مؤمن الوزان.
مدينة دبلن
يقول جويس: أود أن أعطي صورة كاملة لدبلن حتى إذا اختفت المدينة فجأة من سطح المعمورة يكون بالإمكان إعادة تشييدها من كتابي.
تحوز مدينة دبلن على المكان في يوليسيس، فالعمل الذي كتبه جويس قد أُشيد به لتذكره المدينة رغم بعده عنها وقت كتابته العمل، لكن هذا الوصف لدبلن لم يرق للبعض وعدَّه غير صحيح في كثير من جوانبه المذكورة. لكن ما يهمنا نحن هو في تشييده مدينة دبلن من جديد في كتابه بشوارعها وأبنيتها وطبيعتها وبحرها وتاريخها وسياستها لكنه زاد عليها بأن خلق مع المدينة أهلها بكل صنوفهم، وهذا بالضبط ما حدث مع الحلقة العاشرة من يوليسيس التي أفردها جويس لدبلن وأهلها، وعمل على جعلها يوليسيس داخل يوليسيس. فهذه الحلقة تحمل في بُنيتها عاملين رئيسين:
- إن الحلقة موزعة على تسعة عشر جزءًا، لشخصيات مختلفة من أهالي دبلن في الوقت نفسه، ينتقل السارد الخارجي من حدث إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر لتشكلَ الحلقة دبلن بجغرافيتها وأناسها، فينطبق عليها تماما قول جويس الوارد. وما يحسب لجويس أيضا أنه كتبها وهو في المنفى بعيدا عن دبلن بعد أن هجرها مع نورا.
- إن هذه الحلقة هي نسخة مصغرة من يوليسيس، حيث التنقل بين أحداث وشخصيات مختلفة، وكونه عمل داخل عمل موازٍ له وفي داخله. فيوليسيس تولد يوليسيس آخر، هذه الحلقة رغم زيادتها على يوليسيس (19 جزءًا مقابل 18 حلقة) فإنها تؤكد ما ذهبتُ إليه في كون يوليسيس مخلوق أكثر مما هو مجرد عمل تخيلي، فالتوليد الحاصل في هذه الحلقة من بين الحلقات الثماني عشر هو توليد مخلوق آخر، وهذه الأجزاء التسعة العشر في الحلقة العاشرة هي أيضا قائمة بذاتها كباقي الحلقة الرئيسة في العمل، قائمة ببنيتها الخاصة وقصتها التي هي قصة سكان من دبلن، أناس مختلفون، متباينون، يجمعهم جويس في الجزء الأخير منها، إنه الالتقاء الذي تبقى عناصره محتفظة بكينونتها تلتقي في لحظة ثم تعود إلى عالمها الخاص، هذا العالم الذي هو الآخر يمثل يوليسيس جديد وهكذا تواليا، يتكاثر يوليسيس إلى ما لا نهاية، لأنه مرتبط بالإنسان ونهايته مرتبطة بهم.
إن الشوق إلى المدينة التي يولد أو يعيش فيها الإنسان هو الدافع الذي يجعله حبيسًا فيها رغم خروجه عنها. إنها الرغبة بالعودة إلى الانتماء بعد النفي والابتعاد، إنها إيثاكا أوديسيوس التي بقيت تشغل باله وتحتل كيانه، فالعودة إلى إيثاكا توازي العودة إلى دبلن. يوازي جويسُ هنا أوديسيوسَ في رحلة عودته إلى إيثاكا، لكن جويس يعود عودًا مجازيا، يجعل من دبلن أرضية أحداث ومكانًا يضم فوق روحه وفكره وخياله وماضيه الآفل، يعود في يوليسيس إليها روحًا لكنه يبقى بعيدًا عنها جسدًا، إنها عودة تعارض عودة أوديسيوس. فكما يضيع أوديسيوس في البحار يضيع جويس في مدينته التي يعرفها ويبنيها في نصه ويُسكن فيها أهلها، جاعلا من عمله مخلوقًا ومدينة، لتستحوذ دبلن على العمل كأنه كُتب إليها وفيها، لم تكرس لشيء سوى دبلن، إنها ذروة الجوع إلى المكان، إن جويس هو كل شخصياته الدبلنيّة، لم يمنعه البعد عن العيش فيها مجددا، عيشًا لا يعترف بالماهيات والماديات والزمان والمكان، عيش دائم، يحياه جويس مع كل قراءة.
إن دبلن الحاضرة وبقوة في العمل، وبحلقة خاصة لأهلها، قد يكمن فيها جوهر العمل، ولمَ لا؟ كلنا نقرأ العمل ونبحث فيه عن شخصيات وأساليب سردية وفن
الحداثة في الرواية، ودراسة بنيتها المشابهة للأوديسة، لكن هل أراد جويس كل هذا؟ ألا يمكن أن عمله كتب لأجل دبلن وحدها؟ إنه التوق والظمأ إليها، إنه المكان الذي يسكن ذات جويس، المكان الذي لا يستطيع العيش فيه مجددًا إلا في كتابته، وها قد كتبه وها قد عاش فيه عبر نظائره ومخلوقاته التخييلية.
(صورة لمدينة دبلن 1904)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق