من الفلاشا؟
الفلاشا هم المهاجرون من إثيوبيا أو الذين ينحدرون من أولئك الذين هاجروا من إثيوبيا إلى إسرائيل، ويطلق عليهم اسم "بيتا إسرائيل" وتعني جماعة إسرائيل، وباختصار هم يهود الحبشة، أو اليهود الفلاشا الذين تم نقلهم سرا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، ويقدر عددهم بنحو 130 ألف. وهؤلاء لهم مستوطنات خاصة بهم لا ترقى إلى مستوى المستوطنات الأخرى الخاصة باليهود البيض، ولا يتمتعون بالمزايا التي يتمتع بها غيرهم لذا هم يشعرون أنهم مهمشون لا حقوق لهم.
"رغوة سوداء" هي رواية الأريتري حجي جابر الذي جعل من قلمه الجسر الذي يصل بلده المنهك أريتريا ببقية بلدان العالم وأداة التعريف به وجعله مشاهدا لكل من يقرأ مؤلفاته، فقد حمل مداد قلمه هموم أهله الذين أنهكتهم الحروب وقست عليهم الظروف ونال منهم الفقر حتى بات كل فرد يبحث عن الخلاص بطريقته الخاصة.
داود.. ديفيد.. داويت.. الأرتيري تارة والأثيوبي تارة أخرى، وابن بيتا إسرائيل الذي يحلم بأرض الميعاد والعيش فيها. من هو؟ إنه الباحث عن الهوية والجذور المقصي عنهما في الآن نفسه.
أحد أفراد "ثمار النضال" الذين أنجبوا على جبهات القتال نتيجة علاقات غير شرعية، لا يعرف أماً غير الثورة ولا وطنا غيرها ولا طريقة للعيش سوى القتال على جبهاتها، فهل هذه الحياة التي ترضيه؟ البؤرة إذن هي هذا الشخص الذي لفظته أرضه ولم تمنحه سوى ظل الثورة ليعيش ويقتات على منجزاتها. رحل عنها دون أن يلتفت إليها فلا ذكريات محببة ولا ماضٍ جميل يربطه بها فمضى في طريق الخلاص منها "كانت رحلة يائسة لا تحتمل سوى خاتمتين، إمّا الوصول إلى الوجهة الأخيرة، أو القتل على يد رجال الأمن، ومع هذا فقد أقدم عليها داود حين تساوى عنده الموت والحياة في معسكر التجنيد الإجباري. لذا حين عبر الحدود برفقة عشرات، كان على خلافهم تمامًا، فقد توقّف لينظر وراءه. أراد أن يستشعر حقيقة النجاة، حقيقة مفارقة الإذلال إلى الأبد. هناك خلف تلك الجبال البعيدة التي استنفدت طاقته وهو يتسلق بعضها ويلتف خلف الآخر، تقع «إريتريا». ليس ثمّة حنين داخله على الإطلاق. كان الحنين يتساقط من روحه مع كل خطوةٍ يخطوها في الاتجاه المقابل. كان يتطهر بالبعد عن الوادي الأزرق، يفرغ رصيده من القهر في محاولة العودة إلى روحه قبل أن تلتصق بها النتوءات والندوب." ألقى الكاتب الضوء على هذه الفئة المنبوذة اجتماعيا والتي لا أصول لها لتظل هامشية تطفو على السطح لا عمق لها ترتد إليه وكأنها غير مرئية.
واستخدم داود المسلم/ وديفيد المسيحي/ وداويت اليهودي أداة إنسانية تعبيرية تعكس معاناة الشخص نفسه لكن بأوضاع ومسميات وحكايات مختلفة حسب ماتقتضيه حاجة الأمان وتوثيق صك الارتباط بأرض ما تكون الملاذ الآمن الذي طالما حلم به وارتجاه.
والسؤال لماذا لم يجعل جابر خصوصية مكانية أو زمانية أو قصصية لبطل الرواية؟
أميل إلى أنه يتحدث عن قضية أكبر تتجاوز هذه الحدود المقيدة، ويحاول أن يعالج اللا انتماء والخواء الذي يشعر بهما المرء غير المتصل بأرض أو دين أو بلد، الذي لا ذات خاصة له بل هو مستباح للجميع لذا فهو يتلون ويغير من جلده ويبدله حسب ماتقتضيه الحاجة المفضية إلى شاطىء الأمان، ويختلق الحكايا وينسج بخياله الواسع قصصا كثيرة ليحظى بالانتماء الذي طالما حلم به والاستقرار الذي تمناه، وأراد أن يزرع جذورا تربطه بالمكان والأشخاص وتعلي من قيمته الإنسانية فالروح دوما بحاجة إلى ما يحقق لها التوازن الناتج عن الشعور بعلو الأنا وقدرتها على التأثر والتأثير في المجتمع المحيط، وهذا هو الهدف الذي ابتغاه داود/ ديفيد/ داويت منذ هروبهم من إرتيريا وصولا إلى أثيوبيا بحثا عن فرصة التوطين في بلد ثالث انتهاء بالانضمام إلى يهود الفلاشا ومحاولة الاندماج معهم وتكوين كيان واحد من شأنه أن يوفر له النجدة، وكل شخصية تفضي إلى الأخرى في رحلة محفوفة بالمخاطر حتى الوصول زيفا إلى معسكر ترحيل الفلاشا إلى إسرائيل والتظاهر بأنه واحد منهم والسفر معهم في طائرات تخلو من المقاعد ووسائل الراحة إلى أرض الميعاد المزعومة ظانا أنه بذلك اقترب أخيرا من تحقيق حلمه بالاندماج الكلي مع مجتمع يوفر له ما كان يصبو إليه من الراحة وتعزيز الهوية إلا أنه هناك يفاجأ بواقع آخر يختلف عما جال في مخيلته، فيحار مابين كنيسة القيامة وحائط المبكى والمسجد الأقصى باحثا عن السكينة الروحية غير المقرونة بدين أو طائفة إلا أنه يكتشف كذب أرض الميعاد وسرابه حيث تتجلى له التفرقة العنصرية هناك القائمة على عدم الاندماج بين اليهود الأفارقة واليهود البيض؛ فالأفارقة لا امتيازات لهم بل يعيشون مهمشين في مستوطنات نائية لا تشبه تلك التي يعيش بها القادمون من أوروبا وغيرها، لا وظائف مناسبة ولا تعليم مما يشكل له الصدمة والخيبة التي تزلزل كيانه وتقضي على الرمق الأخير من آماله وطموحاته، وتجعله يدرك أنه الرغوة السوداء التي تطفو على السطح رغم كل محاولاتها أن تصبح في قلب المكان. ومن هنا تأتي بلاغة العنوان، فقد حاول داود كثيرا أن يفتعل المواقف ويؤلف الحكايات ويطلق لخياله العنان، كذبَ وسرقَ واعتدى واستباحَ وخلعَ عنه عباءات كثيرة من أجل الوصول إلى غايته إلا أنه فشل وظل يقبع في صومعته الداخلية غير قادر على الانعتاق منها، ولم يتمكن من الهروب كثيرا بل ظل محاصرا بخوفه الداخلي وأعين المتربصين به في الخارج فبات حبيس اللا قيمة وعدم الانتماء حتى مات بطلقة دون أن يعرف من هو وما هُويته؟
الرواية مليئة بالتعابير والصور والمواقف التي تحتاج إلى الكثير من التأمل وتضع بين يدي المتلقي أكثر من رسالة تحتاج إلى دراسة وتحليل. وتؤرخ لمناطق عدة ومواقف سياسية واجتماعية متنوعة تصب في الموضوع الرئيس لها، ويمكن القول أنها لوحة أدبية تنتظر من القراء فك تعاريج قلم مبدعها حسب تناولهم الشخصي لها؛ فهي أعمق مما يبدو للقارئ في الوهلة الأولى.
ريم أحمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق