*موزة عبد الله العبدولي
طالما كانت الفروسيةُ الصورةَ المُحاذيَةَ للعربيِّ الشُّجاع والمِقدام، فالفارسُ هو رمزُ القُوةِ وفَخرُ القَبَائل، حتَّى إذا ما عُدنا إلى أخبَارِ العَربِ وأشعَارِهم، لوَجدنا أنَّ العَرب تَفخرُ أيَّمَا فَخرٍ بقوَّةِ الفَارِس وشدَّة بأسهِ في المَعارِك، لكنَّهم يُغالون بهذه الفكرة غلوَّاً، إذ يُرفَعُ الفُارسُ إلى مَنَازل العزِّ بكلمةِ مَدح، وتُنزِلُه كلمة ذمٍّ إلى حَضيضِ المَهَانةِ والعَار. وتَتبُّعاً لأبرز الفُرسَان الشعراء، يجيءُ عَنترةُ بن شداد في المُقدِّمة، فالفُروسيَّةُ مصدر قوَّتهِ أمامَ هشاشةِ هويَّتهِ وفُقدانِها في القبيلة، حتَّى إنَّ قصائدَه لا تَخلو من سردِ وقائع الحرب وكلّ ما يُثبت جَدارته بكونه فارِسًا شُجاعًا، فكان يقول في استغاثةِ القبيلة به " قِيْلُ الفَوارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْـدِمِ"[1]، وحين يعرِّضُ بعبلة يؤكِّد جلادته الحَربية "تُمْسِي وَتُصْبِحُ فَوْقَ ظَهْرِ حَشِيَّةٍ.. وَأَبِيتُ فَوْقَ سَرَاةِ أدْهَمَ مُلْجَـمِ"[2]، أي تنامُ عبلة بنعيمها، في حين لا يبيت الفارسُ إلَّا على حِصَانه. لذا نستطيع القول إنَّ الاعتداد بالفروسية عند عنترة يجيء دافعًا استرداديًّا سببه قلق الذات وفقدان الهوية أي أنَّ استعراضه لا يُشبه استعراضَ أبي فراس الحمداني مثلاً، الذي كانت دوافعه منبثقةً من الذاتية المُفرَطة المُتَّصِلة بحميَّته القبلية، فحين يَفخرُ الحَمداني بفروسيَّته فهو يَفخر بقبيلته، كقوله في فرسه الفخورة به لأنَّها تعرف قدره فارسًا:
وَمُهرِي لا يمَسّ الأرْضَ، زَهواً، كَأنّ تُرَابَهَا قُطْبُ النّبَالِ
كأنَّ الخيلَ تعرفُ منْ عليها، فَفي بَعضٍ عَلى بَعضٍ تُعَالي[3]
وانطلاقاً من فكرة الفروسيَّة والبطولة، نجد أنَّها ظاهرة مُتفشيَّة في الشعر العربيِّ كُليًا، فالشاعر يُظهر هذا النوع من البطولة الممزوجة بالمخاطرة ومُجابهة الموت أمام محبوبته التي يُخاطر من أجلها "ففي اقتحامِ الأهوال يُعرض البطل جانباً من بطولاته الفردية أمام المرأة، فهي وحيٌ من إيحاءات الأبطال ورمزٌ للحقيقة التي دافع عنها وضحى في سبيلها"[4]، ولا نُغفل كذلك مَلمحا مُهما في الفروسيَّة الشعريَّة، وهي فروسيَّة الصَّعاليك التي تهيِّمن على أشعارهِم، حتَّى إنَّهم استَبدَلوا المُقدمات الطَّلَليَّة المَعروفة بمُقدِّمات في الفروسيَّة، إذ "يضع الشعراء الصَّعاليك في مستهل قصائدهم صورة للأنثى الضعيفة التي يظهر صاحبها إلى جوارها بطلاً قوياً مستهيناً بحياتهِ من أجلِ فكرته، يرفض نصيحتها، ويقابل جزعها بابتسامة الواثق بنفسه، المعتدِّ بشخصيته، ويحاول أن يقنعها بقوة وإيمان بسداد رأيه، وسلامة مذهبه في الحياة"[5]، وينطلق بعدها إلى غارات السطو التي عُرفوا بها.
ولعلَّ المُفارقة بين صورة الفارس قديماً وحديثاً، أنَّها كانت سابقاً تأريخاً لأحداث ومعارك، وصورة يَرسمها الشاعرُ لبطولاتِه الحقيقيَّة، في حين أنَّ فارسَ العصرِ الحديثِ ما هو إلَّا صورةً رمزيَّةً دالَّةً على معاني الجسَارة والقوَّة والإقدام. وتتبُّعاً لنتاج الشاعر البحريني قاسم حدَّاد[6]* نستطيع أن نلحظ تجليَّات كثيرة لصورة الفارس، وهي ظاهرة ليست بغريبة على قارئ هاوي للتراث العربي، إذ يحاول أن يتقمَّص البطولات وأجواء المعركة ليعيد كتابتها بشكلٍ حداثيِّ، رغبةً منه في استعادة هيبة الفارس العربي. أو لعلَّها في نهاية المطاف صورة موازية لذات الشاعر المُتَّسِمَة بطباع الفارس المِغْوَار، أو الفارس الأسطوريِّ الذي يَحلم أن يكونَه.
ستحاولُ هذهِ المَقالة استقراءَ النماذج التي ظَهَرت فيها صورة الفارسِ في شِعر قاسم حدَّاد، وهي في الحقيقة صورٌ مُتفاوِتَة في دَلالاتِها وِفقاً لسياقاتها المُختلفة، فيجيء الفارسُ أحياناً في صورةِ البَطل الشجاع، وأحيان أخرى في صورةِ الفارسِ الهَارب والفَار، في حين يُفاجئنا أيضاً بكونه فَارساً صُعلوكاً من خلالِ عَمليات السطو والإغارة، وغيرها من التجليَّات المغايرة التي سَنَقِف عَليْها.
1- الفارسُ المِغْوار
تَظهرُ صورةُ الفَارسِ المِغْوارِ في قصيدة (غُبار الملك)، إذ يرسم فيها مشاهد التحديات، وساحة الصراع، ويعترف بإقدامه وإصرارِهِ "حاربتُ،/ لي جسد يكافح"، فيقول في بداية المشهد مصوِّراً الخطر:
"فوقفتُ في قدمِ الوقيعة كاشفاً جَسدي لمملكةِ الغُبار
كلُّ محتدم على جُرحي قراصنة وقنَّاصون مُحترفون
تنحدرُ الدروعُ على ذِراعي
مثلما جبلٌ يسيرُ إلى جِواري
قيلَ لي: تغفو على ضيم التميمة
ثم تستعصي على النسيانِ
فاسترخيتُ في وجعِ النهار
قيلَ لي ما قيل للأوتادِ
فازدحمتْ ضعاف الخيل واهتزتْ يدي في حمحمات الليل
كلُّ سقيفة عُقدتْ تشابكتْ الفصولُ بها
وظلّ دمي تخوضُ به الممالكُ
كنتُ في غفوِ المؤامرة القديمة،
والدمُ المهتوكُ متسعٌ تضيقُ به الوسيعة.
كلُّ محترب يهيئ حربة للصدرِ أو للظهر
والخيل الضعيفة مستجيرات بمَملكتي ونَاري"[7]
إذاً ها هو الفارسُ الذي يَستشعر الخَطَر ويجهِّز الدرعَ والسِّلاحَ والخيل، فهو على أهبَّة الاستعداد، خاصةً بعد أن جسَّ نبض المؤامرات والدسائس، لذا ينطلق في المشهدِ التالي بإقدام إلى ساحة المعركة:
"يا رب
يا نار الوشيعة والشجار
حاربتُ،
لي جسد يكافحُ راعشاً وجعَ الفجيعة مستجيراً
بالرماد الكامن المرصود
يا رئة تخوض بها العجلات، يا وحش الفرائس
أين محتمل الضواري
ليس في جسد الرقيق زجاجة للضَوْءِ
مثل زجاجة الأسماء كالمشكاة
كنتُ محارَباً ويدي قلوعٌ في السفائن
ليس في جسد الرقيق مغامر يجتاح
كنتُ محارِباً ويهادن الأشلاء
يا مستوحشاً يغري الذبيحة بالصواري."[8]
ونحسبه صراعًا مع القَراصنة، هذا العدوُّ الهمجيُّ والقاسي يجابهه فارسٌ وحيدٌ يُدافع عن مملكتهِ بغضب "لي جسدٌ يُكافح"، في حين أنه يستعرض صراعه المحتدم الذي يكون فيه مُحارَباً ومحارِباً، ويتحدَّى خَصمَه الشرس الذي صيَّره إلى أشلاء ضعيفة مخاطباً إياها بتهكُّمٍ "يا مستوحشاً يغري الذبيحة بالصواري"، هذا الفارس الذي أطاح بالعدوِّ فتكاً، يقف أمام انتصاره بفخر، ويمشي في القرى بانتصار وابتهاج:
"وقفت،
لي قدم تخب على القُرى والنخل
تشتعل ابتهاجاً بالذي ينسى ويبدأ
مثلما نهدٌ يقاوم حربةً
ويشد أشتاتاً ويستثني وينسى."[9]
2- الفَارِسُ المتأهِّب
واستكمالاً لصورةِ الفارِسِ المِغْوار، نجدُ أنَّ هناك صورةً أكثرَ دقةً نَصِفُها بالمتأهِّب، أي أنَّ الفارس ليس في حالةِ صراع، بل إنَّه على استعدادٍ وتَرقُّبٍ، ويَظهر هذا التَّحدِّي والقلق في قصيدة (نخلة العذاب)، إذ تنهال الوَصَايا على الفارسِ كي لا يَخلع الدرع استعداداً لأيِّ معركة قادمة:
"أيُّها المُستجير بعلم السلالات
لا تخلع الدرع
ما زالت الحربُ منصوبةً
والقبائل في ريبةٍ
ومُحتمل شكّها
ما زالت الأرضُ مهتاجَةً
والخيام التي غادرت عشبها للمتاهات
مرصودة للرحيل
لك أن تَصطفي باب موت يليق
وتعطي السلالة خِرقتها لتسد الفضيحة والعار
لك أن تحتفي بانتصار الهزائمِ
أو ترتدي بيرقاً ردَّه آخر الهاربين
لك أن تختفي أو تلين"[10]
تُهيِّمنُ الريبةُ والشكُّ على هَاجسِ الفَارِسِ، فها هي رايةُ آخر الهاربين تُسلَّمُ إلى الفارس/ الأمل، في حين إنَّ المصيرَ مشكوكٌ بنصره "لكَ أن تصطفي باب موت يليق" لأنَّ الاحتفاءَ بالهزيمةِ وارِدٌ ومُتوقَّع، فالقبيلة تَستَمسِكُ بِفَارِسِها، لكنَّها في الآن نفسه تستعدُّ للرثاءِ والانسحاب، فالخيامُ مرصودة للرحيل، هذا التأرجح بين النجاح المؤمَّل أو الإخفاق الاحتماليِّ يَجعل القلقُ مركزَ الطاقةِ والفِعلِ. حتَّى إنَّ صوتَ المُوصيِّ يخيِّر الفارس بين أن "يحتفي" أو "يختفي" فالقرار والهلاك في يديه.
"لا تخلع الدرع، دعه
ما زالت الحربُ في جسدِ الأرضِ
والأرض ذاكرة للنخيل
نخلة تعرف علم السلالات
تذكر دفق الدِّماء التي ارتعشتْ في التراب
ليطلع لون ويزهو
تذكرُ من جزَّها، لتموت، ويلهو
وتذكر زَحْفَ الخيام الفقيرة
تذكر وحشَ القبيلة يجتاحُ رِيفَ القُرى والمدينة
نخلةٌ طفلةُ الأرض
من قال تمشي النخيلُ وتنسى؟"[11]
يكون النخل هنا شاهداً على الحُروب المستعرة، على الألمِ المُمتدِّ عبر التاريخِ الطويلِ لهذِهِ الأرض وقبائلها، فتَأتي ذاكرةُ النخيلِ لتؤكِّد للفارِسِ استمراريَّة الحرب واشتعالها، لهذا كل ما جاء بعد وصية "لا تخلع الدرع، دعه" استشهاداً يُمهِّد لصراعات المَرحلة القادِمة. في حين نلحظ غياب صوت الفَارِس في هذا المشهد، مما يولِّد هذا الصمت الكثير من التَسَاؤلات. ومع ذلك، تُبيّن الأجواء العامة أنَّه الفارس المطلوب الذي تَستَنجدُ به القبيلة، فكيف سيخذل الفارس من يَستغيثه؟ ومن خلال هذا التوقُّع، نَستَمْسِكُ بجوابهِ.
3- الفَارسُ الهَارِب
تتجلَّى صورةُ الفَارِسِ الهَارِبِ في قصيدة (لمن لا بيت له) مصوِّرةً حالةَ الضياع والارتعاب، لكنَّ المعركة هُنا هي معركة فكريَّة، يَخوضها الفارسُ مع الأسئلة التي تُزعزِع الحَال، وتُغربِل الأجوبة:
"أسئلةٌ لها شَهوة الهتكِ والفضيحة.
رفقة لا تخلع الخرقة، وسرير لمن لا بيت له
لها كل ما تشتهي
نارٌ وجارٌ وقصعةٌ، وفرسٌ تصهلُ.
ولا للسقيفة حيث كسرة الخبز والفضاء
لها كل ما تشتهي
والفارس يتشبث بلجام الحرب والحسرة، لا يصل
يمسح أحجار الطريق خائفاً هارباً يتذكر أحلامه
لها كل ما تشتهي
فأعدوا لهم ما استطعتم
أعدوا، ولكنهم
لم يزل فارس الليل في وحشةِ الليل يجتاز جيش الكلام.
أحتفي بالنهايات
أصحو على خمرة الوقت، قلبي لها الكأس
أحسو وأرسو بدفة روحي على شاطئ يحتويني
ويحمي شظاياي
لي كل بدء وتنهيدة واهتياج."[12]
إذاً فهو فَارِسُ اللُّغةِ الهَارِب، الذي تُهدِّده الحسرةُ، ويُعيه الوصول إلى النصر. إذ نَجده يتلمَّس النجاة، ويَحلُم بِمَلاذٍ يَحويهِ ويَعطف على تَشظيَّاته. لأنَّه هُنا يُواجه جَيشاً عَظيمَاً مِن الكَلماتِ والأسئلةِ الماهرةِ في الهتكِ والإبادة، فالنجاة مُستحيلةً بالمُواجهة، لذا اختارَ (الاجتياز) مُجبراً. لأنَّه فارسٌ مَرعوبٌ تُطارِدُه الأحلامُ ويعذِّبه التأنيبُ ويَعجز عن مُقاتَلة ما يَفُوق إمكانياتهِ. فتظهر صُورته في هذه القصيدة بشكلها الهشِّ والقَلِق وهي صُورة مُفارقة لنموذج الفارس الجَسور.
4- الفَارِسُ الصُّعلُوك
يفاجئنا الفارس الصُّعلوك بِغَارَاته في قصيدة (مُبَارَزات)، وهو هُنا أيضاً فارسٌ فكريّ، فارس الأحلام والتجربة الذي "يُمعن في المُلابسات"، ويجرِّدَ القوافلَ من دلائِلِها في المَسير، مُترقِّباً الهَلاك، أو لذَّة الدَّهشة:
"وأنت يا مجنون الأحلام
يا مفتدى الصبايا وشقيق الذبيحة
يا جنس التآلفات
والقوي المأخوذ بطبيعة الفتوى
تستوقفُ القوافل في جسارة
وتجرِّدُها من الطريق والخرائط
ماذا لديك الآن بعد التجربة
ماذا سيبقى في يديك من عجينة المغامرة
وغبطة الأوج
وأي قلعة ستفتديك،
من سَيَفْهَمُ المبارزات في كتابك الأخير
يا كشيفَ الجُرح والمعصم والمجادلات.
ماذا فعلت بالأرغنِّ،
منذ لحظة ترفل في الإيقاع
ها أنت مثل ساحل يأتي إليك البحر
تمعن في الملابسات
هل يداك في ذهول الأفق
أم يداك في الهلاك
قل لنا يا أنت ما الذي تراه من هناك؟"[13]
نستطيع أن نلحظ صورة الفارس الصُّعلوك في مظهرهِ وتَصرُفاته "كشيف الجُرح والمعصم والمجادلات"، فحتَّى عنوان القصيدة دالٌّ على معاني الصراع والإغارة والاقتتال، فهو القويُّ والمِقدام، والمُخرِّب بسطوِهِ وشَغَبِه "تستوقفُ القوافل في جسارة/ وتجرِّدُها من الطريق والخرائط"، لكن هدف الصُّعلوك هنا ليس القيمة الماديَّة، وإنَّما القيمة المعنوية الشعريَّة، رغبةً منه في أن تُصبح ساحة التعبير -لا طُرق الرحلة- مفتوحة الآفاق، وأكثر رحابةً للتجريب والابتكار، وهو يعبِّرُ في الاختتام عن هاجِسِهِ غير المؤكَّد لنتائج هذه التجربة، فهل ستؤول مُحاولته إلى الفَلاح أو الهلاك؟ أمام السؤال المفتوح "ما الذي تراه من هناك؟".
5- الفارس الشاعر
في حين يظهرُ الفَارِسُ بشكلِهِ الشَّاعريِّ في قصيدة (الشاعر)، إذ أصبحت الفروسية هي بذاتها عَمَلية الكتابة:
"يكتب كما لو يجلس على صهوة حصان
تسمع صهيل نصوصه
ويطفر في وجهك صهده النازل
قدماه تخبّان في رمل
ورأسه منتعشٌ في الرماح
يتطوّح
والكلامُ يفيض ويتطاير ويشهق
يناديه غيمٌ
فلا يسمع،
رئتاه مشرعتان لصوت الأقاصي
ليس لاسمه حروفٌ ولا يفهم اللغة،
يكتب، وكعبه في خاصرة الخيل
فرسٌ تهشل به وتطير
وذراعاه ريشٌ شاهقٌ.
سميناه مثلما يأخذ النبيّ الحكمة
مثلما ينهر الماءُ وحشة الأرض
سميناه،
وأخذنا أخطاء الحقل لمأدبته.
كلما تقدمتْ به الخيلُ توغل في نصه،
وأفضى بنا إلى التيه
يضيع فيضيء بنا عتمة الكون
قناديله في سفرٍ وإقامة.
صوتٌ واهنٌ يسعى مثل نبيذٍ يؤرّخ.
مكتظاً بالمنح والهبات والهدايا
قرابينه في المذبح الغريب
له في كل نارٍ جمرةٌ ورماد
وعليه أن يخرج
دائماً عليه أن يخرج."[14]
الشاعرُ الفارسُ يَتَوغَّل في النصِّ ويَتَنبأ بالتِّيه، يَتحدث عن فارسٍ ضَالٍّ في عَتمة الكون لكن قناديله تُضيء. وقد تمتاز هذه الصورة بالتفرُّد عن صور الفرسان الأخرى، لكنَّها تشي أيضاً بأنَّه الفارس ذاته في كلِّ المقاطع، الفارس الذي لا بُدَّ له أن يتقدم، إذ يعتز بشَجَاعتِهِ كَمَا يعترف بضعفهِ، ويُكمل مسيرته على الرغم من عقباتِ المَسيرِ وضَبابيَّة الرؤيَّة، وهو مخوَّلٌ بالبحث الدؤوب عن النجاة فـ"دائماً عليه أن يخرج".
ونستخلص المعاني في تجليَّات صورة الفارس عند قاسم حدَّاد، بأنَّ هذا الفارس له تحوُّلاته المُختَلِفَة والمُتمَاهِيَة تماماً مع مسرح الأحداث ولهيب الروح، فهو المِغْوَار حين يُدافع، وهو المتأهِّب حين يُستنجد به، وهو الصُّعلوك إذا استفزَّته القواعد، في حين يلوذ بالانزواء حين تكسره الهزائم، لكنَّه يؤمن بالعودة، إيمان الفارس الشاعر بعظمة إقدامهِ.
[1] : شرح ديوان عنترة بن شداد، الخطيب التبريزي، دار الكتاب العربي، ط1، 1992م، ص184. جاء في شرح البيت: "جعل أمرهم له بالتقدُّم شفاءً لنفسه، لما ينال في تقدمه من الظفر بأعدائه، ولما يكتسب بذلك من الرفعة وعلوّ المنزلة".
[2] : شرح ديوان عنترة بن شداد، الخطيب التبريزي، دار الكتاب العربي، ط1، 1992م، ص159.
[3] : ديوان أبي فراس الحمداني، أبو فراس الحمداني، دار صادر، بيروت، د.ت، ص210.
[4] : البطل في الشعر الأموي، شادان جميل عباس، دار غيداء، عمَّان، ط1، 2018م، ص137. (بتصرف)
[5] : الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، يوسف خليف، دار المعارف، القاهرة، ط4، ص268.
[6]*: قاسم حداد (1948-) شاعر بحريني معاصر، يعد من رواد التجديد والتحديث الشعري في التجربة الخليجية، له إصدارات شعرية متنوعة، ومشاركات فاعلة في النطاق الثقافي.
[7] : الأعمال الشعرية قاسم حدَّاد، قاسم حدَّاد، الجزء2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2000م، ص85 و86.
[8] : المصدر السابق، ص86.
[9] : المصدر السابق، ص86 و87.
[10] : المصدر السابق ص47.
[11] : المصدر السابق ص48.
[12]: المصدر السابق ص70 و71.
[13] : المصدر السابق ص178 و179.
[14] : ثلاثون بحراً للغرق، قاسم حداد، منشورات المتوسط، ميلانو، إيطاليا، ط1، 2017م، ص71 و72.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق