استعراض النماذج التي قدَّمت فيها الروائية توني موريسون التمثيل السلبي لشخصياتها النسائية "الخيالية"، وكيف مضت متحديةً هذا التمثيل وعلاقتها بالأفكار النسوية السوداء 1.
توني موريسون واحدة من بين أشهر وأهم المؤلفين في القرن العشرين خصوصا بأن معظم أدبها تحدى الأفكار النمطية التي فُرِضَت طوال التاريخ على النساء الأمريكيات ذوات الأصول الإفريقية.
إنَّ الشخصيات في رواياتها مُبدعةٌ بجمالية لكي يتمكن القارئ من استكشاف رحلات وعوالم هذه الشخصيات والأساليب التي قُدِمنَّ بها، ثم التشكيك في المنظور التاريخي الذي أُنشئ جرَّاء هذا. ومع ذلك، فإنَّ العديد من الصور النمطية بقيت عالقة من دون شك في وعي الأمريكيين من الأصل الإفريقي، ولذا فمن الضروري بدايةً إبقاء النساء في تلك الصور قبل دراسة كيفية طرد تلك الصور والأفكار النمطية إلى الأبد. كما تشير لسلوى غالي "وفقًا لإعادة التفكير في وجهات النظر التقليدية حول الهوية وعلاقتها بالثقافة، فإن موريسون تتجنب المنطق الثنائي لاستكشاف الأشكال المتعددة والأسباب الجذرية للتهميش الاجتماعي". وعلى هذا النحو، مع وضع هذا في الاعتبار، ستدرس هذه المقالة الذات الأمريكية الإفريقية في شكلها النمطي داخل عمل موريسون وكيف تُبنى بما يتعلق بالفكر النسوي من ذوات الأصول السوداء. مما لا شك فيه فإننا نستنج أنَّ موريسون تذهب إلى حد ما لتبديد مثل هذه الانطباعات السلبية وتعزز إنجازات الفكر النسوي الأمريكي-الإفريقي في هذه العملية.
الفكر النسوي الأسمر في مواجهة الصور النمطية السلبية
كانت باتريشيا هيل كولنز واحدة من اوائل المثقفين منذ القرن التاسع عشر الذين تخصصوا بالطريقة التي صوِّرت بها النساء الأمريكيات-الإفريقيات، وقد قدمت تحليلا حول كيفية وسبب تحدي الكتاب والمثقفين والشخصيات البارزة من ذوي الأصول الإفريقية للأفكار والصور النمطية على مدى سنين. تقول كولينز: "إن المثقفات الأمريكيات السمراوات قد وضعن أساسا تحليليا حيويا لوجهة نظر مميزة حول الذات والجماعة والمجتمع وبذلك خلقنّ تقليدا فكريا متعدد الأوجه للمرأة الأمريكية-الإفريقية". إنَّ حجة كولينز هنا صائبة واقعيًا لأن العديد من المؤلفين قدموا تحليلا محكما للذات الأنثوية والعرق من خلال البصيرة التي يمتلكها الفرد بدلا من الانطباع السائد لذوي البشرة البيضاء عن النساء السمراوات أو السود. وفي تسليط الضوء على هذا الجانب حددت كولينز العديد من الثيمات، تحديدا ست سمات تميّز الفكر النسوي الأسمر، وانطلاقا من هذه الثيمات التي قد توفر أرضية جماعية مشتركة تشتد الحاجة إليها بين الأمريكيات ذات الأصل الإفريقي أولًا، والأمريكيات ذات الأصل الإفريقي في علاقتهن بمجتمع يملك إدراكًا جمعيا أو فكرا ذا هدف محدد. إنَّ هذه المجالات أو الثيمات الست التي توفر أرضية مشتركة ستوفر تجربة أنثوية مشتركة وهي العمل والأسرة، والسلوك الأمومي والسيطرة، والتعريف بالذات، والسياسة الجنسية، وعلاقات الحب، والأمومة والنشاط. ومع كون هذه السمات توفر مشتركات مهمة قد ينتج عنها هوية جماعية للأنوثة الأمريكية من الأصل الإفريقي فقد ينتج عنها تمثيلات سلبية أخرى.
في ذات السياق، تقول الكاتبة المتخصصة في الدراسات الإفريقية والنسوية مادو دوبي "على الكاتب استبدال الصور النمطية السلبية بالإيجابية" ولكن مصطلح "استبدال" يعطي انطباعا بوجوب تجاهل النمط السلبي بدلا من فحص وتطوير هذه الصور من أجل إقصائها، مما يسبب في تطور الشخصيات الأنثوية بالنحو الإيجابي المطلوب. وعلى العكس من دوبي، فإن كولينز تدعو إلى عامل الخبرة والتمكين والوعي لطرد هذه التمثيلات السلبية من خلال استكشافها بدقة لإضفاء الصبغة الإنسانية حول شخصية الأنثى السوداء. تؤيد موريسون وجهة النظر هذه بالذات، وتُثبت ذلك شخصياتها الروائية. ومع ذلك فإنه من الضروري قراءة الشخصيات في رواية سولا لموريسون 2 لمعرفة فيما إذا كانت ستتحدى هذه التمثيلات السلبية بما يتعلَّق بالفكر النسوي أم لا.
العاهرة والزوجة المطيعة
تقدم موريسون توصيفيْن لتمثيلاتِ الصور السلبية في المجتمع الأمريكي تجاه النساء الأمريكيات-الإفريقيات، وتحددهما بالعاهرة أولا وتمثُّلها بطلة الرواية "سولا"، والزوجة الصالحة، وهو التمثيل الإيجابي العكسي لشخصية سولا في الرواية، واسمها "نيل". تعمل العلاقة بين الاثنتين كونها واحدة من الصداقات بين النساء السود في المجتمع وقد وصفت كولينز هذا التمثيل بـ"الحيوي". ولكن قبل فحص العلاقة بينهما، يجب فحص ما تقدمه هذه الشخصيات من تمثيلات على نحوٍ فردي. تمثِّل سولا فساد المرأة السوداء، فهي ومن الوهلة الأولى تخطو على نحو دقيق إلى دور العاهرة نتيجةً لموقفها من الجنس وكذلك من الأنوثة، فهي تعتقد أن الجنس منفصل عن العاطفة، فهو فعل جسدي غير متجسد يسمح لها أن تشعر بحزن لا يمكن بلوغه بأي وسيلة. مع أن هذا السرد يسلط الضوء على جانب سلبي من العلاقة مع الأنماط والصور الموجهة للنساء السوداوات التي تصفهن بأنهن ذوات "طبيعة منحلة" ولكنه يلمح بعمق إلى أهمية أخرى وهي "الفعل" الذي تتبناه سولا، مما يعد تحديا للتمثيل التقليدي. هذا الادعاء يعززه وصف الأم لتربية سولا، والتي تقدمه موريسون في هذه الجملة "علمت سولا أنَّ الجنس ممتعٌ ومتكررٌ لكنه أيضا غير ملحوظ" على هذا النحو أُنشئت التمثيلات النمطية داخل الرواية التي تقدمها الشخصية بفاعلية من خلال موقف الأم الليبرالي تجاه الجنس بدلا من كونه طبيعة غريزية مدمرة ولدت بها "كما يشير العرف السائد". يتحدى هذا البناء الروائي الثوابت والأنماط من خلال إضفاء الطابع الإنساني على شخصية العاهرة ويدحض الانطباعات السلبية الموجهة ضدها بغض النظر عن مدى المحرمات التي يترتب عليها موضوع ممارسة الجنس غير الشرعي بعده "دعارة واختلاط".
بالرغم من المعهود النمطي للعاهرة التي صُممت سولا لتجسيده وتحديه أيضا في الرواية، فإنَّ التحدي لا يكون فقط باستخدام خلفيتها السابقة وقصتها بل ومن خلال موقفها من الجنس كذلك حيث تعتقد سولا أنَّ الجنسَ وسيلةٌ لإثبات الوجود ورفض أعراف المجتمع. تغوي سولا زوج أعزِّ صديقاتها لتتهم بأسوأ تهمة مذلة على الإطلاق وهي "النوم مع رجال بيض". تصف كولينز ذلك بأن النساء الأمريكيات-الإفريقيات عادةً ما يُستخدمن من قبل الرجال البيض وهكذا جُسِّدن بناءً على هذا الانطباع. ولكن في حالة سولا فإن الأدوار معكوسة فهي من تستخدم الرجال لتشعر بالنشاط والحياة، وهي محاولة لاستكشاف ماهيتها ولإثبات هويتها الذاتية التي لا تعتمد على التوافق مع الانطباعات المأخوذة عن النساء الأمريكيات-الإفريقيات في تلك المرحلة. لهذا فأن سولا ليست عاهرة بل امرأة تبحث عن مكانها وسط هذا العالم، ويقف عِرقُها عارضا في وجهها، وقد وجدت أن الجنس "وضعها في موضع الاستسلام، والشعور بثبات قوتها ولا محدودية طاقتها" فتكتشف سولا نفسها الحقيقية من خلال رفض الحدود المسلم بها للجنس وتشكيل رؤيتها الخاصة للحياة: "فهي ترفض منفردة القيمَ الهامشية التي تنتمي إليها، وهو هامش يعكس المركز من ناحية كونه يكبت أي إثارة للسخط والاستياء". إنَّ سخط سولا ملموس ويصف الصورة النمطية للعاهرة بأنه بناء اجتماعي صُمِّم للكبت بدلا من إطار حيوي يمكنها من خلاله التميُّز. لذلك تستخدم موريسون الموضوعات التي أسستها كولينز لفحص التمثيل السلبي لشخصية العاهرة ودرء الأحكام السالفة التي فُرضت على النساء التي تُطلق عليهن هذه التسمية بسوء فهم. أدان المجتمع سولا بما في ذلك صديقتها المقربة "نيل"، ولكن وقفت موريسون بمهارة في حكمها مع سولا بدلًا من الجميع لعدم استيعابهم للوعي الجمعي المناط بالعاهرة.
ليست العاهرة هي التمثيل السلبي الوحيد للمرأة الأمريكية-الإفريقية التي حاول الفكر النسوي الأسمر تبديدها، فهنالك أيضا صورة الزوجة المطيعة الخجولة التي تغفر لزوجها كل أشكال الذنوب. كان هذا الدور من حصة نيل لأنها تربت مذ كانت طفلة لتصبح ذلك النموذج للزوجة الصالحة والمطيعة التي تتشكل على صورة الأم غير الأنانية وتتوافق من دون شك مع القوالب الجاهزة والسائدة للأنوثة. إنها كل الاشياء التي كانت على سولا أن تكونها، ولكنها لم ولن تفعلها. هي مطيعة جدا لزوجها جود، تلزم المنزل وتحافظ عليه ولا تعارض زوجها بأي طريقة. وتفترض هوية زوجها في جوهرها، وهذا يعني أنها لا تمتلك هوية ولا يمكن القول إنها تعيش حياتها وفقا لشروطها الخاصة مثل سولا. إن الفتاتين تتناقضان بنحوٍ كبير ولكن موريسون تؤكد أنهما يشتركان في عنصر واحد وهو أن حياتهما وشخصيتهما وتمثيلهما ليست قيمًا حتمية بل قيم مغروسة. ففي سولا شُجِّعت ممارسة الدعارة، وفي نيل شُجِّعت قيم الزوجة المطيعة والصالحة. لقد أُجبرت بالتخلي عن هويتها، كانت تظهر ملامحها عندما تكون مع سولا فالأخيرة تشاركها أخوّة وهذه قيمة وصفتها كولينز بأنها أساسية في دحض الصور النمطية. مع ذلك فإن ضمير الزوجة المطيعة ينفي هذه الأخوة: "أبدعت نيل في الرواية كبشَ فداء لإعفاء "جود" من الشر والأفعال المشينة أخلاقيا مثل الخيانة الزوجية والهجر، تلك الاشياء التي كانت لتدمر زواجها، وكانت نيل تنكر قدرة جود على فعل الشر". تفوق مفهوم الزوجة المطيعة على مفهوم "الأخوة" لتقلب بذلك مفهوم الجماعة والاتصال مرة أخرى. في حين التزمت بصورة الزوجة المطيعة في البداية فقد قلبت موريسون الموازين وتحدتها لاحقا من خلال عملية تقرير المصير وتحقيق الذات وتكوين هوية أكثر استقرارا، ويأتي هذا الادراك عندما تقرر نيل رفض الصورة النمطية الملصوقة بها.
تنظر موريسون الى الزواج على أنه دمار مستمر، وهي توضح في اقتباس لها في الرواية مدى مخاطر هذا التأسيس الاجتماعي على شخصية مثل نيل "الزوجة المطيعة": لقد طوى الذين يملكون أزواجا أنفسهم في توابيت منذ النشأة، عظمهم ناتئ وأضلعهم منفجرة". ووصفت هذا الشيء لتسليط الضوء على أهمية عناصر الحياة الأخرى من خلال رؤية نيل وسولا مع تركيزها على مفهوم الصداقة والأخوة.
الحق أن سولا في البداية هي من أدركت قيمة الصداقة للنساء من ذوات البشرة الداكنة "كانت تبحث طوال الوقت عن صديق، وقد استغرقت وقتا لاكتشاف أن الحبيب لن يكون رفيقا مناسبا للمرأة ولا يمكن أن يكون". ولكنه أمر مثير للسخرية نظرا إلى حقيقة أن سولا فرطت بصداقتها مع نيل بعد النوم مع زوج الأخيرة. تموت سولا في النهاية من دون الحصول على صك الغفران من نيل. لم تدرك نيل الطبيعة الحقيقية للصداقة بين النساء الأمريكيات-الإفريقيات إلا بعد وفاة صديقتها، وبحسب ما توصلت إليه كولينز من دراسة الفكر النسوي الأسود وما فعلته موريسون من جهد هو لدفع النساء أبعد من ذلك للتخلص من التمثيلات والصور النمطية قالت: "بعد وفاة سولا ودفنها تتوصل نيل إلى أنها كانت تفتقر على مر السنين لشخص سولا في حياتها وليس زوجها جود".
ملخص لهذا الحديث أنَّ موريسون تبث فكرة أن حب الإخوة أمر ضروري للبقاء وتنشئة الهوية بدلا من مؤسسة الزواج، وتجيئُ هذه الفكرة رداً على صورة العاهرة والزوجة الصالحة لأنها تنفي دور الرجل عموما ويؤدي هذا الى تمكين المرأة من تحديد مصيرها وهو في النهاية تطورٌ للفكر النسوي الأسود.
ختاماً، تستخدم الروائية شخصيات سولا ونيل من أجل إجراء فحصٍ شامل لجدوى القوالب النمطية للمرأة الأمريكية-الإفريقية وتقدم أسبابا لتحديها ودحضها. إنهم لا يخفون الطبيعة الحقيقية لما معنى أن تكون امرأة فحسب، بل يجعلونها بمفردها في حين أن الوعي الجماعي يرفض مثل هذا الشيء. كانت نظرية كولينز حول النسوية الأمريكية ذات الأصل الإفريقي أساسا ممتازا لفهم عمل موريسون الروائي ولكنها في الوقت ذاته تتجاوز القيم والعوامل التي قدمتها كولينز لكي تكون الرواية في صدد معالجة هذه الانطباعات السلبية وتعزز إنجازات الفكر النسوي. في شخصيات هذه الرواية رُفِض مفهوم الزوجة المطيعة ومفهوم العاهرة لصالح مفاهيم الصداقة والإخوة والهوية والأنوثة السمراء الحقيقية.
____
هوامش:
1-"Black feminist"
ارتأيت ترجمة هذا المصطلح على شاكلتين (النسوية السوداء) و(النسوية السمراء)، وهما يعنيان في النهاية الفكر النسوي في المجتمع الأمريكي من ذوي الأصل الإفريقي أو البشرة الداكنة.
Sula - novel by Toni Morrison -2
رواية سولا لتوني موريسون الحائزة على جائزة نوبل للأدب عام 1973.
Ukessays.
ترجمة: مصطفى حمزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق