الكتابة وقوفا، يبدو العنوان لافتا للنظر، ما الذي تعنيه الكتابة وقوفا، أكثر من إنها ثورة تغيير في كيفية التعامل مع الكتابة، العادة التي تعلمها الإنسان أثناء ممارسته هذه التقنية (كما يسمي الناقد روبرت إيغلستون الكتابة بالتقنية)، التغيير الذي يبدأ حتى قبل الشروع فيها، فلماذا يود أن يبدأ عصرا شخصيا جديدا في الكتابة يقول حسن:
"يبدو أن الخطأ الذي نرتكبه في الكتابة، هو أننا نمارسها في وضع الجلوس، لو جربنا أن نكتب وقوفا، وفعل (الوقوف) يتجاوز معناها الشائع، أقصد أن نتلقى العالم بشكل طولي".
إذن النظرة الإصلاحية التي يؤمن بها حسن تبدأ في "مرحلة قبل الكتابة" وهي المرحلة التي يناقش فيها جدوى الكتابة والهيئة التي يُشكل بها وعيه في التعامل مع هذا العالم وقضاياه، وبما إنه يتحدث عن الرواية والكتابة فهو هنا يعني بالأخص كيف نتعامل مع الرواية؟، وما هي الوسيلة السليمة التي من خلالها نخترق عالم الرواية لأجل الوصول لمبتغانا؟ مرحلة الانطلاق هي المرحلة التي تستحوذ على جليل اهتمامه، لذلك نراه يهتم بمؤسسي المدارس الأدبية ويصفهم بأنهم (سارقو رؤية) ويقول:
"نحاول أن نُبطل مفهوم (ثبات الرؤية) لدى الأديب الواحد، باعتبار أن هذا الأمر سينتج منطقة ما، ميتة في الوعي، فكيف الحال بمن يأخذ رؤية ليؤسس عليها، هذا الذي لم يجهد نفسه بالتعرف على منطقة وقوفه المتحرك في الأبدية…".
حسن يعمل على تشكيل مدرسته الأدبية الشخصية فهو يقول: "أدعو أن يكون كل أديب مدرسة قائمة بذاتها". حيث رؤاه وتطلعاته لهذا العالم، وسعيه من أجل إنتاج عمل يحمل أسلوبه الفريد ومنهاجه الخاص، لا يريد أن يكون مجرد تابع، أو كما سماهم سارقو رؤية، فهذا النَفَس الثوري في الكتابة هو الذي يجعله إلى أن يقتحم عالم الكتابة والرواية طالبا حقه، ومكانتة يعمل على صنعها بنفسه وهذا ما نراه في المرحلة الثانية "مرحلة الكتابة"، وعملية وضع الأسس المنهجية التي سيسير عليها، إذ يلخص عدة نقاط يعمل على مناقشتها في هذا الكتاب موضحا منهجه وأفكاره في تناول عناصر الرواية كالهجران (الافتراق)، المكان في الرواية، الزمن، الشخصية والرواي، الشكل، الواقعي والخيالي، وفي كل من عنصر من هذه العناصر، هناك استفاضة في تبيان منهجيته الروائية واستقرائه للنص وكيفية التعامل معه، في بادئ الأمر هناك النقل للعالم وصورته وموضوعاته وجمالياته من خلال النص، وكيفية جعل النص بقدرات تُخضع الصورة المنقولة لأبعاد النص وقوانينه والمشاكل التي تواجه الكاتب ما بين الموضوعية والذاتية ومشاكل الأنا - الأخر.
ثم يتنقل إلى المكان باعتباره أرضا لوقوع الحدث، والبيئة التي يتطور باستمراره حتى يصل إلى نقطة العقدة، حيث يتناول المكان بصورة تشريحية دقيقة وكيف يمكن أن يكون للمكان دورا في مجريات الأحداث، وما الذي يمكن أن يعطيه المكان من رمزية ودلالات تعتمد على تفاصيل دقيقة، باعتبار المكان أحد العناصر المهمة في الرواية، ولا حدث من دون أرض حدث.
فلسفة عنصر الزمن في الرواية لدى مطلك أكثر تعقيدا من عنصر المكان، وهذا الأمر يبدو واضحا خاصة في حل إشكالية زمن وقوع الحدث الفعلي وزمن وقوع الحدث في السرد، فزمن حادثة ما تستغرق ثوانٍ معدودة تحتاج عند الإخبار بها زمنا مضاعفا كثيرا، فما الذي يحكم آلية السرد الزمني وكيف يؤثر الزمن في الرواية والتسلسل الزمني لأحداثها هذا ما يحاول شرحه ومناقشته وتحليله. ويعطي أهمية كبرى للزمن وفهمه بل ويربطه بفهم فن الرواية إذ يقول:
"إن الوعي لدى الروائي بالزمن الذي يكتب فيه، أو يكتب عنه، هو الوعي بفن الرواية…".
أما الشخصية والرواي، وهي إحدى المواضيع التي تمثل له نقطة مهمة لا يمكن التهاون معها، فهو يحاول وضع تعريف للشخصية وحكم العلاقة بين الشخصية والرواي، والمدى والوسائل التي من خلالها يؤثر بها الراوي في شخصياته ويجعلها منشقة منه، فيقول في إحدى التعريفات عن الشخصية بأنها "شكل إسقاطي لفكرة الإنسان عن نفسه معبر عنها بمقولات أو بأفعال".
تبقى المسألة الأهم ما جدوى هذا الإسقاط وكيف بأمكان الراوي أن يُقنّع أفكاره بقناع شخصياته ليأخذ الحرية الكاملة في الانطلاق إلى من أجل تدوين حياة شخصياته دون أن التدخل الكامل بمستقبل قناعات الشخصية حيث تبدو الشخصية مجردة من حرية التطور الخاص بها، والتي يكون نتيجة التفاعل مع الأحداث والتأثير العام بجو الرواية وزمانها ومكانها. ويشير كولن ولسون إلى ملاحظة مهمة في كتابه فن الرواية، أن الروائي يعمل على تحديد إمكانيات شخصياته من خلال الصفات التي يُعطيها لهم في البداية ويجعلهم سجناء فيها، ومن ثم تصبح آلية التغيير المستقبلة في الشخصية محكومة بما تم إعطائها إياه من صفات واتجاهات حياتية، مما يجعل التعامل مع الشخصية يحتاج إلى حذر وإلا سيتم الوصول إلى نهاية غير مؤثرة أو ذات قمية، وهذا ما يعمل مطلك على توضيحه في فصل الشخصية والرواي.
الواقعية والخيال، ما الواقعي وما الخيالي، وهل يمكن الفصل بينهما؟ هذا السؤال الذي يمثل نقطة البدء حيث يجيب أن علاقة الواقعي بالخيالي علاقة الجرح بالجسد، فكما لا يمكن فصل الجرح عن الجسد، فإمكانية فصل الواقعي عن الخيالي غير ممكنة فهما في علاقة تورطية، يتوغل أحدهما في الآخر بصورة مستمرة، فالرواية بالنسبة له تعبير عن عدم فهمنا للواقع، ويجب اختيار مساحة واقعية أي كان موضعها، لتمثل بداية أو نهاية للرواية فهذه المساحة صالحة للاثنين، أما الوجه الآخر للقمر فيكفي أن نتخيله في الوقت الحاضر على حد قوله.
المرحلة الثالثة لديه "مرحلة ما بعد الكتابة" ما جدوى الأدب ما أهميته وما تأثيره فينا، فهو يبرزه وإن لم يكن بصورة جواب مباشر لهذا السؤال من خلال ما يسمى "تأثير ما بعد القراءة" تأثير الرواية والأدب في القارئ فيقول "إني أتذكر (زوربا) مثلما أتذكر صديقي (أحمد)، أتذكر (تاراس بولبا) القوقازي. فمن يضمن أنني لا أعرفه فما الفرق بينه وبين (زوربا) بالنسبة لي كلاهما يمثلان ذكرى، يمثلان خبرة عشتها وأحببتها…". وهنا الجواب واضح كل الوضوح عما يطمح له من تأثير روائي على أنفس قرائه، أن يجعل من شخصياته كائنات حقيقية وليست خيالية فقط، على الرغم من إنه يعطي نقطة لصالح الشخصيات الروائية أنها حيَّة كلما أردنا قراءتها يمكننا الرجوع إليها، فهي خالدة من خلال تدوينها، فكل لحظة لا يتم تدوينها بالنسبة لحسن هي لحظة ميتة وزائلة ولن تُذكر.
لا ينفك من طرح الأسئلة، فيسأل ما هي الرواية إذا لم تكن أدبا؟ يعطي جوابا يمس سؤاله بصيغة سؤال آخر في موضع آخر هل هناك إمكانية إن تعطينا الرواية فرصة للرقص؟ من يدري ربما!
يلاحظ في كتابه كثرة توغل حسن مطلك في بحوثه عن/في الرواية، وتداخل علم النفس وعلم الجمال الذي يقول وجدت نفسي قد تورطت في علم الجمال، وهو الذي لا يطمح أن يكون ناقدا يقضي عمره في البحث عن المصطلحات، وتشير كثرة اقتباساته من الروائيين والنقاد والفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، أنه لا يتعامل مع الرواية على أساس أنها نتيجة يمكن الحصول عليها من خلال عملية الكتابة بل على أساس أنها كيان أدبي يود أن يصنعه وفقا لمعرفته الشخصية وبحثه ودراسته وليس تعاملا مجردا من اللمسات الإنسانية والفكرية والأخلاقية والفلسفية والمعرفية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق