أرسطوطاليس (384- 322 ق.م)
ولد أرسطو في مملكة مقدونيا الإغريقية القديمة قرابة العام 384 قبل الميلاد، وكان والده الطبيب الملكي حينها. ومن الممكن القول إنه شبَّ ليصبح أكثر الفلاسفة تأثيرًا على الإطلاق، وحظيَ بعدة ألقاب متواضعة من قبيل المعلم أو الفيلسوف، وكان أحد أهم أعماله تأديب الإسكندر الأكبر الذي شد الرحال لاحقًا واحتل العالم المعروف.
درس أرسطو في أثينا، وعمل برفقة أفلاطون عدة سنوات. لكنه استقل بنفسه لاحقًا وأوجد مركز بحث وتعليم سماه ليقيون Lyceum، وسميت المدارس الثانوية الفرنسية «ليسيه lycée» تيمنًا بهذا المشروع. ولأنه أحب المشي في أثناء التعليم ومناقشة الأفكار فقد سمي أتباعه بالمشائين أو الهائمين، وفي الواقع فإن كتبه العديدة هي ملاحظات من تلك المحاضرات. شُغُفَ أرسطو بكيفية عمل الأشياء، مثلًا: كيف يتطوّر فرخ الدجاج في البيضة؟ وكيف يتكاثر الحبار؟ ولماذا تنمو نبتة في مكان ما بنحوٍ جيد ولا تكاد تنمو في مكان آخر؟ والأهم من كل هذا: ما الذي يحسن حياة الإنسان خصوصًا والمجتمع عمومًا؟
وتمحورت الفلسفة في نظر أرسطو حول الحكمة العملية. وإليك أربعة أسئلة فلسفية مهمة أجاب عنها:
ما الذي يسعد الناس؟
تكفل أرسطو في كتابه الأخلاق النيقوماخية -سمي هكذا لأن ابنه نيقوماخس حرر هذا الكتاب- بمهمة تحديد العوامل التي تؤدي بالناس إلى حياة كريمة أو بائسة. فاقترح أن جميع الناجحين والصالحين يملكون فضائل مختلفة، وقال باستحباب تحسين قدرتنا على معرفة كنه هذه الفضائل لنستطيع غرسها في نفوسنا واحترامها عند رؤيتها في الآخرين.
جدول أرسطو للفضائل والرذائل
لاحظ أرسطو أن كل فضيلة تبدو هي الوسط بين رذيلتين؛ إنها تشغل ما سماه «الوسط الذهبي» بين صفتين متطرفتين {في الشحة أو الكثرة}. على سبيل المثال، ينظر أرسطو في المجلد الرابع -من مؤلفه عن الأخلاق- ذي العنوان الأخاذ «الفضائل والرذائل الحِوارية»، إلى السبل التي يكون فيها الناس أفضل أو أسوأ في الحديث بعضهم مع بعض مثل التهريج والظرافة والفظاظة. وأدرك أرسطو أن معرفة كيف تحظى بمحادثة جيدة هي إحدى مكونات الحياة الطيبة الرئيسة. يفشل بعض الناس في الحوار لافتقارهم حس الفكاهة، وهذا ثقيل الظل وهو «شخص عديم النفع في أي تواصل اجتماعي لعدم مشاركته بشيء وامتعاضه من كل شيء». وبعضهم يفشل لمبالغته في الفكاهة وهذا المهرج وهو «شخص لا يستطيع كبح جماح نكتة، فلا يُعتِق نفسه ولا أي شخص آخر، ويستطيع رفع قهقهته وقول أشياءَ لا يجرؤ الرجل المهذب على قولها أبدًا». وهكذا فإن الشخص الفاضل هو الوسط الذهبي بينهما؛ إنه الظريف المهذب.
حلل أرسطو في استقصاء رائع عن الشخصية والتصرف «القليل جدا» و«الكثير جدًا» و«الكم المناسب» من مدى فضائل واسع. ومع أننا لا نستطيع تغيير سلوكياتنا بكن فيكن فإننا نستطيع تغييرها بالتدريج. وزعمَ أن الصلاح الأخلاقي هو نتيجة العادة؛ وإنه يتطلب وقتًا وممارسةً وتشجيعًا. لذا اعتقد أننا يجب أن ننظر إلى الناس الذين يفتقرون إلى الفضيلة على أنهم غير محظوظين بدلا من كونهم غير صالحين، وأنَّ ما يحتاجون إليه ليس التعزير والرمي في السجن بل معلمين أفضل والمزيد من الإرشاد.
ما الغاية من الفن؟
كان الفن في أثينا تراجيديا (مأساويًا) حيث اعتاد سكانها على مشاهدة المسرحيات الدموية التي تعرض في مسارح ضخمة في العراء ضمن مهرجانات مجتمعية. وكانت أسماء إسخيلوس ويوربيديس وسوفوكليس مألوفة جدًا آنذاك.
ألَّف أرسطو دليلًا إلى كتابة المسرحيات العظيمة اسماه فن الشعر، وهو متخم بنصائح رائعة من مثل: احرص على تضمين نقطة التحول، وهي تغير في الأحداث، يجرى حين تدور النوائب على البطل. وتضمين العرفان أيضًا، وهي لحظة الكشف الدراماتيكي، حين يدرك البطل فجأة أنَّ حياته تسوء كثيرا بل تصبح كارثية.
لكن ما هدف التراجيديا؟ ما العبرة من تجمع الجماهير لمشاهدة الفظائع تحل بالشخصية الرئيسة؟ كما في مسرحية سوفوكليس عن أوديب، الذي يقتل والده عن غير قصد ويتزوج والدته ثم حين يدرك أنه فعل ذلك يفقأ عينيه ندمًا وقنوطًا.
يجيب أرسطو إن الهدف هو التطهير. وهو نوع من التنظيف، بمعنى التخلص من الأشياء السيئة. وفي هذه الحالة، تنظيف مشاعرنا، خصوصًا حيرتنا فيما يخص مشاعر الخوف والشفقة.
لدينا مشكلة فطرية في هذا الصدد، فنحن متحجرو القلوب ولا نشفق حين تجب الشفقة، نحن مجبولون على الهلع أو عدم الخوف على الإطلاق. التراجيديا تذكرنا أن الأشياء السيئة قد تطال الناس الصالحين بمن فيهم نحن. فخطأ صغير قد يؤدي إلى تفكك حياة كاملة. لذا حري بنا أن نكون أكثر تعاطفًا وشفقة مع أولئك الذين تخيب مساعيهم. يجب أن نُعلَّم جماعيًا هذه الحقائق المهمة من جديد ودوريًا. ومهمة الفن بنظر أرسطو هي ترسيخ الأفكار الجوهرية عن الحياة في عقولنا.
ما فائدة الأصدقاء؟
يشرح أرسطو في المجلد الثامن والتاسع من مؤلفه الأخلاق النيقوماخية، ثلاثة أنواع مختلفة من الصداقة. فهناك صداقة تتكون حين ينشد كل فرد المتعة فيكون اهتمامهم الأساسي بلذتهم وجمال اللحظة التي يوفرها الشخص الآخر. وثمة صداقات هي في الواقع معارف استراتيجية، حين يستمتع الناس برفقة آخرين لأن لديهم أمل في تحصيل فائدة من تلك المرافقة. أما النوع الأخير فهو الصديق الحقيقي. وهو ليس شخصًا يشبهك تمامًا، بل شخص ليس أنت لكنه يهمك بدرجة اهتمامك بنفسك. تكون دمثًا إن حدث شيء للصديق الحق، فأحزانه أحزانك وأفراحه أفراحك. لكنه أيضًا يجعلك قويًا فترتاح من المدار الضيق لأفكارك وهمومك. وتتمدد إلى حياة آخر، وتصبحان معًا أكبر وأذكى وأكثر مرونة وعدلًا فتتشاركان فضائلكما وتمحيان عيوبكما. تعلمنا الصداقة ما يجب أن نكون عليه؛ إنها حقًا أفضل ما في الحياة.
كيف للأفكار أن تنفذ في هكذا عالم مزدحم؟
ذهل أرسطو مثل كثير من الناس بحقيقة أن الحجة المثلى لا تربح الجدال أو تحظى بالشعبية دائمًا. وأراد معرفة سبب ذلك وماذا يمكننا أن نفعل بخصوصه. أتاحت له أثينا الكثير من الفرص ليراقب لأن العديد من القرارات كانت تتخذ في جلسات عامة تعقد في أغورا أثينا في مركز المدينة، حيث يتناظر الخطباء فيما بينهم لكسب الرأي العام.
دلَّ أرسطو إلى السبل التي يتأثر عبرها الأفراد والجماهير بالعوامل العديدة وإن كانت غير منطقية أو متعلقة بالقضية. وهو أمرٌ مثير للسخط لا يتحمله الكثير من الحكماء فيتجنبون الأسواق والمناظرات الشعبية. لكن همة أرسطو كانت أعلى فوضع ما نسميه اليوم فن الخطابة، وهو فن تحصيل موافقة الناس. ونحن نريد أن يتعلم المفكرون والحكماء وطيبو النية كيف يغدون مقنعين ليطالوا أولئك الذين لا يتفقون أصالةً.
لقد وضع بعض النقاط الخالدة منها: يجب أن تهدئ روع الناس، فترى الجانب العاطفي من الموضوع -هل كرامة أحدهم على المحك؟ هل يشعرون بحرج؟- وتعمل عليه. يجب أن تكون مرحًا كذلك لأن عمر التركيز قصير وربما يلزمك استخدام إيضاحات وأمثلة لتجميل طرحك لرأيك.
نعتقد نحن، تلاميذ أرسطو، المتحمسون له أن إهمالنا الحديث عن أفكاره ربما يكون السبب في جعل الفلسفة تبدو أقل عملية حاليًا.
المصدر: Great Thinkers
ترجمة: موسى جعفر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق