"القمامة عصية وحدها على الفناء مثل الموت".
"حب وقمامة" رواية للتشيكي إيفان كليما وأول رواية تترجم لهذا الكاتب عربيا من طرف دار التنوير والمترجم المبدع الحارث النبهان. صدرت سنة 1986 واستغرق كليما في كتابتها تقريبا ثلاث سنوات. قصة مستوحاة من سيرته الذاتية كونه يهوديا عاصر المحرقة اليهودية في الحقبة النازية وعاصر التعتيم الأدبي والرقابة السوفيتية الطاغية في عهد ستالين وهي أشياء سنرى لها سردا يوازي قصة الحب التي جمعته بفنانة متعطشة للحياة. قصة عن القلب تخفي رؤية سياسية للوضع القائم بالتشيك، قد يبدو للبعض العنوان مثيرا للاشمئزاز فكيف نتخيل أن نجمع بين حب العاطفة الراقية وروائح العفن. جمع كليما بين ذلك بأسلوبه الجميل فحسب الكاتب القمامة هي أصدق الموجودات بالمجتمع لا تحتاج إلى تبرج أو كذب لإخفاء عيوبها هي حقيقة تنتفض خارجا وبقوة وتتحرر من الإنسان والطبيعة وتنتهي منتحرة حرقا بكل إرادتها.
البطل وهو ليس إلا صورة للكاتب ذاته صحفي تخلى عن عمله طواعية لينخرط في عمل الكناسين ومنظفي الشوارع يختلط بهذه الطبقة يجالسهم ويحاورهم، وهي حوارات تتضح معها حجم المأساة الاجتماعية للمجتمع التشيكي تحت القمع والنظام الشمولي الشيوعي. وعاد البطل كاتبا من منفاه طواعية مفضلا أن يتحدث لغته مع أشخاص يحبهم عوض أن ينعم ببذخ في بلد سيلقب فيها مدى حياته بالغريب، فيهرب من واقعه بفعل الكتابة حتى لو كان ما يكتبه سيبقى حبيس أدراجه أو يتم تداوله عبر ما يعرف بـ"ساميزدات". كان يكفيه هذا الهروب المؤقت في عوالم افتراضية يصنعها قلمه حتى لو كان هذا القلم يناضل ضد لغة الحمقى التي تمجد كل ما هو ثابت في عقلية من لا يريد لبلده أن يتغير، عودته من منفاه الجغرافي وقلقه من منفاه الإجباري في وطنه دفعاه إلى إختيار القمامة منفا ثالثا.
اختيار البطل/ الكاتب لهذه المهنة يبدو عقلانيا وله أكثر من مبرر رغم أنه لم يوضحه تماما، القمامة جاءت بالرواية عنصرا يقابل غموض الكتابة وسموها، فهي الشيء الحقيقي الملموس الواضح العاري من المواربة أو الجبن في بلد تسيطر عليه لغة الحمقى والنفاق فتبقى الكتابة الحقيقية والأدب الصادق عصي عن الفهم لدرجة أن الكاتب يضاهي بينها وبين النبوة في السمو والأهداف فهو يعتبرها أمرا مقدسا حتى لو أعتبرها البعض مجرد كلمات تكتب والكاتب ليس سوى كاتبا يكتب. هذه الحيرة الوجودية لدى الكاتب وجدت منفاها الاضطراري في القمامة عملا واضحة أساسياته وروتينه ولم تقتصر تساؤلات الكاتب على الكتابة فقط بل شملت الوجود الإنساني وحضور الإله والحياة، وهو في معرض الحديث عن هذا يبدو متأثرا بأعمال كافكا وناقدا لكتاباته ومحاولا تفكيك الخطاب الكافكاوي.
يدرك كليما تماما ويؤكد أن أي محاولة لإقرارحقيقة ما ليس سوى مناورة جيدة من لغة الحمقى لا أحد يستطيع تقديم حقائق حتمية وأي شخص يقوم بذلك ليس سوى مصدر لخطر مرتقب. حاول الكاتب أن يحدث بالرواية تناصا ما بين القمامة والوجود الإنساني يسمح للقارئ أن يدرك أن الإنسان في ظل الأنظمة الشمولية والقمع يبدو رخيصا رخص القمامة ذاتها مع فرق أن هذه الأنظمة لا تنتظر من يكنس من يعترضهم بل يقومون بأنفسهم بتنظيف "النفايات البشرية" التي تشوه جمالية صورهم أمام الناس.
وجود الإنسان ومغزى هذا الوجود كان هما يراود الكاتب ونقله لنا عبر صفحات الرواية من بدايتها للنهاية هما توافق مع عمله في جمع القمامة وحديثه مع شخصيات جمعته بهم القمامة كالقبطان المخترع وغيره من الشخصيات التي تخفي في رداء منظفي الشوارع حياة خلفية تكرس حيرة الكاتب حول الوجود الإنساني وعبثيته، فالقمامة هنا كناية عن هذا الوجود ذاته "القمامة مثل الموت فما الذي يكون عصيا على الفناء أكثر من الموت" ويستطرد الكاتب في هذا الخطاب قائلا أن الوجود الإنساني لا يفنى بل تبقى أرواح البشر عالقة مادامت البشرية موجودة تستثمر هذا الوجود بما يؤيد نظرياتها (وكم كان صادقا فبني جنسه أول من استثمر ما يدعونه بالهولوكوست لمصلحتهم).
بالإضافة إلى هذه التساؤلات الوجودية يقع البطل في مأزق أخلاقي بحبه لفنانة واعتقاده أن هذا الحب لا يشفع له بهجر زوجته ويتساءل "لماذا عليَّ تركها" لينتهي الجدل بتضحيته بحبه في سبيل قناعته الأخلاقية. قصة حب استثمرها كليما ليقدم لنا تنظيره حول الفن وعلاقة الفن بالطبيعة والعطاء البشري؟ وهل يستحق هذا الفن ما نأخذه من الطبيعة كمواد؟ وهل الإنسان لا يقسو على هذه الطبيعة بشرهه وطمعه في حين العطاء الإنساني لا يكون إلا عبارة عن قمامة، ليخلص كليما في النهاية لفكرة أن الأرض لها طاقة لن تستطيع مهما حاولت أن تستوعب الإنسان الأناني بطبعه والقمامة في آن واحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق