كان الكاتب المفكر عباس محمود العقاد وهو من ألمع مفكري عصره لا ينكر حبه لمي، وقد لمّح له كثيراً في روايته سارة، وأعطى مي اسماً مستعاراً هو هند. وعرفها العقاد في البداية عن طريق مقالاتها في الصحف ثم من كتبها. وبدأت علاقتهما بالخطابات، هو من أسوان بلدته التي يقيم بها قبل استقراره في القاهرة، وهي من القاهرة حيث استوطنت مصر بعد قدومها من لبنان بصحبة والديها.
وعندما عاد العقاد من أسوان سارع بزيارة مي يملؤه الشوق والحنين إلى تلك الشخصية التي فتنته قبل أن يراها!
وتقارب الأديبان: العقلان والقلبان. لكن حب العقاد لمي كان مختلفاً عن حب مي للعقاد. كان العقاد يؤمن بطوفان المشاعر وتوحد الحبيبين نفساً وروحاً وجسداً، وكانت مي تؤمن بالحب الصافي السامي العفيف الذي يرتفع عن رغبات الجسد ويسمو إلى عالم الروحانيات وصداقة الفكر.
ولا شك أن العقاد احترق بحب مي في صمتٍ والدليل على ذلك قصائده الكثيرة إليها التي تحمل كل مشاعر الحب والتتيم بها.
ويقول الكاتب عبد الفتاح الديدي: يبدو أن هذه الفتاة لعبت أخطر دورٍ في حياة العقاد لأنها أعطته السعادة وما لم يكن يخطر له على بال، ولكنها وقفت أمامه نداً لندٍ وناوأت رجولته وسطوته وكبرياءه. وصدمت أحلام العقاد بفرديتها واستقلالها وشبابها المتأنق المدرك لأصول العلاقات.
وسئل العقاد مرةً كيف كان يجمع بين حبين في وقتٍ واحد: حب مي وحب سارة؟ فأجاب عن هذا السؤال قائلاً: "إذا ميّز الرجل المرأة بين جميع النساء فذلك هو الحب. وقد يميز الرجل امرأتين في وقت واحد" لكن لا بد من اختلاف في النوع أو في الدرجة أو في الرجاء، فيكون أحد الحبين خالصاً للروح والوجدان. ويكون الحب الآخر مستغرقاً شاملاً للروحين والجسدين، أو يكون أحد الحبين مقبلاً صاعداً، والحب الآخر آخذاً في الإدبار والهبوط. أما أن يجتمع حبان قويان من نوعٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ فذلك ازدواجٌ غير معهودٍ في الطباع، لأن العاطفة لا تقف ولا تعرف الحدود. وإذا بلغت العاطفة مداها جبَّتْ ما سواها.
ويصف العقاد في روايته " سارة" طبيعة علاقته بمي دون التصريح باسمها، بل اختار لها اسماً مستعاراً هو هند. فيقول: كان يحبها الحب الذي جعله ينتظر الرسالة أو حديث التليفون كما ينتظر العاشق موعد اللقاء، وكانا كثيراً ما يتراسلان أو يتحدثان، وكثيراً ما يتباعدان ويلتزمان الصمت الطويل إيثاراً للتقية واجتناباً للقال والقيل وتهدئةً من جماح العاطفة إذا خافا عليها الانقطاع.
ولكنهما في جميع ذلك كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين يلتقيان وكلاهما على جذوره، ويتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق.
كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل ولا يزيدان. وكان يغازلها فتومئ إليه بإصبعها كالمنذرة المتوعدة، فإذا نظر إلى عينيها لم يدر أتستزيده أم تنهاه، ولكنه يدري أن الزيادة ترتفع بالنغمة إلى مقام النشوز. وكان يكتب لها فيفيض ويسترسل، ويذكر الشوق والوجد والأمل. فإذا لقيها بعد ذلك لم ير منها ما ينم عن استياءٍ ولم يسمع منها ما يدل على وصول الخطاب، وإنما يسمع الجواب باللحن والإيماء دون الإعراب والإفصاح.
وربما تواعدا إلى جلسةٍ من جلسات الصور المتحركة في مكانٍ لا غبار عليه، ويتحدثان بلسان بطل الرواية وبطلتها، ويُسهبان ما احتملت الكناية والإسهاب، ثم يغيران سياق الحديث في غير اقتضاب ولا ابتسار.
وكانا أشبه بالنجمين السيارين في المنظومة الواحدة، لا يزالان يحومان في نطاق واحد، ويتجاذبان حول محورٍ واحدٍ ولكنهما يحذران التقارب، لأنه اصطدام؟
ولم تكن مي لتعتقد الرهبانية فيه ولا تزعم بينها وبين وجدانها أنه معزولٌ عن عالم النساء. غير أنها لم تكن تحفل اتصاله بالنساء ما دام اسمهن نساء. لا يلوح من بينهن اسم امرأةٍ واحدةٍ وشبح غرامٍ واحد. فإن اسم النساء في هذه الحالة لا يدل على معنى، ولا انتقاصٍ فيه لما بينهما من رعاية واستئثار.
كانت الخطابات المتبادلة بين مي والعقاد ثروةً أدبيةً وفكريةً وإنسانية، ودليلٌ في نفس الوقت على رابطةٍ متينةٍ قويةٍ بين الطرفين. يحدثنا أحمد حسين الطهاوي عن ذلك في كتابه "غرام مي وجبران بين الحقيقة والخيال " فهو يلاحظ في رسائلها الغرامية إلى جبران أنها كانت تعيش شبه حالة حبٍ مع عباس محمود العقاد استناداً إلى رسائل اكتشفها طاهر الطناحي وتقول في إحداها وكانت مؤرخة في 20 أغسطس ( آب) 1925:
إنني لا أستطيع أن أصف لك شعوري حين قرأت القصيدة التي أرسلتها لي، وحسبي أن أقول لك أن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرت به نحوك منذ أول رسالةٍ كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان. بل إنني خشيت أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أول مرةٍ رأيتك فيها بدار جريدة " المحروسة" إن الحياء منعني وقد ظننت أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك. والآن عرفت شعورك وعرفت لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران. لا تحسب إنني أتهمك بالغيرة من جبران فهو في نيويورك لم يرني ولعله لن يراني. كما أنني لم أره إلا في تلك الصور التي تنشرها الصحف.
سأعود قريباً إلى مصر، وستجمعنا زياراتٌ وجلساتٌ أفضي فيها لك بما تدخره نفسي ويضمه وجداني. فعندي أشياء كثيرة أقولها لك.
وفي قصة " سارة" التي كتبها العقاد، وروى فيها حبه لامرأتين هما " سارة " و"هند" وصفها فقال: إحداهما حولها نهرٌ يساعد على الوصول إليها والأخرى حولها نهرٌ يمنع من الوصول إليها وكان يقصد بالأخرى مي.
وقال العقاد عن مي ذات مرة:
لقد كانت متدينةً تؤمن بالبعث وأنها ستقف بين يدي الله يوماً ويحاسبها على آثامها، فكانت رغم شعورها بالحياة وإحساسها العميق الصادق وذكائها الوضاء وروحها الشفافة ورقتها وأنوثتها، تحرص على أن تمارس هذه الحياة بعفةٍ واتزان.
وكتب العقاد في مي العديد من القصائد التي تظهر بوضوحٍ ذلك الحب الذي ملك وجدانه، حبه لمي. ومنها قصيدةٌ بعث بها إليها في روما حيث كانت تقضي أجازة صيف عام 1925. وخلال تلك الفترة تبودلت الرسائل بينهما كلها تنم عن شوق مكبوت من الطرفين.
كاتب المقال: إيمان
التدقيق اللغوي: عبد الله علي
( عن كتاب مي زيادة لنوال مصطفى)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق