الرواية الفائزة بجائزة البوكر مناصفة مع رواية القوس والفراشة لمحمد الأشعري سنة 2011، الرواية للكاتبة السعودية رجاء عالم والتي صدرت عام 2010 عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء.
عنوان الرواية قد يأخذنا لكتاب ابن حزم عن الحب- طوق الحمامة، لكن الحب في هذه الرواية لا يقل غرابة وتميزا عن الرواية، هي ليست رواية حب فقط، هي الجريمة، هي البحث عن المجهول، عن الحي القديم الذي يصارع التقدم العمراني في عصر ما بعد الحداثة، هي الماضي والحاضر في مجتمع مكة وتاريخها المليء بالأحداث، ذات القيمة الروحانية والتراثية، والاحتضار الذي يلفها ويحاول تحويلها من عاصمة دينية خالصة إلى عاصمة الدين فيها الروح والمكانة في قلوب المسلمين فقط، في الوقت الذي تحيط بها الأصنام الحجرية الجديدة، أصنام العمران والتوسع التي تبدو فيها الكعبة في مقابلها مجرد مكعب حجري يحيطه السواد. وأنا أقرأ الرواية غامرتني مخيلتي وذاكرتي بصور الكعبة القديمة والحالية وما حولها، كيف ستكون كعبة المستقبل، السؤال الذي تطرحه رجاء في صفحات الرواية، هل ستعود الأصنام التي هدمها النبي للظهور؟ أصنام بهيئة جديدة وتتخفى باسم التوسع والعمران والفنادق والمحلات التجارية العالمية، لتتحول من واجهة دينية إلى واجهة اقتصادية حيث البذخ المنافي لكل صور الإيمان والزهد، يريدونها نسخة من لاس فيغاس كما يقول بعض المهتمين بهذه النقلة النوعية لمكة، هذا الأمر الذي دعا الكثير من المهتمين بالأماكن الأثرية والتراثية الإسلامية بالتحذير من الطمس الذي يجري في مكة وأحيائها وحصونها القديمة، هذا النقد والتحذير الذي تبثه رجاء، يأتي ممزوجا في خوف وشوق إلى الماضي الذي تعيشه في ظلاله المتلاشية وعاشته في زمن خلا، الماضي الذي لن يعود.
تبدأ الرواية حين يستيقظ حي أبو الرووس -الحي القديم في مكة والذي لم يعد له وجود- بجريمة لا شيء يدل هوية سوى أنها جثة امرأة مشوهة الوجه، مجهولة الهوية، يستلم المحقق ناصر القحطاني التحقيق في الجريمة، لتتفتح أمامه أبواب مغلقة، تُعقد عليه قضيته مع الجثة المجهولة، التي يتزامن ظهورها من اختفاء عائشة وعَزَّة من حي أبو الرووس، لتقوده التحقيقات مبكرا لمذكرات يوسف ورسائل عائشة الإلكترونية.
مذكرات يوسف:
يوسف المهتم في تاريخ مكة القديم، بأثارها القديمة، بتاريخها، وكل مَعْلم يقوده إلى أسرار مكة المحاطة بالجبال، تبرز المذكرات شخصيته العاشقة والمحبة لهذه الأرض، ورفضه للكثير من عادات المجتمع المكي، حيث علاقة هذا المجتمع مع الدين علاقة بعيدة عن الروحانية، أكثر من كونها تركة مكانية، يُجبر سكان المجتمع على حلمها وإثقال كواهلهم بها. يجد نفسه في صراع ومواجهة مع كل شيء في حي أبو الرووس، هذا الحي الفقير الذي يقف وحيدا وضعيفا قُبالة عاصفة التعرية التي تُقبل عليه. وتبدو أيامه المعدودة قصيرة وقصيرة جدا، وكل شيء يوحي بالنهاية.
رسائل عائشة:
بعد رحلة علاجية في بون - ألمانيا، تعيش خلف شاشة كمبيوترها في حي أبو الرووس تكتب الرسائل لطبيبها، الرجل الذي لمس زر الحب في داخلها، وبعث فيها المرأة العاشقة، المرأة التي تصاحب الحب في رحلته الخالدة، الرسائل التي تضم جوع المرأة للرجل الحبيب، ترافقها رواية نساء عاشقات، حيث تحبس نفسها مع شخصيات د.هـ. لورنس، غدرون وأورسيلا بيركن وجيرالد، الحب الذي يجمع هؤلاء الأربعة، ورحلة إلى دواخل مجهولة تقودها فلسفة لورانس في الحب والتركيبة الداخلية للمرأة إلى عوالم خفية تطل من نوافذها، تقرأ المخبأ خلف السطور، هذا الفيضان الذي تسمح له أن يغمرها، ويجرفها إلى الضفة البعيدة، الضفة التي تظهر وتختفي كومضة ترشد غريقا إلى حياة أخرى، غرقى الحب في بحر الصراع مع الذات، لا تدري كيف يكون مآلها في الغد. الرسائل التي يحاول ناصر اللحاق بركبها، وتفكيك رموزها، علّه يصل إلى وسيلة تمكنه من حل قضيته، إلى معرفة تلك المجهولة الهوية، ذاك الوجه الذي غيّبه التشويه عن إدراك الأعين له، رسائل لم تكن مجرد أدلة بحث في جريمة، لكنها أيضا هي تسلب ناصر شخصيته، تُوقض فيه الإنسان، تحفر الكلمات برفش نقاطها بئر المرأة الذي أغلقته الحياة بحجارتها، كانت كلمات عائشة التي تملأ رسائلها، وتخاطب الحبيب البعيد هي المفتاح الذي يلج بابه، إلى الداخل يا ناصر، إلى السنين الضائعة، يخاطب نفسه، يخاطب وحي الرسائل.
أبو الرووس:
أبو الرووس ليس مجرد أرض حدث ومكان رواية، هو السارد وذاكرة رجاء المكانية العائشة في تلافيف دماغها، يتوزع دوره بين السرد، إذ توظفه رجاء ليكون ساردا حرا، يأخذ نصيبه من قصعة السرد الحية، حين يسرد المكان أبطاله، حين تسرد الرواية نفسها، تحلل أبطالها، يتبادر للذهن أن السارد هو جدار محل في حي أبو الرووس، أو ربما الأرض التي يشمون عليها سكانه، أو ربما منزل أو سطح، أو هو كائن أثيري اسمه أبو الرووس، وبين كونه حيا مترامي الأطراف يحتضن أحداثا وشخصياتٍ، وبعد النهاية، سيذوي إلى دنيا أخرى إلى سماء مجهولة اللون، أبو الرووس الموغل في القدم مع مكة والكعبة التي بُنيت في زمن قديم، يبدو ممسكا بكماشة ذاكرته على كل شيء يدور فوقه وحوله وفيه، خائفا من القادم الذي سيكتب نهايته.
**
لم أقرأ من مدة رواية تخلب لبي، تأسرك إلى الخاتمة، وتبقى أسرارها غامضة حتى الختام حيث تتكشف بعض الحقائق، ويبقى في الغموض بعضها الآخر، الرواية مكتوبة بذكاء واضح، حيث المزج بين الأسطورة والواقع، التوظيف للأسطورة في أحداث وقصص الرواية الداخلية، يُضفي للرواية بعدا ما ورائي يتجلى في الشخصيات دون أن يكون هو المسيّر لهم، يختلط مع الشخصية مع الحدث مع السرد مع القالب الروائي، عمل إبداعي وهو يحاكي المجتمع الحجازي، والتنقل في نفوس الشخصيات وقراءة الحياة من خلالهم، ولا يغيب عنها الظلمة ذات السطوة والمال والنفوذ التي بإمكانها الحصول على كل شيء، وقدرتها على تغييب الحقائق وطمسها، لا يقف بوجها أحد، الجوع الذي يعبدونه يُمضي بهم وبالمجتمع في بحر سماءه بلا قمر ولا نجوم، تيهان في صحراء تبتلع كل العمالقة الذين ظنوا أنهم قادرين عليها.
تبدأ الرواية بجريمة، تنتهي بحرق الرسائل، وما بين الدفتين الكثير من الألغاز التي بُعثت وبقيت بلا حل. الشخصيات في الرواية في صِدام مع الحاضر ومع القناعات والرغبات، تعيش في عوالم متضاربة في الأصالة أو الطامحة للتجدد، السعي نحو الأمام، الصراع بينهم يأخذ نمطا تصاعديا أو تنازليا اعتمادا على الحدث أو القضية، القضية التي يجدون أنفسهم مُلتهمين في جوفها، هي كالأمس القابض عليهم بتاريخه الذي لا ينفك من ملاحقتهم. يغرق القارئ مع الفوضى التي تسردها الروائية، ويضيع في متاهات التاريخ وجغرافية المكان، فوضى منظمة، تتشابك فيها الخيوط، تتداخل تجذب القارئ إلى عمق خفي هو ذهن الكاتبة حين كانت تكتب، ليس من السهل أن تفهم كل ما أرادته الكاتبة، حيث يبقى السر والغرابة وعدم الوضوح مسيطرا على بعض تفاصيلها، فيها دعوة غير صريحة بوجوب قراءة الرواية أكثر من مرة، فأمثال هذه الروايات لا تظهر حقيقتها كاملة من أول قراءة، هي لأولئك الفضوليين، الذين يبحثون عمّا في ذهن الكاتب، حيث القراءة بالنسبة لهم، لعنة حياة لا بد من التخلص منها، والانطلاق مسافرين نحو عالمِ أسرار الرواية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق