السبت، 31 أغسطس 2019

جولة على زلاجة الجليد – بقلم ليو تولستوي.


قصة قصيرة مقتطعة من رواية الحرب والسلم ترجمها إلى الإنجليزية لويس وأليمر.

-هل سبق أن حدث لك هذا؟
سألت ناتاشا أخاها عندما استقر بهما المقام في غرفة الجلوس.
-هل سبق أن شعرت كما لو أنه ليس ثمة شيء مُقبل... لا شيء؛ وأن كل ما هو جيد كان ماضيا وانقضى؟ أن تشعر بأنك لست ضجِرًا، ولكنك في الوقت نفسه حزين؟
أجاب: أعتقد ذلك! شعرت بذلك عندما كان كل شيء على ما يرام، وكان الجميع مبتهجين. لقد جالت بذهني فكرة أنني سئمت من كل هذا، وأنه يجب علينا أن نموت جميعًا. عندما انضممتُ للجيش، لم أكن ألهو حين تصدح الموسيقى. . . كان ينتابني فجأة شعور بالاكتئاب الشديد...
قاطعته ناتاشا: آهـ نعم، أعرف هذا، أعرف، أعرف! عندما كنت صغيرة، كان يحدث معي ذلك.
ثم قالت: هل تذكر عندما عوقبتُ مرة بسبب الخوخ، كنتم ترقصون جميعًا، وكنت في الفصل وحيدة أبكي؟ لن أنسى ذلك أبدًا؛ شعرتُ بالحزن والأسى على الجميع، كنت أرثيكم وأرثي نفسي. لم أكن مذنبة وكان هذا مربط الفرس، هل تذكر؟
أجاب نيقولا: أذكر، وأتذكر أنني أتيتُ إليكِ بعد ذلك وأردت أن أخفف عنكِ، كنت أشعر بالخجل. كنا سخيفين بشكل فظيع. كان لدي دمية مضحكة وأردت أن أقدمها لكِ. هل تذكرين؟
بابتسامة غارقة في التأمل سألت ناتاشا: هل تذكر مرة -منذ زمن بعيد- عندما كنا صغارًا، نادانا العم إلى مكتبه -في المنزل القديم وكان حالك الظلام- وعندما دخلنا، فجأة ظهر هناك...
-زنجي.
 رن صوت نيقولا وهو يبتسم بسرور: بالطبع أتذكر. ولا أعرف حتى الآن ما إذا كان زنجيًا حقًا، أو أننا كنا نحلم أو أن أحدهم حدّثنا عنه.
-كان أشهبَ، تذكر؟... أسنانه بيضاء، وقف ونظر إلينا...
سأل نيقولا: صونيا، هل تذكرين؟
أجابت صونيا بخجل: نعم، نعم أتذكر شيئًا من هذا...
قالت ناتاشا: أتعلم لقد سألت أبي وأمي عن ذلك الزنجي، وقالا إنه لم يكن هناك أي زنجي على الإطلاق. ولكن أنت تتذكر!
- بالطبع أذكر، أتذكر أسنانه كما لو أنني قد رأيتها للتو.
- يا للغرابة! كما لو أنه كان حلمًا! لكن يروقني ذلك.
-وهل تذكرين كيف دحرجنا البيض المسلوق في قاعة الرقص، وفجأة تعرقلت امرأتان كبيرتان وبدأتا الدوران على السجاد؟ أكان ذلك واقعًا؟ هل تذكرين كم كان ذلك مسليًا؟
-أجل ، وأنت أتتذكر كيف أطلق بابا النار وهو في معطفه الأزرق من بندقية في الشرفة؟
وهكذا كانوا يسترجعون ذكرياتهم، مبتسمين بسرور، ليست تلك الذكريات القديمة الحزينة، بل تلك الذكريات الشاعرية النضرة -انطباعاتهم عن الماضي البعيد الذي تختلط فيه الأحلام بالحقائق– كانوا يضحكون في جو من الألفة والسعادة.
أما صونيا -كما جرت العادة- لم تكن تجاريهما تمامًا مع أنها تشاركهما الذكريات نفسها. نسيت الكثير مما ذكراه، وما تذكره لم يثر في نفسها ذات الإحساس الشاعري الذي يشعران به. كانت تستمتع بحماسهما وابتهاجهما محاولةً الانسجام معهما.
 لم تشارك في الحديث إلا عندما ذكرا وصولها أول مرة إلى المنزل. أخبرتهما عن مدى خوفها من نيقولا حينئذ، لأنه كان يرتدي سترة مشدودة بخيوط الخرج، وقد روّعتها وصيفتها عندما قالت لها أنهم سيشدون وثاقها بالخيوط هكذا.
قالت ناتاشا: أتذكر أنهم أخبروني أنك قد ولدتِ تحت نبتة ملفوف، وأتذكر أنني لم أجرؤ على عدم تصديق ذلك، لكنني كنتُ أعرف أن هذا غير صحيح، شعرتُ بعدم الارتياح حياله.
بينما كانوا يتحدثون، دسّت الخادمة رأسها من الباب الآخر لغرفة الجلوس، وقالت في همس: لقد أَحْضَرُوا الديك، آنستي.
ردت ناتاشا: غير مرغوب فيه… بيتيا، أخبرهم أن يأخذوه بعيدًا.
أثناء حديثهم في غرفة الجلوس دخل ديملر واتجه إلى مكان الهارب [1] الموضوع في الزاوية. أزال عنه غطاءه القماشي فصدر عنه صوت نافر.
جاء صوت الكونتيسة من صالة الاستقبال: سيد ديملر. اعزف رجاء مقطوعتي الموسيقية المفضلة لجون فيلد[2].
ضرب ديملر على الوتر مستديرًا باتجاه ناتاشا ونيقولا وصونيا، وقال: ما أشد هدوءكم يا شباب.
- نعم، نحن نفكر على طريقة الفلاسفة.
علّقت ناتاشا بعد أن ألقت عليه نظرة عابرة للحظة، ثم تابعت الحوار الذي أصبح يدور عن الأحلام الآن.
بدأ ديملر العزف، ومشت ناتاشا على رؤوس أصابعها بلا ضجة إلى الطاولة لتأخذ شمعة. حملتها وعادت لتجلس بهدوء في مكان جلوسها السابق. كان الظلام سائدًا في الغرفة لاسيما حيث كانوا يجلسون على الأريكة، ولكن الضوء الفضي للبدر المكتمل في الخارج  كان يتسلل من خلال النوافذ الكبيرة ساقطًا على الأرض. انتهى ديملر من عزف المقطوعة لكنه ظل يداعب الأوتار بأصابعه بخفة، بدا مترددًا حول ما إذا كان يجب أن يتوقف أو يعزف شيئًا آخر.
اقتربت ناتاشا من نيقولا وصونيا وقالت في همس: هل تعلمان عندما يستمر المرء في استرجاع الذكريات بهذه الطريقة، يبدأ في نهاية المطاف بالتفكير فيما حدث قبل وجوده في العالم...
قالت صونيا التي تتعلم جيدًا وتتذكر ما تتعلمه: هذا ما يسمى بتناسخ الأرواح، اعتقد المصريون القدماء أن أرواحنا كانت تسكن الحيوانات، وسوف تعود إليها مرة أخرى.
-لا ، لا أعتقد أننا سكنّا أجساد الحيوانات في الماضي. قالت ناتاشا هامسة مع أن الموسيقى قد توقفت. وتابعت: لكنني على يقين بأننا كنا ملائكة في مكان ما، وكان لنا وجود هنا، ولهذا السبب نذكر...
استأذن ديملر الذي دنا منهم بهدوء، وجلس إلى جوارهم: هل لي أن أنضم إليكم؟
قال نيقولا: إذا كنا ملائكة ، فلماذا هبطنا لأسفل؟... لا ، هذا غير ممكن!
 استأنفت ناتاشا بقناعة: لأسفل؟ من قال أننا هبطنا لأسفل؟ الروح سرمدية، إذن إذا كنتُ أعيش دائمًا، ينبغي أن أكون موجودة من قبل، أي أنني عشتُ منذ الأزل.
-نعم ، ولكن من الصعب أن نتخيل الحياة السرمدية. هذا ما قاله ديملر الذي انضم إلى الشباب بابتسامة متعالية رقيقة ولكنه كان يتحدث مصطنعًا الهدوء والجد مثلهم.
سألت ناتاشا: لماذا يصعب تخيل الأبدية؟ آن أوان اليوم، وبعد اليوم هناك غد؛ وقبله هناك أمس وما قبل أمس وهكذا دواليك...
سمعوا صوت الكونتيسة:  ناتاشا! حان دوركِ الآن لتغنّي لنا شيئًا... لماذا تجلسون هناك كأنكم تتآمرون؟
أجابت ناتاشا: ماما، لا رغبة لدي للغناء.
 ومع ذلك وقفت. لم يرغب أي منهم -ولا حتى ديملر الرجل الكهل - في قطع حوارهم والابتعاد عن هذا الركن من غرفة الجلوس، ولكن ناتاشا نهضت، وجلس نيقولا في مقعده على البيانو.
وقفت ناتاشا كالمعتاد في وسط القاعة وقد اختارت أفضل بقعة للصدى، ثم بدأت تغني أغنية والدتها المفضلة. قالت إنها لا تريد الغناء، لكن مر وقت طويل مذ غنّت آخر مرة، ولم تكن لتغني أفضل من تلك الأمسيّة. كان الكونت في مكتبه يتحدث إلى ميتنكا عندما سمعها، ومثل تلميذ في عجلة من أمره يريد أن يفر للّعب، تخبط في حديثه أثناء إعطاء أوامره إلى المشرف على أعماله، وفي النهاية صمت منصتًا، في حين كان ميتنكا واقفًا أمامه يصغي ويبتسم.
لم يرفع نيقولا بصره عن أخته؛ كان يأخذ أنفاسه متماشيًا معها. كانت صونيا تفكر أثناء استماعها في الاختلاف الهائل الذي بينها وبين صديقتها، واستحالة أن تتمتع بشيء من سحر ابنة عمها. جلست الكونتيسة القديرة بابتسامة يخالطها الفرح والحزن والدموع في عينيها، وهي تهز رأسها بين الفينة والفينة. كانت تفكر في ناتاشا وشبابها، وذاك الشيء غير الطبيعي والمثير للتوجس في زواج ناتاشا الوشيك بالأمير أندرو.
كان ديملر الجالس بجانب الكونتيسة ، يستمع مغمض العينين.
وقال أخيرًا: آ... كونتيسة إنها موهبة أوربية، لا ينقصها ما تتعلمه – أي رقة وحنان وقوة هذه...
-آه كم أخشى عليها، كم أخشى عليها!
 رددت الكونتيسة ذلك دون أن تلقي بالًا مع من تتحدث. أنبأتها غريزة الأم أن لدى ناتاشا الكثير من كل شيء، ولهذا السبب بالذات لن تكون سعيدة. قبل أن تنهي ناتاشا الغناء، هرع بيتيا بحماس فتى يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا وقال مبتهجًا: وصل المتنكرون. 
توقفت ناتاشا عن الغناة على حين غرة، وصرخت في وجه أخيها: أبله.
ثم ألقت بنفسها على كرسي، تبكي ناشجة نشيجًا بلغ من قوته أنها لم تستطع التوقف إلا بعد مدة.
-لا شيء ماما، صدقًا لا شيء.  قالت وهي تحاول أن تبتسم: إنه بيتيا، لقد أخافني.
وما زالت دموعها  تتدفق والعبرات تخنقها.
كان المتنكرون (العاملون في المنزل) يرتدون ملابس الدببة والأتراك والمربيات والسيدات – بهيئة  مضحكة ومخيفة – قد جلبوا برد الخارج وإحساس البهجة معهم. اكتظت بهم الردهة وهم يقفون خجلين في بادئ الأمر، ثم حجب بعضهم بعضًا وهم يدخلون قاعة الرقص بشيء من الخجل، ثم شيئًا فشيئًا اعتراهم الحماس والمرح، بدأوا الغناء والرقص والشروع في ألعاب عيد الميلاد. عندما عرفتهم الكونتيسة،  ضحكت على هيئتهم ثم ذهبت إلى صالة الاستقبال. في حين جلس الكونت في القاعة، مبتسمًا يشع حماسًا وإشادة باللاعبين. أما الشباب فقد اختفوا.
