الكتاب الثالث.
مؤمن الوزان.
الكتاب الثالث من الموسوعة، خُصِّصَ للموروث العربي السردي المتمثل بعلاقته مع الآخر (دينيا/ثقافيا/عرقيا/اجتماعيا)، وتمثلت هذه العلاقة عبر مشاهدات دوّنها الرحالة، أو عبر ما وصل إلى العرب من أخبار مسموعة ومرويات شفوية أسست خلفيات مرجعية وفكرية عن هذا الآخر (كانت سمة أغلبها الانتقاص والازدراء كما يرجح الدكتور ويميل إلى هذا الرأي). وبدأت العلاقة مع الآخر مكانيا عبر تقسيم الأرض إلى دار إسلام ودار حرب، مع الاختلاف حول وجود دار الصلح أو دار العهد، ونظرًا لتوسع دول الخلافة الإسلامية، وازدياد رقعة الأراضي التي بسط المسلمون يدهم عليها وفتحوها ونشروا الدين الجديد، وحملوا الرسالة، فقد تعرفوا إلى ثقافات ولغات وأعراق جديدة، كانت لها الدور الكبير، في تشييئ وتطعيم الفكر والثقافة العربية، وفتح آفاق جديدة لم تكن مسبقا، وقد كانت السفارات والرسل إلى خارج ديار الإسلام هي الأولى التي من خلالها تم تأطير هذه العلاقة مع الآخر/ الكافر أو الوثني أو أهل الكتب السماوية ونقلها إلى الكتب، وتحولها إلى سرديات تطورت عبر الزمن، ومثلت حلقة في سلسلة تطور السرد العربي. وكانت أولى الرحلات المدونة هي رسالة ابن فضلان، وسفارته بأمر الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، في القرن الرابع الهجري سنة ٣٠٩ هـ. وهذه الرحلة تعد أول رحلة تدوين ومشاهدة طبيعية قام بها رحالة عربي مسلم، وتعد كذلك أول رحلة سردية مدونة عن قبائل الفايكنج النورماندية، ولها يرجع الفضل في ذكر عادات هذه القبائل كما تجمع على هذا الأمر المصادر في الغرب والشرق، ورحلة ابن فضلان التي امتدت لسنة كاملة ذهابا، والمرجح هي ذات المدة إيابا، قام بتدوين رحلة الذهاب، في مهمة وعظية إلى الصقالبة، بعد أن طلب زعيمهم من يعلمهم أمر دينهم، وبعد رحلة امتدت من بغداد ومرورا بفارس وخوارزم وبلاد الترك وصولا إلى جنوب روسيا، دون ابن فضلان مشاهداته عبر هذه الرحلة، ووصف عادات القوم واقتصر على الغريب العجيب أو المنكر الفضيع من مشاهداته لهذه الأقوام، وبالرغم من فشل الرحلة في تأدية المهمة المناطة بها، إلا أن هذا لم يمنع ابن فضلان من التدوين، ولا سيما فيما يخص قبائل الفايكنج وعاداتهم وهي أكثر من لفت انتباه ابن فضلان. وعودة ابن فضلان بعدها إلى بغداد. رحلة ابن فضلان تدون مرحلة الذهاب، لكن الإياب يبقى مفقودا، والرحلة غير مكتملة، والجزء الذي بقي منها وسَلِمَ بقي ناقصا، لأسباب لم تعرف بالتحديد والضبط ما هي، إلا أن د. عبد الله إبراهيم يرجح أنه تم إهمالها نظرًا لأنها جاءت بصورة غربية عن الآخر لم تكن مألوفة أو مطابقة لما تم تخيله عن الآخر البعيد في دار الحرب، مما جعل اهتمام المؤرخين والعلماء العرب معدوما، ومن اهتم بها، قام باقتطاع أجزاء من النص تخدم أفكاره ورؤاه. وفي كل الأحوال تبقى رحل ابن فضلان أولى المشاهدات المدونة التي افتتحت أدب الرحلات العربية التي امتدت لقرون بعدها بلغت أوجها مع ابن بطوطة. توزعت مرحلة التدوين اللاحقة في جهات مختلفة هي: أقصى الشرق في آسيا وصولا إلى الصين والهند ودول جنوب شرق آسيا، والجنوب الأفريقي، وأوروبا والقسطنطينية. كانت الرحلات إلى الشرق والتعرف على أقوام وعادات جديدة، بجيدها وسيئها بعجيبها وغريبها غير المألوف لدى الرحالة العرب والمسلمين مثار اهتمام هؤلاء الرحالة، فركزوا على تدوين ما شاهدوه، ولم يكتفوا بذكر عادات هؤلاء القوم وثقافاتهم وأنظمتهم الاجتماعية أو السياسية أو التنظيمية أو العقوبات، والعقائد، والطقوس، والنساء، والطعام، والثياب، والصناعة، والحيوانات، وأعجب الرحالة ببعض مدن الصين والهند وما وجوده في هذه المدن من نظام وعدل بين الرعية، وقوانين تحمي المواطنين، وعقوبات قاسية وصارمة تجاه المخالفين. وكانت أقاصي الشرق هي وجهة كثير من الرحالة، ليدونوا مشاهداتهم ويتعرفوا في رحلاتهم على غريب الأحداث والعادات. الوجهة الآخرى كانت أفريقيا ويأخذ الآخر الأفريقي، سمات كثير منها غريب وعجيب يدخل في باب النقص والازدراء، والبعد عن الواقع الإنساني والحضاري، وهذا رأي امتد منذ اليونانين ونظرية الكيوف (التأثر والتغيير حسب الأنواء الجوية) حتى القرن التاسع عشر، كما ترد أقوال مشابهة عن تخلف الأفارقة وانعدام الواعز الأخلاقي والبشري على لسان الفيلسوف الألماني هيجل، الرحالة العرب كذلك أوردوا آراءً مشابهة سواء من مرجعيات أخبارية سابقة أو مشاهدات، حيث يتسم الأفريقي الذي يعيش في قلب وجنوب القارة الأفريقية بصفات غريبة مثلما قد أُشيع عن بعض القبائل أكلها للحوم البشر، والعري، وانعدام نظام اجتماعي أو أخلاقي. اتجهت الرحلات نحو أوربا وإن مستوى أقل، ونحو القسطنطينية وقت أن كانت تحت سيطرة البيزنطيين وبعد أن فتحها المسلمون، ومن هذه الرحلات رحلة هارون بن يحيى وابن بطوطة ومحمد رشيد رضا. ويعتبر ابن بطوطة أكثر الرحالة العرب شهرة، حيث زار ودوّن مشاهداته في عديد البلدان شرقا وغربا وجنوبا. ويؤكد د. عبد الله إبراهيم في تحليله وعرضه لهذه المرويات السردية، أن أغلب الرحالة تأثروا وكانوا حبيسي مرجعيات مسبقة تؤكد انتقاص وازدراء الآخر، الأمر الذي دفعهم إلى تصوير غريب ما شاهدوه بصورة ناجمة ومتأثر بفوقية أخلاقية واجتماعية وفكرية ودينية، ويبقى الأخذ بهذا الرأي يحتاج إلى تفصيل وتحليل، دون التسليم به مطلقا، فما ذكره عديد الرحالة من الشواهد شملت آسيا وأوروبا وأفريقيا، ودونوه بسيئه وجيده، لا يجب أن يوضع في خانة واحدة، أو اعتبار ما حكموا عليه من عجيب وغريب العادات أنها ناجمة عن انتقاص وازدراء، كون بعض ما تم مشاهدته لا يقبله الحس السليم ولا الذائقة الإنسانية ولا الفطرة البشرية، وإن تأثر بعضهم بمرجعيات ثقافية وفكرية ودينية، فهذا ليس بالضرورة أن ما شاهدوه يستحق أن يتم تقبله أو ذكره ووصفه دون تهويل أو نقل مجرد من إبداء الرأي. وقد أردفت نهايات بعض فصول الكتاب مقاطع كاملة من مشاهدات هذه الرحلات، سواء رحلة ابن فضلان أو رحلات ابن بطوطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق