قد حُكم بالسجن مدى الحياة على أحمد ألتان، مؤلف كتاب "لن أرى العالم مرة أخرى"، وأنا أخضع لعلاج ورم في المخ، وكلانا مصمم على السير قُدمًا.
يقضي الروائي والصحفي التركي أحمد ألتان عقوبة السجن مدى الحياة في بلده الأم، حيث مسموح له أن يرى أطفاله من حين لآخر، وتقتصر كتابته -نظريًا- على ملاحظات قصيرة لأسرته ومحاميه. وقد نشرت أذر برس في بداية هذا الشهر الترجمة الإنجليزية لمذكراته "لن أرى العالم مرة أخرى"، والتي كتبها بتحدٍ خلف القضبان، وهُرّبت إلى هذا العالم الذي لن يراه أبدًا.
أشعر بنوع خاص من التعاطف مع السيد ألتان لأنني أيضًا أواجه عقوبة مدى الحياة متمثلة في مرض عضال -قاتل في كثير من الأحيان- إذ أعاني من ورم في المخ، لكن في حالتي يمكنني في الأقل أن الوم الصحة أو الرب أو الحظ السيئ لا أبناء بلدي الحاقدين.
الجدير بالذكر أن عنوان كتاب السيد ألتان بيان لحقيقة مؤلمة، لا صرخة استغاثة يائسة. لا يوجد في صفحات المذكرات البالغ عددها 212 صفحة رثاء لذاته ولو قيد أنملة. وخلاصة قوله في هذا الصدد أن: لا يمكنكم سجن عقلي، ولا يمكنكم أن تخرسوني.
كتب: "لم أستيقظ يومًا لأجد نفسي في السجن، ولا لمرة واحدة".
"أكتب هذا في زنزانة السجن، وأنا لست مسجونًا. أنا كاتب!".
إذا كان السيد ألتان البالغ من العمر تسعة وستين عامًا في عامه الثالث في السجن، يتحدى معاناة حياة السجون، فهو على الصعيد الآخر لا يستهين بها. كتب عن "نيران الذعر" كما يسميها؛ الإجراءات الخبيثة لتجريد الشخص من فرديته، واستبدال اسم شهادة ميلاده غير المستخدم عادةً باسمه الذي يُعرف به؛ واستبدال ملابسه الخاصة بزي موحد. ليس بإمكانه أن يلبس أو يخلع ملابسه أو يأكل أو يستحم أو يمارس الرياضة وقتما يشاء. لكن أحد أقسى أوجه الحرمان -وهو من الأمور المثيرة للدهشة- عدم وجود مرايا أو حتى أسطح عاكسة في أي مكان في حرم السجن الذي يضم أحد عشر ألف سجين، معظمهم محكومين لأسباب سياسية.
لم يدرك من قبل عدد المرات التي يتأمل فيها المرء نفسه في المرآة، وما مدى أهمية ذلك. كتب عن ذلك: "التواصل البصري مع نفسك معجزة صغيرة. أنظر حولي باحثًا عن نفسي ولا أجدها".
في 14 يوليو 2016 ، شارك السيد ألتان وشقيقه محمد، أستاذ اقتصاد ومعلق سياسي، في برنامج تلفزيوني، استضافتهما فيه ناظلي إليجاق، وهي صحفية بارزة. وفي اليوم التالي حدث انقلاب عنيف ضد حكومة رجب طيب أردوغان وأُحبِطَ، وقد تضمن محاولة اغتيال وتفجير البرلمان وما يقرب من ثلاثمئة حالة وفاة. واتُهم الأخوان ألتان والسيدة إليجاق بإعطاء "رسالة مموهة" لبدء الانقلاب.
قُبض على أحمد التان والسيدة إليجاق وحُكم عليهما بالسجن المؤبد. (وحكمت محكمة أعلى ببراءة محمد ألتان). واستنفد أحمد ألتان كل صيغ الاستئناف أمام المحاكم العليا، ورسخَ وجود أردوغان في السلطة.
لقد مُنعتُ من الدخول إلى تركيا بسبب مقالات كتبتها حول معاملة الأقلية الكردية في البلاد، لذلك أجريت مقابلة مع السيد ألتان على مدى عدة أسابيع في يونيو بذات الطريقة التي كتب بها كتابه، عن طريق تهريب الأسئلة إليه وانتظار ردوده المهربة، مكتوبة بخط اليد بقلم أزرق. (ترجمت ياسمين تشونجار رسائلنا المتبادلة، وهي من ترجمت مذكراته أيضًا).
سألتُ السيد ألتان ما الهدف من هذا الكتاب؟ وقلتُ أيا كانت شجاعة الكتاب من أمثاله فهي ليست سوى مصدر إزعاج أكثر من كونها تهديدًا للدولة، مثل بعوض مزعج يمكن أن تتخلص منه بمضرب قاتل الحشرات.
كان رد السيد ألتان عنيفًا ومنصفًا على حد سواء، كتب: "من الممكن أن تقتل الكتّاب، من الممكن أن تسجنهم، أن تعذبهم، لكن لا يمكن أبدًا التخلص منهم كحشرات. الكاتب ليس بجسده فقط . كلما زادت محاولاتك التخلص من كاتب، ساعدته لأن يصبح أكبر، في حين تتقلص مكانتك: قاتل الحشرات يتحول إلى بعوض. هذه الحقيقة من الأسباب الأساسية التي تجعل الكتّاب يثيرون غضب أصحاب السلطة. أعتقد أن لي الحق في أن آمل أن يعيش ما كتبته أطول من السلطات السياسية في تركيا اليوم؛ إن السلطات السياسية مقارنة بالكتّاب ضعيفة بشكل يُرثى له."
سألت السيد ألتان ماذا لو حرمتك السلطات من القلم والورقة؟ فأنت بعد كل شيء مسجون بسبب "رسائل مموهة"، ومذكراتك قلما تكون مموهة.
أجاب: "بالطبع يمكنهم مصادرة الورق والقلم، لكنهم لم يفعلوا ذلك. لقد نُشر كتابي بعدة لغات أوروبية قبل أن يصدر في الولايات المتحدة، ولم أواجه حظرًاً على كتابتي، لأنه مع سخافة الادعاءات الموجهة إلي، وحقيقة أن محاكمتي كانت مهزلة، فهم يريدون أن يثبتوا أن القضاء المستقل أدانني لأسباب وجيهة. إذا حظروا كتابتي، فسيعرّضون أنفسهم لمواجهة صعوبات أكبر لتبرير ما فعلوه".
قلتُ: لكن ألا تخشى أن يعرّضك نشر هذا الكتاب، حتى ولو باللغات الأجنبية فقط (لم يصدر بالتركية حتى الآن) لمزيد من الأذى؟ لقد تحدثتَ عن الحرية الحيوية للفكر، وحماية أفكار الفرد "في عِلّية الذهن"، ولكن ألا تحتاج أيضًا إلى حرية التدوين؟ ألن يكون الأمر مدمرًا إذا لم تستطع ذلك؟
أجاب السيد ألتان: "الكتابة بين هذه الجدران السميكة تحررني. الخوف نفسه أخطر من الشيء الذي تخشاه. الخوف من الموت أسوأ من الموت. الخوف يأخذك رهينة ويقتل مقاومتك. لا يوجد مكان يكون فيه الخوف أكثر فتكًا مثل السجن".
أضاف: "مع ذلك فإن مخاوفك هي مخاوفي أيضًا. لكن منذ أصبحتُ هنا، قمت بطريقة للحفاظ على عملي مهما حدث لي. عندما أكتب قطعة نثرية، أخطو في فناء السجن وأكرر الجمل في ذهني إلى أن أحفظها عن ظهر قلب. إذا صادروا أوراقي، فلن يضيع العمل كاملًا. هذا ليس بالأمر السهل فعله، ولكنني اعتدت عليه في السنوات الثلاث الماضية.
لسجين الرأي مكانة معينة - بما في ذلك المكانة الأدبية- الأمر الذي لا يتمتع به أي كاتب في الخارج. أردت أن أعرف كيف يشعر السيد ألتان حيال ذلك. فسألته: هل كانت عقوبة السجن مدى الحياة في نهاية المطاف تستحق كل هذا العناء، لأنها مكنتك من كتابة هذا الكتاب؟
كان جوابه صريحًا: إليك إجابتي الصادقة: نعم ، الأمر يستحق ذلك. أريد أن أخبرك شيئين عني: أولًا: أنا بدون الكتابة لا شيء يُذكر، شخص عادي جدًا؛ لا فرق بين وجودي وغيابي. أنا شخص قلِق. والكتابة تحميني من العدم والأرق. أحتاج أن أكتب من أجل أن أحمي نفسي مني.
عندما قابلت السيد ألتان لم يكن قد شُخّصت إصابتي بالورم بعد، وعند تحرير الرسائل المتبادلة، أدركت تشابهًا لم أشعر به في البداية. كلانا في حالة أبدية؛ سجنه مدى الحياة، والورم في مخي- والكتابة عزاء لكلينا، لأسباب مختلفة. في بعض الأيام، عندما أكتب مقالًا جيدًا، أو أصيغ نصًا متقنًا، أو أكتب مقالًا يحرّك مشاعر الكثيرين، أشعر -مثل السيد ألتان- أن الأمر يستحق العناء.
هو يعاني بسبب سلطة سياسية، وأنا بسبب سلطة الطبيعة. ومع ذلك أجد نفسي أبتهج بالسطور الختامية في كتابه، التي أعيد كتابتها هنا: "لأن لدينا مثل كل الكتّابِ سحرٌ، يمكننا المرور عبر جدرانكم بكل سهولة".
- رود نوردلاند: مراسل دولي بصفة عامة، يعمل في أفغانستان رئيسًا لمكتب كابول. وقد عمل مراسلًا في أكثر من مئة وخمسين دولة. وهو مؤلف كتاب غير روائي بعنوان (الحبيبان: روميو وجولييت في أفغانستان).
- ترجمة: بلقيس الكثيري.
- تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق