بقلم فيرونيكا إسبوسيتو Veronica Esposito
ترجمة: عباس جميل الحساني.
لا أعلم إن كنت سأومن بأدب الحداثة بعد الآن، كان أدب الحداثة يعني لي الكثير أكثر من أي نوع آخر، لكنني أتوجس منه خيفة الآن، إنني أراه الآن كرؤية للبشرية مبنية حول اللا معنى، النقص والضعف.
وهو أدب عن المهام العقيمة والبحث عن هوية صعبة التحقق وغالبا ما يشار إليها بالظلام، طوال حياتي شعرت أن هذه القيم فطرية، أما الان فهي غريبة. إن ما أعنيه بالأدب الحداثي هو مجموعة من المؤلفين الرواد الذين أسسوا حركة أدبية بعيدا عن الصدمة والشوق، فقدان الشخصية وفوضى العلم الحديث. عاش هؤلاء الكتاب خلال حقبة تحول مجتمعي غير سابق، وكذلك خلال حرب لم تشهد حضارتهم مثل قساوتها، وقد واكبوا انهيار الأنظمة السياسية التي كانت مهيمنة على مجتمعاتهم، كما أنهم شهدوا تحولات مزلزلة في بيئتهم الثقافية والاجتماعية، وردًا على ذلك فقد أنتجوا أدبا يعبر عن محاولاتهم لصياغة معنى لهذا الواقع المقلق. وفوق ذلك فإن أغلب كتاب الحداثة تعرضوا لمشاكل وصدمات نفسية هزت وجدانهم، فعلى سبيل المثال عانت الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف (1882-1941) من الاكتئاب الهوسي أدى بها الى الانتحار بعد سنوات من الاضطراب. كما إن كافكا انكسر في الأساس بسبب شعوره بالظلم وقد توفي بسبب مرض مروع. وجيرترود شتاين [روائية وشاعرة امريكية 1874- 1946] التي أُسيء فهم حياتها الجنسية، مما أدى إلى استبعادها من الحياة والمجتمع الطبيعي. وقد كانت تعاني من مرض عقلي في الأرجح. وهناك أيضا الشاعر النمساوي ريلكه الذي تصور أنه بديل عن أخته الميتة كما أنه عانى من المرض في طفولته، والقائمة تطول.
كان أدب الحداثة مفهوما لي لأن حياتي اتسمت بصدمة نفسية هائلة ومستمرة أيضا، لقد نشأت وأنا أفهم أنني على خطأ وأنني غير محبوب، ولن أتمكن من الوصول الى ذاتي الحقيقية. والواقع أنَّ قسما كبيرا من هذه الصدمة كان نابعا من إرغامي على النمو والعيش في نوع جندري خطأ كما كان نابعا من ديناميكية أسرية مختلة جعلتني أشعر بالخوف على سلامتي وعجزي عن اكتشاف هويتي، بسبب تعرضي لهذه الصدمات الهائلة التي لم أفهمها، ناهيك عن شفائي منها، وعندما رأيت الحداثيين يصورون صدماتهم وأزماتهم النفسية في أدبهم، شعرت أنني أفهم حالتي. كانت رواية (مذكرات مالته لويدز)، وهي الرواية الوحيدة للشاعر ريلكه ( 1875_1926)، واحدة من أولى الأعمال الأدبية التي جعلتني أشعر بأنني شخص متحول جنسيا، أجزاء كثيرة من الكتاب كانت تمثيلا لحياتي وما يكتنفها من السرية والأقنعة والشوق امرأةً متحولةً جنسيا. أتذكر ما أكثرَ حماسي عندما قرأت الكتاب، لأنني وجدت مؤلفا يفهم مشاعري ويعبر عنها في أعماله بدقة. لقد شعرت بأنه يكتب عني. في تلك الأيام لم أعتقد أبدا أنه يمكنني الحصول على ما أريد، وبسبب ذلك خدرت مشاعري كي أتخلص من ألم عيش حياة فاشلة، لقد تعلمت أن أتعايش مع حياة الحسد والسرية والشوق، لأنني اعتقدت بأنها الحياة الوحيدة الممكنة، الخدر الذي جعلني أتخطى هذه الحياة يعني أن عالمي ليس له أي معنى متأصل، لم أفهم لماذا يسعى أي شخص إلى السعادة، كنت دائما أعرف أنني سأعيش مع ألم لا يمكن التعبير عنه أو شفاؤه.
إنَّ قراءة أعمال أدباء الحداثة كانت السبب في بعث الارتياح في نفسي، ذلك لأنهم حولوا حياة اللا جدوى الى حياة البطولة، وكان من المفيد أن نراهم وهم يبنون معانيهم الخاصة انطلاقا من الفلسفة الوجودية، وكيف تعلموا الاعتزاز بآلامهم وشوقهم لانهم يعتقدون أنهم لا يملكون خيارا آخر. أما الآن فقد تغير كل شيء في لقد أصبحت الشخص الذي كان يجب أن أكون عليه، وقد غادرت حالة الخدر التي لا يمكن علاجها.
لقد تغيرت معتقداتي وقيمي تغيرا جذريا حتى إنَّ الكتابات الحداثية لم تعد تمسني كما كانت، لا زال بإمكاني أن أعجب بجمالية العمل الأدبي لكن خبرتي به فقدت شيئا حيويا. كانت نقطة التحول الاساسية عندي حينما غيرت نوعي، لقد فهمت أن النوع الذي عينني به العالم بناءً على أعضائي التناسلية غير صحيح. وأخيرا بدأت أعيش في النوع الذي ولدت به حقا. عندما خضت هذه الرحلة بدأت أفهم أن الصدمة العميقة التي تعرضت لها، وكيف شكلت هذه الصدمة شخصيتي وسلوكي. وببطئ بدأت أعيش الحياة التي كان ينبغي أن أعيشها، فبدأت أتخلص من هذه الصدمة، وأظهرت الاشياء التي كانت مكبوتة داخلي، وبمجرد أن أخرجتها بدأت بالتعافي من ضررها. ولكي أتمتع بصحة جيدة بدأت بتغيير معتقداتي حول الحياة، وما تعلمته من الحداثيين هو محور هذه المعتقدات.
أتذكر جيدا عندما أدركت ما كان يحدث، لقد كان أول عيد ميلاد لي وأنا أنثى، حينها كنت قد أمضيت سبعة أشهر امرأةً، وقد مرت بضع سنوات حتى أعلنت عن كوني متحولة جنسية، ثم بدأت بتأنيث حياتي بطرق مختلفة. استيقظت مرة في الصباح الباكر وأخذت حماما دافئا، وجلست مستضيئة بنور الفجر وبدأت أقرأ قصائد ريلكه (سونيتات لاورفيوس)، وهي ذات الأشعار التي قرأتها من قبل واعتززت بها، وجعلتني أشعر بأنني فهمت ومكنتني من الإحساس بنفسي. لكن هذه المرة لم اأأثر بالكلمات كما تأثرت من قبل، لم يمسني العمل، كما أن الكلمات لم تتوغل الى داخل نفسي وروحي، لقد أحسست بالانفصال عن هذا الشعر. في ذلك الصباح بدأت أفهم أن الحداثيين كانوا ذات مرة منطقيين في نظري لأنني عشت مع ينبوع طافح من الألم والشعور الدائم بالضياع. لكن الآن وبعد أن طورت جسدي الصحيح، وافتراض مكاني المناسب في العالم، بدأت هذه المشاعر بالتلاشي، وببطء بدأت استبدلها بمشاعر الرضا، الصواب، الشفاء، والصحة فكنت أراجع اللغة التي أستخدمها في التكلم عن عالمي وأطور موقفا جديدا تجاه الحياة، ولأول مرة في حياتي شعرت بالامتنان لوجودي وآمنت أن السعادة هدف جدير بالاهتمام يجب أن أتابعه. رغم أن حياتي كانت بعيدة عن المثالية، ولا يزال لدي الكثير من المشاكل الجسدية، كما أن الغرباء يصنفوني كائنا مميزا. لكن التغيير في منظوري أحدث فرقا جوهريا.
لأنني قمت بهذه الرحلة فإنني الآن أعرف قوة فهم قصة حياتك، ذات مرة كنت عالقة داخل هذا السرد الحداثي عاجزة ومرتبكة كبطل كافكا، لم أكن أعرف بداياتي ولم أفهم ما حصل لي، لم أعرف رأيي الخاص ولم أكن أملك جسدي، لكنني وجدت المعاني التي مكنتني من شق طريقي الفكري والخروج من السرد الحداثي بعد أن فهمته، وبمجرد أن رأيت قصة حياتي وما كانت عليه بدأت في إعادة تشكيلها في عملية تحويل جعلت مني ما أنا عليه الآن.
إنَّ الصدمة التي ميزتني تمتد بعمق لا يصدق وتشكل الواقع المادي لعقلي، لكنني تعلمت أن أفهم مافعلته بي وألا أكون أسيرة لها مرة أخرى.
وبسبب ذلك أقرأ الان أشياء مختلفة، وابتعدت بضع سنوات عن تلك الكتب التي كانت كل عالمي في يوم ما، أرى تلك الكتب على الرف وأتساءل إن كان علي التخلص منها، أشعر بالذنب، فرميها يمثل خيانة لها. بعد قبولها في حياتي الجديدة. أتساءل هل علي الابتعاد عنها (كتب أدب الحداثة) أو هل يمكنني إدخالها الى حياتي الجديدة، أعتقد أن هناك طريقة للتعايش، كما يمكنني الحصول على أشياء مختلفة منها، لكن ليس الآن، لقد قضيت شطرا من حياتي وأنا أعيش معها. والان أرى أن هناك الكثير في الحياة لاستكشافه.