مقابلة وتبيان الطرائق التي تقدم بها الروائيتان شارلوت برونتي، وجين ريس، موضوع العزلة في بناء شخصيات: روتشيستر*، وجين إير، وأنطوانيت، في روايتي "جين إير"، و"بحر ساركاسو الواسع".
يُستخدم موضوع العزلة في الأدب الإنجليزي لبناء الشخصيات الرئيسة وتقديم رؤية خاصة لبعض الجوانب المصيرية لهوياتهم. إنَّ هدف هذا المقال هو المقابلة والتبيّن بين الطرائق التي تقرُّ بها شارلوت برونتي وجين ريس موضوعة العزلة في بناء شخصيات روتشيستر وجين في رواية ( جين إير)، وأنطوانيت في (بحر ساركاسو الواسع). قُدِّمت افكار العزلة في هذه الاعمال الادبية بكونها نتيجة مباشرة للوحدة التي عاشتها هذه الشخصيات منذ الطفولة المبكرة، وهكذا تطبَّق الروايتان على كل من العزلة الإجتماعية والداخلية، فواقع هؤلاء الأشخاص قاسٍ جدا لدرجة أنهم يعزلون أنفسهم عن بقية العالم. هذه العزلة هي اضطراب نفسيٌّ معقد يؤثر في تشكيل هوياتهم، فالعزلة تؤدي الى طرد المرء من جميع الشؤون والنشاطات المجتمعية، وهذا ما يسبب في أن يكون الانسان عضواً غير فاعل في مجتمعه، وعلى الرغم من كون جين ريس تستخدم فكرة مشابهة لسرد برونتي حول العزلة، فهي تقدم تفسيرها الخاص حول هذه المسألة، فعلى عكس برونتي التي تعد جنون المرأة ليس فطرياً بل نتيجة للذات المصابة التي تتشكل عند الشخص بسبب العزلة والقمع. في هذا الصدد، يُنظر الى العزلة عند هؤلاء الشخصيات على أنها عملية إنقاذ معيَّنة تساعدهم بعض الوقت، إلا أنها تدمر هؤلاء الابطال تدريجياً. في الحقيقة إنَّ هوية الشخص تتشكل من خلال تفاعلات اجتماعية وثقافية معينة مع الناس، لكن العزلة تعني حرمانه من الهوية الكاملة.
جين إير وأنطوانيت كوسوي هما الشخصيتان النسائيتان الرئيستان لكلتا الروايتين التي صورتا بأنهما شخصيتين منعزلتين تماماً على الرغم من الخلفية والظروف المعيشية المختلفتين، فيعانينَ من شعور الوحدة نفسه واليأس. فجين مثلاً، يتيمة وصغيرة تُعامل بقسوة من قبل خالتها وهي معزولة عن بقية أفراد الاسرة وتفاقمت عزلتها عندما أُرسلت الى مؤسسة لوود، فتحولت إلى امرأة كتوم وفظة التعامل وتعاني من تدنٍ في احترام الذات وقلة الأمل. على غرار جين، تبدأ عزلة أنطوانيت في المنزل وتستمر في دير الراهبات، مما يؤثر على هويتها، فهي تقضي معظم الوقت في الغرفة ويعدها معظم الأشخاص مجنونة، في حين أنها تتصرف بطريقة طبيعية نوعاً ما.
تؤدي هذه العزلة المطولة الى تدمير نفسي أكثر جنوناً وتعقيداً لأنطوانيت ، ففي بداية سردها للموضوع تدعي أنه "لم يقترب منا أحد، وقد أعتدتُ على حياة الانفراد والعزلة"، فالناس يخونون ثقتها ويخيِّبون آمالها بدلاً من مراعاتها وعائلتها بلطف. عزلتها في طفولتها قامت بتشكيل شخصيتها وهذا الذي أثر سلباً في حياتها وعلاقاتها مع الناس امرأةً بالغةً فيما بعد. تعيشُ هذه المرأة المحطمة في عالمها الذي خلقته ولكنها لم تعد قادرة على احتمال العزلة فيه، وفي حينٍ آخر، ينفر منها روتشيستر (الشخص الذي تحبه)، فهي تبحث عن الحب والاهتمام، وهو يفشل في فهمها.
تَكشفُ ريس عن عزلة روتشيستر التي لا يمكن تفسيرها نظراً لشراسته، عوضاً عن ذلك، صوِّر بأنه شخصية محطمة يُجبر على زواج امرأة اختارتها له عائلته، تعيشُ في بيئة غريبة عنه. إن هذا الاغتراب الذي يعيشه تعده أنطوانيت على أنه عدم قدرته على قبول شيء مخالف لنمط حياته وعاداته المنظمة. ولهذا فإن موقفه من زوجته يكون سلبياً أحياناً مما يدفعها بأن تكون امرأة مجنونة كوالدتها، ولكن الساردة تعارض فكرة إن هذا الجنون موروثٌ، فهي تشدد من خلال السرد على حقيقة أن العزلة للمرأة تؤدي الى الاضطراب النفسي. ولهذا فإن عقل أنطوانيت منقسم حينما تهرب إلى الماضي، فهي تعزل نفسها لا عن العالم الخارجي فحسب، بل عن داخلها أيضاً، وهذه العزلة هي خطرٌ على نوعية حساسة لامرأة مثلها.
يشير كورال هوملز "إن لحظة انصياعها هي نفسها لحظة تدميرها". وفي محاولة للهروب من عزلتها، تنتحر أنطوانيت، ثم تفشل في القضاء على مشاعرها السلبية التي تثير فيها شعوريّ الوحدة والانعزال. مع أن جين إير تعاني كذلك من الغضب والازدراء من قبل أقاربها، لكنها استطاعت أن تتمسك برباطة جأشها حول ما تشعر، فعلى النقيض من أنطوانيت، تلتقي جين شابّاً يعاني من الوحدة نفسها وتقع بحبه. إن هذا الشعور القوي ينقذها من يأسها ويفكك أسباب عزلتها، فهي لم تعد نافرةً من الناس. وهكذا فهذه العلاقات تختلف بين الروايتين. في رواية برونتي، يدمر كلا الشخصين عزلة الآخر ويعيشان في تطابق ووئام كما ذكرت في جين في صفحة (288) "انها روحي التي تخاطب روحك بالتساوي- كما نحن". لدى زوجات روتشيستر ماضٍ مؤلم يتفاقم بسبب عزلتهن لكن يستجبنّ لهذا الماضي على نحو مغاير، فجين تفقد والديها ويتجاهلها المجتمع، ولكن بفضل العزلة التي عاشتها طورت بعض المهارات التي تمدها بالقوة اللازمة من خلالها تتجاوز مشاعرها السلبية فتصبح امرأة ناضجة ذات رؤى خاصة وقادرة على جذب مشاعر الطرف الآخر. كما أن لرسوماتها تعبيرٌ عن أحلامها ووحدتها وبدا أنها قد تعاملت بنجاحٍ مع العزلة. لكن حينما علمت أن لروتشيستر زوجة قررت أن تنأى عنه بقرار لم يدم طويلاً فسرعان ما عادت لأنها بحاجة للعودة إليه، فهي يتيمة وتدرك أن ليس لها من أحد تعتمد عليه إلا نفسها. وبالعودة مقابلةً مع انطوانيت، فهي قد عاشت مع وحدتها في بداية الأمر، ولكنها تنفر منها لأن والدتها ترعى أخيها غير مبالية بها وحزنت حزناً شديداً حينما فقدته.
كونها فتاة ساذجة ووحيدة تجدُ أنطوانيت الراحة في عزلتها/ لكنها تسعى بداخلها للفت النظر والحب. عندما تزوجت روتشيستر بدأت تصدّقه وتثق به، عادَّةً إياه أقرب شخص إليها، ولكنها تعود إلى عزلتها حينما تتغير تصرفاته تجاهها مما يدمر علاقتهما. يقول شابيرو: "إن كلا الشخصيتين غاضبتين من عدم فهمها من الطرف الآخر". في الجانب الآخر، أصبحت جين ناضجة في مدرسة لوود، وهذا ما لا نجده عند أنطوانيت التي تظل طفلة صغيرة، اتكالية على الآخرين فلا يمكنها أن تتصرف باستقلالية. وفي هذا الصدد، فإن جنون أنطوانيت أدى إلى تفاقم نفور روتشيستر الذي بات منعزلاً أكثر بعد زواجه الفاشل حتى إنه من المستحيل أن يحب امرأة مفروضة عليه، فيبدأ بتسميتها "بيرتا"، فيوحي بعزلته عنها. ينجذب روتشيستر الى جين حينما يلتقيها منذ أول مرة، ولكن من الصعوبة أن يثق بامراة اخرى فيقوم بمحاولات مستمرة ليتجنبها، ولكنه لا يستطيع الهروب من مشاعره لذا فأن عزلة أنطوانيت عن الواقع والأشخاص المقربين تختلف قليلاً عن انعزال جين وروتشيستر، فعزلتهم ذات طبيعة مختلفة، فهمّ منعزلون اجتماعياً.
طوال السرد نجد هذا الشيء لا سيما في شخصية جين المعزولة بوضوح عندما تزوجت روتشيستر، وهو من الطبقة العليا، لكنها ما زالت تتجنب الآخرين، في حين أن انطوانيت تعمد إلى الأسلوب الاستفزازي لجذب الانتباه، وتقتصر الأخرى على علاقاتها مع المقربين. مقابلةً مع أنطوانيت فإنها لا تعزل نفسها عن الواقع في محاولة للتغلب على الصعوبات بقوة روحها ومبادئها الاخلاقية.
قد يكون التفسير لعزلة جين الاجتماعية نظرًا لحقيقة أن هذا التشابه غير قادر على تقبل المجتمع الذي ينبذها باستمرار، ففي مرحلة الطفولة بدلاً من اللعب مع أقرانها، كانت تقعد في الغرفة تستمع الى البيانو أو القيثارة التي تُعزف تحت جلجلة الزجاج مع محاولة موهنة، وكان الدخول لغرفة الرسم محظوراً عليها لذا فإن هذه الأصوات هي التي تربط جين مع العالم. تحرمها هذه العزلة من أي تفاعلات مع الأطفال أو البالغين، مما يفاقم شعور الوحدة. كما قالت جين: "بدت الساعات طويلةً حينما كنت أنتظر رحيل الضيوف، واستمعتُ الى خطوات بيسي على الدرج" إنه الشخص الوحيد الذي يساعدها في هذا المنزل في تحمل وضعها المعقد. علاوة على ذلك، تلتقي جين في المدرسة بهيرين بيلز وتيمبل اللتين أثرا كثيراً في هويتها. حيث بدأت تشعر بالدفئ والحب والتعاطف نظراً لعلاقتهم الوثيقة، أدى الى تحطيم مشاعرها السلبية تدريجياً. وعلى الجانب الآخر، لم يكن لأنطوانيت أشخاصاً كهؤلاء، لذا كانت نتيجة العزلة مأساوية، فجين قد وجدت هويتها أخيراً، ولكن غربة الأخرى تفسد علاقتها مع الناس.
تستكشف رواية ريس حالة نفسية من العزلة العميقة والانعزال الذاتي، كما قال شابيرو "إن عدم وجود هوية واضحة لأنطوانيت تجعلها نوعاً ما عاجزة، فنظيرتها جين كانت بوضوح منعزلة عن المجتمع في حين قد دمر المجتمع أنطوانيت لأنها تعتمد على أشخاص يرفضونها". أدت هذه العزلة الى نتيجة وهي عدم استطاعتها على فهم ماهية نفسها أو تكوين مفاهيم معينة. هذا التدهور الداخلي في الشخصية الأنثوية يمنع من إقامة حياة طبيعية ويكشف عن وضع معقد لإمرأة في عالمٍ أبوي. على الرغم من أن صورة جين في هذه الرواية كانت في سياق اجتماعي مشابه فقد تمكنت من التغلب على هذه التحيزات وكسبت احترام الآخرين لأنها تمتلك قوة وضبطا أكثر من أنطوانيت، ولهذا فأن عزلتها لا تدمرها لأنها تعرف هويتها. إن عدم قدرة انطوانيت على رسم ملامح محددة لهويتها يحرمها من نيل حياة طبيعية وسعيدة. فهي تُستخدم بسمتها كائنًا، ولكن لا تُقبل بصفتها امرأةً ذات إرادة وقوة، ولهذا جنونها هو تكملة مأساوية لعزلتها مع أنها حاولت أن تتخلص منها حينما تزوجت. ولكن كما تقول ريس: "يمكنك التظاهر مدة طويلة ولكن في أحد الأيام يسقط كل شيء وتبقى بمفردك".
بتحليل الطرائق التي قدمت بها الروايتان موضوعَ العزلة في بناء شخصيات (روتشيستر، جين، أنطوانيت) في (جين إير) و( بحر ساركاسو الواسع). يُشير المقال إلى أن برونتي وريس قدما تفسيرات متشابهة ومختلفة في آن واحد لهذه القضية. فجين وأنطوانيت نشأتا في بيئة مماثلة وعزلتا باستمرار من المجتمع، فتجد الشابتان العزاءَ الحتمي من الواقع القاسي. مع أن هذه العزلة تبدو منقذة لبعض الوقت فهي تؤثر سلباً في هوية الشخصيتين نظراً لأن انعزالهما له طبيعة مختلفة فإن مصائرهم كذلك أيضاً. طوال السرد كانت جين معزولة عن المجتمع، لكنها عثرت على هويتها وتغلبت على مشاعرها السلبية، إلا أنها بقيت معزولة عن المجتمع باستثناء بعض ممن يحبونها. أما انطوانيت فلم تكن معزولة عن المجتمع فقط، بل تعاني من انعزال عقلي عن الواقع، إضافة لفشلها في معرفة هويتها أدى ذلك الى تدمير عقلها وانتحارها نتيجة لافتقارها للعلاقات الاجتماعية التي تحرمها من إمكانية التعرف على حقيقتها، فطبيعتها الحساسة تحبذ الاهتمام والحب، لكنها فشلت في ذلك فخلقت عالماً غير واقعي بسبب انعزالها حتى عن زوجها الذي هو الآخر معزول عنها وعن المجتمع، لكن عزلته مرتبطة في عدم قدرته على تقبل زواجاً مفروضاً عليه، كذلك تكشف محاولته لعزل نفسه عن جين خوفاً من المشاعر القوية، تزامناً مع فشل زواجه امرأة أخرى فبات ينفرُ من الإناث. إلى جانب ذلك، تجاهلته عائلته وعاشت الشخصيات الرئيسة الثلاث في عزلة دائمة بطريقتين إما عن المجتمع وإما عن الواقع.
UKessays.
ترجمة: مصطفى حمزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق