المشاركات الشائعة

الأربعاء، 25 مارس 2020

غرابة في عقلي.


مقابلة مع أورهان باموق – حاوره بروس روبنز*
عندما يجلس الروائي أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل مع زملائه الكتاب، فإنه يُعرَف برسم رسومات لوجوه الجمهور، ومثل كتاباته تكون تلك الرسومات ليست هزلية جدا ولا جادة، لكنها تحوي شيئًا من الفضول اللا محدود، وغالبًا ما يُشاد ببراعته المرئية لكونه بمثابة الجسر الذي يربط بين الشرق والغرب، كما أنه يُلام في بعض الأحيان على إيلائه اهتمام كبير للقراء غير الأتراك -رغم أن ذلك بسبب عالميته-، كما أنه ممثل جيد للشخص العلماني الراقي القادم من مدينة عالمية كبرى، مما زاد من شعبيته خارج تركيا إذ بيعت من رواياته أكثر من 11 مليون نسخة خارج بلده.
أصبح باموق واحداً من أكثر الكتاب نفوذاً وتأثيراً في تاريخ بلده إلى حد كبير بعد كتاباته عن مواطني الطبقة العليا في إسطنبول وحياتهم الساحرة والحزينة في ذات الآن، ففي روايته الجديدة "A Strangeness in My Mind"، يصنع المؤلف البالغ من العمر 63 عامًا منحنى جريئًا في منطقة أقل سفورًا، إذ إن بطل الرواية بائع فقير في عربة شارع قدم إلى إسطنبول من إحدى القرى، ويحكي الكتاب عن التغير السريع للحياة في إسطنبول من وجهة نظر الطبقة العاملة وما فيها من مشاهد وأصوات وانقسامات ومسافات طويلة، إذ تمكنت الرواية من أن تكون خفيفة كخفة شخصيتها الرئيسة، ومعجزةً وألغازًا للقراء داخل تركيا وخارجها.
على مدار الست السنوات الماضية، شاركت أنا وأورهان باموق في ندوة جامعية في جامعة كولومبيا حول "فن الرواية"، ولقد حظيت بالفرصة لسماع حديث روائي كبير عن "آنا كارنينا - المحاولات والفشل" واستمتعت بهذه القراءة الروائية في طريقنا إلى المنزل بعد مقابلة Vronsky، كما استمعت لحديثه عن تأثير روح دوستويفسكي الخاصة في الشرق والغرب، كان حوارًا مميزًا ومبهرًا لي ولطلاب الجامعة الذين ظهرت على وجوههم أمارات الانبهار. 
بروس روبنز: من وجهة نظر معينة، تدور أحداث هذه الرواية حول رسائل حب تلقاها شخص عن طريق الخطأ.
أورهان باموق: وصفه بأنه الشخص الخطأ مبالغة، إذ تكتب شخصية ميفولوت لشخص لم تره عينيه لسوى بضع ثوانٍ، وهو وضع طبيعي في المجتمع الفلاحي المحافظ حيث يجتمع الأولاد والبنات غير المتزوجين فقط في حفلات الزفاف والمناسبات المماثلة لها، فإذا كنت ترغب بالزواج في مجتمع كهذا، فأنت بحاجة إلى موهبة لتملك هذا الخطاب المثالي، وهنا نجد أن ميفلوت يكتب رسائله إلى امرأة مثالية.
لقد قرأت مؤخرًا في تقرير للمعهد الإحصائي التركي أن 52% من الزيجات في تركيا تكون مرتبة من قبل الأهل، وبالطبع يصعب الحصول على إحصاءات دقيقة، لكون لا أحد يقبل أن يتزوج زواجًا تقليديا ما لم يكن شخصًا محافظًا جدًا وفخورًا بذلك، أظن أن 80% من الأشخاص الذين رتبت زيجاتهم سينكرون الأمر- إذ إنهم سيذهبون إلى مكان ما لشرب عصير ليمون مثلًا، ثم سيتجهون إلى متجر حلويات أو (إذا كانوا أكثر تحضرًا) سيلتقون في السينما لمشاهدة فيلم مع الأخوات والأعمام فقط ليقولوا لأطفالهم وأحفادهم: "لا، لقد التقينا قبل الزواج، لم يُرتيب زواجنا من قبل أحد!"، في المدينة، يمكن للفتيان أن يتزوجوا في وقت متأخر أكثر من القرى، وهذا يطالبنا بالكثير من (التسامح تجاه مصطلح فرويد) المتعلق بالتهذيب المتوافر لدى فتاة القرية، غير أن قانون فرويد قد لا يسري هنا أيضًا!

بروس روبنز: هل أنت بصدد كتابة رواية نفسية أخرى؟
أورهان باموق: للتو انتهيت من ذلك، لذا سنتحدث عن الكتابة من جديد في العام المقبل.
بروس روبنز: في هذه الرواية، بذلت جهدًا للحديث عن أشخاص مختلفين تمامًا عمن نشأت معهم، وهذا يستلزم بعض البحث والسؤال، هل يمكنك سرد خطوات البحث التي قمت بها؟
أورهان باموق: يؤكد الناس في تركيا وفي المراجعات الدولية على أن باموق كاتب علماني من الطبقة المتوسطة العليا يكتب عن حياة الناس من الطبقة الدُنيا، إن الحصول على الحقائق الصحيحة لا يشكل مشكلة على الإطلاق لأي روائي يعمل بجد ويحب التحدث إلى الناس، فإن كنت تود أن تحصل على معلومات عمَّا يفعله بائع دجاج وأرز مثلًا، وكيف يطبخ دجاجه وأرزه، وكيف يبيعه، وكيف يحصل على مواده، ومقدار الربح الذي يحققه، كل ما عليك القيام به لمعرفة ذلك هو محادثة مع بائع الدجاج والأرز في الشارع، فإذا ما كنت لطيفًا، عادةً ما يكون الآخر منفتحًا عليك، فيبدأ بقول أنه يطبخ كل شي بنفسه، وبعد نصف ساعة، سيخبرك أن زوجته هي من تقوم بكل شيء  في الواقع، فالرواية تعتمد على الكثير من المحادثات غير الرسمية مع بائعي بوزا [بوزا هو مشروب كحولي مخمر قليلاً]، ومحادثات مع بائعي بلح البحر المحشو حول حيل تجارتهم، فكثيرًا ما أحب الحصول على هذا النوع من المعلومات كونه يضفي مصداقية على الرواية، لكن هذا البحث ليس ما أفتخر به، بل أفخر بتوازن الرواية وتكوينها الفني أكثر.
في البداية، كان لدي مجموعة من الباحثين، خريجي جامعات ينطلقون ميدانيا يتحدثون إلى الناس، ويحصلون على التفاصيل، وفي بعض الأحيان يعرفونني على هؤلاء الأشخاص، وبمجرد أن أرى أن الشخص يستمتع بالتحدث، أستمتع بدوري بالاستماع.
بروس روبنز: لماذا رُوِيت الرواية من قبل العديد من الشخصيات؟
أورهان باموق: لقد بدأت في كتابة هذه الرواية على طراز الرواية القديمة في القرن التاسع عشر، وأردت أن أرى ما يمكنني فعله في هذا السياق، معظم كتاباتي السابقة تنتمي لما يسمى بما بعد الحداثة، ثم أخذ أسلوبي يتطور شيئًا فشيئًا، كنت أبتدئ الكتابة بقصة كاملة في مخيلتي، وبعد ذلك، مع تطور مهارتي الكتابية ابتكرتُ طرقًا جديدة للكتابة، بعد مدة وجدت أنني أريد أن أفعل شيئًا مختلفًا على غرار أساليب بلزاك أو زولا القصصية، في هذه الرواية، كان من السهل الكتابة من وجهة نظر الشخصية الرئيسة، وهو بائع متجول قدِمَ إلى إسطنبول في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وبعد بيعه لجميع أنواع الأشياء من الزبادي إلى الآيس كريم إلى الدجاج مع الأرز والبوزا لأربعين عامًا، جرَّب عدة وظائف أخرى. كنت أكتب عنه بكل سهولة، إلا أنني شعرت ببعض القلق حينما أصبح الكتاب أطول مما توقعت، كنت أرغب في جلب الواقعية التي تمثلت في العديد من الأصوات التي سجلناها، فبمجرد أن يدرك الناس أنني كاتب أو صحفي، فإنهم سرعان ما يبادرون إلى تقديم نصائحهم عن الوقوع في الحب، وأنماط عيشهم، كما يتحدثون عن أهمية الدين في حياتهم، وأهمية الاستيقاظ مبكرًا، وأهمية الصدق مع العملاء، والعديد من الأمور المشابهة، كانوا يتحولون من التفاصيل الواقعية إلى الحكم الحياتية، وقد أحببت ذلك، لذا أردت أن أتركهم يحكون أنفسهم، وقررت أن أحاول إدراج السرد الفردي في إطار السرد الذي يشبه سرد زولا في القرن التاسع عشر -في الحقيقة لا أحب زولا كثيرًا بل أحب بلزاك وستندال أكثر منه- وحاولت أن أصيغ ذلك السرد بطريقة تجعل القارئ يدرك سريعًا أننا ننتقل من الرواية من جهة الطرف الثالث إلى الطرف الأول، وأعتقد أنني نجحتُ بذلك.
بروس روبنز: كنت تقول أنك أكثر فخرًا بتوازن وتكوين الرواية من معلومات البحث -التي جمعتها من حياة الناس والشارع-؟
أورهان باموق: اسمح لي أن أوضح الأمر: أنا فخور بالمتحف المعلوماتي الذي حصلت عليه، ليس لأنني جمعت كل هذه المعلومات، بل بسبب النوافذ التي وضعت تلك المعلومات بها، والتي ساهمت في تكوين النص، فعرض المعلومة يجب أن يكون جميلًا أيضًا.

بروس روبنز: هل يمكن أن تشرح ما الذي تعنيه بـ "تكوين النص"؟
أورهان باموق: التكوين هو العودة إلى الأرض، وهو غريزة الحيوان، حين أكتب أتساءل مع نفسي: هل ما أكتبه يستحق أن يُقرأ؟ هل هو مسلٍّ؟ ستمئة صفحة نرى فيها العالم من خلال أفكار ميفلوت قد تكون مملة بعض الشيء، كنت أجد أنني أرغب في تمزيق الرواية، وإدراج أصوات أخرى من شأنها أن تتناقض معه، وتتحدى وجهة نظره ووجهة نظر الطرف الثالث في النص، لذلك قمت بهذا النمط الكتابي.                                           في المراجعات التركية والدولية أرى العديد من الشكاوى لقراء حين يقولون بخيبة أمل أن: "باموق لا يكتب بأسلوب ما بعد الحداثة!"، فأشعر أنني أريد أن أقول لهم: "لكنني كتبت بهذا الأسلوب من قبل!" أعلم أنني خاطرت قليلًا، ولست أدافع عن ذلك، إذ كان لدي الكثير من المعلومات، وكنت بحاجة إلى دمجها مع رؤية ممزوجة ببعض الغرابة، لأجعل من شخصية البطل شخصية إنسانية قدر الإمكان.
بروس روبنز: لقد أشبعت شخصية ميفلوت ببراعة السرد الروائي فنجدها تقفز ببراعة بين الأمام والخلف، والماضي والمستقبل كما لو كان روائيًا بنفسه، وهذا ما أعطى ثراءً داخليًّا له.
أورهان باموق: هذا اختراع فلوبير المتمثل في أسلوب السرد غير المباشر الحر، إذ يتيح هذا الخطاب للكاتب الاقتراب من وعي الشخصية من كثب، وتجعل القارئ لا يلاحظ حقيقة أن الراوي هو من يتحدث وليس شخصية الرواية، فعندما فعل فلوبير ذلك، حرر فن الرواية، وجعلها مرنة للغاية، فيمكن للسرد أن يتراجع إلى مسافة بعيدة كأن يخبرنا تولستوي أن جيوش نابليون تقترب من موسكو، حينها نتساءل من يتحدث هنا؟ 
بروس روبنز: يعد الخط الزمني للرواية، والذي حكى ظروف حياتية لأربعين عامًا ورسم الكثير من تفاصيل الحياة خلال هذه الحقبة- نموذجًا متحركًا جدًّا، هل يمكنك سرد بعض تفاصيل هذا الاستعراض الزمني المبهر؟
أورهان باموق: ربما يكون الامتداد الزمني أمر غير معتاد كون الرواية لديها بنية قصصية يسيرة جدا، صبي يكتب رسائل حب لفتاة رآها مدة قصيرة وعن بُعد، ثم يُخدع ويتزوج من أختها الكبرى، التي تعد أقل جمالًا، بطريقة زواج لا أريد أن أتحدث عن تفاصيلها.
لقد درَّسنا -أنا وأنت- معًا منذ سنوات، لكن في ندواتنا، لم نضغط على الطلاب للتحدث كثيرًا عن الروايات وشخصيات الطبقة الدنيا، فوجود بطل من الطبقة الدنيا كان إضافة متعمدة جدا من قبلي، أثناء كتابتي للرواية، سألني المحرر البريطاني عما إذا كنت سأدرج أي شخصيات من الطبقة الوسطى، فكرت برهةً أنه يمكنني إضافة شخصية من الطبقة الوسطى صديقًا لميفلوت، لكنني استبعدت ذلك الأمر على الفور وقلت له "لا، لن يكون هناك أي شخصيات من الطبقة الوسطى في هذه الرواية"، لن أضيف أحدًا كشخصية ليفين في آنا كارنينا، لن يكون شخصًا ينظر إلى شخصيات الطبقة الدنيا وفلاحيها وهم يعملون، روايتي سيحدث كل ما فيها بين الفلاحين أنفسهم.
حسنًا، هم ليسوا فلاحين بالمعنى الحرفي، هم قرويون قدموا إلى المدينة، فأحداث الرواية تدور حول حياة المدينة الحديثة، والشخصيات التي قد تكون فقيرة، لكنها بطريقة ما متمدنة جدا، فكانت مشكلتهم تكمن في التكيف مع الفردية والأنانية والعقلية الاقتصادية للمدينة، فأولئك الذين يصمدون يمكن أن يكونوا ناجحين، أما الذين يتشوشون مثل ميفلوت فهم ليسوا ناجحين، لكن يكمن السؤال هل يريد ميفلوت حقاً النجاح؟
بروس روبنز: هل هذا ما تريد قوله عن الطبقة العاملة؟ من حيث تكوين الرواية، إذ أرى أن ما تتحدث عنه هو الصداقة بين مفلوت وفرحات، إذ شكلت صداقتهم الكثير من أحداث الرواية، فمن الناحية الهيكلية، هناك القليل من التوازي مع سنو، بمعنى أن ممثل اليسار، وهو كردي علوي "يحصل على الفتاة" إذا جاز التعبير، وهو بطريقة ما، أكثر نجاحًا وربما أكثر بطولية من مفلوت "الرجل الذي يقف في الوسط" سياسيا. 
أورهان باموق: في فصولنا، وفي اجتماعاتنا التحضيرية قبل الفصل، نتحدث أحيانًا عن جورج لوكاس، يقول لوكاس إن أفضل الروائيين التاريخيين اخترعوا شخصيات يمكن سحبها للاتجاهين في صراعات مجتمعاتهم، وهذا يحدث فقط -كما يقول- إذا لم يكن لهذه الشخصيات التزامات سياسية وأيديولوجية وقاعدة أخلاقية قوية، أي إذا كانت أفكارها "هشة" وسريعة التغيير، وهنا نجد أن مفلوت يتبع هذا النمط. 
بروس روبنز: أنت تزعج القارئ بإمكانية أن تكون هذه القصة هي قصة ظهور إسلاموي، من المؤكد أن مفلوت ينجذب إلى الإسلام، لكن لديه صديق يساري، وأبناء عمومته من الفاشيين، فهل هو حقا الشخص الوسطي؟
أورهان باموق: كنت أتبع نهج ستندال حين يعكس بكتاباته صورة المجتمع، فإذا كان ميفلوت متعصبًا جدًا، فلا يمكنه زيارة ذلك الرجل الحكيم المسلم ولما كان يستمع أيضًا إلى محادثات أصدقائه الماركسيين العلويين ويتجول معهم أثناء وضعهم للملصقات.

بروس روبنز: هذه الرواية بالطبع رواية مدينة، ما الذي تشعر أنك لم تقله بعد عن إسطنبول؟ إذ سيقول الناس -وربما قد قالوا ذلك بالفعل- أنك وضعت الكثير من شخصيتك في شخصية الرواية الرئيسة.
أورهان باموق: في تركيا، كان الشكل المهيمن للرواية هو ما يحكي عن الفلاحين، وقد كان يشار كمال أفضل روائيي هذا الفن، فإذا كنت روائيًا اجتماعيًا في ستينات وسبعينات القرن الماضي فستكتب عن الحياة والظروف المادية في منطقة ريف الأناضول، بالنسبة لي، لم أكن أعرف أي شيء عن تلك البيئة، لذلك كتبت عن إسطنبول فقط لأنني أردت الكتابة عن البشر الذين أعرفهم، وليس عن المدن، وفقط بعد أن تُرجمت أعمالي أصبحتُ أعرف بكوني كاتبا إسطنبوليا، فلقد عرف الأتراك هذا الأمر من خارج تركيا لا من داخلها.
في ذلك الوقت، كتبت مذكرات إسطنبول التي انتهت عام 1973، وكتبت كتاب الكتاب الأسود في عام 1980، ولم أكتب بعدها أي شيء عن إسطنبول سواء في التسعينات أو ما بعدها، بل حتى متحف البراءة، الذي كان عام 2008، لم يعرض صورة إسطنبول في الألفية الجديدة، لذلك، لم أكتب عن التغييرات الهائلة التي شهدتها إسطنبول وقاستها خلال السنوات ألـ 25 الماضية، وحتى وقت كتابة هذه الرواية، لم أكتب عن الطبقة الدنيا في إسطنبول من قبل، لذلك كان هناك فراغ كبير في رؤيتي التي فرضتها على نفسي.
من الممل بعض الشيء أن أكرر هذه الحقائق، لكنني سأكررها: لقد ولدت في إسطنبول عام 1952، وفي ذلك الوقت، كان عدد سكان إسطنبول مليون نسمة، والآن يبلغ التعداد السكاني فيها 17 مليون، وقد كانت التغيرات التي شهدتها في السنوات الخمسين الأولى أقل من التغيرات التي حدثت خلال السنوات الـ 13 الماضية، ما زلت أومن بأهمية الكتابة عن الحياة في إسطنبول، وأنا سعيد لأنني أقوم بجزء من ذلك، لكن من الصعب جدًا أن أواكب كل التغيرات الهائلة حاليا!، لذا قلت لنفسي حين اعتزمت كتابة هذه الرواية: "سأكتب عن حياة الشارع".
بروس روبنز: ميفلوت يحب عمله، لن أقول إنه يشعر بتحقيقه لذاته عندما يعمل، لكنه لا يجد عناء في أن يتجول في شوارع إسطنبول لبيع اللبن أو البوزا ومقابلة كل الأشخاص الذين هناك، بطريقة ما، نجد أنه يعبر عن هويته بهذا، فبهذا المعنى، نجد أنه هو روائي بذاته، حيث أنك أيضًا شددت على هذه النقطة عندما كتبت عن طريقة ندائه ومدّه للحروف حين ينادي في الشارع "بوزاااااااااااااا!" بالصدى الذي ينعكس على الناس الذين يسمعونه، فهل لدى الروائي وبائع البوزا شيئًا مشتركًا ذو أهمية؟
أورهان باموق: أوه نعم، ميفلوت هنا شخصية ساحرة جذابة -إذا كان جذابًا، بالطبع قد أكون مخطئًا- لأنه حسن النية وسعيد وهو شاب جيد أيضًا، وقد قال كيركيغارد: "الأشخاص غير السعداء يعيشون إما في الماضي وإما في المستقبل، في حين يعيش الشخص السعيد في الوقت الحاضر" فميفلوت شخص منغمس بعمق في الوقت الحاضر، أعترف أنَّ جزءًا من ذهني منعكِس على ميفلوت، لكنني أتمنى لو كانت لدي موهبته في الاستمتاع بالحاضر، تقول لي صديقتي دائمًا: "استمتع بالآن! توقف عن القلق بشأن مستقبلك! استمتع باللحظة!”، فميفلوت هنا يحمل قليلًا من الصوفية ومشاعرها السامية، انظر إلى الاهتمام الذي يوجهه إلى كل تفاصيل الفتاة التي معه، على الرغم من أنه يعرف أنها الفتاة الخطأ، وأنه قد تعرض للخداع، فهو لديه هذا الشيء العميق الذي قتلته الحداثة فينا، ولديه أحلامه الخاصة وموهبة المشاركة في القضايا المشتركة أكثر مما نفعل نحن، وهو لا يميل إلى الثقة المطلقة ولا ينخرط في الجدال، وقد تجد أنه ضحية بشكلٍ ما، لكنه لا يشعر بأنه ضحية.
اكتشاف تفاؤل ميفلوت يحل مشكلة كبيرة في هذه الرواية، فالكتابة عن شخص من الطبقة الدنيا لقراء ليسوا منها ومن كاتب ليس منها أيضًا، ليس خطأ عقلانيا فحسب، بل مسألة إقناعية للقراء أيضًا، لا أريد أن أخبرك بأسراري الخاصة بخصوص هذا الأمر، لكنني قمت بأشياء كثيرة لأتجنب هذه المشكلة أو في الأقل أجعلها أقل وضوحًا، حاولت جاهدًا تجنب الأحداث المثيرة للشفقة فلم أكن أريد أحداثًا من شاكلة "يا للرجل المسكين، إنه يبكي!"، إنني أحب ديكنز، وأحب لغته الكتابية، لكنني لا أحب عاطفته المثيرة للشفقة والمبالغة، فهي تصيبني بالغضب، في نواحٍ كثيرة، هذه رواية تشبه ما يكتبه ديكنز، ولكنني تعلمت منه أيضًا -من أجل أن أتجنب تلك العواطف- أنه لا يوجد شيء أفضل من الفكاهة، لذا آمل أن يضحك القارئ بدلاً من أن يبكي.
لكن أكثر ما ساعدني هو استمداد التفاصيل من ذهني، مثل عنوان الرواية، فخلال سنوات مراهقتي، وفي العشرينات والثلاثينات من عمري، كانوا أصدقائي يقولون لي: "أورهان، إن لديك عقل غريب"، ثم في يوم من الأيام صادفت هذا الاقتباس في وردزورث، "غرابة في عقلي A strangeness in my mind"، ودونته وبدأت التفكير على أنه في يوم من الأيام سيكون عنوان إحدى رواياتي، وأخيرا، أصبح عنوان هذه الرواية، فلقد أعرت مفلوت مخيلتي، لكن لا يمكنني أن أخبرك المزيد عن تفاصيل هذا الأمر.
بروس روبنز: ومع ذلك، هذه ليست رواية عن خيبة مفلوت وعدم تحقيقه لطموحه، كونه لا يعترف بخطئه.
أورهان باموق: ميفلوت ليس راستيجناك، فراستيجناك بطل رواية بلزاك هو رجل من الريف قدم إلى باريس من أجل حلم الثراء والشهرة، فقد كان يريد أن يكون غنيا وناجحا، ونجد أن الطاقة والقوة والدراما لوجهة النظر هذه تبرز عندما ترتفع الرأسمالية إلى جانب الرؤية الديمقراطية للمجتمع، ويصبح الحراك الاجتماعي أمرًا ممكنًا، لقد مثل راستيجناك طموح بلزاك، فعندما نقرأ عن راستيجناك، يمكننا أن نتخيل بلزاك وهو يشتري المطابع ويحلم بالثراء، في حين أنا وميفلوت لا نملك تلك الطموحات، فرؤية ميفلوت محدودة بشكل أكبر.
بروس روبنز: إذن هل فرحات -الكردي اليساري وصديق ميفلوت المقرب- يجسد شخصية بطل بلزاك هنا؟
أورهان باموق: فرحات أكثر حداثة من بطل بلزاك.
بروس روبنز: هل تقول إن إسطنبول -كما تراها هنا- يديرها رجال العصابات، أو تديرها دولة مكونة من أشخاص يتصرفون مثل رجال العصابات؟
أورهان باموق: اليوم، لديها رأسمالية طبيعية لائقة بها.
بروس روبنز: لكنك لا تظهر الكثير من الرأسمالية الطبيعية اللائقة في الرواية.
أورهان باموق: ذلك لأنك لا ترى الطبقات العاملة العادية، هذه نقطة مهمة حول الرواية، فهؤلاء الباعة المتجولون ليسوا من الطبقة الدنيا الذين يعملون في المصانع، فهم يعيشون في ذات الأحياء التي يعيش فيها عمال المصانع، ولكن في النهاية، هم أصحاب مشاريع خاصة وأصحاب رؤوس أموال صغيرة.
بروس روبنز: من أجل النجاح في باريس، تعين على راستيجناك أن يصبح رجل عصابات، فهل ميفلوت لا يريد أن يصبح رجل عصابات؟
أورهان باموق: لكن أبناء عمومته يصبحون رجال عصابات. 
بروس روبنز: حكت العديد من صفحات الرواية عن مغامرات فرحات ثم مغامرات مفلوت في العمل مفتشين كهربائيين، هل كنت تحاول بذلك أن تجعل القارئ يرى جمال هذه المهنة؟
أورهان باموق: تعرض الرواية الكثير من تفاصيل الحياة اليومية على غرار كتابات فوكو، ولكن في الواقع، كل تلك التفاصيل حدثت لي شخصيا، قبل عطلة مدتها عشرة أيام، قُطع التيار الكهرباء لدي، ثم، بام! بام! بام! شخص ما يطرق الباب، حدث هذا في عام 1995، كان المفتش الكهربائي يعرفني، لقد كان رجلاً يساريا سابقًا، وخلال ذلك أخذنا نتحدث وأخبرني بكل شيء عن مهنته، في وقت لاحق، قمت بفحصٍ مزدوج، فلقد أجريت العديد من المقابلات مع مفتشي الكهرباء المتقاعدين والمهندسين، جمعت الكثير من المعلومات حول إنتاج الكهرباء وتوزيعها وغشها وبالطبع عن مشاريع خصخصتها، ففي البداية، خصخصت الدولة تحصيل المدفوعات فقط، ثم خصخصت بقية المجال. في تلك السنوات، كان هناك الكثير من الغش الإبداعي، وقبل ذلك -عندما بدأت العمل الروائي للتو- كان لدى زوجتي أعمال كثيرة لتقوم بها، لذا كنت معتادًا على دفع فاتورة الكهرباء في مكتب البريد، كنا نقف في طوابير وكانت العملية مليئة بشتى أنواع الجدل وإضاعة الوقت، كان عليك أن تدفع نقدًا، وكان على شخص ما أن يوقع على إيصال دفعك لقد كانت عملية بدائية بحتة، أما الآن، فأنت تدفع عن طريق بطاقات الائتمان ولا ترى أي شخص ولا أي طابور!
بروس روبنز: تلعب الأحلام دورًا كبيرًا في الكتاب، أليس كذلك؟
أورهان باموق: قال هنري جيمس "كلما كتبتَ حلمًا في كتاب؛ خسرت قارئًا" فالأحلام لا تلعب هذا الجزء الكبير بل جزءًا من تكوينة النص البلاغية، إنها لا تغير حياة الناس، بل يهمني ما يسميه فرويد محتوى الحلم، إنني لا أرى بنية الرواية من خلال نظرية فرويد ولا من الأحلام نفسها، لا أريد أن أكون مثل جاكوس لاكان، فميفلوت لا يؤمن بلاكان.
بروس روبنز: يبدو لي أن أحد الأشياء التي كنت تحاول إبرازها في تمثيلك للطبقة العاملة هو أنهم مكافحون، ولطفاء جدا، وشخصيات ضد الصور النمطية.
أورهان باموق: واحدة من الكلاسيكيات في هذا النوع الرواية التي أعشقها "مائة عام من العزلة"، التي تبدأ بأشخاص يصنعون منازلهم، في مشهد يأتي من خارج الزمن، يليه ظهور القرية إلى حيز الوجود، وفجأة، كل من في القرية يعزفون على البيانو! فجأة، لم يعودوا فلاحين!
تقفز القصة بعدها وتصبح معنية بالطبقة الوسطى، لن يكون هناك مفلوت إذا ما كانت عمته تعزف البيانو، فشخصياتي تشارك في كفاح اقتصادي أكثر، وفي المرحلة التالية، مرحلة الحياة الثقافية التي تفوق معرفتهم، إذ إنهم لا يجمعون الأشياء ولا يشاهدون الأفلام ولا يقرؤون الصحف، فهم ليسوا جزءًا من التطورات التي أدت إلى الرواية، فهم يعيشون في بيئة لا تشكل بحد ذاتها رواية، وهنا كان يكمن التحدي.
عندما يقول الناس أن ميفلوت فلاح أو متسكع من الطبقة الدنيا، أُصبِح سعيدًا، وأوافق على ذلك، فاختراع بودلير لشخصية المتسكع "flâneur" جعل من الممكن رؤية شعر يحكي حياة المدينة، فأنا أحب المشي الطويل، والتحديق في واجهات المتاجر وما إلى ذلك، ومع ذلك في النهاية، نجد أن شخصية المتسكع "flâneur" لدى بودلير هي من الطبقة العليا لا الدنيا، لذا كانت هذه الفجوة الروائية مكمن التحدي بالنسبة لي، لا يحظى ميفلوت بتلك الأشياء التي تملأ الروايات: التحف الفنية، منافض السجائر، الإعلانات، والأثاث، كل شيء تكتبه صفحات البذخ في المجلات نجد أنه مفقود من عالمه، فهو يراهم فقط في مطابخ الآخرين، هذه المشكلة كانت إحدى صراعاتي الداخلية حيث كنت أجد صعوبة في كتابة تلك التفاصيل في هذه الرواية.
بروس روبنز: يبدو ميفولوت سعيدًا عندما يمر بالشوارع ليلًا يبيع البوزا والزبادي، فهو يسعى في مهنة صعبة، ويسير بحمل ثقيل، لكن هل هو سعيد حقا؟
أورهان باموق: لا، الزبادي ثقيل، لكن البوزا ليست كذلك، لذا خمسة عشر كيلوغراما من البوزا ليست ثقيلة جدا. 
بروس روبنز: هو أيضا سعيد جدا مع عائلته، أتساءل ما إذا كانت إحدى نواياك إعطاء صورة عن السعادة الأسرية في منازل مواطني الطبقة الدنيا؟ 
أورهان باموق: نعم، لكن اسمحوا لي أن أوضح الأمر بطريقة مختلفة. لا أعتقد أن ميفلوت سعيد جدا عندما يبيع في الليالي الباردة، ولكنه أمر عليه أن يفعله، فهو أمر لا يستغرق أكثر من ثلاث ساعات في الليلة، وفي الثقافات التي يكون فيها النضال من أجل الحياة صعبًا جدا إضافة إلى شعور انعدام الأمن؛ تعد الأسرة أكبر مصادر سعادة المرء، فكلما كانت الحياة أكثر قسوة ووحشية ومسببة لخيبة الأمل في الخارج؛ تشبث المرء عاطفيا بحياة العائلة وتعانق معها، في حين نجد أن البعض الآخر -ربما كان راستيجناك واحدًا منهم- ممن يأتون إلى المدينة بشخصية متطلبة، يضخوا تعاسة الخارج إلى الداخل، فيستجوبون زوجاتهم وأطفالهم وكل شيء، إلا أن ميفلوت لا يفعل ذلك أبدا، فهو يدخل منزله كما لو أنه داخلٌ إلى مسجد.
بروس روبنز: مما يساعد في شرح الجملة الأخيرة، حول ما يهم حقًا في النهاية، ربما لا ينبغي لنا أن نتحدث عن ذلك؟ ومع ذلك فأنا أفترض أنها ليست مفارقة في المقام الأول.
أورهان باموق: لا على الإطلاق، إنها في منتهى اليُسر.

*بروس روبنز أستاذ العلوم الإنسانية لمؤسسة أولد دومينيون في قسم اللغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا.

ترجمة: عبير علاو.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.



ماذا يمكننا أن نتعلم من رواية الطاعون لألبير كامو؟ وما الذي ينبغي علينا تجاهله؟



ما  شعورك لو وجدت أن منطقتك، مدينتك، بلدك، معزول عن بقية العالم، ثمة عدوى منتشرة، والناس حبيسة منازلها، وآلاف من المصابين، وآلاف آخرون أُخْضِعوا للحجر الصحي؟ كيف ستتأقلم لو كان هناك وباء يعطل الحياة اليومية؟ المدارس تغلق أبوابها، والمشافي تعج بالمرضى، لا تجمعات من أي نوع، إيقاف المناسبات الرياضية والحفلات الموسيقية والمؤتمرات والمهرجانات، وعلِّقت خطط السفر إلى أجلٍ غير مسمى؟ عادةً ما تكون أسئلة كهذه أسئلة نظرية.

قدّم ألبير كامو عام 1947 بسن الرابعة والثلاثين وهو الكاتب الفرنسي المولود في الجزائر، إجابة تفصيلية وثاقبة عن هذه الأسئلة بعملهِ الروائي (الطاعون). (فاز بجائزة نوبل بعد ذلك بعشر سنوات وتوفى بعدها بثلاث سنوات إثر حادث مروري). يؤرخ العمل التفشي السريع والانحسار البطيء للطاعون بمدينة وهران الجزائرية الساحلية، في وقتٍ ما في أربعينات القرن الماضي. وبمجرد ما أعلن الوباء المتباطئ عن وصوله حتى خيّم على حياة وعقول أهل المدينة قرابة العام. حينئذ رحل مسرعًا وغير قابلٍ للتفسير. "تسلل خلسة عائدًا إلى الجحر الغامض الذي انبثق منه".

"يُظهر كامو مدى سهولة الخلط بين الوباء وأيّ أذًى آخر". 


يجب عليك التوقف عند هذا العمل سواء كنت قد قرأته أم لا، بل إنه يتطلب إعادة القراءة حتى. نعيش لحظات عصيبة دوليًا وعالميًا، حيث يكتسح فيروس كوفيد 19 الناجم عن شكل جديد من الفيروسات التاجية- العالمَ. منذ ظهورة في أواخر العام الماضي في مدينة ووهان الصينية (أغلقت المدينة منذ مطلع العام) حتى بدأ في مسيرته وغزا دول العالم تباعًا، ذعر عام، وانهيار للأسواق المالية، وثمة مناطق ومدن وبلدان تحت الحجر الصحي، إيطاليا من بينهن. أغلقت أماكن العمل والمدارس، وعملت الجامعات عن بُعد هذا الأسبوع (13-3) في العديد من المدن الأمريكية. ألغيت العديد من الفعاليات، ومُنع السفر لغير الضرورة القصوى. سرعان ما ارتقى الوباء إلى جائحة. ونظرًا لكل هذا قد تجد وقتًا للقراءة أكثر من المعتاد. ورواية كامو لها أهمية ملحة، حيث أنها تضج بالتجارب والعبر.

مهما بدا لك أن فيروس Covid-19 مرعبًا فكن على يقين أنه لا يقترب من الطاعون الباطش في عمل كامو. في القرن الرابع عشر تسبب الطاعون الدملي والذي عرف أيضاً "بالموت الأسود" بقتل ما يقارب ثلث البشر في قارة أوربا وحدها. وعندما اجتاح لندن بين عاميّ  1656 و1657 قتل ربع السكان. وفي حالة لم تكن تعلم، فإنه ما يزال موجودا حتى يومنا هذا، ولا يطوف في آسيا وأفريقيا فحسب بل وينتشر في جنوب غرب أمريكا، إذ إنه ينتقل عن طريق براغيث القوارض المصابة. يتسبب الطاعون في ارتفاع درجة الحرارة والقيء وتورم مؤلم بالفخذ يسمى دُمل (مشتق من اسم دُملي). وحتى مع العلاج بالمضادات الحيوية فأن معدل الوفاة قد يصل إلى 10%  وفي حالة عدم العلاج يصل إلى 90%. فيروس كورونا ليس بهذا السوء بعد.

عندما كتب كامو عمله هذا لم يكن هناك وباء في مدينة وهران، مع ذلك فقد فتك الطاعون بالمدينة في القرنين السادس والسابع عشر (تفشى في وهران مدة شهر عام 2003). بالوقت الذي تنتقل به أعراض الطاعون وآثاره المدمرة بشكل يتسم بالكفاءة بالعمل، إلا أن الكاتب لم يركز على الجانب الفيسيلوجي كثيراً بل على الجانبين الاجتماعي والفلسفي. وعلى الرغم من أن روايته تتتبع تطور وباء معين في مدينة وبلد وإطار زمني معين، فإن موضوع كامو الحقيقي يقع خارج الزمان والمكان.
كان هدفه من العمل هو تناول موضوع العدوى التي قد تباغت أي مجتمع على نحوٍ مجازي كالكوليرا والإنفلونزا الإسبانية والإيدز والسارس وكوفيد 19، وحتى الأيديولوجيات الهدامة كالفاشية والشمولية التي تصيب مجتمعات بأكملها. عندما كان كامو يكتب هذا العمل، رأى النازيين يقتحمون باريس في سنة 1940 خلال الحرب العالمية الثانية. تولى حينها رئاسة تحرير مجلة كومبات، المجلة السرية للمقاومة الفرنسية، التي كان من بين مساهميها أندريه مالرو وجان بول سارتر وريموند آرون. أبصر كامو حينئذ العلاقة المتأصلة بين العدوى النفسية والجسدية، واتضح هذا جلياً بالعمل.
مع بداية القصة تنسل الفئران من الظلال إلى النور واحدةً تلو الأخرى، ثم تتعاقب على دفعات، تتجول في الشوارع على نحو مقزز. أول من فطن لهذا هو طبيب محلي يدعى ريوكس، الذي استدعى حارسه ميشيل ليتعامل  مع الإزعاج، ذهل الطبيب حين رأى حارسه يمر بفورة غضب بدلاً من الاشمئزاز. ميشيل كان مقتنعاً أن هذا لا يعد أكثر من مزحة سمجة من الشباب ذوي السلوك السيئ الذين يتسكعون بالأرجاء. وحال ميشيل كان كحال أهل وهران حيث إنهم غالباً ما يسيئون تفسير "الظواهر المحيرة" مبكراً، ولا ينتبهون إلا بعد فوات الأوان. في بادئ الأمر جل ما قاموا به هو التذمر من السلطات وإدانة إدارة الصرف الصحي المحلية. يعبر الراوي عن هذا بقوله: "كان السكان متقوقعين على أنفسهم بهذا الشأن". و"كانت إنسانيتهم تصدهم عن الإيمان بالأوبئة". وبهذا يوضح كامو كيف يسهل على الناس الخلط بين الوباء وأي أذى آخر.

يتنبه الطبيب لهذه الآفة بعد مرض ميشيل وموته، يطمئن ذاته قائلاً "يجب ألا يفطن العامة لذلك، فإنه لن يعود بالنفع عليهم بكل الأحوال". يوافق بيروقراطيو وهران على ذلك، حيث إن الوالي (مثل العمدة أو الحاكم في مستعمرة الجزائر) مقتنع شخصياً أن هذا لا يتجاوز كونه إنذار كاذب. كما يصر البيرقراطي الأدنى منزلة "ريتشارد" أنه لا يجب أن يسمى المرض بالطاعون رسمياً، لكن يشار إليه بأحد أنواع الحمى فقط. لكن مع زيادة وتيرة عدد الوفيات، يرفض الطبيب المحلي ذلك التعبير الملطف. يضطر عندئذ القادة لاتخاذ إجراءات صارمة.

يحمّل كامو السلطات مسؤولية الحد من انتشار الوباء. في حين أنه لا سبيل إلى إنكار الأدلة على وجود المرض، فأن رد الفعل السلبي أكثر خطورة من رد الفعل المفرط. يوضح كامو أن الجميع لديهم هذه النزعة، نشترك في هشاشتنا الإنسانية. يقول "يعلم الجميع أن الأوبئة لديها طرق خفية لتكرار وجودها، لكننا وعلى نحو غامض نجد صعوبة في تصديق وجود ذلك البلاء الذي يهوي على رؤسنا من سماءٍ زرقاء".

سرعان ما تُغلقُ المدينة، ويُفرض الحجر الصحي. حيث يعزل سكان وهران عن بعضهم وعن العالم الخارجي. يقول الراوي "أول ما أحضره لنا الطاعون كان المنفى". بعد إغلاق بوابات وهران يعلقُ صحفي يدعى رامبر هناك، يلجأ الصحفي إلى الطبيب ريوكس ليعطيه شهادة صحية تمكنه من العودة إلى زوجته في باريس، إلا أن الطبيب لا يتمكن من مساعدته. يقول له الطبيب "هناك آلاف العالقون مثلك في هذه البلدة".  يشعر رامبر كسائر سكان هذه البلدة بعدم جدوى الخوض في محنته الشخصية، وذلك لأن الطاعون يمحو "خصوصية حياة الأفراد" حتى مع زيادة وعي الأفراد بمدى وهنهم وعجزهم عن التخطيط للمستقبل.

هذه الكارثة جماعية، يقول كامو: "تصبح احتمالية انفصالك عمن تحب، شعورًا طبيعيًا يتقاسمه الجميع على حد سواء". هذا الكرب بالإضافة إلى الخوف يصبح "أعظم مأساة تواجهنا في مدة العزل التي تنتظرنا". يمكن لأي شخص اضطر مؤخرًا إلى إلغاء رحلة عمل أو فصل دراسي أو حفلة أو عشاء أو إجازة ، أو لمِّ الشمل مع محبوب، أن يشعر بعدالة إبراز كامو للتداعيات العاطفية بوقت الطاعون: مشاعر الخوف، العزلة، فقدان السلطة. وهذا هو "التاريخ الذي يمرُّ عليه المؤرخون العاديون مرور الكرام" والذي يدونه كامو في روايته. وما تدونه رواية فيروس كوفيد 19 حاليا أيضا على الحياة المدنيّة.

إذا كنت قد قرأت رواية الطاعون منذ عهد بعيد، ربما في أحد فصول الجامعة، فمن المحتمل أنك تأثرت بالعذاب الجسدي الذي وصفه الروائي ببراعة وعلى نحوٍعميق، ربما أنك كنت قد انتبهت أكثر إلى الأدغال والحفر الجيرية، عوضاً عن "الحمى المتفاقمة" التي تحاصر المرضى في فقاعة الوباء. المرضى الذين حاربوا شعورهم بالعزلة من خلال ارتداء الملابس، والتجول بلا هدف على طول شوارع وهران، ويخرجون إلى المطاعم، متهيئين للهرب في حالة سقوط أحد رفاقهم أثناء العشاء. "محاصرون بالرغبة المحمومة للحياة، التي تأخذ بالازدهار بدواخلهم في قلب كل كارثة كبيرة". لكن وفي سبيل إراحتكم، مواطنو طهران لم يكن لديهم موارد عالمية كالموارد التي بحوزتنا الآن. في أي مدينة نبحث عن المجتمع في الواقع الافتراضي، مع استمرار الوباء واستقراره في هذا العصر الرقمي، هذا يقدم لنا دليلًا جديدًا على الرؤية الحادة التي يتمتع بها كامو للخلفية العاطفية من العدوى.

في وقتنا هذا، فإن المصابين بالطاعون معزولون بعالم خاص بهم، بسماتهم المميزة يعيدون تلوين صورة كامو. ونحن ذاهبون إلى البقالة نهمل وبشكل متعمد كل النصائح المنتشرة بجنون في مواقع التواصل الاجتماعي، لا نلقي لها بالاً، غسل أيدينا، وعدم المصافحة، وأخيرا "التباعد الاجتماعي" يمكننا ممارسة حياتنا عن بعد، والعمل عن بعد، وذلك كله من أجل تجنب الإصابة أو نقل العدوى. يمكننا تجنب المهرجانات والحفلات الموسيقية والمطاعم. لكن إلى متى؟ كامو يجيب عن هذا: "لا يمكننا أبداً أن نعرف".

الرجال والنساء الذين عاشوا في وقت الاضطراب منذ نحو قرن مضى، والذى سعى كامو لإعادة توضيح وتصوير الويلات التي جبروا على التعايش معها من خلال روايته الساحرة. جل ما ينبغي لنا التأكد منه هو استحالة استمرار هذا الوضع إلى الأبد. ستنجلي غمامة هذا الفيروس اللعين وينحسر لا محالة. كما أننا نأمل ألا تكون هناك فيروسات أخرى شبيهة له لكنها آتية رغم أنوفنا. وعندما تفعل سنحاربها بقراءة هذا العمل كما نفعل الآن، ونقرأ أنه حذرنا من هذا منذ زمن خلا وحثنا على تفسير"الظواهر المحيرة" تفسيرًا صحيحًا وعاجلًا. يقول كامو "مرّت على هذه الأرض أوبئة كثيرة بكثرة الحروب لكنها دائما ما تفاجئ الناس كما تفعل الحروب".


ليزل شيلينجلر: ناقدة ومترجمة وتدريسية.
ترجمة: شوق العنزي.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.




الاثنين، 23 مارس 2020

ماذا سيحدث بعد فيروس كورونا؟


عن ذاكرة المجتمع وتكرار أخطائنا. 
يان ليانكه.
ترجمها عن الإنجليزية من موقع lithub: مؤمن الوزان.

في الحادي والعشرين من شهر شباط/ فبراير، ألقى يان ليانكه، أستاذ مادة الثقافة الصينية، وأستاذ كرسي في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتقنية لطلاب المرحلة الأخيرة حول فيروس كورونا، وذاكرة المجتمع، وكيف سيتحدث الرواة عن هذا التفشي. 

طلابي الأعزاء..
اليوم نبدأ أول محاضرة إلكترونية. ولكن اسمحوا لي قبل هذا أن استطرد قليلا.
عندما كنت صغيرا، حين ارتكب خطأً مرتين أو ثلاث مرات تواليا، يجرني والديَّ قُبالتهما ويشيران إلى جبهتي ويسألاني:
"لماذا أنت كثير النسيان؟".

أثناء حصص اللغة الصينية، حين أفشل في تلاوة نص أدبي بعد أن أقرأه مرات لا تحصى، يأمرني معلمي أن أقف ويسألني أمام الجميع: 
"لماذا أنت كثير النسيان؟".

القابلية على التذكر هي التربة التي تنمو فيها الذكريات، والذكريات ثمار هذه التربة. إن الاحتفاظ بالذكريات والقابلية على تذكرها هما الفارقان الجوهريان بين البشر والحيوانات والنباتات. وهما أول متطلبات لنضجنا وبلوغنا. أشعر في مرات عديدة أنهما حتى أهمُّ من الأكل، وارتداء الملابس، والاستحمام- عندما نخسر ذكرياتنا، سننسى كيف نأكل، أو نفقد قدرتنا على حرث الحقول. سننسى أين ملابسنا حين نستيقظ في الصباح. 
لماذا أتحدث عن هذا اليوم؟ بسبب فيروس كورونا Covid-19 -الكارثة الوطنية والعالمية- الذي لم يُحتوَ حقًا؛ عوائل ما زالت ممزقة، ويتعالى عويل قلوب موجوعة عبر هيوبي، ووهان، وأماكن أخرى، ومع ذلك فأغاني النصر سلفا يتردد صداها في كل مكان. كل هذا لأن الأعين تحدق إلى الإحصائيات. 
لم تبرد الجثامين بعد، والناس ما زالت في حداد، ومع ذلك، تُغنى أغاني النصر سلفا، والناس مستعدة لتصرح "يا له من نصر عظيم وحكيم". 
منذ اليوم الأول الذي دخل Covid-19 إلى حيواتنا وحتى الآن، لا نعلم العدد الفعلي للناس الذين خسروا حيواتهم بسببه- كم عدد الذين ماتوا في المستشفيات، وكم عدد الذي تُوفوا في الخارج. لا نملك حتى فرصة التحقيق والسؤال عن هذه الأمور. والأسوأ أن أسئلة كهذه قد تنتهي بمرور الوقت، وتبقى إلى الأبد غامضة. سنُورِّثُ أجيال المستقبل حياةً فوضوية متشابكة وموتًا، لا يملك أي امرئ ذكرى عنهما.
عندما يتوقف التفشي في الختام، لا يجب أن نكون مثل آنت شيانغلن (شخصية خيالية في رواية لو شيون، فلاحة متواضعة وحمقاء عالقة في الإقطاعية) التي تحدر بكلامها على الدوام: "أعلم أن وحوش البرية ستجوس القرية خلال الشتاء عندما لا يكون ثمة ما تأكله في الجبال، ولا أملك أدنى فكرة إذا حدث ذات الأمر وقت الربيع". وكذلك لا يجب أن نكون مثل أه كيو (شخصية خيالية في رواية لو شيون، يخدع نفسه بأنه ناجح وأفضل بكثير من الآخرين) ونصرُّ مرارا وتكرارا بأننا منتصرون حتى بعد أن نُضرب، ونُهان، ونكون على شفا حفرة من الموت. 
في الوقت الذي لا تمنحنا الذكريات القوة على تغيير الواقع، بإمكانها في الأقل أن تثير تساؤلا في قلوبنا عندما تُصادفنا كذبة. في ماضي وحاضر أوقات حياتنا، لماذا تقع المصائب والمآسي دائما على الفرد، والعائلة، والمجتمع، والعصر، أو البلد، واحدا تلو الآخر تباعًا؟ ولماذا يُدفع ثمن مصائب التاريخ دائما من أرواح عشرات آلاف الناس العاديين؟ 
وسط عدد لا يحصى من العوامل التي لا نعرفها عن أنفسنا، ولا نسأل عنها، أو طُلب منا ألا نسأل (وبطبيعة الحال أنصتنا مطيعين) ثمة عامل واحد نعرفه -نحن البشر، الذين جميعا كائنات نكرة مثل النمل- هو أننا كائنات كثيرة النسيان. 
نُظِمت ذكرياتنا على الحذف والاستبدال. نتذكر ما طلب الآخرون منا أن نتذكره وننسى ما طُلب منا أن ننساه. ونبقى صامتين عندما يُطلب منا ذلك، ونخضعُ للسيطرة. أصبحت الذاكرة أداة العصر. تُستخدم في تشكيل الذكريات الجمعية والوطنية، وتجعلنا نتذكر ما طُلب منا تذكره أو ننسى ما أمرنا نسيانه.
تخيّل هذا: دعونا لا نتحدث عن الكتب القديمة التي علاها الغبار التي أصبحت شيئا من الماضي؛ ونتذكر الوقائعَ الأحدثَ خلال السنوات العشرين الماضية. الأحداث التي خبرها ويتذكرها أناس مثلكم، صغار ولدوا في التسعينات والثمانينات، مثل السارس والأيدز وكورونا- هل هي كوارث من صنع الإنسان أو كوارث طبيعية يقف الإنسان عاجزًا قُبالتها، مثل الهزات الأرضية في تانغشان وينتشوان؟ ثم لماذا العوامل البشرية في النمط المُشكل للمصائب الوطنية متشابهةٌ فعليا؟ لا سيما منذ وباء سارس قبل 17 سنة، والتفشي المتفاقم الحالي لوباء كورونا، اللذين يبدوان أنهما عملا مُخرجِ المسرح نفسه؟ 
ذات المأساة يعاد تمثيلها قُبالة أعيننا. نحن، بشرٌ ليسوا سوى غبار، غير قادرين على اكتشاف هوية هذا المخرج. ولا نملك الخبرة لنستعيد أفكار كاتب السيناريو وخططه وإبداعاته. لكن قبل أن نقف قبالة إعادة تمثيل "مسرحية الموت" هذه مجددا، ألا يتوجب علينا أن نسأل أنفسنا في الأقل عن ذكرياتنا بخصوص آخر مسرحية كنا جزءًا منها؟ 
من محا ذكرياتنا ومسحها ونظّفها؟ 
البشر كثيرو النسيان، في جوهرهم،  تربةٌ في الحقول وعلى الشوارع. يُشكلون بدوسة حذاء عليهم بالطريقة التي تُسعدهم. 
البشر كثيرو النسيان، في جوهرهم، أكوام خشبية وألواح، قُطعوا عن الشجرة التي منحتهم الحياة. والفؤوس والمناشير هي المسؤولة الكاملة عما أصبحوا عليه في المستقبل. 
بالنسبة لنا، نحن الأشخاص الذين يضيفون معنى إلى الحياة بسبب حب الكتابة، والأشخاص الذين يرغبون بعيش كامل حياتهم معتمدين على هذه الشخصيات الصينية، وطلاب الدراسات العليا في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتقنية المتواجدون على الإنترنت حاليا، وكذلك بالطبع المؤلفون المتخرجون أو الذين ما زالوا يدرسون في فصل الدراسات العليا للكتابة الإبداعية في جامعة رينمين في الصين- إذا تخلينا عن ذكرياتنا حول سفك الدماء والحياة، ما معنى الكتابة بعد هذا؟ ما قيمة الأدب؟ لماذا يحتاج المجتمع إلى الكتّاب؟ كيف تختلف كتابتك اللا متوقفة والعديد من المؤلفات التي كتبتها، عن الدمية المُسيطَر عليها من قبل الآخرين؟ إذا كان الصحفيون لا ينقلون ما يشهدونه، والمؤلفون لا يكتبون عن ذكرياتهم ومشاعرهم، والناس في المجتمع الذين يستطيعون الكلام ويعرفون كيف يتكلمون دائما ما يرددون ويقرأون ويصرحون بتصويب سياسي غنائي نقي، من الذي يمكنه أن يخبرنا ما معنى أن نعيش على الأرض كائناتٍ من لحم ودم؟ 

تخيل: لو أن المؤلفة فانغ فانغ (Fang Fang) لم تكن موجودة في يوم ووهان، فإنها لم تكن لتستمر في تسجيل أو تدون ذكرياتها الشخصية ومشاعرها. ولو لم يوجد هناك عشرات الآلاف من الناس مثل فانغ فانغ ليصرخوا بعالي صوتهم طلبًا للمساعدة عبر هواتفهم النقالة. هل كنا سنسمع؟ هل كنا سنرى؟ 
في خضمِّ السيول الجارفة لعصرنا، فغالبا ما تعامل ذاكرة المرء مثل هدير وأمواج وزبدٍ زائد عن الحاجة، يمحوها عصرنا أو يرميها بإهمال جانبًا مُخرسًا إياها بأصواتها وكلماتها كما لو أنها لم تكن موجودة قط. للأسف، بمرور عصر ما، فإن كل شيء يتلاشى إلى النسيان، ويختفي الجسد والروح. كل شيء يكون على ما يرام، ونقطة ارتكاز الحقيقة الصغيرة التي يمكنها أن تنتشل العالم- ضائعة. وهكذا يصبح التاريخ مجموعة أساطير القصص المتخيلة الضائعة، لا أساس لها من الصحة ولا مبرر. استنادًا إلى هذا المنظور، فما أهمُ أن نكون قادرين على التذكّر، وأن نمتلك ذكرياتنا الخاصة التي لا يُمكن أن تحذف أو تُنقَّح. ويبقى هذا أقل مقدار من التأكيد والبيّنة التي بإمكاننا تزويدها عندما نتحدث عن حقيقة صغيرة. هذا مهم ولا سيما لطلاب فصل الكتابة الإبداعية هذا. قرر غالبيتنا أن يكرس حياته للكتابة، والبحثَ عن الحقيقة، والعيشَ بصفته شخصًا عبر ذكرياتنا. إذا جاء يوم وخسر أناس مثلنا حتى أحقر مقدار من الأصالة والذكريات، هل ستبقى وقتها أصالة وحقيقة شخصية وتاريخية في العالم؟ 
في الحقيقة، حتى لو لم تستطع ذكرياتنا فعل شيء لتغيير الواقع أو العالم، فإن بمقدورها في الأقل مساعدتنا على تبيين أنَّ شيئا ما خطأ عندما نواجه "الحقائق" المركزية والمُنظَّمة. سيقول صوت خفيض في داخلنا: "هذا ليس صحيحا!". في الأقل، قبل الوصول الحقيقي إلى نقطة التحول للانتشار، سنبقى قادرين على سماع وتذكر ندب وعويل الأفراد، والعوائل، والمهمشين وسطَ أغانٍ انتصارية ومُحتفلَةٍ مُخرسة. 

لا يمكن للذكريات تغيير العالم لكنها تمنحنا قلبًا حقيقيًا.

آمل من كل فرد منكم، كلنا الذين خبرنا كارثة كورونا أن نصبح من الناس الذين يتذكرون، والذين يستخلصون الذكريات من الذاكرة. 

في الوقت الذي لا تمنحنا الذكريات القوة على تغيير الواقع، بإمكانها في الأقل أن تثير تساؤلًا في أفئدتنا عندما تصادفنا كذبة. إذا كان ثمة مصيبة كبرى أخرى آتية يوما ما، ويعود الناس إلى استخدام الأفران في الفناء الخلفي، فإن من الممكن في الأقل إقناعنا على أن الرمل لن يتحول إلى حديد، وأن إنتاجية غرامٍ واحد لن تزن مئة كيلو غرام. سنتعلم في الأقل بأن هذه هي أهم الأسس العقلانية المشتركة، وما من معجزة وعي مُنتجة للمادة، ولا هواء خالقٍ للطعام. إذا كان ثمة ثورة ثقافية أخرى من نوع ما، فإننا جميعا في الأقل سنكون قادرين على ضمان أننا جميعا لن نلقي والدينا في سجن أو نضعهم على المقصلة. 

طلابي الأعزاء، كلنا طلاب آداب سنقضي من المحتمل أعمارنا بأكملها في التعامل مع الواقع والذكريات من خلال اللغة. دعونا لا نتحدث عن الذكريات الجمعية، أو الذكريات الوطنية، أو ذكريات عِرقنا، بل عن ذكرياتنا الخاصة، لأن الذكريات الوطنية والجمعية في التاريخ دائما ما تُغلِّف وتغيّر ذكرياتنا نحن. اليوم، في هذه اللحظة، عندما لا يزال فيروس كورونا بعيدا عن أن يكون ذكرى، بإمكاننا سلفا سماع أغاني النصر، وصرخات المنتصر صاخبة في كل مكان حولنا. وبسبب هذا، آمل منا جميعا، ومن كل فرد منا خَبرَ كارثة فيروس كورونا أن يكون من الناس الذين يتذكرون، الناس الذين يستخلصون الذكريات من الذاكرة.
في المستقبل المتوقع القريب، عندما تحتفل الأمة بالموسيقى والأغاني بانتصارها في هذه المعركة الوطنية ضد فيروس كورونا؛ آملُ أن لا نصبح فارغين وكتّابًا مجوَّفين يرددون على طول، لكن أناسًا نعيش بشكل أصيل مع ذكرياتنا فحسب. عندما تتهيأ الأرضية للأداء، آمل بأننا جميعا لن نكون جزءًا من الممثلين أو الرواة على خشبة المسرح، أو جزءًا من أولئك الذين يصفقون لأنهم جزء من الأداء- آمل أن نكون أولئك الأفراد المحتجزين المحرومين الذين يقفون في أبعد زاوية من خشبة المسرح، ينظرون بصمت وتملأ الدموع أعيننا. 
إذا كانت موهبتنا وشجاعتنا وقوتنا العقلية غير قادة على تحويلنا إلى كاتب مثل فانغ فانغ، 
فلا يجب أن نكون من بين الناس والأصوات التي تُشكك وتسخر من فانغ فانغ. في خضمِّ العودة الأخيرة إلى حالة الهدوء والازدهار المحيط بنا عبر أمواج الأغاني، إذا لم يكن بمقدرونا أن نسأل عن مصدر وانتشار فيروس كورونا، فإنه يمكننا أن نتمتم ونهمهم بلطف، وهذا أيضا عرض لوعينا وشجاعتنا. كتابة القصائد بعد مرحلة معسكر تجميع أوشفيتز النازي كان فعلا بربريا، لكن الأكثر بربرية إذا اخترنا بسهولة أن ننساه في كلماتنا، وفي حوارتنا، وفي ذكرياتنا- هذا في الحقيقة أكثر بربرية وإرعابًا. 
إذا لم نتمكن أن نكون نافخي صفّارة مثل لي وينليانغ (طبيب صيني حذّر زملائه من فيروس كورونا في كانون الأول سنة 2019)، لنكن في الأقل الشخص الذي يسمع ذاك الصفير. 
إذا لا يمكننا الحديث بصوت عالٍ، دعونا نكون المصفِّرين، دعونا نكون أناسًا صامتين يملكون ذكرياتهم. لقد خَبرنا بداية وانقضاض وانتشار فيروس كورونا، دعونا نكون الناس الذي يخطون على جانب الطريق حين يتجمع الحشد ليغني أغنية النصر بعد ربح المعركة- الناس الذين يملكون قبورا في قلوبهم محفورةً ذكرياتٌ فيها هم الذين يتذكرون وبمقدورهم يوما ما أن ينقلوا هذه الذكريات إلى أجيالنا المستقبلية. 




الاثنين، 9 مارس 2020

فرجينيا وولف: لماذا نقرأ؟ وما أوجه الشبه بين أعظم الأعمال الأدبية؟

بقلم: ماريا بوبوفا. 
 
"تترابط عقولنا، نحن البشر، بعضها ببعض. فكل عقل متقد اليوم يحاكي عقولاً عظيمة كانت موجودة فيما مضى، أمثال "أفلاطون" و "يوربيديس"، إذ يمثل  تطوراً واستمرارية للشيء ذاته. إنه ذلك الفكر المشترك الذي يربط العالم بأسره. فالعالم -في جوهره- ليس سوى فكر".
لقد أدرجت  "باتي سميث"(1) ضمن قائمة المعايير التي وضعتها لتصنيف الروائع الأدبية، قدرة هذه الأعمال على سحر قارئها إلى الحد الذي يشعره بضرورة إعادة قراءتها مرة أخرى. في حين عدَّت "سوزان سونتاغ"(2) أن عملية إعادة القراءة تلك هي بمثابة ولادة جديدة للنص. وأظنني  أُوافقهما الرأي في ذلك، عن طيب خاطر، لأنني أواظب على قراءة رواية "الأمير الصغير"(3) مرة في كل عام. إذ أجدها تبوح لي، في كل قراءة، بمعانٍ جديدة، ومرمِمات وجودية لكل ما يمكن أن يعكر صفو حياتي في تلك اللحظة.
قد نلجأ، نحن القراء، إلى إعادة قراءة بعض الأعمال المحببة إلينا لأننا ندرك عدم استمرارية  التجارب الإنسانية، بالإضافة إلى آنية تلاقي الحالات والظروف التي تكوّن الذات البشرية في أية لحظة من الزمن. ناهيك عن إدراكنا  لتطور شخصياتنا في العام المقبل، إذا ما قُوبلت بها في العام الفائت، لتغدو أكثر نضجاً في مواجهة كل التحديات، والآمال، والأولويات إذ تصبح ذاتاً جديدة مختلفة كلياً عنها فيما مضى.

كانت "فرجينيا وولف " في الحادية والعشرين من عمرها حين سجلت هذا الاعتراف، بصفاء ذهني لا يضاهى، وألقٍ لغوي فريد. ففي صيف عام 1903، انزوت "وولف" بعيداً عن صخب مدينة لندن،  لتذهب في إجازة قضتها بين رحاب وخضرة الريف الإنجليزي، لتستمتع بعزلتها وتقرأ ما يحلو لها. 
 ربما بلغت قراءتي خلال هذه الأسابيع الثمانية في الريف، ما يفوق ما أقرأه في ستة شهور أثناء وجودي في لندن.
في غضون تلك الرحلة الاستجمامية مزدوجة الفائدة والتي حققت فيها مكسب القراءة والتأمل، وصلت "وولف" إلى اكتشاف السبب الحقيقي الذي يجعلنا نقرأ، بالإضافة إلى ما يمكن للكتب أن تقدمه للروح الإنسانية، وكيف لها أن تمهد لما أسمته "إيريس مردوك "(4): ’فرصة للتجرد من الأنانية‘. وكيف يمكن للكتب أن تؤدي براعتها المذهلة في كونها تنشأ عن ذهن شخص معين، لتتمكن من الوصول -بهذه الحميمية-  إلى آلاف أو ربما ملايين الأشخاص عبر الزمان والمكان، في عملية تداخل بين مختلف المشاعر، ضمن تجربة تشاركية واسعة.

في الأول من تموز/ يوليو، كتبت "وولف" في مذكراتها: 
إضافة إلى الكتابة، فإنني أقرأ الكثير. بيد أن الكتب هي أكثر الأشياء التي أستمتع بها. 
في بعض الأحيان، أشعر بأجزاءٍ من دماغي تتسع وتكبر أكثر فاكثر، وكأنها تنبض بدم متجدد، بشكل أسرع من ذي قبل. وليس هنالك شعور أكثر لذة من هذا الشعور. أما حين أقرأ التاريخ، فكل شيء يصبح -على حين غرة- نابضاً بالحياة، ومتفرعاً جيئة وذهاباً، ومرتبطاً بكل أشكال الأشياء التي كانت بعيدة في الماضي. وكأنني أشعر، على سبيل المثال، بتأثير "نابليون" على أمسيتنا الهادئة  في الحديقة. لأرى كيف تترابط عقولنا، نحن البشر، بعضها ببعض. فكل عقل متقد اليوم يحاكي عقولاً عظيمة كانت موجودة فيما مضى، أمثال "أفلاطون" و "يوربيديس"، إذ يمثل تطوراً واستمرارية للشيء ذاته. إنه ذلك الفكر المشترك الذي يربط العالم بأسره. فالعالم -في جوهره- ليس سوى فكر. 

في وقت لاحق من حياتها كتبت "وولف" في وصفها الرائع لإدراك معنى أن تكون مبدعاً:
ثمة مثال يكمن خلف كل حالة ضبابية. هذا العالم عبارة عن عمل إبداعي. لا وجود لـ "شيكسبير"  فنحن الكلمات في أعماله، أو "بيتهوفن" فنحن الألحان في موسيقاه، ولا لإله فنحن الشيء بعينه. 

بعد بلوغها الحادية والعشرين من العمر، تمكنت " فرجينيا " من إدراك آنية هذه اللمحات الجزئية للحقيقة، وكيف يمكن لهذا الشعور بالانتماء الداخلي أو ذاك الشعور بالكينونة أن ينزلقا من بين أيدينا. وتكمل "وولف" تدوين ذات المذكرات التي كتبتها في عام 1903 بلفتة رشيقة من إدراكها أن "العالم بأسره ليس سوى فكر" إلى ذاك الهروب المألوف للمعنى، حينما تجتاحنا تلك الحالة الضبابية لتحيلنا غرباء مرة أخرى:
ثم أقرأ قصيدة تقول: ذات الشيء يتكرر. لأشعر أنني تمكنت من القبض على المعنى الجوهري للعالم، وكأن كلَّ هؤلاء الشعراء والمؤرخين والفلاسفة يتبعون طرقاً تتفرع عن ذاك المركز، حيث أقف ليعتريني بعض الاضطراب بعدها، فيؤول كل شيء إلى الخطأ من جديد. 

وبعد أكثر من عقد من الزمن، كررت "وولف" وجهة النظر ذاتها في واحدة من مقالاتها الاستثنائية التي كتبتها في غضون عملها ناقدةً في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز البريطانية، والتي جُمعت مؤخراً في كتاب بعنوان "نبوغ وحبر (مقالات  للكاتبة فرجينيا وولف عن كيفية القراءة)" هذا الكتاب الذي كنت سأدرجه -بكل شغف- ضمن قائمة كتبي المفضلة لهذا العام (2019) لو كنت من أولئك الذين يفضلون إعادة قراءة الروائع الأدبية المحببة لقلوبهم.

كما هو حال الشاعرة البولندية الحائزة على جائزة نوبل للأدب "فيسوافا شيمبورسكا" التي اتسم نقدها التأملي بكونه يوظف الكتب نقطةَ انطلاقٍ لتأملات سامية حول الفن والحياة أكثر من كونها نماذج للمراجعة أو النقد. تعامل "وولف"  كل كتاب تراجعه كحجارة سقطت من جيب معطفها في نهر الحياة(5). إذ ترصد الصيغة الأساسية للعمل ثم تراقب حلقات الإدراك التي تتنامى وتترقرق في نهر الوعي. في أولى مقالاتها من تلك السلسلة التي تناولت فيها روايات الكاتبة "تشارلوت برونتي" تبنت "وولف" وجهة نظر عميقة حول نشأة الروائع الأدبية، والذي نعاود الرجوع إليه مراراً وتكراراً: 
ثمة ميزة تتشارك بامتلاكها الأعمال الأدبية الحقيقية كافة، ففي كل قراءة لها يلاحظ القارئ تغييرات طفيفة. كما لو أن نسغ الحياة يجري في أوراقها. أو أنها تمتلك -كما هو حال السماء والنباتات- القدرة على تغيير شكلها ولونها بين فصل وآخر. إن تدوين انطباع القارئ حول مسرحية "هاملت"  بعد قراءتها في كل عام من شأنه أن يصبح أشبه بسيرة افتراضية لكاتبها. فكلما ازدادت معرفتنا للحياة؛ كان لدى "شيكسبير" تعقيبٌ على ما عرفناه.
 
_____
1. باتي سميث: كاتبة ومغنية أمريكية.
2. سوزان سونتاغ: ناقدة و مخرجة وروائية أمريكية (16 يناير 1933 - 28 ديسمبر 2004).
3. الأمير الصغير:  رواية للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري. 
4. إيريس مردوك: فيلسوفة وناقدة إيرلندية.
5. يقصد بها الإشارة إلى حادثة انتحار فرجينيا وولف، حيث ملأت جيوب معطفها بالحجارة وألقت بنفسها في نهر أوز.

ترجمة: دلال الرمضان. 
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.



افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب