للعرب تاريخٌ عريق في شتى مجالات الحياة في الأندلس التي حكمها زهاءَ ثمانية قرونكاملات، بأمجادها وبخيباتها، بانتصاراتها وهزائمها، من الطب إلى الشرع، ومن الفلكإلى الجغرافية، ومن التصوف إلى فقه وعلم الحديث، ولهم في الشعر صفحات فيتاريخ أدبنا الذي يُعتبر من أجود أشعار العرب، وعلماء الأندلس هم حملة الشعلة التيأنار الله بهم تلك البلاد وانتقل أثرُ ضيائها للبلاد المجاورة من أوروبا، وكما إن لكل بدايةنهاية، وبعد كل قوة ضعف، كانت آخر أيام العرب والمسلمين في أرض الإسبان تحتظلال حكم بني الأحمر في مملكة غرناطة لتنتهي بعد أن دخلت تحت سلطة الملكينالكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا، ولتطوى صفحة الأندلس بعدها، وخاتمةً قرون أضافبها الإندلسيون لهذا العالم كل ما توصلوا له من علوم ومعارف وآداب.
هذا الكتاب الذي لو قرأه أي إنسان دون أن يعرف مؤلفه لقال إن مؤلفه الذي أضنىنفسه بين الكتب والبحوث ليكتبه لهو عربي مسلم، ولن يشك في ذلك أبدًا، لكن حينيعرف أن الكاتب إسباني آنخيل جونزالز فالنسيا، سيقف احترامًا للعرب وآثارهمولجونزاليز الذي لم يمنعه شيءٌ أن يقول الحق ويكتب الكلمة الصادقة في حق الإرثالمعرفي للعرب في أرض الأندلس، فجاء عمله صادقًا منصفًا للعرب، حتى ليكادالقارئ يشك هل فعلًا إن هذا كلام لإنسان غير عربي أو مسلم، لكن هذا هو المبدأ الذيعمل به المخلصون في نقل العلم للبقية بكل أمانة ودقة.
الكتاب يستعرض يدرس علماء الأندلس خلال ثمانية قرون وما تركوه من مؤلفات فيشتى المجالات، فالكتاب مقسم إلى فصول عديدة كل فصل مختص بمجال معين، ما بينشعر وطب وحديث وتأريخ ومعاجم وفقه وتصوف وجغرافية ورحّالة وفلك ورياضياتونبات.
بعض الفصول مقسمة بتسلسل العصور التي شهدتها الأندلس من عصر الفتح مرورابعصر الإمارة فالخلافة تبعا بعصر المرابطين والموحدين وصولا إلى عصر مملكةغرناطة في القرن التاسع الهجري.
ومع كل علم أو مجال معرفي أو أدبي يُدرس رجاله ويستعرض فيه حياتهم وما قدموهأو عاشوه، إضافة لاستعراض مؤلفاتهم أو مناقشة أهمها، فيقف القارئ على ثروةمعرفية ومعلوماتية يضطر معها إلى تسجيل وقراءة كتب كثيرة تخص كل عالم مذكورفي مختلف المجالات، فلا تكاد ترافق المعتمد في أشعاره وحبه لاعتماد، حتى تنتقللابن زيدون وولادة وابن عبدون، لتبحر بعدها مع ابن رشد وابن حزم، ليأخذك بعدهامحي الدين بن عربي، وتصطدم بأبي القاسم الزهراوي، ويرشدك ابن البيطار إلى ابنالباجي، وتُقاد بعدها أبو البقاء الرندي وقصيدته الخالدة في رثاء الأندلس:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان*** فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسان
وإذا قرأنا عن شعر الأندلس وآدابه، فالبتأكيد سنعرج بعدها إلى ما نظمه بن معافيالقبري في الزجل والموشحات، وابن قزمان ومدرسته، حتى زودنا الأندلسيون بشعرالموشحات التي أطربت السامرين على كلماتها بخرجاتها وأغصانها وأقفالها.
وليشعر القارئ بالفخر حين يقرأ عن تأثير الأندلسيين في أدب الأوربيين، في الشعروالفكر، فهذا دانتي قد أخذ منهم متن ملحمته، كما أثبتت هذه النسخ اللاتينيةوالبروفانسية المترجمة لحادثة الإسراء والمعراج، وتشابه ما كتبه دانتي مع أحداث هذهالرحلة النبوية إلى السماء، وأخذه لفقرات ونصوص دون تغيير منها، واستخداممصطلحات وأسماء عربية وإسلامية الأصل، والتأثير الإيجابي في اليهود من ناحيةالفكر والأدب، ولنا في موسى بن ميمون آية ودليل.
إن ما يُثير الشجن والآه في نفوس القُرّاء، هو ضياع النسخ الأصلية لكثير جدًا منمؤلفات وآثار العرب في الأندلس وبقاء النسخ المترجمة لبعض منها فقط، أو وجودنُسخ في مكتبات عالمية في إسبانيا وفرنسا ومكتبة إكسفورد، فتشعر أن الضياع لم يكنفقط أرض الأندلس وتاريخ عريق فوق هذه الأرض بل علوم ومعرفة وطريق إلىالمجد آنار إسبانيا حين كانت بقية أوروبا تغطُ في سبات عميق وتغرق في بحرالظلمات، حين كان همهم حفظ أناشيد يتلونها في صلاواتهم، كان العرب يضعونالمصنفات في علم النبات ولنا في هذا أكبر غُصة على حاضر مرتبك يجلد فيه العربينفسه وماضٍ ضائع لم نلملم ثوب خيباته بعد.
مؤمن الوزان.
مؤمن الوزان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق