مؤمن الوزان.
يتقفَّى جويس في عمله هذا خطى الملحمة الشعرية "الأوديسة" لهوميروس، فبعد أن قضى أدويسيوس عشر سنوات في حرب طروادة يعود مع بحّارته إلى إيثاكا لكن رحلة العودة تستمر عشر سنوات أخرى من التيهان في البحر بلعنة إله البحر بوسيدون، ومن مغامرة إلى أخرى، ينتهي به المطاف أخيرًا بالعودة إلى إيثاكا ليلتقي بابنه تليماك ويجتمع مع زوجته بينلوبي مجددًا بعد طول فراق. تتقابل الحلقات والشخصيات والأحداث بين العملين محاكية متطابقة أو ساخرة، ليدور القارئ في العمل في دالة موجية ما بين المحاكاة والتعارض والتقفي والسخرية في دبلن حيث جرت أحداث الراوية.
التطابق:
(الشخصيات)
- بلوم = أوديسيوس.
- مولي (زوجة بلوم) = بينلوبي.
ستيفن (رفيق بلوم) = تليماك (ابن أوديسيوس).
التشابه:
- المواطن الشوفيني المتعصب لأيرلندا في الحانة، الحلقة 12 = وحش السيكلوب ذو العين الواحدة.
- ماخور بيلا كوهين الحلقة 15 والهلوسات التي يعانيها بلوم وستيفن بسبب السكر = الإلهة والساحرة سيرسي ومسخها لرفاق أوديسيوس.
- حيرة الفنان ستيفن وبحثه عن الأب الروحي، واضطراب عقيدته، وصراعه مع الكنسية = بحث تليماك عن والده أوديسيوس الذي لم يعرف شكله.
- جنازة ودفن بادي دغنام في الحلقة السادسة = رحلة أوديسوس إلى هادس في عالم الأموات.
التعارض:
- تجري أحداث يوليسيس في يوم واحد 16-6-1904 = تجري أحداث الأوديسة في عشر سنوات.
- يعتمد السرد في الحلقة الحادية عشرة على السمع بشكل كبير = تطلب سيرسي من أوديسيوس أن يحشو أذنيه بالشمع وآذان رفاقه حتى لا يغويهم غناء عرائس البحر.
(الحلقات)
يتكون العمل من ثماني عشرة حلقة أما الأوديسة فمكونة من أربعة وعشرين نشيدًا (حلقة) موزعة كالتالي: الحلقات الثلاث الأولى عن الفنان ستيفن ديدالوس (أربع حلقات عن تليماك)، وخمس عشرة حلقة عن بلوم ومولي وستيفن وأحداث اليوم في دبلن (عشرون حلقة في رحلة عودة أوديسيوس إلى إيثاكا ثم الأحداث التي وقعت بعد وصوله). كل حلقة في يوليسيس تطابق حلقة من حلقات الأوديسة وتختلف معها أو تتشابه وفقا لما يتطلبه العمل من لزوميات وإكراهات مفروضة من جويس.
- على الرغم من حب موللي لزوجها بلوم فإن هذا لا يمنعها من إقامة علاقات مع غيره ولا سيما بويلان الذي كانت متواعدة معه في يوم أحداث يوليسيس 16-6-1904 = بقيت بينلوبي وفية لزوجها رغم مرور السنوات، ورفضت الزواج من غيره على أمل عودته حتى حصول حادثة الخطّاب وتجمعهم، وتتخلص منهم أخيرا بعودة أوديسيوس ملك إيثاكا الذي قتلهم رفقة ابنه تليماك.
* لفتة
- يعيش بلوم في شارع Eccles بيت رقم 7 = تحتجز الإلهة كاليبسو أوديسيوس لديها في جزيرتها مدة 7 سنوات.
هذه بعض التطابقات والتشابهات والتعارضات التي يزخر بها العملان لكن الأسئلة المهمة التي تُطرح لماذا اختار جويس الأوديسة دون غيرها؟ وما الذي أراده من هذا العمل؟
إنَّ الجواب عن هذين السؤالين كما أراه يكمن في رسالة وإعلانٍ ضمنيين في يوليسيس. سعى جويس في عمله هذا على اختيار عملٍ من بواكير الأعمال الإنسانية، وكان العمل الذي وجد فيه ما يترجم غايته إلى حقيقة ملموسة هو الأوديسة في تنوع أحداثها وإمكانية نقل الملحمة من عالم الأمس البعيد إلى عالم اليوم المعاصر، هذا النقل تمثل في رسالة مفادها أن الأوديسة افتتحت الأدب الإنساني التخيلي ويوليسيس من أنهته، لكنها بذات الوقت أعلنت افتتاح أدبٍ إنساني جديدٍ هو كما أراه: أدب خاص بجويس وحده إذ يتجاوز هذا العمل مفهوم الرواية سابقًا ولاحقًا ولا يمكن إمساكه في حدود نوع روائي معين أو تعريفه تعريفًا يشترك فيه مع عمل غيره، وهو بذات الوقت عصر أدبي واحد ابتدأ بيوليسيس وانتهى به، لا ينتمي لما سلف ولا لما لحق، قائم ومتفرد بكيانه الخاص، بسماته، وتقنياته، فهو أقرب لكونه كائنًا يتميز بذاتيته المتفردة والمنفردة، ومخلوقًا له عالمه وقوانينه وكينونته الخاصة به ولا يُشارك بها أحدًا.
جويس لم يكتب يوليسيس بل خلقه فهو يأكل ويشرب ويتبرَّز ويتبول وينام ويستيقظ ويعاشر ويصاحب ويصادق ويستمني وينكح ويفكر ويشعر ويحب ويكره ويتنفس ويقوم جسده بكل نشاطات الأيض الحيوي، ويملك فوق كل هذا روحًا ووعيًا يتدفقان من أول العمل إلى آخره، هذا ما أراده جويس، غالقًا دفة "كتاب الأدب" بعد أن دخله، ورفع شعارًا متحديًا به من جاء خلفه أن يكتبوا أدبًا خاصًا بهم، أو يفتحوا "كتاب الأدب" لكن كيف سيُفتح هذا الكتاب مجددا؟ وبأي عمل؟ هذا هو التحدي المفتوح الذي خلَّفه جويس، وبعد مرور مئة عام من نشر الرواية في Little Review أثبتت جدارتها وتمايزها وأنها مستعصية ومغلقة، ويحتاج القارئ إلى أن يصبح تابعًا لهذا المخلوق "يوليسيس" حتى يرى ويشاهد بعضًا مما يدور في ذات هذا المخلوق، المخلوق الذي لم يراعِ خالقُه أي اعتبارات أو يرغب بإنشاء أي علاقات ودية مع الآخرين، فهو منفِّر للدخيل وغير ودي مع المريد. فالعمل لا يقرأ بل يُشعر ويُحس به، يتسرب إلى ذات المرء وكيانه، ويتحد معه في كل تسهيلاته وعقباته، في استقامته وتعرجاته، من يقرأ عليه أن يخلي ذاته ليوليسيس.
إضافة إلى ما سبق فإن العلاقة ما بين الأوديسة ويوليسيس هي علاقة صراع ما بين مفهومي الإله الخالد والإنسان الفاني في الأدب، فالنقلة التي قام بها جويس من الإلوهية إلى أقصى درجات الذاتية (الوعي الشخصي) تمثل جوهر المذهب الإنساني بل وتعداها إلى ما بعد الإنسانية.
يخوض أوديسيوس صراعًا لأجل أن يعود إلى إيثاكا مع الآلهة والمخلوقات الغريبة هذا الصراع يصور لنا مكانة الأسطورة والإله في المفهوم البشري له وقتئذ، إذ أكسبه الصبغة الإنسانية إذ تراه يفرح ويحزن ويغضب ويرضى كأي فانٍ آخر، وتعدد الآلهة بدلا من الإله الواحد. عُكست العقيدة الفكرية في الأدب، الذي هو مرآة الإنسان، فأدويسيوس هو البشري الذي يصارع القوى العُليا والقدر الذي لا يقوى عليهما في النهاية لولا تدخل العناية الإلهية الإغريقية وعاد إلى إيثاكا، بقي الأدب مرآة للعقيدة الدينية البشرية يتزامن معها يعكسها تارة ويعارضها في أخرى لكنه في آخر المطاف يبقى بوابة لفهم الإنسان وفكره.
كلما تطورت المذاهب الإنسانية الفكرية والعقائدية نرى انعكاسها في الأدب لينتقل من مرحلة إلى مرحلة، مرورًا بالملوك والنبلاء والطبقة الراقية انتهاءً بالفرد الإنسان. ونرى هذه الإرهاصات الأولى والتباشير في صراع الكلاسيكية الجديدة مع الرومانسية في نهاية القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر حتى أطاحت الرومانسية بعقلانية عصر التنوير وتمحورت حول الذات والمشاعر البشرية والطبيعة الإنسانية دون الخوض في تعقيدات العقل والقديم بحثًا عن جديد لتفتح بذات الوقت بوابة جديد نحو مذهب الإنسانية وعبادة الإنسان والوجودية حيث الإنسان هو الكل والفرد ولا شيء يمكن أن يكون أهم منه حتى الإله عند معتنقي هذا الفكر، ولا غريب أن نقرأ لأحد أهم شعراء وروائي القرن التاسع عشر فيكتور هوغو يقول: ستموت الحرب في القرن العشرين… وستموت الملكية، وستموت العقائد؛ وسيحيا الإنسان.
سيحيا الإنسان كانت هذه الغاية المنشودة ولا سيما في أوروبا وأمريكا بعد العقود القرمزية التي خلَّفت تصدعات وتمزقات في المسلَّمات الحياتية والفكرية والفلسفية وتقوقعَ الإنسان حول ذاته أكثر، وحتى لا نشطَّ كثيرًا فإن جويس قد صدح بروايته هذه بمذهب الإنسانوية والواقعية العادية في يوليسيس ليشير إلى نهاية عصر الأدب الذي ابتدأ بالآلهة والأبطال الخارقين عبر الإنسان الفرد العادي الذي لا يتميز بأي ميزة من خلال شخصيات عادية إلى درجة الذوبان في محيطها وعالمها بين ملايين البشر، مجرد رقم من بين سكّان المعمورة، لكنه سلّط عليهم الضوء، ووجه الكاميرا، ولم يكتفِ بهذا التقريب من العادية والإنسانوية بل وسبق زمانه عبر تصويره عصر ما بعد الإنسانوية والذكاء الاصطناعي ومحاولة تعريف الوعي البشري وكيف تجري العمليات الذهنية في الدماغ وما العقل والروح وكيف يمكن أن نجعل للذكاء الاصطناعي وعيًا خاصًا به، ويطور نفسه ويعالجه ذاتيا في معادلات رياضية معقدة وعالم خوارزميات تنقلنا إلى مرحلة الإنسان الإله في قادم السنوات الحبلى بالكثير في عالم القرن الحادي والعشرين.
اعتمد جويس في تجاوز عصره في يوليسيس بشكل معتبر وركيزة رئيسة عبر تصوير الوعي البشري، ومحاولة تشخيصه ونقله من الأثيرية إلى المادية الملموسة عبر النص المكتوب. النقل الذي يتم للوعي من اللا شيئية المطلقة التي هي ماهيته
إلى الشيئية المحسوسة تمنح العمل زخمًا قويًا من الكثافة الفكرية وإدراكًا لماهية الوعي المتشكل من استقبالات للمعلومات من الخارجية عبر السمع والبصر كما في الحلقتين الثالثة والحادية عشرة، أو عبر تداعي الذاكرة الداخلي كونه رافدًا مهما لتشكل الوعي، أو التفكير من خلال سلسلة من العمليات الذهنية التي تشترك في آليتها المعطيات السابقة وأخرى غيْبية.
بهذا التجسيد للوعي فإن جويس يتغلب على نفسه ويهزم عصره ويسافر بالزمن إلى المستقبل، فسرد الوعي ليس مجرد نقل لأفكار الشخصيات وعوالمها الداخلية وحالتها النفسية أو المونولوج بل هو إقحام للقارئ في ذهن الشخصية فتتحول القراءة إلى نظارة ثلاثية الأبعاد يسمع القارئ كلام الناس المحيطين به، ويرى ما تراه الشخصية، ويزيد عليها أن يقتحم وعي الشخصية يراقب تدفق الوعي ومضيه في كل الاتجاهات حيث لا زمان ولا مكان ولا حدود لا شيء سوى الوعي غير معروف الماهية الذي ألبسه جويس قالب كلماتٍ محسوس ناقلًا قوامه غير المرئي أو المعروف إلى قوام من حروف تُقرأ وتُشعر وتُدرك، ولم يكتفِ بهذا بل سعى جهد إمكانه بالإضافة إلى النظارات الثلاثية الأبعاد التي يرتديها القارئ إلى إدخاله في غرفة خاصة بكل المؤثرات البصرية ونقل الأحاسيس بشكل قريب جدا حتى يكاد يشعر به بل ويشعر به في بعض الأحيان ولا سيما في الحلقة السادسة، لا يمكن للقارئ أن يتجنب الشعور والإحساس بضيق المكان في العربة واهتزازها في الطريق إلى الجنازة والمقبرة، هذا الإحساس في التماهي الذي تملكني وأنا أقرأ العمل وشعوري بمخلوق جويس وصل إلى رؤية حركات الشخصيات وهي تنفض فتات الخبز وتزيله من تحت أفخاذها ومحاولة التأكد أن فتات الخبز في العربة فقط لا تحتي أنا الآخر أيضا.
لهذا فهو لا يتوج الأدب ويحدد نهاياته ويفتح مساراته الخاصة فحسب بل ويعكس فهم الإنسان لذاته وعالمه، هذا الفهم الذي قد يرد فيما مضى كثيرا أو قليلا عبر ذكر لواعج النفس وهمومها أو بث مشاعرها أحاسيسها نثرًا وشعرًا
لكن التصوير الواعي والمدرك لعالم الإنسان الداخلي هو ما يميز هذا العمل "يوليسيس".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق