الصدمة، الدهشة، والذهول ثلاث حالات طبعت نفسيتي وأنا أقرأ هذا الكتاب ولسان حالي يقول: هل أجرؤ على التذمر بعد كل هذه المعاناة التي أقرأ عنها؟ لم تكن بجعات برية شهادة حية فقط بل كانت أيضا صرخة وتنبيه لكل العالم، فهي دراما لا تشاهد على شاشة التلفاز نبكي عليها قليلا وننساها بعد حين، بجعات برية ستعيش بداخلي ولفترة طويلة وطويلة جدا.
يحكي الكتاب عن تاريخ الصين في العصر الحديث من بداية القرن العشرين إلى نهاية الثمانينات حين قررت الكاتبة أن ذكرياتها قد عتقت واختمرت وأنها لن تستطيع أن تتحمل عبئها لوحدها بعد الآن فكتبت بجعات برية لتحملنا بعضا من الألم الافتراضي، يحكي عن ثلاث نساء يمثلن نساء الصين عبر ثلاث أجيال من الجدة التي فتحت لنا أبواب الصين الفيودالية التى يحكمها أسياد الحرب وتقاليد بالية ترى جمال المرأة في قدمين مشوهين تعيش الجدة جارية لأحد قادة الحرب بعد أن باعها أبوها القاسي دون رحمة تحت نظام الجواري وسيدات المنزل لتتمرد في النهاية وتختار طبيبا تكمل معه حياتها مع ابنتها التي نكمل معها مسيرة التاريخ والتي عاشت في ظل الاحتلال الياباني العنيف جدا والذي تعرفت عليه سابقا وأنا اقرأ عن مذبحة نانجنغ التي راح ضحيتها ما يقرب عن مئتين وخمسين ألف ضحية، حيث كان الجنود اليابانيون يتنافسون على من يقتل مائة بسيف واحد. الرعب والخوف الذي استقر في نفوس الناس جعلهم يحلمون بالبطل الهمام الذي يخرج اليابان من أرضهم ويزيل الذل والمهانة التي طبعت حكم الكومنتانغ الراغب في ترسيخ حكم الاقطاعيين فلم يجدوا سوى ماو تسي تونغ زعيم الحزب الشيوعي الذي فرض سيطرته على الصين، فيسطر كتاب بجعات برية هذه المرحلة بدقة متناهية نتتبع فيها مسيرة أسرة يونغ شيان ومصير والديها في ظل مزاج ماو النرجسي وزمرة الأربعة وهي العصابة التي تضم زوجته وحاشيته والتي عرفت بهذا الاسم فيما بعد، هذا الكتاب يعتبر نقدا صريحا لتلك الفترة و قد دعمته الكاتبة بكتاب آخر مخصص فقط لماو لتكشف النقاب عن حقبة من أهم الحقب التي مرت على الصين في العصر الحديث وهي حقبة تميزت بتعتيم إعلامي كبير وبروباغندا طاغية للنظام لإرساء نظمه وفلسفته، ماو لم يهتم بشعبه بقدر ما اهتم بشخصه فابتدع فلسفة فارغة من المحتوى معتمدة على الهوى ورغبته في إيهام شعبه بأرض الميعاد والجنة الاشتراكية ويبرز مأزق ماو مع سقوط ستالين ثم سقوط المنهج الذي اعتمد عليه فاختلطت الأمور وعمد إلى تكريس مفهوم تأليه الحاكم – قال خروتشوف آنذاك إن ماو يعتقد أنه المخول من السماء لإرساء نظم الشيوعية على الأرض- وبث الرعب في الشعب وسياسة فرق تسد التي طالت الاسرة الواحدة فتمزق المفهوم الإنساني والأسري الذي قامت عليه الصين لمئات السنين، عمد ماو إلى قطع الصلة مع الصين القديمة الطراز فأطلق دعوته الجديدة في إطار ما عرف بالثورة الثقافية فعمت الفوضى التي افقدت الصين معظم تراثها تحت أقدام الحرس الأحمر معظمه من المراهقين والشباب الذين لم يكن لديهم الفرصة بعد للتعرف على القيمة الجمالية لما يدمرون وربما كان الأمر مقصودا من ماو ليتجاوز بهم أي صلة تذكرهم بالماضي وتبقى شخصيته محورية ومقدسة، الغريب في الأمر أن الثورة بمفهومها المتعارف غالبا ما تكون عفوية نابعة من الشعب ذاته ضد أنظمة شمولية مستبدة ظالمة لشعوبها ثم تجاهل الصينيون إنه من غير المنطقي أن تصبح الثورة تحت الطلب من الحاكم وهو أمر يبدو غير مبرر في ظل حاكم محبوب ومقدس مثل ماو، فالثورة الثقافية لم تكن سوى هلوسة شعبوية لبلوغ رضى "الرب الشيوعي ماو" أبرز ملامحها الحج الجماعي لبكين لرؤية ماو أو وضع صوره كمازارات للفلاحين لتقديم قرابين طامعين في موسم فلاحي جيد، الثورة الثقافية لم تكن سوى أداة في يد ماو ضرب بها أعداءه و في النهاية المظهر الثقافي الوحيد في هذه الثورة يكمن في مبررها فقط.
الأمر الذي يجعل من بجعات برية كتابا غير ممل سياسيا تركيز الكاتبة على البعد الإنساني وطرحها لعدة أسئلة حاولت من خلال العودة إلى التاريخ وتاريخ أسرتها بالذات أن تجيب عليها، العنف وأسبابه وكيف يستطيع الانسان أن يتجرد من انسانيته فيقتل ويهين ويسبي ويغتصب دون أن ترمش عيناه؟ و كيف استطاع الإنسان أن ينظر إلى جاره مفكرا هل أستطيع أكلك غدا؟ كيف يمكن لثورة ثقافية أن تطور مجتمعا بدون حرية أو إرث ثقافي؟ وكيف لشخص واحد أن يعبد من طرف أمة ميتة لا روح فيها؟ كلها أسئلة وغيرها تطرح عن الحقبة الماوية في الصين ولا أنكر أني رايت رواية 1984 لأورويل تجسد وتشخص بتفاصيلها مع ماو حيث يصبح الإنسان مجرد آلة مبرمجة لا لسان ولا روح ولا عقل لديه، الصين أصبحت نمطية باردة مملة مع ماو منعزلة تماما وقد أتفهم موقف الكاتبة ورغبتها الملحة في الهروب والتحليق بعيدا بعيدا عن سجن وضعت فيه أمة بحالها. وحين تابعت الكاتبة بعد خروجها من الصين وقارنت وضعها في وطنها لاحظت أمرا قد يعتبره البعض سطحيا لكني أراه رمزا لكل المعاناة التي شاهدتها المرأة الصينية في تلك الحقبة فالمرأة فقدت أنوثتها وأصبحت شبحا ممنوعة من الحب من الأمومة ومن الموضة أيضا الكاتبة الآن تختار بعناية فائقة ثيابها وتسريحة شعرها، الكاتبة اليوم أنيقة وواثقة وحرة وهذا ما تريده للشعب الصيني ككل، صحيح إن الفترة التي تلت ماو تحت زعامة دن شياو بينج الذي حاول استغلال فوضى ماو من أجل تحديث الصين تعتبر ناجحة وأهلت الصين اليوم لتضاهي القوات الاقتصادية العالمية لكن يبقى سؤالي على حساب ماذا تم ذلك؟ وهل يجب أن ننتظر العقود القادمة لتخرج يونغ تشانغ أخرى تحكي لنا عن هذه الفترة التي تظهر للعالم أنها الصين الذهبية؟
نابليون يقول "الصين مارد نائم اتركوه ولا يوقظه أحد" أجيب نابليون إن المآسي فقط من أيقظ المارد الجبار.
إيمان العزوزي.
يحكي الكتاب عن تاريخ الصين في العصر الحديث من بداية القرن العشرين إلى نهاية الثمانينات حين قررت الكاتبة أن ذكرياتها قد عتقت واختمرت وأنها لن تستطيع أن تتحمل عبئها لوحدها بعد الآن فكتبت بجعات برية لتحملنا بعضا من الألم الافتراضي، يحكي عن ثلاث نساء يمثلن نساء الصين عبر ثلاث أجيال من الجدة التي فتحت لنا أبواب الصين الفيودالية التى يحكمها أسياد الحرب وتقاليد بالية ترى جمال المرأة في قدمين مشوهين تعيش الجدة جارية لأحد قادة الحرب بعد أن باعها أبوها القاسي دون رحمة تحت نظام الجواري وسيدات المنزل لتتمرد في النهاية وتختار طبيبا تكمل معه حياتها مع ابنتها التي نكمل معها مسيرة التاريخ والتي عاشت في ظل الاحتلال الياباني العنيف جدا والذي تعرفت عليه سابقا وأنا اقرأ عن مذبحة نانجنغ التي راح ضحيتها ما يقرب عن مئتين وخمسين ألف ضحية، حيث كان الجنود اليابانيون يتنافسون على من يقتل مائة بسيف واحد. الرعب والخوف الذي استقر في نفوس الناس جعلهم يحلمون بالبطل الهمام الذي يخرج اليابان من أرضهم ويزيل الذل والمهانة التي طبعت حكم الكومنتانغ الراغب في ترسيخ حكم الاقطاعيين فلم يجدوا سوى ماو تسي تونغ زعيم الحزب الشيوعي الذي فرض سيطرته على الصين، فيسطر كتاب بجعات برية هذه المرحلة بدقة متناهية نتتبع فيها مسيرة أسرة يونغ شيان ومصير والديها في ظل مزاج ماو النرجسي وزمرة الأربعة وهي العصابة التي تضم زوجته وحاشيته والتي عرفت بهذا الاسم فيما بعد، هذا الكتاب يعتبر نقدا صريحا لتلك الفترة و قد دعمته الكاتبة بكتاب آخر مخصص فقط لماو لتكشف النقاب عن حقبة من أهم الحقب التي مرت على الصين في العصر الحديث وهي حقبة تميزت بتعتيم إعلامي كبير وبروباغندا طاغية للنظام لإرساء نظمه وفلسفته، ماو لم يهتم بشعبه بقدر ما اهتم بشخصه فابتدع فلسفة فارغة من المحتوى معتمدة على الهوى ورغبته في إيهام شعبه بأرض الميعاد والجنة الاشتراكية ويبرز مأزق ماو مع سقوط ستالين ثم سقوط المنهج الذي اعتمد عليه فاختلطت الأمور وعمد إلى تكريس مفهوم تأليه الحاكم – قال خروتشوف آنذاك إن ماو يعتقد أنه المخول من السماء لإرساء نظم الشيوعية على الأرض- وبث الرعب في الشعب وسياسة فرق تسد التي طالت الاسرة الواحدة فتمزق المفهوم الإنساني والأسري الذي قامت عليه الصين لمئات السنين، عمد ماو إلى قطع الصلة مع الصين القديمة الطراز فأطلق دعوته الجديدة في إطار ما عرف بالثورة الثقافية فعمت الفوضى التي افقدت الصين معظم تراثها تحت أقدام الحرس الأحمر معظمه من المراهقين والشباب الذين لم يكن لديهم الفرصة بعد للتعرف على القيمة الجمالية لما يدمرون وربما كان الأمر مقصودا من ماو ليتجاوز بهم أي صلة تذكرهم بالماضي وتبقى شخصيته محورية ومقدسة، الغريب في الأمر أن الثورة بمفهومها المتعارف غالبا ما تكون عفوية نابعة من الشعب ذاته ضد أنظمة شمولية مستبدة ظالمة لشعوبها ثم تجاهل الصينيون إنه من غير المنطقي أن تصبح الثورة تحت الطلب من الحاكم وهو أمر يبدو غير مبرر في ظل حاكم محبوب ومقدس مثل ماو، فالثورة الثقافية لم تكن سوى هلوسة شعبوية لبلوغ رضى "الرب الشيوعي ماو" أبرز ملامحها الحج الجماعي لبكين لرؤية ماو أو وضع صوره كمازارات للفلاحين لتقديم قرابين طامعين في موسم فلاحي جيد، الثورة الثقافية لم تكن سوى أداة في يد ماو ضرب بها أعداءه و في النهاية المظهر الثقافي الوحيد في هذه الثورة يكمن في مبررها فقط.
الأمر الذي يجعل من بجعات برية كتابا غير ممل سياسيا تركيز الكاتبة على البعد الإنساني وطرحها لعدة أسئلة حاولت من خلال العودة إلى التاريخ وتاريخ أسرتها بالذات أن تجيب عليها، العنف وأسبابه وكيف يستطيع الانسان أن يتجرد من انسانيته فيقتل ويهين ويسبي ويغتصب دون أن ترمش عيناه؟ و كيف استطاع الإنسان أن ينظر إلى جاره مفكرا هل أستطيع أكلك غدا؟ كيف يمكن لثورة ثقافية أن تطور مجتمعا بدون حرية أو إرث ثقافي؟ وكيف لشخص واحد أن يعبد من طرف أمة ميتة لا روح فيها؟ كلها أسئلة وغيرها تطرح عن الحقبة الماوية في الصين ولا أنكر أني رايت رواية 1984 لأورويل تجسد وتشخص بتفاصيلها مع ماو حيث يصبح الإنسان مجرد آلة مبرمجة لا لسان ولا روح ولا عقل لديه، الصين أصبحت نمطية باردة مملة مع ماو منعزلة تماما وقد أتفهم موقف الكاتبة ورغبتها الملحة في الهروب والتحليق بعيدا بعيدا عن سجن وضعت فيه أمة بحالها. وحين تابعت الكاتبة بعد خروجها من الصين وقارنت وضعها في وطنها لاحظت أمرا قد يعتبره البعض سطحيا لكني أراه رمزا لكل المعاناة التي شاهدتها المرأة الصينية في تلك الحقبة فالمرأة فقدت أنوثتها وأصبحت شبحا ممنوعة من الحب من الأمومة ومن الموضة أيضا الكاتبة الآن تختار بعناية فائقة ثيابها وتسريحة شعرها، الكاتبة اليوم أنيقة وواثقة وحرة وهذا ما تريده للشعب الصيني ككل، صحيح إن الفترة التي تلت ماو تحت زعامة دن شياو بينج الذي حاول استغلال فوضى ماو من أجل تحديث الصين تعتبر ناجحة وأهلت الصين اليوم لتضاهي القوات الاقتصادية العالمية لكن يبقى سؤالي على حساب ماذا تم ذلك؟ وهل يجب أن ننتظر العقود القادمة لتخرج يونغ تشانغ أخرى تحكي لنا عن هذه الفترة التي تظهر للعالم أنها الصين الذهبية؟
نابليون يقول "الصين مارد نائم اتركوه ولا يوقظه أحد" أجيب نابليون إن المآسي فقط من أيقظ المارد الجبار.
إيمان العزوزي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق