المشاركات الشائعة

الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

شارلوت وإيميلي برونتي. إنجليزيتان.



نقلت الأختان الروائيتان شارلوت  وإيملي برونتي الأدب الإنجليزي نقلة نوعية برواياتهما العاطفيتين اللتين غالبا ما ركزتا على الحياة الداخلية للنساء. عاشت الأختان حيوات قاسية قصيرة انتهت مأساويا بسبب المرض. 


وصلت عائلة برونتي إلى قرية بيكتشرز كيو بينيني في هاورث، غرب يوركشاير ـ لندن، في عام 1820. كان أصل الأب الخوري باتريك برونتي من إيرلندا وزوجته -الاسم الرسمي ماريا برانويل- ذات أصول كورنية (من سيلتك). غادر باترك وطنه من أجل تحسين آفاق مهنته، وتخرج في كلية القديس جون، قسم اللاهوت، في عام 1806. ومنذ ذلك الحين غير لقبه الأيرلندي (Brunty or Purnty) إلى Bronte، والذي يترجم "رعد" عن الأغريقية. التقى باتريك وماريا في يوركشاير، حيث انتقلت ماريا لمساندة خالتها في إدارة مدرسة تدريب ميثودية (طائفة بروتستانتية) جديدة. أصبح باتريك في الوقت ذاته خوريا في شروبشير ودُعي أيضا للعمل في المدرسة بصفحة "مُمتحن" خارجي. وقع الاثنان في الحب من أول نظرة وتزوجها بعدها بمدة قصيرة، ثم انتقلا إلى هارتسهيد، وهناك أنجبا ابنتهما الأولى ماريا. ووُلدت بعدها إليزابيث، وشارلوت، وبرانويل (الابن الوحيد)، وإيميلي، وآن، في ثورنتن، قبل أن تتخذ العائلة مستقرا في هاورث. 


العالم الأدبي. 

مكّنت المكتبة الزاخمة بالكتب في منزل آل برونتي هاورث من الولوج إلى العديد من الكتب المفاتيح:  لا الكتب الدينية فحسب بل وكتب مؤلفين مثل بونيان، وبايرون، وهومر، وميلتون، وسكوت، وفرجيل. انقطعت الأختان عن المجتمع الأدبي اللندني بعيشهما في الريف شمال لندن. توفيت إيميلي بعد مدة يسيرة من إنهائها عملها الروائي "مرتفعات وذرينغ" (لكنها لم تكشف عن هويتها الحقيقية). واستمتعت تشارلوت بحياة الشهرة والتقت بعدد من الأدباء من ضمنهم ثاكري، وقالت بعد أن التقت بديكنز بأنه لم يعجبها ورفضت الالتقاء بهم اجتماعيا.  



ضربات مأساوية


أخذت عائلة برونتي منحا مأساويا في عام 1821 حين توفيت الأم ماريا بسبب سرطاني الرحم أو المبيض، مخلّفة ستة أطفال دون سن الثمانية. صوّرت الأختان هذه الصدمة المبكرة عبر وصفهما العديد من شخصياتهما الأنثوية بأنها بلا أم أو يتيمة. انتقت الخالة إليزابيث برونتي إلى منزل الخوري لمساعدة صهرها وأطفاله والإدارة الشاملة لشؤون البيت. أرسلت الأخوات الأربع الكبار في عام 1824 إلى مدرسة داخلية في كوان بريدج على أمل أن يصبحن مربيات فيما بعد. 

أراد والدهن تعليما جيدا على الرغم من مصادر دخله المالية المحدودة، وأعيدت صياغة هذه التجربة عبر وصف  شارلوت لمدرسة لووود في رواية جاين إير، إذ كانت بعيدة عما أُنيط بها. 

وكان للظروف البائسة من طعام سيئ النظافة تبعات مأساوية: فقد أُعديت ماريا وإليزابيث بمرض السل وأرسلتا إلى المنزل لكنهما ماتتا في شهري أيار/مايو وحزيران/ يونيو عام 1825. 

درست  شارلوت وإيميلي مع برانويل وآن في هاورث بعد هذه الحادثة، وبالإضافة إلى أنهم أصبحوا متنورين فإن والدهم كان عطوفا واشترى لهم الكتب والألعاب التي طلبوها. ورتب مكتبة محترمة في بيته واشتركت خالتهم -التي امتلكت دخلا شخصيا من ثروة عائلتها- في مجلات، اعترفت  شارلوت لاحقا بقرائتها السرية لها بمتعة كبيرة. 


تسالي متخيلة 


ابتكر الأطفال بزعامة  شارلوت وبرانويل ممالك متخيلة بإتقان وناضجة وذات حبكة (غلاس تاون، وأنغريا، وغوندال). ألهمت هذه الممالك الثلاث العديد من المقالات والقصائد التي نُشرت في "مجلتهم" المصغّرة، مجلة بلاكوود برانويل (التي أعادت  شارلوت تسميتها إلى مجلة الرجال اليافعين). كتبت  شارلوت ست من تسع طبعات متخذة اسم "كابتن تري" لرئيس التحرير، لكنها وقعت أعمالها أيضا تحت اسم "العبقري س. ب.". كانت أبعاد المجلة "3.5 سم" و"6.1 سم" فحسب، كما لو أنها نشرت بواسطة ولأجل لُعب جنود برانويل الاثني عشر، التي أُعطي إياها من قبل والده. 

ركّزت إيميلي أكثر على كتابة قصص وأشعار لجزيرة غاندول المتخيلة، التي اخترعتها وشاركتها أختها الصغرى آن، ولم تنجُ من كتابات إيميلي هذه إلا عدد قليل من القصائد. 

قضى الأطفال وقتهم أيضا في الأراضي البرية خلف منزلهم في هاورث. واستحوذت المناظر الطبيعية البرية والوعرة على رواية إيميلي الوحيدة "مرتفعات وذرينغ" التي أصبحت رواية إنجليزية كلاسيكية. امتلأت هذه الرواية بالعناصر القوطية (الأحداث الروحانية، والحالات التشاؤمية، والإشارات المنذرة بالشر)، إنها حكاية حادة عن الرغبة والشغف والثأر. أطل المنزل الكئيب لمرتفعات وذرينغ على الأراضي الوعرة في موقع مليء بِرهاب الاحتجاز والشر مع رمز الاضطرابات النفسية لأبطال الرواية. 



السير الأولى 


تبدد الجو الإبداعي الراقي لشخصيات هاورث بسبب فكرة باتريك برونتي بأن على بناته أن يجينَ دخلا للعيش، لذا فقد تدربت  شارلوت من عام 1831 إلى عام 1832  في مدرسة رو هيد لتكون مربية. وعادت إلى المدرسة في عام 1835 لتُعلِّم. وقصدت إيميلي المدرسة في عام 1836 لكنها أصيبت بالحنين إلى الوطن،  لذلك فقد أخذت آن مكانها. 

كتبت  شارلوت في عام 1833 وبسن السابعة عشر نوفلاها "رواية قصيرة" الأولى "القزم الأخضر" باسم قلمي "ويليسلي" واستمرت في كتابة الشعر أثناء تعليمها في مدرسة رو هيد. كانت كتاباتها  مصدر سلوى عظيم في ذلك الوقت، إذ شعرت بأنها قانطة ومنعزلة ووصفت طلابها بـ"الحمقى الأغبياء"، وبعد ثلاث سنوات أصبحت مربية خاصة في منازل مختلفة في يوركشاير، وكتبت لإيميلي عن شعور تعاسة وسخط أكبر: "مربية خاصة ليس لها وجود، ولا تُعدُّ كائنا ذات وجود عقلي وحياتي إلا فيما يتعلق بواجبات متعبة عليها أن تنفذها". 

أمنّت إيميلي بسن العشرين وظيفة لها معلمة في مدرسة لكنها لم تستطع أن تتوافق مع سبع عشرة ساعة عمل يوميا. وعادت إلى هاورث لتؤدي الواجبات المنزلية هناك حتى عام 1842، عندما بادرت الخالة بتزويد  شارلوت وإيميلي بدخل من أجل السفر إلى بروكسيل معا لتحسين لغتهم الفرنسية والألمانية على يد كونستانتين هيجر لأجل فتح مدرسة أهلية خاصة بهنَّ. كانت كلتاهما طالبتين مجتهدتين على الرغم من أن إيميلي لم تتأقلم مع الحياة في بلجيكا، وشعرت بطريقة ما أنها غريبة عن المكان. وبقيتا هناك حتى النهاية المفاجئة بموت خالتهما، وعادتا إلى المنزل في إنجلترا، ومع ذلك فقد كوَّنت  شارلوت علاقة في بروكسيل طامحةً أن تدوم وعادت لتدرِس في السنة التالية. كشفت رسائلها بأنها طوّرت ميولها إلى كونستانتين هيجر، لكن كان على ما يبدو -وبشكل كبير- حبا من طرف واحد. وعلى الرغم من هذه التجربة غير الإيجابية فإنها أُلهمت منها كتابة رواية "الأستاذ" في عام 1847 لكنها لم تنشر إلا بعد وفاتها في عام 1857، واستخدمت فيها بعض العناصر الفنية التي ظهرت في روايتها الأخيرة فيليت في عام 1853. 


"هذه إذن هي المؤلفة، القوة المجهولة التي جعلت كتبها لندن بأكملها تتحدث عنها، وتقرأها وتفكر فيها…" آن إيزابيلا ثاكري ريتشي عن  شارلوت برونتي






شغف سري


اجتمعت الأختان في هاورث منذ عام 1844، وباءت محاولتهما في تأسيس مدرسة خاصة بالفشل، لذا فقد اتجهت إيميلي إلى الشعر سرا، ناظمة إياه في دفتري ملاحظات وسعت باهتمام أن تخفيهما عن أفراد أسرتها. وكان رعب إيميلي الشديد هو إيجاد  شارلوت للكتابين، وجادلتها بإصرار على ضرورة نشر هذه الأشعار بعد أن عثرت عليهما بالصدفة. وفي ذات الوقت أبانت الأخت الصغرى آن عن كتابتها الشعر في الخفاء أيضًا، وحلت الأخوات الأمر بعدها في نشر عمل مشترك. 

جمعن قصائدهن في ديوان صغير، وقمنَ بطباعته بأنفسهن بواسطة إيلوت وجونز تحت أسماء قلم: كُرير، وإيليس، وأكتون بيل. 

أوضحت  شارلوت أنهن اتخذنَ هذا القرار: استخدام أسم قلم مستعار، لأنهن امتلكنَ "انطباعا مبهما بأن المؤلفات عُرضة لأن ينظر إليها بتحيّز". نالت في السنوات اللاحقة القصائد إعجابًا معتبرًا ولا سيما قصائد ايميلي (إيليس)، وفي عام 1941 بعد قرن تقريبا من وفاة إيميلي طُبعت قصائدها -قرابة مئتي قصيدة في المجموع- في ظل اعتراف بجدارتها الأدبية. ولم تبع سوى نسختين من الديوان بعد نشره في عام 1846، ولم تدون ردة فعل الأخوات بعد هذه المردود الضعيف لكن الموثوق منه هو ترك إيميلي نظم الشعر والتركيز على كتابة النثر. وكشف النقاب الآن عن شغفهن بالكتابة، وأصبح بحثهن عن ناشر أمرا محوريًا. 



آن برونتي 

الأخت الصغرى والأقل شهرة، ويرى بعض أنه قد تُغُوضِيَ عنها بشكل يرثى له من بين أديبات برونتي الثلاث. ولدت آن في عام 1820 وقضت حياتها القصيرة في أرجاء هاورث، وكتب الرواية إضافة لكتابتها الشعر، فروايتها الأولى أغنيس غري (1847) حكاية جَلَد ومعاناة كتبتها مستعينة بخبرة عملها مربية عند عائلتين ثريتين، ورواية نزيلة ويلدفيل هال     (1848)، وهي الرواية الأشهر التي نشرت باسم أكتون بيل، وتتركز الأهمية القوية لهذا العمل في شجاعة عرض امرأة من أجل نيل الاستقلالية من زوج ظالم. توفيت آن برونتي بسبب مرض السل في عام 1849 بعمر الثلاثين.



الشروع في العلن 


في السادس من نيسان/ أبريل عام 1846 كتبت  شارلوت إلى إيلوت وجونز بأن "كُرير، وإيليس، وأكتون بيل يحضرون لعمل خيالي مكون من ثلاث حكايات مميزة ومنفصلة": والأعمال هي: الأستاذ لتشارلوت، ومرتفعات وذرينغ لإيميلي، وأغنيس غري لآن. ووافق بعد مدة الناشر توماس نيوباي على نشر الروايتين الأخيرتين فقط. وعلى الرغم من رفض عدة ناشرين رواية الأستاذ فإنها نالت تشجيع الناشرين سميث وإيلد اللذين طالبا برؤية المزيد من أعمال كُرير بيل. أرسلت  شارلوت إليهما رواية جاين إير في آب/ أغسطس عام 1847 وكتبت: سيرة ذاتية والتي نشرت بعد ستة أسابيع. ارتكزت حبكة رواية التكوين (جاين إير) على قضايا الهُوية، والجنوسة، والعِرق، والطبقة الاجتماعية، تتبع فيها تقدم البطلة من حياة الصبا إلى البلوغ. 

خلق المؤلفون المجهولون هزات لدى الحلقات الأدبية، وقوبلت المشاهد الداخلية ذات المحتوى العاطفي القاسي والغِرّ في مرتفعات وذرينغ بالصدمة والغضب والإعجاب الصارخ على حد سواء. أربكت رواية جاين إير على نحو مشابه القرّاء لكنها حظيت بإعجابهم. وكتب جورج هنري لويس، شريك جورج إليوت العاطفي، في مراجعته للعمل لمجلة فراسير بأنها الشخصيات "رُسمت بأستاذية غير معتادة بل وكان ذلك الأسلوب "مميزا"" واقترح بأن المؤلف قد يكون امرأة، الأمر الذي كان بمثابة خيبة كبيرة ل شارلوت إذ شعرت بأنه إلهاء ودعوة تخمين غير مرغوب بها. 


"بترت مرتفعات وذرينغ في ورشة عمل برية بأدوات يسيرة مصدرها مواد منزلية" شارلوت برونتي. 


سنوات مُظلمة


لم تكمل إيميلي روايتها الأخرى حتى ابتليت حياة الأخوات العائلية بتدهور الصحة، فقد أصيب والدهن بإعتام عدسة العين وبدد أخوهن مواهبه وأصبح مدمن خمر وأفيون ومات في سنة 1848، لتلحق به إيميلي المسلولة في كانون الأول/ ديسمبر من ذات السنة، بعمر الثلاثين، والتي كانت نحيفة جدا حتى أن عرض كفنها كان 40 سنتيمترا فقط. وتبعتهما الأخت الصغرى آن في أيّار/ مايو عام 1849. كانت  شارلوت -من أجل التعافي من هذه الخسارة الفادحة- قد بدأت في سنة 1848 بكتابة روايتها الثانية "شيرلي" وهي حكاية كئيبة عن التغيّر التقني والمعاناة والشقاق الاجتماعي، ويمكن القول إنها رواية أقل قوة من جاين إير. ووجدت في الكتابة مجددا عزاءها في وقت الحرمان هذا. وصفت روايتها "فيليتي" مغامرة وقصة حب في مدرسة تعلم الفرنسية، وطبعت بعد أربع سنوات وقوبلت بالقبول على الرغم من أن شخصية لوسي بدت كأنها غير أنثوية. وافقت  شارلوت على الزواج من مساعد والدها الخوري، آرثر بيل نيكولاس قبل نشر رواية فيليتي، الرواية التي كان مقررا أن تكون عملها الأخير. وبعد أخذ وجذب وتشجيع من من زميلتها المؤلفة إليزابيث غاسكيل (التي كتبت أول سيرة عن حياة تشارلوت) حزمت  شارلوت أمرها على الزفاف في عام 1854، لكن الحياة المأساوية لآل برونتي ختمت بموت  شارلوت وهي حامل بطفلها الأول بعد شهور من زواجها بعمر الثامنة والثلاثين.    



تمثيل النوع الاجتماعي (الجنوسة)

حُكمت الشخصيات الخيالية الأنثوية في القرن التاسع عشر بشكل عام وفقا لمظاهرها الجسدية وجمالها (أو فقدانها له) إضافة إلى خضوعها ورقتها ورغباتها الجنسية غير المعتادة وتمردها. قلبت أديبات برونتي هذه الصور النمطية البائسة وركزت كلا من روايتي جين إير ومرتفعات وذرينغ على العوالم الداخلية المعقدة للشخصيات الأنثوية: كانت كاثي إيرنشاو جامحة وسوداوية؛ وجاين إير رواقية وواسعة الحيلة؛ وبيرثا ماسون المدانة والثائرة المنكسرة. وشجبت ناقدة القرن التاسع عشر إليزابيث إيستلايك جاين إير بأنها "تجسيد للروح غير المنضبطة والفاسقة". 






أدباء (حيواتهم وأعمالهم).
ترجمة: مؤمن الوزان.

تضم هذه اللوحة الأخوات الثلاثة (من اليمين إلى اليسار):

‏شارلوت - "برانويل" - إيميلي - آن.

‏رسم برانويل اللوحة في عام 1834، ورسم نفسه مع أخواته لكنه طمس صورته بعدها.









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب