المشاركات الشائعة

الاثنين، 23 سبتمبر 2019

مغزل حجي جابر الروائي.



هذه الوقفة الرابعة لي مع مؤلفات الإريتري "حجي جابر" وتحديدا مع روايته "لعبة المغزل" فقلمه يروق لي لقدرته الفذة في الولوج إلى أعماق القارىء وحجز مقعد خاص به هناك مستكشفا ومعريا ومعالجا أيضا.

أثارني العنوان لعبة المغزل، ما علاقة الرواية بهذه الآلة القديمة جدا التي اعتادت الجدات استخدامها للصوف.. فكما هو معلوم أن جابرا لا يأت بالعناوين اعتباطا بل يختارها بعناية وروية.

في هذه الرواية يغزل حجي الحكايات ويلقي بها ككرات الصوف بين يدي القارىء ليعيد لملمتها من جديد. 
لماذا الحكايا؟ لأننا جميعا جزء منها، وكل واحد منا له فصل مع الحياة بحكاياتها المختلفة قد يكون هو بطلها أو واحد من شخصياتها، وكل يرويها بطريقته الخاصة من زاويته الشخصية فتكتسب خصوصية الناقل وعمومية الحدث لذا فهي قابلة للزيادة والنقصان حسب المصدر. ومن غزل القصص ونسيجها التقط جابر نواة فكرته، فجميعنا نعلم ارتباط الكاتب ببيئته ووطنه إرتيريا، فهو حاضر في جميع كتاباته بصور عدة وفي مغزله كان حضوره تاريخيا. 
حاك المغزل تاريخ الثورة الإرتيرية وانتهائها بالاستقلال عن أثيوبيا.
كيف حاكها؟ حاكها بقصص الجدة لحفيدتها عن تلك الأيام العصيبة التي عاشتها البلاد والتي انتهت بفرحة النصر والحرية. وأضاف لها غزلا آخر مصدره السيد الرئيس الذي أخذ على عاتقه رواية الأحداث وتوثيقها وتتبع مسارها وجمع أجزائها من أفواه المشاركين فيها وكتابات شهودها ويومياتهم. هذا الرئيس الذي حرص على تلميع صورته من خلال الحذف والتعديل في الحقائق بما يتناسب وصورته المحببة المؤثرة التي يود طباعتها في قلب كل إرتيري
في المحصلة تجتمع الروايات من ذاكرة الجدة تارة ومن فم الرئيس تارة أخرى، مضافا إليها الحشو والحذف والزيادة اللاتي قامت بهن بطلة الرواية أثناء طباعتها للتاريخ الإرتيري.
جميعها أعمال تتصل بالذاكرة والواقع وفي الآن نفسه تجمع بين الأضداد لتشكل اللوحة التي أراد لها المؤلف أن تتشكل لدى المتلقي وهي "الحقيقة".
أين تكمن أفي النص أم في المروي أم في القاص؟ هل هي موجودة فعلا أو أنها مزيجا مركبا من المعطيات جميعا؟ هل هي تعبير عن النقصان وعدم التمام؟ 
ربما هذا ماجعله يقسم روايته إلى أشرطة لا فصولٍ لأن الشريط أكثر شبها بالحكايا التي لها أكثر من وجه وحقيقة، ولأنه كالإنسان ذي الوجهين لينقلني ذلك التشبيه إلى الشخصيات التي تحدث من خلالها جابر مع القراء، فهم حضور بدون أسماء ربما لأنه اعتمد على فكرة الفعل أكثر من الاسم وتعظيما للأول كونه المؤثر في هذا العمل الروائي. 
كان لكل واحد من هؤلاء وجهان متناقضان؛ وجه جميل مرغوب فيه؛ وآخر قبيح يقبع في غياهب الروح. وهنا التساؤل أيهما الأكثر صدقا؟ وأيهما الأكثر تأثيرا أو لنقل أيهما الذي تستطيع البوح إليه بمكنوناتك؟ ومن ثم هل تستطيع مواجهة الآخر غير المرغوب فيه وهل الجمال في تقبل القبح أحيانا أو في محاولة تجاوزه والتعتيم عليه؟
هل الأهمية تكمن في الروح أو في القشور؟ ثم هل باستطاعة الواحد منا أن يكون جميلا وقبيحا في الوقت ذاته؟  أو لأكن أكثر دقة أنعبر عن ذاتنا المشوهة أحيانا دون تحريف أم أننا نحاول تجميلها؟ 
الإجابة على هذه التساؤلات تنقلني إلى مغزل حكايا جابر الملقاة بين السطور المتناثرة هنا وهناك إلى أي حد تشبهنا؟ فهل هي صحيحة أو مزيفة؟ أتاريخنا الذي نعيشه اليوم سيقرأوه أبناؤنا غدا صحيحا أم سيتخذ منحًى آخر وشكلا مقولبا حسب من وثقه.

من يخدع نفسه أولا سيخدع الآخرين، ومن يسرق الحقيقة من ذاته سيعتاد سرقة حقوق غيره المادية والمعنوية، ومن ارتضى لنفسه الزيف لن يضيره أن يحرف الواقع والتاريخ، فالوجهان دوما متضادان كما هما القبح والجمال، والضد يظهر حُسنه الضد. 
قدم لنا حجي جابر المغزل كأداة تدخل كراتها الصوفية في مناحي الحياة جميعها تنسجها وتصوغها بأشكال مختلفة كما هي الحكايا التي تظل حية تنتقل ما بين الشفاه لتؤكد على استمراريتها لكن حسب الظرف والزمان وذات الراوي.

إرتيريا التي شوهت قصص تاريخها، وأهلها الذين خابت آمالهم فباتوا يقتاتون على ما يتزودون به من خزانة الذاكرة ويقدم كل واحد طريقته بالغزل حسب حسه به.
أين الحقيقة؟ بظني هذا ما أراد جابر للقارئ الوقوف عنده طويلا.
هل هي موجودة فعلا وهل نتقبلها على علاتها أى نحاول تغييرها بقصد تجميلها؟ 
من عمي عنها فهو ينافق نفسه أولا ثم يسرق حياة بأكملها، فالسرقة تبدأ بتظليل الحقيقة وطمسها.
مغزولة جابر لها تأثير في روح الباحثين عن الجمال في واقع موبوء خال من النقاء، وهي محاولة بعث الصدق في حكايانا التي سترويها الأجيال اللاحقة.
فنحن كما أسلفت جزء من هذه الموروثات اللسانية شئنا ذلك أم أبينا،! وجميعنا شركاء في الغزل لكننا لسنا سواء في إتقانه ونحن من سيتحمل الصورة النهائية له.

ريم أحمد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب