في هذه القصة الجريئة تحاول ثلاث أرامل ألمانيات مع أطفالهن إعادة الإعمار وتجاوز مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كتب نيكولو ماكيافيلّي: "قد يخوض المرء حربًا عندما يستعد لها، لكنه لا يستطيع الانسحاب منها وقتما يشاء". هذه حقيقة مأساوية قد تضيف إليها جيسيكا شاتوك إنه حتى عندما تنتهي الحرب، فإن المشاركين فيها يعجزون عن الانسحاب منها. الحرب تطاردهم!
كانت الحرب -بلا ريب- تطارد أبطال رواية شاتوك الثالثة "نساء في القلعة". فبعد أن حاك متآمرون مؤامرة فاشلة ضد هتلر، تتعثر حياة ذويهم (أراملهم وأبنائهم اليتامى) على حُطام ما خلفوه وراءهم . وعندما تتوقف الأعمال العدائية المسلحة، يواجهون مهمة بالغة الجسامة والمشقة؛ تتمثل في البدء من جديد في ألمانيا، وهم لا يزالون يشعرون بمرارة الصراع.
تبذل (ماريان فون لينغفيلز) جهود إعادة البناء لتلك النسوة. فقد أطلق عليها صديقها الحميم (مارتن كوني فليدرمان) لقب القائد للزوجات وأطفالهم عندما قرر الرجال مقاومة هتلر في البداية. كانت تفكر في هذا اللقب كصفعة، ولكن بعد فشل المؤامرة وإعدام جميع الرجال، أدركت ماريان مهمتها بشكل مختلف.
قررت في نهاية المطاف السعي إلى البحث عن الناجيات من الأرامل، واستضافتهن في القلعة الضخمة المنبوذة التي تملكها عائلة زوجها الأرستقراطي ألبريشت.
ابتدأت خطة عملها أولًا بتقفي أثر (بينيتا) زوجة مارتن كوني الشابة وابنها مارتن. وأنقذت ماريان كليهما: بينيتا التي كانت تنتقل من جندي إلى آخر، وأصبحت في نهاية الأمر امرأة مفرّغة بلا قيمة، منعزلة لدى قائد روسي في برلين، في حين أُويَ ابنها مارتن في منزل نازي يجمع أطفال الخونة الذين لا ذنب لهم.
كانت ماريان تكره النازيين باشمئزاز أخلاقي واضح جابهتهم به منذ البداية. لكن ليس بمقدور كل شخص أن يرسم خطًا فاصلًا بين الأبرياء والمذنبين. وكانت بينيتا عضوًا -وإن كانت عضوًا محايدًا- في واحدة من مجموعات شباب هتلر عندما قابلت الشاب الجسور (مارتن كوني فليدرمان) لأول مرة، وظلت غير مكترثة بالسياسة حتى بعد أن قدّم زوجها كوني حياته فداءً للمقاومة.
لذا لم يكن من المستغرب أن تكون بينيتا وماريان ثنائي مضطرب. فماريان تشعر بواجب الالتزام بتعهدها بحماية زوجة كوني وابنه، في حين يغمر بينيتا شعور الامتنان لماريان التي جمعتها بابنها مارتن بعد أن سرقه النازيون منها عقابًا لها على خيانة زوجها كوني.
ومن حسن حظ المرأتين سرعان ما يتلقينَ خبرًا من القوات الأمريكية المحلية بأنهم عثروا على أرملة ثالثة -بناءً على القائمة التي قدمتها ماريان-. آنيا امرأة هادئة لكنها حازمة وعملية بطريقة لا تشبه ماريان ولا بينيتا. وتستسيغ كلتا المرأتين فكرة الحصى [1] التي تزوّد به آنيا أسرتهما على التل.
لكن حياتهن في جنة العدْن تلك لم تدم طويلا. فلكل منهن أسرار وجراح، مثل ألمانيا بأسرها، وما من أحد اهتدى لسبيل الشفاء. تفضّل بينيتا التأقلم مع ما تبقى من العالم ونسيان الأهوال. أما ماريان تصر على استجداء كفارة من الآخرين. وتحاول آنيا المضي قدمًا بمستقبل عملي لابنيها المصابين بصدمة نفسية، لكن الماضي يتربص بهم وينقضُّ عليهم.
في غضون ذلك ومثل جوقة مأساة يونانية، كان القرويون المحليون -الذين كان معظمهم ممن وعدهم النازيون بالحصول على وظائف أفضل، ويظنون أن مزاعم تلك الفظائع ملفقة- يُبدون استياءهم في الخفاء. هذا التأثير التراكمي لهؤلاء البشر المتفائلين والغاضبين والمضللَّين والمذنبين مذهل.
في سردٍ يرجع بالزمن إلى الوراء ويتقدم به إلى الأمام، تخلق شاتوك تفاوتًا في الفظائع غير المفهومة التي ارتكبها الألمان (أو تجاهلوها بشكل شبه متعمد) بدافع الرحمة والغفران.
استرداد ألمانيا عافيتها على أرض الخراب بعد الحرب أشبه بمعجزة؛ وتهمة لنا جميعًا نحن القائلين بأن ألمانيا سقطت في زمن الحرب وإن فعلت.
في أول عيد ميلاد بعد انتهاء الحرب، اجتمع النساء والأطفال في القلعة بالقرويين الناقمين في قداس مفتوح في الكنيسة الكاثوليكية المحلية. ولكن لم يكن ثمة أحد لإحياء الشعائر - لقد حضروا جميعًا لأجل فرقة إرينهايم الموسيقية، الذين قدموا أول أداء لهم بعد سنوات. وعندما تصدح سمفونية بيتهوفن التاسعة من الآلات، يبتعد الألمان الجياع والمتجمدين. يبكي بعضهم، وعندما تنتهي السمفونية، لا يتحدث أحد.
يتهيّب الشاب مارتن في إجلال.
"حجّرت الموسيقى الرواسب الصلبة في ذاكرتهم، احتكت بطبقات من الرعب والعار، وقدمت عزاءً غير مسبوق عن غضبهم وحزنهم وشعورهم بالذنب. بعد ذلك بسنوات، يحاول مارتن –الذي يصبح أستاذًا- إيجاد الكلمات المناسبة لتوضيح قوة الاتحاد والعمل الجماعي في عالم دمّر الاتحاد - واستكشاف تأثير الموسيقى، والمقامات المدهشة التي كان الناس يذهبون لسماعها وتشغيلها، ليبرهن على أن الموسيقى والفن بشكل عام متطلبات أساسية للروح البشرية. ليس ترفا بل إلزامًا".
رواية "نساء في القلعة" تدافع عن قضية الإنسانية باعتبارها تتصف بالجمال والرهبة على حد سواء. يمكننا أن ننفذ الأوامر بأخذ أم شابة وطفليها إلى غابة وإطلاق النار عليهما، لكن على النقيض يمكننا أيضًا التضحية بحياتنا في السعي لتحقيق العدالة. كيف يمكن لنا نحن بني الإنسان أن نحمل مثل هذا الرعب والجمال والغفران في قلوبنا… لغز محيّر! هذه القصة ثاقبة الفكر بما فيها من رؤى كبيرة وصغيرة؛ أدّت عملًا راقيًا لاستكشاف كيف وجدت هؤلاء النساء الجريحات الإجابة.
- كاري كالاهان: تعيش في ماريلاند مع أسرتها وقطّيها. ظهرت أعمالها الروائية في كل من: Silk Road, Floodwall, the MacGuffin, the Mulberry Fork Review وأماكن أخرى. لمتابعتها على تويتر: @carriecallaghan
- ترجمة: بلقيس الكثيري.
- تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.
[1] Ballast: الحصى المستخدم لرصف الطرق.