المشاركات الشائعة

الأربعاء، 19 فبراير 2020

الطريق الأقصر لنشر كتاب!


بعد عشرين عامًا من الكتابة، دخلت روايتي الأولى Swapping Purples for Yellows (مبادلة الأصفر بالبنفسجي) إلى العالم أخيرًا في أغسطس من عام 2019، إذ استغرقتُ أربع سنوات في كتابتها، وسنتين لبيعها، وثمانية عشر شهرًا لتحريرها وإعدادها للنشر، على مدار هذا الطريق، كبرت ابنتي من طفلة حديثة الولادة إلى طالبة في الصف الثالث، اشترينا أنا وزوجتي منزلًا جديدًا أكبر من السابق ليستوعب هذه الإضافة لعائلتنا، وانتقلت من كوني أبًا يقضي جل وقته في المنزل إلى مدرس جامعي متفرغ، وبقي هذا الكتاب هو الأمر الثابت الوحيد في جل هذه التغييرات، والآن وقد تم إصداره، بدأت التفكير في تجربة الوصول إلى هذه النقطة، بل أضحى لدي ما أتمنى أن يكون نظرة ثاقبة في هذه العملية، التي سأسرد تفاصيلها لك:
1. يحدث التواصل خارج بروكلين أيضًا!
أعيش في مدينة منقطعة في ولاية كارولينا الشمالية، لذلك عندما قرأت المقالات التي تنصح بالحصول على وكيل أعمال من خلال مطالبة أصدقائك بتعريفك بوكلائهم أو التواصل مع الوكلاء في المؤتمرات الباهظة الثمن، فإنني شعرتُ باليأس، لكنني مع ذلك، وجدت ناشري من خلال التواصل غير المباشر رغم أنني أعيش في وسط اللا مكان، فقبل عام من انتهائي من الرواية، حضرت ورشة عمل للكتاب وورشة أخرى عن تدريب الروائيين الذين على أعتاب بدء كتاباتهم الصغيرة "المستقلة بشدة"، قدمت روايتي إلى Southern Fried Karma في مسابقة الرواية الأولى وذلك ليس لأنني اعتقدت أنني سأفوز ولكن لأنني عرفت أن القائم عليها رجل أعمال ذكي، فإذا ما نجح شخص في الخروج من إحدى الصحف الناشئة وإبراز نفسه بشدة، فاعلم أنه هو، لم أفز بالمسابقة -التي حُكِّمت من الخارج لأجل التسجيل- لكنني كنت في نهائياتها، مما دفعه لأن يقدم لي "مراجعة وإعادة تقديم" وزودني برسالة توصية طويلة، وأدت ثمارها.

2. نيويورك ليست الطريقة الوحيدة.
نصحني الروائي الذي قرأ جزءًا من روايتي أن أتجه إلى المطابع الصغيرة، لأنه كان يظن أن الكتاب يستحق أن يتخذ مكانه فيما يسمى "الخمسة الكبار" وهو حدث يُعقد في حرم جامعي في الجنوب خلال عطلة نهاية الأسبوع الوطنية والذي يركز على تفاصيل الأوساط الأكاديمية التي أصبحت أكثر أهمية بسبب الاتجاه نحو التعليم العالي، لكنهم رفضوها بحجة أنه "لم يكن لدى القصة ما يكفي من الخطر أو نداءات تكفي لاستقطاب جمهور واسع"، لذا نصحني وكيلي بأن أتجه إلى المطابع المستقلة المنتشرة حول الولايات المتحدة كونها معاقل لأعمال مثل كتابي، فهم ليسوا خائفين من نشر العمل الذي قد لا يروق للجماهير بل بدلاً من ذلك يبحثون عن الأحجار الكريمة التي تجاهلها حدث الخمسة الكبار".
لذلك أرسلت الكتاب إلى مطابع صغيرة في ولاية ساوث كارولينا بولاية بيتسبيرج وبورتلاند بولاية أوريغون، وحاولت في إنديانا وكولورادو، باختصار، غطت روايتي أكثر البلاد، فمهمة Southern Fried Karma كما يقول وكيلي "حكاية مليون قصة من كل شيء، بلهجة جنوبية."، ولقد وجدت أن هذا التحديث والإضافة للهجة الجنوبية منعشة للنص على عكس القصص التي تنتقل من بروكلين إلى مانهاتن دون أي تغيير.

3. بائعو الكتب المستقلين.
نظرًا لأن كتابي كان يشق طريقه إلى الطباعة، فقد قرأت الكثير من النصائح حول كيفية توصيله إلى أيدي الناس، ومعظم النصائح وجهتني نحو تجار المفرد على الإنترنت، أي Amazon.
أوضحت هذه المقالات أهمية تصميم غلاف يجذب أنظار الأشخاص أثناء تصفحهم لهواتفهم مع أهمية صياغة الوصف المثالي القصير الذي يمنح القراء إحساسًا بالكتاب ودافعية لقراءته و"استعراض المزيد" في صفحة الكتاب على الموقع، كما أشار عدد قليل منهم إلى ما أسموهم أفضل صديق للمؤلفين وهم بائعو الكتب المستقلون، وفي منطقتي هذا الشخص هو جورج الذي يمتلك مكتبة كتب مستعملة في المدينة الصغيرة المجاورة، وحين حدثته عن الأمر، كان متحمسًا للكتاب حتى قبل أن يعرف موضوعه، بل شجعني على تولي زمام فصل الكتابة الإبداعية الشهرية وبيع عدد من النسخ بتكاليف منخفضة للغاية في متجره.
بعد ذلك، أقام ناشري جولة سريعة في Carolinas، حيث قابلت بائعي الكتب في High Point، وAsheville، وDavidson، وGreenville، وS.C والذين كانوا متحمسين لرؤيتي وشغوفين لبيع النسخ المتبقية بعد قراءتهم للكتاب، وعندما عدت إلى أحد المتاجر بعد بضعة أسابيع، وجدت أن جميع النسخ الخمسة المتبقية قد بيعت، وهو مجموع مثير للإعجاب بالنسبة لكتاب يحتوي على نفس العدد من المراجعات على Amazon في تلك المرحلة.

4. الناس سـ (يخيبونك)/ يفاجئونك.
في اليوم الذي صدرت فيه روايتي، أقام أصدقائي حفلًا متقنًا، مكتملًا بنخب الشمبانيا، مما دعاه لأن يكون حدثًا راقيًا غير معتاد منهم، أيضًا غرّد أشخاص لم أرهم منذ عقد من الزمان حول الكتاب، دعاني الأساتذة في معهد الفنون الجميلة الذي حضرته منذ 14 عامًا لجلسة قراءة، بل ذهب أحد الأصدقاء إلى أبعد من ذلك حين غير موضع كتابي في محل بيع الكتب عندما اشتكيت من المكان الذي توجد به النسخ، في حين صمت بعض الأشخاص الذين اعتقدت أنني أستطيع الاعتماد عليهم في التسويق، في الحين الذي كتب بعض أصدقاء الأصدقاء تعليقات سخية، وكوني أحب المزيد من الدعاية بالطبع -ارتبطت ببعض الأشخاص والمؤسسات مقابل قدر ضئيل من المال لأجل أن يبدوا قليلًا من النصائح والاهتمام بالكتاب- ورغم هذا التباين في ردود الأفعال، شعرتُ بسعادة غامرة أكثر من شعوري بخيبة الأمل.

5. وصولك إلى القبول هو البداية فقط!
خلال العشرين عامًا التي قضيتها لتحقيق هذا الهدف، ركزت على تلقي القبول من الآخرين وحين أتى أصدرت كتابي الأول، نادراً ما فكرت في التحدي المتمثل في وضع الكتاب بين يدي الآخرين، أو عيش تجربة الشعور بالخواء حين تأتي إلى تنظيم لبيع الكتاب لتجد أن لا أحد سيحضر لك بسبب أن المتجر لم يعلن لهذا الحدث أبدًا! لم أفكر مطلقًا في الاضطرار إلى سؤال الزملاء من الكتاب عن الأخطاء أو عن إعطاء ملخص لروايتي في 30 ثانية حتى يتمكن العملاء في حفلات النبيذ والكتاب من تحديد ما إذا كان الكتاب مستحقًا لأن يُقرأ أم لا، ولم أفكر مطلقًا في عملية مشاركة الكتاب على شبكة الإنترنت للإشارة إلى الكتاب والحصول على ملاحظات ومراجعات له، لذلك أنا سعيد كوني لم أكن أعلم كل هذه الأمور، وآمل أن تجعلني هذه الإنجازات أكثر حكمة عندما يحين الوقت لإصدار الكتاب الثاني.
في هذه الأثناء، أجد أنني أتوقف كل يوم أمام أرفف مكتبتي وأنظر إلى كتابي الذي يقف بجانب كتب أخرى على الجانبين من كتب لكتاب أعجبت بهم لأشهر أو سنوات، تلك الكتب التي أعشق قراءتها باستمرار، وأخرى قد تصبح يومًا في عداد المفضلة لدي، وهذا ما يجعل كل ما سبق جديراً بالاهتمام. 


ترجمة: عبير علاو.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

الخميس، 13 فبراير 2020

تاريخ الجمال - أمبرتو إيكو (الفصل الثاني).


تاريخ الجمال - أمبرتو إيكو.
ترجمة: سارة محسن.
#ترجمات_قرطاس.

الفصل الثاني.
للقراءة والتحميل:


تاريخ الجمال - أمبرتو إيكو (الفصل الأول).

تاريخ الجمال - أمبرتو إيكو.
ترجمة: سارة محسن.

الفصل الأول.
للقراءة والتحميل:

حَيّ بن يقظان - مؤمن الوزان.




إن شخصية حيّ بن يقظان من الشخصيات الخيالية العربية الأولى التي كان لها صيتها وأثرها في النثر القصصي والتخيلي العربي والعالمي. فأول ظهور لهذه الشخصية مسجل في رسالة ابن سينا المتوفَّى في عام 1037 م، هذا الظهور الذي كان فلسفيا ضاربا في الفلسفة والتصوف لم يتبيّن كنهه حتى شرحه ابن سينا لطلابه. يبتدئ رسالته بلقاء الشيخ حي بن يقظان للسارد فيحدث الشيخُ السائلَ عن ترحاله وسفره بين البلاد. يمثل الشيخ حي بن يقظان في الرسالة وما مر به في جولانه في الأرض العقل وصراعه مع الشهوات ورغبات النفس، وغاية ابن سينا من رسالته تتمحور في مبدأين اثنين يذكرهما الشرّاح: الأول هو إيمانه بالمعرفة الإشرافية وقدرة العقل وحده الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، والآخر هو النظرية الصوفية التي قال بها الرئيس ابن سينا، إن العقل إذا سيطر على الشهوات تمكّن من الإحاطة بالعلوم وعرف ما وراء الطبيعة، الأمر الذي قاده إلى كثير من المنكرات كإنكار الوحي، وإمكانية وجود أنبياء بعد النبي، كون النبوة يمكن أن يصلها الإنسان عن طريق المجاهدة الروحية. 
عرض ابن سينا رسالته بأسلوب نثري في قالب قصصي مبسط ولغوي متقعر اضطر أن يفسره بنفسه كما أشرنا. 
أما الظهور الثاني لشخصية حي بن يقظان فكان للفيلسوف ابن طفيل الأندلسي المتوفى في عام 1185، وشخصية حي بن يقظان لابن طفيل هي الأشهر، وله السبق في إثرائها أدبيا. 
يسرد ابن الطفيل قصة حيّ بن يقظان كيف ترعرع وحيدا في جزيرة معزولة وأرضعته الظبية حتى اشتد عوده، ويُختلف في أصل خلقه على قصتين: الأولى مفادها أنه ابن اخت ملك تزوجت سرا وبعد الولادة وضعته في صندوق وأرسلته في اليم (محاكاة قصة موسى وأمه عليهما السلام) حتى وصل إلى الجزيرة وأخذته طبية فقدت وليدها، والثاني ولادته في طين خاثر، توفرت فيه أسباب الخلق من مواد وظروف مناسبة حتى تكون وبعث الله فيه الروح (إشارة وإن كانت غير واضحة ولا مقصودة حول بدايات الخلق الذي يؤمن بها التطوريون). 
يبدأ بعدها حي بن يقظان بالتعرف على المكان الذي يعيش فيه، ويتجول في هذه الجزيرة، ليكتسب المعرفة تدريجيا تارة بالمراقبة عبر الحواس وتارة بالتفكير، ليصل في النهاية إلى ينابيع المعرفة، وإلى المقام الأعلى الإلهي الشريف، بعد أن يهتدي إلى أن الكون لا بد له من موجد دائم الوجود. 
هنا يطرح ابن طفيل فلسفته التي تقول بقدرة الإنسان على كسب المعرفة لو ترك وحده وهذا ما يشبه كثيرا ما جاء به ديكارت بعد قرون وفلسفته العقلية التي تنص على أن المعرفة موجودة في جميع العقول، وكامنة في ذات العقل، وأن العقل ينالها من داخله لا خارجه، ورد عليه من رد مخالف إياه في هذا. ويطرح ابن طفيل فيها كذلك مذهبه الصوفي، وقدرة الناسك المنقطع لعبادة الله على تحقيق السياحة الروحانية في الملكوت الأعلى، وتمثل هذه المرحلة ختام التعبد والمعرفة الذاتية التي يمكن للمرء أن يصلها وحده. يلتقي بعدها حي بن يقظان بمسافر يأتي إلى الجزيرة هو أبسال الذي يتعرف على حي بن يقظان ثم يحاوره فيجده لا يتكلم أي لغة، ليعلمه لسانه، فيخبره حي بن يقظان بقصته، ويعودان بعدها إلى جزيرة أبسال وملكها سلامان. 
ينكر حي بن يقظان حال القوم في هذه الجزيرة، فيدعوهم إلى ما وصل له من عبادات وسلوكيات روحانية، ويرفض جمعهم المال وسعيهم خلف الحياة، وأكلهم الطعام فوق حاجتهم وما يسد رمقهم ويعينهم على عبادة الله، ويتعجب كيف لنبي هذه الأمة لم يأمرهم بهذا، فيجد منهم صدا وإعراضا، فلما يئس منهم، يرجع إلى جزيرته مع أبسال، ويعبدان الله حتى يأتيهما اليقين. 
هذه الخلاصة قصة حي بن يقظان عن ابن طفيل باختصار، وهي قصة معرفية تطرح قضايا فلسفية وصوفية كالتعلم الذاتي، والهدي الإلهي الموصل إلى حقيقة وجود رب الكون، وفي أساس ذاتها صحيح كما أشار النبي (عليه الصلاة والسلام) أن كل مولود يولد على الفطرة، ويزيد عليها ابن طفيل صوفياته حول التواصل مع الله مباشرة، والوصول إلى الملكوت الأعلى، وهذا ما ينافي الدين الحنيف ومنهاج الأنبياء في العبادة. ونرى أن حيّ بن يقظان حين قابل أهل جزيرة أبسلان أنكر عليهم انشغالهم بالحياة، وهو إنكار يحمل الصوابية في ذاته لو كان إنكارا الواعظ لخيرهم دون أن يسلبهم ما منحه الله له وأمرهم به من كسب العيش والعمل والسعي في عمارة الأرض، لكنه يريد منهم أن يعتزلوا للعبادة ولا يقومون بأي نشاط إنساني كالأكل والشرب والعمل إلا فيما يعينهم على العبادة بمقدار محدود جدا، وكذلك يرفض جمعهم المال، وينكر قيمة الزكاة لأن الناس لو عرفوا التعبد الحقيقي لما جمعوا المال ولا أدوا الزكاة، وهذا ما نخالفه ونرده على هؤلاء لأنه ليس منهاج أنبياء الله (عليهم أفضل الصلاة والسلام) الذين عبدوا الله خير عبادة ودعوا إليه خير دعوة. 

يقص ابن طفيل القصة بخطاب مباشر إلى القارئ أو المستمع بأسلوب الراوي العليم وسرد ضمير الشخص الثالث، إلا أن في كثير من مراحل التطور المعرفي لحي بن يقظان فإن شخصيته تغيب ولا يتبقى منها سوى ضمير الغائب الذي يستخدم الراوي العليم في سرده ليتحول حي بن يقظان من شخصية مركزية إلى فضاء أثيري يتحدث فيه الراوي عن نفسه بضمير الغائب، وهذا ما يوضح سبب كتابة القصة التي هي مجرد قالب لأفكار ومذهب ابن طفيل التي أخرجته في كثير من أجزاء القصة عن القالب القصصي إلى سرد فلسفي وهذيان صوفي، يختلط في السرد القصصي عن النثر الفلسفي المعبر عن أفكار الكاتب لا تجربة حيّ بن يقظان، وهذا ما أعيبه على القصة. 
تبرز التتابعية والتسلسل في بناء القصة على المراحل المختلفة التي مرَّ بها حيّ وكان لها أثرها في تكوينه ابتداءً من قصة خلقه، إلى اكتشاف العالم ومحاولته ستر عوراته كما يستر الشعر أو الذيل أو الريش الحيوانات الأخرى، إلى موت الظبية ومحاولته معرفة سبب موتها، تقليده الغراب في دفن المخلوقات التي تموت، إلى رؤيته النار، إلى اكتشافه الشواء صدفة ثم تعلمه الصيد، إلى بحثه عن مادة الحياة بعد تشريح بعض الوحوش وظنه معرفة سبب الحياة الكامن في القلب، ثم معرفته البناء، وتدجين الحيوانات واستخدام بعضها في الصيد، ثم التفكر في البيئة المحيطة به والنظر إلى السماء، إلى البحث عن الخالق، ثم تعبده وصوله إلى مرحلة التي بإمكانه السياحة في الملكوت الأعلى، ثم لقائه أبسال والذهاب معه إلى جزيرته، ختاما بالعودة إلى جزيرته مع أبسال، وعبادتهم الله حتى الموت. 

البناء القصصي واضح، والحبكة في البنية جلية، وما يعاب عليها إضافة إلى غياب الشخصية والسرد الذي كان سرد الكاتب أكثر من كونه سرد الشخصية، هو إن ابن طفيل حين يكتب عن المعرفة العقلية لحي بن يقظان واستكشافاته للعالم المحيط به والمملوء بالمخلوقات المختلفة والخلق الرباني العظيم، فهو يسميها باللغة المعروفة والأسماء المتداولة كأسماء الحيوانات وبقية الخلق الرباني، والسؤالان اللذان يُطرحان: 
بأي لغة كان يفكر حي بن يقظان؟ وكيف عرف حي بن يقظان أسماء هذه المخلوقات، من الذي علمه أن الغراب غراب، وما الذي أخبره أن السماء اسمها سماء، إلى آخره من تساؤلات؟
هذه التساؤلات من الأهمية بمكان نظرا لاختلاف الأسماء بين اللغات، فهذا يجعل للغراب مثلا لفظا تعريفيا مختلفا في كل لغة، فكيف اهتدى إلى هذه اللفظة دون تلك، وبأي لغة كان يفكر، وهذا السؤال هو الأهم، وهل نحن بحاجة إلى لغة معينة حتى نفكر ونستكشف العالم؟ أو أن العقل يفكر ويجري العمليات الذهنية دون الحاجة إلى لغة. لذا فلغة حي بن يقظان نقطة جوهرية في القصة لم يتطرق إليها ابن طفيل في عمله. وهي موضوع مثير للتفكير والبحث عن إجابة مقنعة. 

الظهور الثالث لحي بن يقظان كان في رسالة شهاب الدين السهروردي المقتول (مقتله 1191 بأمر صلاح الدين بعد أن حثّه علماء حلب على هذا لضلالة السهروردي ومنهجه الكفري المُضل الذي شاع بعد شباب حلب)، ويقدم السهروردي لقصته بذكره تأثره بقصة حي بن يقظان لابن طفيل وما فيها من إشارات خفية، ويسمي قصته بالقصة الغريبة الغربية التي يقصها مباشرة بضمير المتكلم، وهي قصة رمزية جدا لا يكاد يفهم منها المراد الحقيقي، وهي تعبّر عن فكر السهروردي الصوفي المتطرف، وفيها من الكفريات والشركيات الشيء الكثير أجلها وصف الله عز وجل بالأب، ومفادها رحلته إلى قرية ظالم أهلها كما يصفها مع رفيق، ليحبسهم أهل هذه القرية ويرموهم معلقين في بئر لا يخرجون منها إلا ليلا، وخلال خروجهم ليلا يبدأ السهروردي برحلته حتى يصل إلى الملكوت الأعلى حيث الله. وتعالى الله عما يصفون. 

إن التأثير التراثي الأخير لقصة حي بن يقظان في الأدب السردي والفكري الفلسفي والصوفي، كان في قصة الكامل لابن النفيس المتوفى في عام 1288 ولنا لها عودة خاصة في وقت لاحق إن شاء الله تعالى. 

قفلة القارئ - داريل ديلاميد.


ماذا تفعل عندما تفقد شهيتك للقراءة؟
كثيرًا ما تُتداول أحاديث عن قفلة الكاتب، وأرى أن هناك ما يمسى بقفلة القارئ Reader’s block أيضًا، خصوصًا في عصر الهواتف الذكية ووسائل الإعلام المبثوثة وشبكة Wi-Fi الموجودة في كل مكان، إذ يمكن أن تتجمّد عقولنا المثقلة بالمعلومات وتأبى تَلَقِي المزيد. والنتيجة عندئذ أن نفقد شهيتنا لقراءة الكتب. لا نستسيغ شيئًا. ولا تستطيع جميع الأغلفة الجذابة أو النصوص البراقة أو الجمل الأولى المثيرة للاهتمام في العالم أن تجذب انتباهنا مدة كافية حتى نستغرق في كتاب جديد.
ونستبدل ذلك بتصفح مجلة ما أو قراءة الصحف أو الحرص على تصفح الإنترنت أو مشاهدة المزيد من برامج التلفزيون. فلا يمكن أن تلفت انتباهنا العبقرية الأدبية الأحدث، ولا المؤلفين الأكثر تشويقًا.
تمر بي هذه الحالة في الوقت الراهن. فبعد اتباعي نظام حمية معرفي ثابت نسبيًا من أصناف الخيال الأدبي ممزوجًا بالقصص المثيرة والبوليسية، والتحلية ببعض الأعمال غير الروائية أحيانًا، اصطدمتُ بحاجز من جدار.
لقد أنهيت أحد أعمال إم. إل. لونغوورث (جريمة قتل في إيل سوردو [1]) من سلسلة رواياته البوليسية Provençal، التي تعتبرها زوجتي مبتذلة إلى حد ما، ولكنني أجدها مسلية بما فيها من ألغاز ممتعة، ثم فقدتُ شهيتي للقراءة.
بحثتُ في العديد من كتبي المكدسة غير المقروءة. وألقيتُ نظرة على كتاب ديفيد ميتشل الأخير(مَنزلُ سليد [2])، ورواية لويس بايارد الصادرة عام 2014 (وحش روزفلت [3])، لكن بدا لي أنَّ الروايتين غنيتان جدًا أو غير مناسبتين للوقت الحالي. فكرت في الرواية التالية من سلسلة لونغوورث (موت في مزرعة الكروم [4]) لكن لم تكن دسمة بما فيه الكفاية. عدت إلى الأعمال الكلاسيكية، بهدف البدء برواية (ميدل مارش [5]) لأول مرة لكنها بدت لي بطيئة جدًا، أو قراءة ترجمة ريتشارد هوارد لعمل ستندال الكلاسيكي (تشارتر هاوس بارما [6]) لكنه بدا لي شديد الغموض.
استعرضتُ كتبًا من مكتبة زوجتي الواسعة، معتقدًا أن خياراتها المختلفة قد تخرجني من خمولي القرائي. لكني فشلت حتى الآن في مواصلة قراءة أي من الكتب التي اعتقدتُ أنها مثيرة للاهتمام وهي: (غانا يجب أن تذهب [7]) بقلم تاي سيلاسي، و(الجُمل المُعلّقة [8]) بقلم باتريك موديانو، و(الحب في مناخ بارد [9]) بقلم نانسي ميتفورد.
نظرت في الأعمال غير الروائية، فقمتُ بتنزيل كتاب (الأموال المظلمة [10]) لجين ماير لكن لا جدوى. نزّلتُ كتاب سياسي جديد بعنوان (فولكان [11]) بقلم أحد المحررين السابقين لدي، وهو ديفيد شيريف، لكن بطريقة ما تعثّرتُ في تعقيدات المؤامرة.
باختصار لم أجد حلًا لقفلة القارئ، وآمل فقط أن تكون مجرد مرحلة عابرة، ربما بسبب إزعاج إصلاحات المطبخ أو ارتباك الحملة الرئاسية الغريبة التي أغطيها بصفتي صحفي، وآمل أن يعيدني أيًا من هذه الكتب قريبًا إلى عالم الخيال المريح.
إن القراءة تتطلب قدرًا معيّنًا من الصفاء، والاستقرار الذي تبذل الحياة الحديثة قصارى جهدها لتقويضه. فهي سلوك مزاجي يتطلب أفضل الأوقات، ولهذا السبب نأخذ معنا العديد من الكتب عندما نسافر، أكثر بكثير مما يمكن قراءته في الوقت الذي نكون فيه مسافرين، من أجل أن نضمن أن شيئًا ما سيتوافق مع اللحظة الملائمة.
لقد عَرضَ أحد المدونين عددًا من الحلول لقفلة الكاتب، وقد يكون بعضها قابلًا للتطبيق على قفلة القارئ. وتشمل: الذهاب للمشي، والتخلص من المُلهيات -القول أسهل من الفعل- واللعب أو الجري أو التمارين الأخرى التي تساعد على تدفق الدم، وتغيير البيئة المحيطة بك؛ والاستماع إلى الموسيقى؛ وشرب القهوة. كما اقترح قراءة كتاب، لذا ربما تحفز محاولة كتابة روايةٍ ما القارئ المصاب بالقفلة في البحث عن عمل كتابي لائق.
القراءة عبارة عن سلوك إبداعي مثل الكتابة. قد يكون أكثر خمولًا من الكتابة، لكنه ليس خاملًا بالكامل، لأن خيال القارئ ينخرط في تحويل كلمات المؤلف إلى صور أو مفاهيم. لذلك قد تساعد بعض هذه النصائح في التغلب على قفلة الكاتب، وقد تساعد في إفساح المجال للإبداع. أو قد يكون الحل في مجرد الانتظار.
  •  داريل ديلاميد: كاتب وصحفي يقيم في واشنطن. وهو مؤلف لكتابين غير روائيين، "صدمة الديون" و "كبرى الأقاليم الجديدة في أوروبا"، بالإضافة إلى رواية "الذهب". متخصص في الاقتصاد والأعمال إلى جانب مهنة الصحافة. وُلد ديلاميد في كنساس ونشأ وترعرع في سانت لويس بولاية ميزوري، حصل على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا. وقضى عدة سنوات مراسلًا أجنبيًا في باريس وغيرها من المدن الأوروبية.
  •  ترجمة: بلقيس الكثيري. 
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.



[1]   Murder on the Ile Sordou 
[2]  Slade House
[3]  Roosevelt’s Beast
[4]  Death in the Vines
[5]  Middlemarch
[6]  The charterhouse of Parma
[7]  Ghana must go
[8]  Suspended Sentences
[9]  Love in a Cold Climate
[10]  Dark Money
[11]  Vulkan

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب