ويعتبق بها الوجدان بعد تشتت مجموعته، حتى بين زوجته وأبنائه.
ورغم أن تسوزوكي فارق مراتع صباه في مدينة ناغويا قاصدا المدينة الأكبر طوكيو، فناغويا هي الأخرى مدينة حديثة، بها ما بالمدن من اشكاليات عميقة مثل الاغتراب عن الذات، واضطراب التواصل الاجتماعي الذي يلقي بظلاله على إدراك الفرد المتمدن لهويته في هذا العالم المزدحم وذي الإيقاع السريع.
ومن هنا نعود لرؤية هاروكي للوحدة بصفتها قدرا حتميا في حياة المدن يتعذر على الأفراد الإفلات من براثنه، لكنه كذلك وفي ذات الوقت ضرورة للذات حتى تدرك نفسها وتصير واعية بفرادتها وتميزها، مثلما يحدث كذلك حينما نتصل بالآخرين فنحن ندرك أنفسنا وننظر لي أرواحنا من خلال أعين الرفاق، وهذه الرحلة التي تسلكها الذات بين وحشة الوحدة وأنس الرفقة في المدن الحديثة، تذكرنا بمفهوم العزلة ومقاماتها في ميراث المتصوفة محطةً في طريق الترقي، إذ رغم قسوة وطأتها على السالك فإنها تسهم في نضجه وتطهيره من أدران النفاق وتعينه على تهذيب سلوك النفس صعودا إلى مراتب الصالحين، هاهنا لا تعود الوحدة مرادفة في وعينا للاستيحاش بل ينقلب الأمر إلى نقيضه لتحمل الوحدة في طياتها أنسا مختلفا عما ألفناه، ربما كانت بعض مقاطع أغنية (the spectre) هي أنسب تعبير عما نحاول توضيحه في بإسهاب في هذه السطور:
Is this a place that I call home
To find what I've become
Walk along the path unknown
We live, we love, we lie
Deep in the dark I don't need the light
There's a ghost inside me
It all belongs to the other side
We live, we love, we lie
وأختم حديثي عن حتمية الوحدة لدى هاروكي بهذا الاقتباس على لسان السارد "فكّر تسوكورو في أن حياتنا مثل معزوفة موسيقية معقدة، مليئة بجميع أنواع الكتابة المشفرة، والألحان الستة عشر والنوتات الاثنتين والثلاثين والعلامات الغريبة غيرها، ولهو من ضروب المستحيل أن تُفسَّر ذلك وعزفه بشكل صحيح، وحتى لو استطاع أحد ما ذلك، ثم حوّل ما فك شفرته وعزفه بالأصوات الصحيحة، فليس هناك ما يضمن أن الناس سيفهمونه بشكل صحيح، أو سيقدرون المعنى الكامن فيه".
**
أما المجموعة القصصية التي حملت عنوان (Men without women) فتتكون من سبع قصص قصيرة تدور حول فقدان المحبوبة، تتنوع طبيعة العلاقات التي تربط كل محب
بمحبوبته في هذه القصص، لكننا سنلقي نظرة مقتضبة على ماهية الوحدة التي تختبرها هذه الشخصيات في قصتين، وبأقل قدر ممكن من التفاصيل حتى لا نحرق الأحداث لمن يرغب في قراءة المجموعة.
تدور أحداث القصة الأولى بين ممثل يستأجر سائقة خاصة لقيادة سيارته وإنجاز مهمة إيصاله إلى مواقع عمله، يسود الصمت بين الممثل والسائقة عدة أسابيع، نظرا لانشغال الممثل بمراجعة نصوصه التي سيؤديها أثناء القيادة، إضافة إلى ضمور رغبته وانغلاق شهيته منذ سنوات في التعرف على الناس وخصوصا النساء بعد وفاة زوجته. لكن طول الملازمة الذي يجمع بين ممثلنا وسائقته يساهم بدفع العلاقة بينهم ليبدأ حوار عميق يفتح فيه الممثل قلبه بشكل عفوي وهو يجاوب على سؤال تطرحه عليه السائقة الشابة في إحدى المرات، في حين يسهب الممثل في إجابة السؤال يتضح لنا عمق الوحدة التي يعيشها بعد فقدان زوجته، فقد كانت حبيبة وصديقة وشريكة له في ذات المهنة كما ذات المسكن على امتداد سنوات زواجهما العامر بالمحبة والحنان، لكن تتبدى المعضلة حينما يعجز عن مواجهتها بحقيقة خياناتها المتعددة التي يكتشفها أثناء صراعها مع مرض السرطان، لتفارق حياته دون حدوث مكاشفة بخصوص هذا الأمر. يعيش بعد ذلك الممثل ليحمل حزنه وشكوكه وألمه لعدة سنوات، يكابد هذه المشاعر المتناقضة والمتنازعة، ونظرا لقوة العلاقة التي ربطتهما، فهو لا يعجز عن أن يغفر لها ما اقترفته في حقه، فالمحبة الصادقة تعيننا على الصفح و الغفران، لكنه في المقابل يفشل في إدراك السبب الذي دفعها نحو الانغماس في هذا النوع الخَطِر من العلاقات، كونها متزوجة ومحبة لزوجها، أو في الأقل هذا ما كان يظنه. وعلى امتداد هذه الحوارية بكل تفاصيلها يتجلى لنا أَلَفُ الوحدة التي يعيشها الزوج بعد موت زوجته، فهو لا يشعر أبدا بحاجة ماسة إلى شريك عاطفي يقاسمه حزنه وشكوكه بخصوص ماضيه، وخوفه وقلقه بخصوص مستقبله كما هو متوقع لمن يمر بهذا النوع من التجارب، بل يسير بتؤدة و تمهل دون أن ينتكس في مواجهة روتين حياته اليومي. لكن -كما في كل حوارية ماتعة- فإننا ندرك ذاتنا ونكتشف أنفسنا ونحن نستمع لما يقوله محدثنا، وهذا ما يتضح لنا حين تعلق السائقة التي تلعب دور المستمع المنصت في هذه القصة على بعض تساؤلات الممثل المنثورة في ثنايا قصته التي يرويها على لسانه، خصوصا حينما تشتد أحداث القصة غرابة وهو يحكي لها عما فعله في سبيل الحصول على إجابات شافية عن الأسئلة التي رحلت برحيل زوجته، الشخص الوحيد الذي يحمل هذه الإجابات! حيث يقرر الزوج بكل غرابة أن يصادق آخر عشاق زوجته قبل رحيلها، ثم يلتقيان عدة شهور ويخوضان عدة حوارات هادئة وعميقة يحاول فيها الزوج –الذي يتظاهر بعدم معرفته بالعلاقة أمام العشيق ويبتلع حنقه وغصته- أن يستخرج بعض الإجابات للتساؤلات التي أرقته، من خلال أريحية الصداقة التي أبدع الممثل في مد بساطه لغريمه العشيق، إضافة إلى استغلال الطمأنينة التي يتركها الشراب على مزاج العشيق القلق والحزين. ينهي الزوج هذه الصداقة الزائفة بعد أن يدرك أنه لن يصل إلى الإجابات التي يسعى إليها، لكن في تلك الحوارات الهادئة تظهر مرة أخرى لمحة بارزة لفلسفة هاروكي حول الوحدة وأهميتها في التصالح مع الآخر، هذا التصالح هو خطوة أخرى نحو الذات سويلةً للوصول إلى السلام الداخلي، هذا التصالح الذي لا يمكن تحقيقه من إلا من خلال نظرة عميقة وصادقة إلى أنفسنا، وهذه نظرة -وفقا لقرائتنا لهاروكي- لا تتأتى للفرد إلا حينما يختلي بذاته بعيدا عن جلبة التواصل الاجتماعي وثقل العلاقات التي تشكلنا ونشكلها بذات القدر، بكلمة أخرى فهذه هي خلاصة العزلة الصوفية التي تعبر عن نفسها في المدينة وَحْدةً أليفة لابد للفرد أن يختبرها حتى يدرك ذاته ويوسع أفق هذا الإدراك ويتصالح معها ومع الآخرين في نهاية المآل، ونورد هاهنا اقتباسا على لسان العشيق تتضح من خلاله المقاربة التي تحدثنا عنها.
“proposition that we can look into another person's heart with
perfect clarity strikes me as a fool's game. I don't care how well we
think we should understand the or how much we love them. All
it can do is cause us pain. Examining your own heart, however, is
another matter. I think it's pos- sible to see what's in there if you
work hard enough at it. So in the end maybe that's the challenge:
to look inside your own heart as perceptively and seriously as you
can, and to make peace with what you find there. If we hope to
truly see another person, we have to start by looking within
ourselves".
أما القصة الأخيرة التي مقالنا –والأخيرة كذلك في المجموعة القصصية- فهي التي كان لها شرف استخدام الكاتب لعنوانها عنوانًا لكامل المجموعة (Men without women).
تبدأ القصة بصورة مباغتة من خلال مكالمة في عمق الليل البهيم، يستيقظ على إثرها الراوي من فراشه الزوجي ليرد على تلك المكالمة، فيتفاجأ بصوت رجل جامد وحزين وجاف في ذات الوقت، يخبره المتصل أن زوجته –زوجة المتصل– قد قتلت نفسها الأربعاء الماضي وقد رأى أن يخبره بذلك على أي حال.
هكذا تنتهي المكالمة بدون شرح أو توضيح لطبيعة العلاقة التي تربط الراوي بتلك المرأة، ليعود في حيرة عظيمة من أمره في منتصف الليل، معظم أحداث القصة على خلاف الأولى تتحرك خلال مونولوج داخلي يستكشف فيه الراوي الأحداث ليفهم فحوى المكالمة وعلاقته بتلك المرأة التي أخبره زوجها بانتحارها، من خلال الحوار الذاتي تتضح لنا -وللراوي- أن هذه المرأة كان حبيبته قبل أمد طويل يصعب حتى على صاحبنا استذكار أحداثه بدقة، لذلك يقرر بناء الأحداث وفقا لما يحمله تجاهها من أحاسيس ما زالت محفورة في وجدانه حتى اليوم. من هنا نفهم جانبا مهما من طبيعة العلاقة التي جمعتهما وكنه العاطفة الملتهبة التي اشتعلت في وجدان الراوي تجاه تلك الفتاة فيما مضى، فرغم قصر سندالمراهقة التي ضمتهما معا، فإن عمق العاطفة التي تبادلاها في ذلك الوقت شكلت جزء من هويتهما ووسَّعت إدراكهما لذواتهما من خلال الأفق التي الذي ينفتح علينا من جراء ذلك النوع من العلاقات.
كان فراقهما قدرا مثلما كان لقاؤهما قدرا، قرر الراوي في ذلك الوقت أن يبحث عن محبوبته التي اختفت بغتة ومن غير إنذار-مثل مكالمة زوجها– فقضى زمنا يتقصى ملامحها في وجوه العابرين حيثما ما ساقت خطاه، يدرك بعد ذلك أنها سافرت فينطلق نحو المنطقة التي اتجهت إليها ليكتشف أنها رحلت مرة أخرى، وهكذا يستمر في رحلة بحث مضنٍ عن تلك الحاضرة الغائبة التي لا تفارق بسمتها خياله أينما حل، بعدها بمدة يدرك أن لقاءهما مرهون بإرادة القدر وحده، ذلك القدر الذي جمعمها وفرقهما دون أن يكون لهما أدنى رأي في سير الأحداث.
يتحرك المونولوج في ذهن الراوي الذي لا ينفك متسائلا عن الدافع الذي جعل الزوج يتكلف عناء هذه المكالمة ليخبره بموتها رغم انقطاع علاقته وأخبارها عنه منذ أمد طويل يسبق حتى زواجها من هذا الرجل، ثم نقرأ بعض الذكريات الحميمية التي يحتفظ بها الراوي لتلك الفتاة التي يقرر أن يطلق عليها اسم M، وبعد أن تكتمل الصورة والأحداث المحيطة بالأحجية التي بدأت بتلك المكالمة المقتضبة لرجل مجهول الهوية بعد منتصف الليل، يدرك الراوي مقدار لوعته وحزنه لموت تلك الفتاة، غير أن هذا الحزن يأخذ طابعا أقل حدة بالنسبة للزوج الذي يشعر الراوي بالتعاطف تجاهه، ويعده بصدق أكثر الرجال حزنا في العالم بسبب ما حل به، مما يجعله في المركز الثاني بعده مباشرة. يستعيد الراوي لحظة فراقه الأولى وتبعاتها على روحه اليافعة ووجدانه الغض، حينما أدرك ألا سبيل إلى استعادة محبوبته التي اختفت فجأة، فيدرك حينها أنه صار ينتمي إلى عالم (Men Without Women).
هذا الإدراك التي الذي يختبره وهو في عمق حزنه ووحدته وعزلته يعود بنا إلى حتمية الوحدة لدى شخوص هاروكي، فالرواي يدرك أن فقده ليس حظا عاثرا وقع بفعل فاعل، بل هو محطة وتجربة وجودية يختبرها كل رجل عشق وأحب امرأة بكل ما تحمله كلمة الحب من مضامين التضحية والتفاني والاستعداد اللامنتاهي للحصول المحبوب والفناء به وفيه ومن أجله، في الأقل في لحظة من اللحظات. لذلك فإن كل ما يتطلبه الأمر لدخول عالم (Men without women) هو أن تختبر هذا الحب الصادق ثم تفقد بعد ذلك محبوبتك، وبغض النظر عن الكيفية والظروف فيجب عليك أن تدرك أنك لن تعود كما كنت، بل يجب عليك أن تتقبل ما فقدته، وتمضي قدما حياتك. وهذا ما فعله الرواي كما يتضح لنا منذ بداية القصة، حيث نهض من فراشه الذي يتشاركه مع زوجته، لكنها لن لكون بديلا لما فقد، ولا ينبغي -وفقا لهذه الفلسفة– لها أن تكون، بل هي كذلك محطة أخرى في حياة زوجها مثلما قد يكون هو أيضا محطة في حياته، فكل من في آخر المطاف سيحمل عبء وحدته معه منذ البداية وحتى النهاية.
That's what it's like to lose a woman. And at a certain time, losing one woman means losing all women. That's how we become Men Without Women.