بعد نصف ساعة، ظهر بين المتنكرين الآخرين في قاعة الرقص سيدة مسنة ترتدي تنورة، كان ذلك نيقولا. وفتاة تركية وكان ذلك بيتيا. أما المهرج فديملر. والفارس الخيّال ناتاشا، والشركسي صونيا بشارب وحواجب لاصقة مخصصة للتنكر.
بدهشة مصطنعة استقبلهم غير المتنكرين، وتظاهروا بأنهم لم يعرفوهم  وأثنوا عليهم، وقرر الشباب أن مثل هذه الملابس من الدقة بمكان بحيث تستحق أن يظهروا بها في مكان آخر.
أراد نيقولا أن يأخذهم جميعًا بمركبته (الترويكا)[3] بما أن الطرق في حالة سالكة رائعة، واقترح أن يأخذوا معهم نحو اثني عشر من المتنكرين إلى "بيت العم".
قالت الكونتيسة: لا، لماذا تزعجون الرجل المُسن؟ كما أنكم لن تجدوا مكانًا يسعكم جميعًا للاستدارة هناك. إذا كنتم ولا بد ذاهبون، فاذهبوا إلى آل ميليوكوف.
كانت السيدة ميليوكوف أرملة تعيش مع أبنائها ومعلميهم والمربيات على بعد ثلاثة أميال من آل روستوف.
-معكِ حق يا عزيزتي. تكلم الكونت ونهض: سألبس أيضًا وأذهب معهم. سأعرف كيف أنفس عن باشيت.
لكن الكونتيسة لم توافق على ذهابه؛ لإصابة سيئة في ساقه كان يعاني منها منذ أيام. وتقرر عدم ذهاب الكونت. وسُمح للسيدات الشابات أن يذهبن بشرط أن تذهب لويز إيفانوفنا (مدام شوس) معهم. وبذلك كانت صونيا تترجى لويز إيفانوفنا بشيء من التردد والخجل وبكثير من الإلحاح لئلا ترفض.
كان لباس صونيا أفضلهم على الإطلاق، ولشاربها وحاجبيها المستعارين جاذبية غير عادية. أخبرها الجميع بأنها تبدو في غاية الوسامة، لذا كانت مفعمة بالحيوية والنشاط، في مزاج رائق على غير العادة. ثمة صوت في داخلها يقول إما أن يتحدد مصيرها اليوم وإلا فلا، وقد بدت في ردائها الرجالي شخصية مختلفة تمامًا. وافقت لويزا إيفانوفنا على مرافقتهم. وخلال نصف ساعة انتظمت أربع زلاجات ترويكا ذات أجراس وجلاجل كبيرة وصغيرة أمام المدخل، يصدر عن مزالقها صرير وصفير فوق الجليد.
كانت ناتاشا أول من ترنّم بنغمة عيد الميلاد، التي أخذت تصدح من أحدهم إلى الآخر، ووصلت إلى ذروتها عندما خرجوا جميعًا إلى الصقيع وصعدوا إلى الزلاجات، وهم يتكلمون ينادي بعضهم بعضًا، يضحكون ويهتفون.
كانت اثنتان من زلاجات الترويكا مخصصتين لاستخدامات الأسرة المعتادة، والثالثة تخص الكونت يتوسط جواديها جواد من فصيلة الأورلوف الروسية، والرابعة لنيقولا بجواد قصير، أدهم، أسود اللون.
وقف نيقولا في منتصف الزلاجة بلباس السيدة العجوز الذي يرتديه فوق معطف الفارس المشدود من وسطه بحزام، قابضًا عنان الفرس بيديه.
كان القمر منيرًا جدًا، رأى نيقولا انعكاس ضوئه على صفائح عدة الفرس المعدنية وعيون الخيول، التي كانت تنظر في اتجاهه متأهبة إثر سماعها الحفلة الصاخبة تحت سقف المدخل.

صعدت ناتاشا وصونيا ومدام شوس وخادمتان على زلاجة نيقولا؛ أما ديملر وزوجته وبيتيا فاتخذوا لهم مقاعد في زلاجة الكونت، في حين جلس من تبقى من المتنكرين في الزلاجتين الأخريين.
-امضِ قدمًا يا زاخار. صاح نيقولا بسائس الزلاجة الخاصة بوالده، طامعًا بفرصة لسباقه وتجاوزه.
بدأت ترويكا الكونت التي تحمل ديملر وحزبه تتقدم، ومزالقها تصدر على الجليد صريرًا، وجرسها الجهير يجلجل.
شد الجوادان على الجانبين بدنهما تحت وطأة المقابض المعدن التي تربطهما بالجواد الأوسط، وأخذت الجياد تتوغل في الثلج الجاف البراق كسكر، تثير به نقعًا كالتراب.
انطلق نيقولا خلف الزلاجة الأولى؛ ومن خلفه تحركت الزلاجتان ببطء ، تصدر مزالقها الصخب والصرير. في أول الأمر ساروا بسرعة ثابتة على طول الطريق الضيق. حين كانوا يجتازون الحديقة، كانت ظلال الأشجار العارية تسقط على الطريق حاجبة ضوء القمر الساطع، ولكن بمجرد أن تجاوزوا السور، غمر ضوء القمر البساط الثلجي وانتشر بلا حراك في ألقِ كألماس يرشق الظلال المزرقة. أصدرت الزلاجة الأولى قرقعة إثر عبورها فوق حفرة جليدية في الطريق، وأحدثت الزلاجات الأخرى الجلبة ذاتها، لتكسر بفظاظة هذا السكون الذي أخرسه الصقيع، بدأت عربات الترويكا بالتسارع على طول الطريق، واحدة تلو الأخرى.
علا صوت ناتاشا عبر الهواء البارد: انظروا آثار أرانب...هناك الكثير منها!
جاء صوت صونيا: ما أبهى الضياء يا نيقولا.
ألقى نيقولا نظرة باتجاه صونيا، منحنيًا ليرى وجهها عن كثب. وجهها الفتّان في ضوء القمر بحلته الجديدة ذي الحاجبين الأسودين والشارب المنبثق من فراء السمور؛ على قربها منه كانت جد بعيدة.
’أهذه صونيا التي أعرف؟‘  فكر في نفسه وهو ينظر إليها عن قرب مبتسمًا.
سألته: ماذا هناك يا نيقولا؟
أجابها ملتفتًا إلى الخيل: لا شيء.
عندما خرجوا إلى الطريق العام الذي صقلته مزالق العربات؛ الموسوم بالحوافر الصلبة التي بدت آثارها جلية تحت ضوء القمر - أخذت الخيول تشد أعنّتها وتزيد من سرعتها من تلقاء نفسها. ثبّت الحصان الجانبي رأسه وشرع يخب خببًا يسيرًا. تلفت الحصان الأوسط من جانب إلى آخر محركًا أذنيه كما لو أنه يتساءل: ’ألم يحن الوقت للبدء الآن؟‘.
 في الصدارة أمامهم كان جرس الزلاجة المجلجل يرن مبتعدًا، ويمكن رؤية الخيول السوداء التي يقودها زاخار على الثلج الأبيض. من تلك الزلاجة كانت تعلو صيحات المتنكرين وضحكاتهم وأصواتهم.
هتف نيقولا وهو يشد أعنة الفرس إلى جانب بإحدى يديه ويرفع السوط بالأخرى: هيا انطلقوا يا أعزائي!
الناظر لصفعات الريح الهائلة التي انهالت عليهم، والهزات الصادرة عن الخيول -التي باتت تجر الزلاجة بسرعة أكبر، وتزيد من عدوها أكثر- سيظن أن تلك الزلاجة صارت تحلّق. نظر نيقولا إلى الوراء. بشيء من الصراخ  والصرير والتلويح بالسياط باتت الزلاجات الأخرى تتبعهم الآن. وما زال جواده يعدو بلا هوادة دون تراخٍ وكله استعداد لزيادة سرعته أكثر إن تطلب الأمر.
لحق نيقولا بالزلاجة الأولى؛ كانوا يهبطون على منحدر، سالكين مسارًا واسعًا عبر المروج بمحاذاة نهر.
تساءل نيقولا في صمت: ’أين نحن؟‘ أعتقد أنها مروج كوسوي. لكن لا، هذا مكان جديد لم أره من قبل. هذه ليست مروج كوسوي ولا هذا نهر داميان، الرب وحده يعلم! إنه مكان جديد واقع تحت تأثير سحر ما. حسنا، ليكن ما يكون. حث خيله على الإسراع أكثر، وبدأ في تجاوز الزلاجة الأولى.
كبح زاخار لجام خيله والتفت إلى الوراء، ليظهر وجهه المكسو بالصقيع حتى حاجبيه.
أطلق نيقولا العنان لخيله، ومد زاخار ذراعيه مقرقرًا بلسانه وأطلق خيله، ثم صاح: انتبه يا سيدي.
بسرعة ثابتة كانت الزلاجتان تنطلقان جنباً إلى جنب، وتسارع قرع حوافر الخيول التي تعفر الثلج تحتها. اندفع نيقولا إلى الأمام متقدمًا زاخار الذي ما زال يمد ذراعيه، وقد رفع عنان الفرس بإحدى يديه وهو يصيح: لا، لن تهزمني يا مولاي.
زاد نيقولا من سرعة خيله وتجاوز زاخار. عفرت الخيول الثلج الجاف الناعم على وجوه أولئك الموجودين في الزلاجة - وبجانبهم بدت الأجراس تصدر رنينًا سريعًا ولمحوا لمحات للأقدام المتحركة بسرعة وظلال الترويكا التي مروا بها. علا صوت صفير المزالق على الجليد وصرخات الفتيات الحادة تأتي من أنحاء مختلفة.
تأمل نيقولا خيله مرة أخرى، ونظر فيما حوله. ما زالوا محاطين بالأرض السحرية المغمورة بضوء القمر وتلألؤ النجوم.
تساءل نيقولا: كان زاخار يقول أنه ينبغي علي الانعطاف إلى اليسار، لكن لماذا إلى اليسار؟ هل يوصلنا ذلك الطريق إلى آل ميليوكوف؟ هل وصلنا؟ الرب وحده يعلم إلى أين نمضي، وحده يعلم ما حدث لنا – أيًّا يكن إنه لأمر غريب وممتع.
التفت إلى الوراء باتجاه الزلاجة. سمع صوت غريب، وجميل غير مألوف من ذي الحاجبين والشاربين الرفيعين: انظروا، لقد ابيضَّ شارباه ورموشه!
-أعتقد أن هذه ناتاشا.
هكذا حدث نيقولا نفسه: ولعل تلك مدام شوس، أو ربما ليست هي، أما هذا الشركسي ذو الشارب الأسود لم أعرفه، لكني أحبه.
سألهم: ألا تشعرون بالبرد؟
لم يجبن ولكنهن بدأن بالضحك. صاح ديملر من الزلاجة التي في الخلف – ربما قال شيئًا مضحكًا - لكنهم لم يستطيعوا تمييز ما قاله.
-أجل ، أجل! تعالت الأصوات الضاحكة.
هنا غابة مسحورة بها ظلال سوداء تتحرك، وبريق من الألماس وسلم من الدرجات الرخامية وأسقف فضية لمبانٍ خيالية وصيحات حادة تصدر عن بعض الحيوانات.
 حدث نيقولا نفسه: إذا صح أن هذا مكان الميليوكوف حقًا، فعجبًا كيف وصلنا إلى هنا بعد جولتنا تلك التي لم يكن يعلم وجهتها غير الرب!
كانوا قد وصلوا إلى الميليوكوف حقًا، حيث هرع الخدم والخادمات إلى الشرفة بوجوه مبتهجة حاملين الشموع المضاءة.
سأل أحدهم: من هناك؟
ردت أصوات أخرى: إنهم متنكري الكونت إيليا روستوف، عرفتهم من خيولهم.


[1]  القيثارة
[2]  مؤلف موسيقي ايرلندي (1782- 1837).
[3]  مركبة روسية تجرها ثلاثة أحصنة، عادةً ما تكون زلاجة ركوب.

  •  ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق