حاورها: ماكس وينتر*
هناك لحظة واحدة، في رواية لورا فان دين بيرغ "الفندق الثالث" The Third Hotel عن تجارب المرأة في مهرجان سينمائي في كوبا، والتي تحول كل اللحظات التالية لها وتغير فهم الشخص للكتاب بشكل دائم، إنه ليس مجرد تطور للحبكة، حيث لا شيء يتغير في قصة الكتاب بعد ذلك، كما أنه أيضًا ليس "كشفًا" لأنه لا يمثل أية معرفة سرية، إنه أكثر من عرض للمعلومات التي لم تكن لدى القارئ في السابق، ثُمَّ يغير الطريقة التي ينظر بها إلى شخصية الكتاب، ويغير مقدار ثقته بها ويزيد من رمزية العديد من أفعالها وملاحظاتها وتغييراتها. قد يشعر بعض الكُتَّاب أنَّ الكشفَ عن تلك اللحظة هنا أمرٌ جيدٌ، بل من الضروري الكتابة عنها حينما نكون بصدد الكتابة عن الكتاب، وفي الواقع، لن تتمكن من معرفة اللحظة إذا لم تقرأ الكتاب، ومع ذلك، أجد أنني أميل إلى التفكير بأنه في هذه الحالة ليس من العدل بالنسبة لي أن أكشف عنها، كون الكشف عن المعلومات وعدم الكشف عنها يُعدُّ أمرًا حاسمًا ومهمًا في رواية "الفندق الثالث"، فعندما تتجول كلير -الشخصية الرئيسة للكتاب- في أرجاء المهرجان، يبدو انزلاق المعلومات جزءًا كبيرًا ومتسارعًا، فهي تسمح بأن يُظن أنها شخص آخر، وتتابع مجريات هذا الأمر قدر استطاعتها، فالمعلومات التي تكشفها لنا نحن القراء خلال هذا الأمر تتناثر بشكل تدريجي، فنعرف عن زواجها، وسلوك زوجها الغريب، وطفولتها غير التقليدية، وسلوكها المتغير، في لمحات بسيطة ومختصرة، يؤثر هذا النوع من السرد حول ما يروى وما لا يروى على سيرنا القرائي مع الكتاب، إذ نتعلم أشياء في صفحات قليلة تؤثر على طريقة عرض ما حدث من قبل وما يأتي بعد ذلك حتى نصل للجملة الأخيرة من الكتاب، وماذا عن السؤال المطروح أعلاه، عن الثقة؟ هل الانزلاق -في هذه الحالة- يجعل كلير متزعزعة أم بشرية؟ هل يمكن أن يكون هذان المصطلحان مترادفين؟ إنني أطرح هذه الأسئلة لأن الكتاب نفسه يثير أسئلة دون الحاجة إلى إجابات لها بالضرورة، في حين تقودنا فان دين بيرج عبر عالم المهرجان، مع منتقديه، وممثليه، ومديريه، ومشاهديه، فإنها تحتفظ بمزاج من عدم يقين يكتسب -ليس ببطء شديد- نزاهة عميقة، كما لو أن عدم اليقين كان وجهة جديرة وصعبة المنال، لقد استمتعت بطرح بعض الأسئلة لفان دي بيرج حول كتابها عبر البريد الإلكتروني، وقد استمتعت بقراءة الإجابات.
ماكس وينتر: ما جودة الفيلم التي تدفعك لجعله جزءًا مركزيًا في هذه الرواية؟
لاورا فان دين بيرج: الفيلم قصة تروى بطريقة مختلفة تمامًا عن السرد الكتابي، يعتمد الفيلم على تكوين لغة بصرية للقصة يساندها فورية وحيوية تكسب اللغة المرئية جاذبية، وهذا يتجلى بشكل خاص في أفلام الرعب، حيث على اللغة المرئية أن تنقل كابوسًا متحولًا من نوع ما، مشهدًا متغيرًا للواقع، ومفاتيحَ للمنطق المغمور للقصة، وبما أننا بصدد الحديث عن أفلام الرعب، لطالما اهتممت بالطريقة التي تستخدم أفلام الرعب فيها الاضطرابات الشديدة للواقع لكشف الحقائق البشرية التي دائما ما كانت موجودة.
أيضا، الكثير من أحداث رواية The Third Hotel جرت خلال مهرجان سينمائي في هافانا، لقد قرأت الكثير عن السياحة ونظريات الأفلام أثناء العمل على هذا الكتاب، وفي مرحلة معينة أدركت أن بعض الكتابات النظرية حول السياحة استخدمت لغة مماثلة للغة السينمائية، وهو اكتشاف سمح بزيادة التآزر بين الفيلم والكتب وأكسبها عناصر أخرى مثل مساحات العبور، السياحة، وغيرها.
ماكس وينتر: هل يمكنك توضيح التداخل بين نظرية الأفلام وكتابات السياحة؟
لاورا فان دين بيرج: أولا، لقد لاحظت ذلك التداخل على مستوى المفردات، فعلى سبيل المثال، يشير كلا النوعين من الكتابة إلى العدسات والنظرات، أي جودة المظهر وما الذي ينظر إليه، وهذا الأمر يظهر بوضوح أكثر في الفيلم، مع عدسات الكاميرا، ولكن أعتقد أن هذه اللغة هي أيضا جزء لا يتجزأ من ثقافة السياحة، من الذي يقوم بالمظهر؟ ما جودة تلك النظرة؟ ما التاريخ الذي تحدثه هذه النظرة أو تزيلها بالكامل؟ كيف يُروى ويحكى هذا المكان؟ وما أنواع الروايات التي يفرضها الغرباء على الأماكن وأسبابها؟
ماكس وينتر: الفنادق والمساكن المؤقتة الأخرى متخيلة بشكل جيد جدا في الكتاب، ما البحوث والأعمال المفاهيمية الأخرى التي قمتِ بها لتصلي إلى هذه النتيجة؟
لاورا فان دين بيرج: كنت أسافر كثيرًا عندما كتبت أجزاء من هذه الرواية، لذلك كان هذا مجالًا يتطلب بحثًا أقل! العديد من تفاصيل النقل العام مستمدة من الحياة، وأنا مهتمة جدًا بالتوتر بين الحميمية والغموض في مساحات الانتقال في النص، من ناحية ما، هناك الحراسة؛ الذات العامة المواجهة للخارج، ومن ناحية أخرى، يمكن أن تكون هذه المساحات بيئات غنية لأسرار النفس التي تطفو على السطح، فنحن نكشف عن أنفسنا للغرباء بطرق لا ندركها حتى، وذلك يتجسد في عدة تصرفات مثل عاداتنا اللا واعية، ما نتركه وراءنا في غرف الفنادق أو في جيوب ظهر المقعد، كما أنني متلهفة جدًا للنوم على متن طائرة، حتى ألاحظ عادات النوم لدى الغرباء، فإن كان لديهم حلم، أكون موجودة لشيء في منتهى العاطفية، إلا أن هناك ميثاق صمت حول هذه اللحظة، يكمن في أن الكشف عن الهُوية يكون لكسرًا للبروتوكول الاجتماعي.
ماكس وينتر: يذكرني الموقف من الموت في هذه الرواية بعدة أعمال بدءًا ببعض قصص ماركيز، أفلام بيرغمان (فاني وألكسندر على الأخص، Wild Strawberries و The Seventh Seal) وانتهاء بفيلم Black Orpheus، ما موقفك تجاه الموت، وهل يمكنك الحديث عن فكرة الحياة الآخرة، بصفته شيئًا يُشكِّل الكثير من التفاصيل في الأعمال الأدبية؟
لاورا فان دين بيرج: من المؤكد أن الأدب يتناول السر الغامض للموت، وقد أثَّرت الكثير من الأعمال التي تطرقت لفلسفة الموت بشكل كبير فيَّ، وقد بدأت الرواية بنوع من "التذكر والاستجابة" لرواية جان إيشنوز التي كانت بعنوان "بيانو Piano" التي تدور حول عازف بيانو قتل في الصفحات الأولى من الكتاب ثم توجَّبَ عليه اجتياز الحياة الآخرة، لذا كان التعامل مع الموت وما يأتي بعده أمرًا محوريًا في تطلعاتي لهذا المشروع.
بالنسبة لآرائي الخاصة، أجد أنني لا أملك أية فكرة حول الأمر، وأحيانًا كثيرة أشعر بالاضطراب لعدم تكويني أية فكرة، أنا مناهضة ولا أجد الاستقرار أو الراحة في السرد الديني، كما أنني أخشى أن يكون الموت الهاوية التي لا تنتهي من العدم، لكنني لا أعرف، إلا أنني أشعر أحيانًا أن القراءة والكتابة هي طريقة لإعداد الذات، بقدر ما يمكن أن يكون الشخص مستعدًا.
ماكس وينتر: في كثير من الأحيان ، تكون أفعال "كلير" منطقية من الناحية الشعرية ولا تمت للواقعية بصلة، إذا كنتِ ستتجاوزين ترسيم الحدود، كيف وصلتِ إلى طريقة هذه الشخصية في التحرك عبر العالم؟
لاورا فان دين بيرج: الخسارة المفاجئة والحزن الشديد يشعرانك أن حياتك قد فُكِّكت، وقواعدك السابقة لم تعد منطقية، وأن كل شيء قد قلب إلى الداخل، وهكذا، كُلّفت كلير بإيجاد نوع جديد من المنطق للعمل بموجبه، فقد وصلت إلى مهرجان الفيلم في نوع من الكابوس الواعي وهي حالة تصيبها في وقت قصير.
لو تأملنا الرعب الذي يملأ الشخصيات في أفلام الرعب لوجدنا أنه يمكن أن ينتج نوع مشابه من تأثير تحطيم القواعد، حيث يجب على الشخصيات أن تجد طريقة جديدة للعيش، وهذا ما سعيت له في الأساس، إذ أردت أن تكون حياة كلير الداخلية في حوار دائم مع هذه الحالة السينمائية الكامنة في الوجود.
ماكس وينتر: يمكنك القول إن الجثث المتحركة (الزومبي) يجب أن تجد طريقة جديدة للعيش أيضًا، إلى أي مدى أثَّر وجود فيلم زومبي في الكتاب على الطريقة التي شُكِّلت بها كلير؟ أيهما جاء أولاً، كلير أم الزومبي؟
لاورا فان دين بيرج: بدأت The Third Hotel بنوع من الرد والاستجابة لرواية بيانو للمؤلف جان إشنوز، إذ يموت شخص في بداية الرواية ثم عليه أن يجتاز الحياة الآخرة، لقد عاد في النهاية إلى باريس، المكان الذي عاش فيه وقت وفاته، ولكن كان مظهره قد تغير ولم يتمكن أحد من أولئك الذين عرفوه عندما كان على قيد الحياة من تمييزه، إلا أن شخصًا واحدًا تمكن من التعرف عليه وتكشفت المشاكل بدءًا من ذلك، لن أسمي تلك الشخصية بالزومبي، لكنه شخص "يعيش" حياة عادية كشخص ميت، لذلك كان هذا الكتاب حجر الزاوية المهم، وفي أثناء العمل على هذا المشروع، شاهدت فيلم أليخاندرو بروجيس خوان دي لوس مويرتوس Juan de los Muertos، أول فيلم زومبي في كوبا، وقد قدم الكثير من الإلهام للفيلم داخل الرواية، خاصة بالإشارة إلى تصنيف نوع الرعب المرجعي الذاتي، وقد أردت أن أشير بذلك إلى التاريخ السينمائي الواقعي.
ماكس وينتر: كيف وصلت كلير إلى مهنتها في ضوء نظرتك الخاصة لماضيها؟ ما المعرفة، الرمزية أو غير ذلك، التي ستدفعها للتقدم في الكتاب حتى تصل؟ (وظائفنا تبلى علينا بطريقة أو بأخرى).
لاورا فان دين بيرج: أنا أعاني من رهاب الأماكن المغلقة قليلا. لذلك أخطو إلى المصاعد مع وميض طفيف من الفزع، وقد أردت أن تحصل كلير على وظيفة تفرض عليها أن تسافر كثيرًا، فهي مندوبة مبيعات، جعلتني أنجذب إلى عملها وقفزات انتقالاته، نظرًا لأن المصاعد مناطق مؤقتة مصممة لنقلنا من طابق واحد إلى التالي، أيضًا، أردت أن يكون لدى كلير علاقة محددة وطبقية لتسافر، بالإضافة إلى كونها زائرة لمهرجان الفيلم ومندوبة مبيعات تتنقل بالمصاعد، فقد نشأتْ في نزل صغير على شاطئ البحر في جاكسونفيل بيتش (كان والداها أصحاب نزل)، لذا فإن علاقتها بالسفر والسياحة تتبلور في هذه السياقات الثلاثة المختلفة جدا.
ماكس وينتر: إلى حد كبير، تتناول الرواية سؤال "من أنا" أو ما الذي أبدو عليه، كيف شكلت فكرة الهوية الشخصية والثقافية هذا الكتاب؟
لاورا فان دين بيرج: نوعًا من حب السفر، كنت أرغب في إلقاء نظرة على سؤال "من أنا" من خلال طبقات متعددة قدر الإمكان، حيث دخل زواج كلير وريتشارد في مدة محيرة قبل وفاته، وفي أعقاب ذلك، أُعيدَ تشكيل حس كلير لذاتها وواقعها، ومع تقدم الرواية، تضطر إلى مواجهة جوانب من تاريخها الحديثة والبعيدة على حد سواء والتي كانت تتجنبها بقوة، ثم تظهر هناك أسئلة كبرى حول كيف أن الوجود قُبالة الكاميرا يغير علاقتنا بالهوية، وكيف يتغير سلوكنا عندما نعرف أنه جارٍ تسجيلنا، وعندما نعلم أننا نشاهَد من قبل الحضور؟ ما الحقائق التي يمكن للكاميرا كشفها، ما القصص الخيالية التي تخلقها؟ ما الأثر الذي يحدثه قدوم الغرباء لتصوير مدينة على تلك المدينة مع مرور الوقت؟ كيف نفرض رواياتنا الخاصة عندما نكتب عن الأماكن التي نسافر إليها؟ ما الذي اعتُبر مهما؟ وما الذي استُبعدَ بالكامل ولماذا؟ لم أكن أطمح أن تكون هذه الرواية مرآة تعكس عودة كلير إلى نفسها، بل أردتها أن تكون مرآة ونافذة والعديد من الانكسارات.
____
* ماكس وينتر كاتب ومحرر ومصور يعيش في نيويورك، وهو مؤلف The Pictures (Tarpaulin Sky Press) Walking Among Them (Subpress).
ترجمة: عبير علاو.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق