طرحت روايتان حديثتان سؤالًا: "أيما أكثر شجاعة [الكر أم الفر]؟"
استجابة الكر أو الفر هي رد فعل جسدي يبديه معظم أفراد مملكة الحيوان بما في ذلك الإنسان على إثر تهديد محسوس تنتج عنه سلسلة من الهرمونات التي تؤدي بنا إلى تنفيذ أحد الأمرين.
يمكن القول إن الحياة المعاصرة بنسيجها المعقد -من الشبكات الرقمية، والتعدد المسعور للمهام، والضوضاء الموجودة في كل مكان (عبر سماعات الأذن)، وفرط الأبوة، والافتقار إلى الخصوصية، وضغط العمل والالتزام- تمثل تهديدًا وجوديًا، وتستثير رد الفعل هذا.
آثر كتابان حديثان خيار الفر في مواجهة هذا التهديد. ففي كتاب ديف إيجرز (أبطال التُّخوم)[1] يرى أن تُخوم اليوم ملاذ لأولئك الذين يجبنون عن مواجهة الحياة المعاصرة عوضًا عن خوض المغامرة في المجهول الذي كانوا يصبون إليه. إن أولئك الذين يمضون إلى التخوم أبطال -سواء كانوا جبناء أم لا- فهم يفعلون ما يجب فعله من أجل البقاء.
ثم يتضح في الواقع أن التُّخوم ليست ملاذًا، إذ تنطوي على تهديدات مختلفة. هذا ما تكتشفه جوزي أثناء فرارها من أوهايو إلى ألاسكا مع طفليها (بول وآنا) بعد أن جرّدتها مريضة مُسنة من وظيفتها (طبيبة أسنان) بدعوى قضائية، زعمت فيها أن جوزي أخفقت في اكتشاف إصابتها بسرطان الفم.
على طول هذه الرحلة ما بعد الحداثة، تلتقي جوزي وعائلتها عددًا من الشخصيات المهدّدة واللطيفة، والتي في الحالتين لا تخلو من خطر. ويعيدون اكتشاف الملذات البسيطة المتمثلة في لعب لعبة بضوء النار أو المشي حفاة بمحاذاة جدول ماء أو طهي نقانق على نار هادئة.
لكن تجبرهم رائحة الخطر على العودة إلى سيارتهم المستأجَرة (المنزل المتنقل) فرارًا من كل مواجهة جديدة ومن الحياة التي كانوا يعيشونها من قبل، والمتمثلة في زوج جوزي السابق عديم الفائدة والذي كانت واثقة أنه يحاول تعقبهم. قد تكون الفكرة عادية تمامًا أشبه بقولنا "لا يمكنك الفرار من نفسك"، لكنها تُروى بأسلوب حاذق وذكاء يجعل من جوزي بطلة حقيقية.
على صعيد آخر كان الفر مختلفًا لدى ديفيد ويليامز في كتابه (عندما يسقط الإنجليز[2]). لطالما فر أبطال الأميش[3] -منذ القرن التاسع عشر- من الحضارة الحديثة، فهم يعيشون بمنأى عن معظم أشكال التكنولوجيا من أجل الحفاظ على حياة ترتكز على الأسرة والزراعة والكنيسة.
لذلك عندما تضرب عاصفة شمسية بقية العالم وتغمره بالظلام بتدمير كل الكهرباء والآلات، فإن أفراد الأميش يواصلون حياتهم كما كانوا من قبل، يحرثون حقولهم بالخيول، ويحصدون الحبوب ويعلّبونها، ويقرؤون على ضوء الشموع. غير أن الجياع من الناس يفرون من المدن المظلمة تدريجيًا ثم يدركون أن مزارع الأميش ذات مخازن مكدسة بالمؤونة.
الكر أم الفر؟ من المعروف أن الأميش لا يكرون، حتى إن كانوا في حالة دفاع عن النفس، ويبدو أن أمان عزلتهم صارهشًا جدًا. تُروى أحداث الأزمة الناشئة في مذكرات يعقوب، أحد مزارعي الأميش. وعند نقطة ما، تشير ابنته سادي -وهي شخصية ذات بُعد نفسي- إلى ضرورة الذهاب إلى مكان "غير آمن".
"غير آمن" -مثل تُخوم إيجرز سالفة الذكر- أي: ملاذ لا يختاره غير الجبناء الشجعان. يعكس أسلوب ويليامز النثري الهدوء الذي يسعى الأميش إلى المحافظة عليه وسط ضجيج الحضارة المدنية الحديثة، وحتى وسط الانهيار الكارثي لتلك الحضارة. سارت الأمور في هذه الرواية القصيرة على نحو جيد بسبب التشويق الذي يحرّك القصة.
يحتوي كتاب إيجرز على مفرقعات أكثر، إذ يقتحم الشواغل الضحلة للحياة في الضواحي الحديثة بشفافية- الأمهات بشعورهن ذوات ذيل الحصان اللواتي يهرولن في سيارات الدفع الرباعي لحضور جلسة بيلاتس[4] في الوقت المناسب وأخذ الأطفال إلى تدريبات السباحة أو كرة القدم أو اللعب؛ ومريضة الأسنان المُقبلة على الموت والتي ما زال فيها رمق للمناكفة بما يكفي لتدمير حياة شخص آخر؛ والعلاقات العابرة والتي تختفي قبل أن تدرك ذلك.
يمكن أن تقودك قراءة هاتين الروايتين، بما فيهما من شخصيات حزينة ومتشائمة ومع ذلك ما انفكت تستجيب لغريزة البقاء، إلى استنتاج مفاده أن السبيل الوحيد المتبقي للقتال هو الفرار.
- داريل ديلاميد: كاتب وصحفي يقيم في واشنطن. وهو مؤلف لكتابين غير روائيين، "صدمة الديون" و "كبرى الأقاليم الجديدة في أوروبا"،بالإضافة إلى رواية "الذهب". متخصص في الاقتصاد والأعمال إلى جانب مهنة الصحافة. وُلد ديلاميد في كنساس ونشأ وترعرع في سانت لويس بولاية ميزوري، حصل على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا. وقضى عدة سنوات مراسلًا أجنبيًا في باريس وغيرها من المدن الأوروبية.
[1] Heroes of the Frontier
[2] When the English Fall
[3] الأميش: طائفة مسيحية نشأت خلال فترة الإصلاحات الدينية وبروز تيارات دينية مسيحية تجديدية. ويُطلق على هذه الطائفة تجديدية العماد يعيشون في انغلاق وعزلة بعيدًا عن التقنية الحديثة.
[4] بيلاتس: تمارين لياقة بدنية.
- ترجمة: بلقيس الكثيري.
- تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق