أفلاطون (428-348 ق.م)
تمحورت سمات مدينة أثينا قبل 2400 عامٍ حول الفن والعلم المزدهر والحمامات الفخمة والمسارح والمعابد ومحلات التسوق وقاعات الرياضة. امتازت تلك المدينة، المكتظة بنحو 250 ألف شخص والدافئة في أكثر من نصف العام، إضافة إلى إمكانية انتقاء أفضل الأسماك من ميناء بيرايوس بأنها موطن أفلاطون: أول فيلسوف حقيقي في العالم، وربما الأعظم بينهم.
ولد أفلاطون لعائلة ميسورة مشهورة في المدينة، وكرس حياته لهدف واحد هو مساعدة الناس في الوصول إلى حالة أسماها يودايمونيا. من الصعب بمكان ترجمة هذه الكلمة اليونانية الساحرة، فهي تقريبًا تعني السعادة لكنها أقرب إلى الرفاه، لأن السعادة تشير إلى حالة رخاء مستمرة لكن الرفاه يتسق أكثر مع مُدد من المعاناة والألم المبرح، تبدو جزءًا حتميًا حتى من الحياة الرغيدة.
إن تسأل: كيف اقترح أفلاطون جعل الناس أكثر رفاهية؟ فإن هناك أربع أفكار رئيسة في عمله.
1- فكر بجد أكثر.
افترض أفلاطون إن المسبب الأكبر لسوء معيشتنا هو عدم إعطاء أنفسنا الوقت الكافي للتفكير مليًا ومنطقيًا في خططنا. لذا ينتهي بنا الحال بقيّم خاطئة ووظائف رديئة وعلاقات سيئة. أراد أفلاطون أن يجعل عقولنا منظمة صافية.
رصد أفلاطون كمية أفكارنا المستمدة من اعتقاد الجمهور، مما يسميه اليونانيون دوكسا وما نسميه نحن بالذوق العام. وأثبت مرارًا في كتبه الستة والثلاثين أن هذا الذوق العام مليء بالأخطاء والتحيّز والخرافات. إذ لا تصمد الأفكار الشائعة عن الحب والشهرة والمال أو الجودة أمام المنطق. ولاحظ أفلاطون أيضًا أنَّ الناس معجبون بكونهم يساقون بغرائزهم أو عواطفهم (يتخذون قرارات بناء على لا شيء غير «كيف كانوا يشعرون») وشبّه ذلك بكون الشخص يُقاد بخطورة من مجموعة أحصنة معصوبة العينين. كان أفلاطون مخترع علم النفس باعتراف فرويد؛ وذلك عبر إصراره على وجوب إخضاع جميع أفكارنا وعواطفنا للمنطق. وكما كتب أفلاطون مرارًا فإن جوهر الفلسفة يتلخص في «اِعْرِفْ نفسك».
2- أحب بحكمة أكبر.
أفلاطون هو أحد أعظم منظري العلاقات. ويمثل كتابه «الندوة» محاولة لشرح كنه الحب. يُخبر أفلاطون فيه عن قصة مأدبة عشاء يستضيفها الشاعر الوسيم أغاثون، الذي يدعو جماعة من أصدقائه للأكل والشرب والحديث عن الحب.
للضيوف وجهات نظر مختلفة عن الحب. ويهب أفلاطون صديقه القديم سقراط -أحد الشخصيات الرئيسة في ذلك الكتاب وبقية كتب أفلاطون- أنجع النظريات وأكثرها إثارة. وتفصيلها التالي: حين تقع في الحب فإن ما يحدث حقًا هو رؤيتك صفة جيدة في المقابل تفتقر إليها أنت. كأن يكون هادئًا وأنت تثور، أو منضبطًا وأنت مرتبك، أو فصيحًا حين ينعقد لسانك.
إن الفانتازيا التي ينطوي عليها الحب تتمثل في استطاعتك أن تصبح أكثر شبهًا بالشخص عبر التقرب منه؛ إنه يساعدك في تحقيق إمكاناتك الكاملة. وجوهر الحب في عين أفلاطون هو نوع من التعليم! لا يمكنك أن تحب شخصًا بصدق ما لم تكن ترغب في أن يحسن منك. يجدر بالحب أن يكون شخصين يحاولان صقل نفسهما ويساعد أحدهما الآخر في فعل ذلك. ما يعني أن عليك الارتباط بالشخص الذي يملك قطعة أساسية تنقصك للتطور: الفضيلة التي لا تملكها.
يبدو هذا غريبًا في الوقت الحاضر لأننا نميل إلى تفسير الحب بأنه إيجاد شخص مثالي كما هو عليه. يقول بعض العشاق أحيانًا عند اشتداد الجدل: «ما كنت لتحاول تغييري إن أحببتني».
يرى أفلاطون العكس تمامًا، فهو يريد منا أن ندخل العلاقات بعنجهية وشراسة أقل بكثير. يجب علينا تقبل عدم كمالنا والسماح لأحبتنا بتعليمنا أشياءَ. فالعلاقة الجيدة لا تعني أننا لن نحب المقابل كما هو بل هي الالتزام بمساعدته في الغدو شخصًا أفضل -وتجشّم الممرات الوعرة المحتم مصادفتها- وعدم صد محاولاته لتغييرنا في ذات الوقت.
3- أهمية الجمال.
تُعجِب الأشياء الجميلة الجميع تقريبًا. لكننا نميل إلى التفكير في أن تأثيرها فينا غامض قليلًا وليس مهمًا جدًا عمومًا. لكن أفلاطون يرى أنَّ نوع المنازل والمعابد والقدور والمنحوتات المحيطة بك مهم جدًا. لم يسبق أحد أفلاطون إلى طرح السؤال المهم: لماذا نعجب بالأشياء الجميلة؟ وقد وجد سببًا آسِرًا: لأننا نرى فيهم جزءًا من «الصلاح».
ثمة الكثير من الأشياء الصالحة التي نطمح أن نتصف بها مثل الطيبة والاحترام والانسجام والاتزان والاطمئنان والقوة والوقار. هذه صفات للبشر لكنها أيضًا صفات للجمادات. ونحن نثار ونتأثر حين نجد في الأشياء الصفات التي نفتقر إليها في حيواتنا. وهكذا فإن للجمادات الجميلة وظيفة مهمة بحق، ألا وهي استدراجنا للتطور في اتجاهها، وجعلنا مثلها؛ يمكن للجمال أن يثقف أرواحنا! وبالمثل فإن في الجمادات البشعة خطب جلل، فهي تؤدي أمامنا استعراضًا للصفات الطالحة والخبيثة. إنها تستدرجنا لنكون قساة ومضطربين وطائشين مثلها فتُصعِّب علينا أن نكون حكماء ولطفاء وهادئين.
يرى أفلاطون أنَّ الفن شيء علاجي فمن واجب الشعراء والرسامين (والروائيين ومنتجي التلفاز والمصممين في هذه الأيام) مساعدتنا في نيل الحياة الحسنة.
ويؤمن أيضًا بوجوب مراقبة الفنون. وليس في الأمر مفارقة أبدًا، فإن كان الفنانون يستطيعون مساعدتنا في نيل حياة رغيدة فإنهم يستطيعون بالمثل إضفاء سؤدد وبريق على الأفكار والسلوكيات غير المفيدة. فلا يضمن كون الشخص فنانًا استخدام سطوة الفن بحكمة. لهذا اعتقد أفلاطون بلزوم عمل الفنانين تحت إمرة الفلاسفة، الذين سيهبونهم على الأفكار الصائبة ويطلبون منهم جعلها مقنعة وشائعة. إذ يفترض بالفن أن يكون تطبيلًا -أو دعاية- للخير.
4- تغيير المجتمع.
كان أفلاطون أول مفكر طوباوي في العالم، فقد أمضى الكثير من الوقت مفكرًا في كيف يجب أن يكون المجتمع والحكومة في أفضل الأحوال. ألهمه في تفكيره ندُّ أثينا اللدود: أسبرطة. التي كانت آلة بحجم مدينة وظيفتها إنتاج جنود أشاوس. فلقد نذر أهلها لهذا الهدف الوحيد كل فعل يفعلون، ابتداءً من كيفية تربية أطفالهم وكيف ينظمون اقتصادهم وبمن يعجبون وكيف يمارسون الجنس وحتى ما يأكلون. كانت أسبرطة نجاحًا عظيمًا، من وجهة نظر عسكرية.
لكن ذلك لم يكن مراد أفلاطون. لقد أراد معرفة كيفية تحسين إنتاج المجتمع لا للقوة العسكرية بل لليودايمونيا، وكيف يساعد ذلك في رفاه الناس. وأقر عددًا من التغييرات اللازم عملها وأوردها في كتابه الجمهورية، وهي:
أ. نحتاج إلى أبطال جدد.
انصبَّ تركيز مجتمع أثينا على الأثرياء كمثل النبيل المشبوه ألكيبيادس، ومشاهير الرياضة من أمثال الملاكم ميلو من كروتونه. لكن أفلاطون لم يكن منبهرًا بهم، كان يعتقد أن من نعجب بهم مهمون جدًا؛ فالمشاهير يؤثرون في نظرتنا وأفكارنا وسلوكنا. والأبطال السيئون يضفون رونقًا للعيوب. لذا أراد أفلاطون أن يهب أثينا مشاهيرَ جددًا، مستبدلًا المجموعة الحالية بأشخاص مثاليي الصلاح والحكمة أسماهم «الأوصياء»، وهم قدوات لتعمير صلاح الجميع.
يتميّز هؤلاء الأشخاص بسجل خدمتهم العامة وتواضعهم وعاداتهم اليسيرة، وخبرتهم الشديدة الواسعة ونفورهم من أضواء الشهرة. ويكونون أكثر الناس كرامةً وإثارة للإعجاب في المجتمع.
ب. نحتاج إلى رقابة.
مع ما للرقابة من أثر يجثم على صدورنا مضيِّقًا عليها اليوم فإن افلاطون كان قلقًا من نوع مغلوط من الحرية: كانت أثينا ساحة مفتوحة لمروجي أسوأ الأفكار. ولقد قوبلت مفاهيم دينية مجنونة، وأفكار خطرة عذبة الوَقْعِ بتحمس كبير قاد أثينا إلى حكومة كارثية وحروب ضالة (مثل هجوم حتمي على أسبرطة). اعتقد أفلاطون أن التعرض المستمر لعاصفة أصوات مضطربة في منتهى السوء علينا. لذا أراد أن يحجم أنشطة خطباء العامة والمبشرين الخطرين. ولو عاش معنا اليوم لارتاب كثيرًا من نفوذ وسائل الإعلام.
ج. تعليم أفضل.
آمن أفلاطون بالتعليم بشدة، لكنه أراد أن يعيد النظر في المناهج. إن الهدف الرئيس الواجب تعلمه ليس الرياضيات أو التهجئة، بل كيف نكون صالحين: نحتاج إلى التعلم عن الشجاعة وضبط النفس، والاستقلال والرصانة، والعدل والإنصاف. ولتحقيق ذلك أوجد أفلاطون مدرسة في أثينا سميت بالأكاديمية، وقد ازدهرت قرابة 400 عام. وارتادها المرء ليتعلم في الأقل كيف يعيش ويموت على نحوٍ حسن. ومن المحزن والساحر كيف سلبت المعاهد الأكاديمية العصرية شرعية هذا الطموح. فإن قصد طالب جامعة هارفارد أو أوكسفورد اليوم طالبًا تعليمه كيف يعيش، لاتصل الأساتذة بالشرطة أو مستشفى المجانين.
د. طفولة أفضل.
تبذل العائلات جهدها في التربية، فيقوَّم الأطفال أحيانًا. لكن على الرغم من رزانة الوالدين وكونهم معلمين جيدين وراشدين حكماء يعتمد عليهم فكثيرًا ما يُورثون اضطراباتهم ومشاكلهم إلى أطفالهم. اعتقد أفلاطون أن تربية الأطفال جيدًا هي من أصعب المهارات وأكثرها ضرورة. وكان متعاطفًا بشدة مع الأطفال المقيدين ببيئة منزلية فاسدة. لذا اقترح أن كثيرًا من الأطفال سيكونون أفضل حالًا لو استمدوا رؤيتهم عن الحياة لا من الآباء بل من أوصياء حكماء تدفع لهم الدولة. وقال إن جزءًا ملموسًا من الجيل القادم يجب أن يؤدب على يد أناس أكثر كفاءة من والديهم.
الخلاصة
ما زالت أفكار أفلاطون شديدة الجدلية والروعة، وتشترك فيما بينها في الطموح والمثالية. لقد أراد أفلاطون أن تكون الفلسفة أداة تساعدنا في تغيير العالم؛ ويجدر بنا الاستمرار في الاستلهام من عظاته.
فسيفساء رومانية تظهر أفلاطون جالسًا (الثاني من اليسار) بين طلابه وفلاسفة آخرين في مدرسته: الأكاديمية.
المصدر: Great Thinkers
ترجمة: موسى جعفر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق