المشاركات الشائعة

الجمعة، 26 يونيو 2020

يوليسيس - جيمس جويس (المقال الثالث)


مؤمن الوزان.


في يوم واحد 


تدور أحداث يوليسيس في يوم واحد، هو يوم الخميس المصادف السادس عشر من حزيران/ يونيو عام 1904، وهو تاريخ أول موعد جمع جيمس جويس بزوجته المستقبلية نورا بارانكل، وسُمي هذا اليوم لاحقا بعد نشر يوليسيس بـ Bloomsday الذي يحتفل قرَّاء جويس ومحبوه في بلدان كثيرة وفي مقدمتها بلده الأم إيرلندا بجيمس جويس، يقرأون فيها مقاطع من رواياته ولا سيما يوليسيس. 


نورا بارانكل


وبالعودة إلى عالم يوليسيس فإن هذا اليوم بمدته القصيرة التي تبتدئ في الثامنة صباحًا وتنتهي إلى الثانية بعد منتصف الليل من يوم فجر الجمعة (باستثناء مونولوج موللي في الحلقة الثامنة عشرة  إذ لم يحدد الزمن فيه ويبدأ بعد الثانية صباحا) تعارض في قصرها طولَ المدة التي غاب بها أوديسيوس عن إيثاكا البالغة عشرين عامًا، عشرٌ منها في رحلة العودة (الزمن المقصود بالمحاكاة). هذه المدة القصيرة هي تحمل في طياتها الكثير فيما يخص فن الرواية والزمن الروائي، الذي عمل جويس في يوليسيس على جعل عمله موازيًا لأحداث اليوم الواقعي العادي تنقلًا وحديثًا ووقائعَ مُدرجًا كل شيء في مخلوقه الأدبي. 

إن زمن العمل الذي يمتد من الثامنة صباحًا إلى الثانية فجرًا، هو في الحقيقة مختلفٌ عن الزمن الفعلي للمادة المسرودة* لأنه يشمل الحلقات الثلاثة الأولى التي تبدأ من الثامنة صباحًا إلى الثانية عشر ظهرًا، ثم يبدأ العد مجددًا في الحلقة الرابعة من الثامنة صباحًا إلى الثانية بعد منتصف الليل للحلقة السابعة عشر (الحلقة الثامنة عشرة بعد الثانية صباحا) ليكون الزمن الفعلي الذي دارت فيه الأحداث هو 22 ساعةً في مدينة دبلن (الساعات الأربع الأولى تضاعفت عبر الزمن المشطور والمتوازي بين ستيفن وبلوم)، إن معرفة الزمن الفعلي ليوليسيس يساعدنا في إدراك التوازن ما بين المادة المسرودة والزمن الذي يوازيها والمحتاج إليه ليتحقق التوازن بين الزمن والسرد.

 

ما الذي أراده جويس في هذا الزمن الروائي الذي قسّمه على ثمانية عشر حلقة؟ 

تبدو الإجابة عن هذا السؤال ذات فروع كثيرة لكني أرى أن أهمَّها: 


- مدة الزمن المُختارة لا تخرج من التجديد في فن الرواية التي يزخر بها هذا العمل، في الواقعية العادية التي اختارها جويس في إكمال افتتاح عصر الحداثة، فكل شيء في العمل يشير إلى العادية ابتداءً من الشخصيات العادية غير المميزة إلى المكان الواقعي (دبلن) جدًا إلى الزمن الذي خصصه في يوم واحدٍ تقريبًا. تعامل جويس مع الزمن لم يكن في منأى عن ربطه الدقيق مع حجم المادة المسرودة التي تتزامن أو تتطابق تقريبا من الزمن وكذلك مع تعدد الشخصيات التي تناولها العمل. فالسرد الذي دار في الحلقة السادسة أثناء الرحلة يتناسب مع الزمن المستغرق للوصول إلى موقع الجنازة والحديث الدائر داخل العربة، فهو لم يكن بالسرد القصير ولا المطوّل، ولم يغفل جويس عن ذكر الطرق التي مرَّت العربة فيها أو النقاط التي تصل إليها، كي لا يغفل القارئ عن الربط بين الزمن وتوازيه مع حجم مادة السرد وليبقى شاعرًا وحاسًا بالعربة وركّابها كأنه واحدٌ بينهم. هذا التعامل الذي يوازن ما بين الزمن والسرد في الرواية من جهة وبين الزمن الحقيقي والكلام في الحياة الواقعية من جهة- إحدى التجديدات الثورية في الزمن والسرد الروائيين في رواية الحداثة لذا فلا يمكن لنا أن نغفل عن هذه النقطة الخاصة بالزمن التي تقودنا إلى النقطة الثانية.


- إن اختيار الزمن في يوم واحد تقريبًا محاكاة ساخرة (Parody) لرحلة عودة أوديسيوس وأن ما حدث في عشرة أعوام قد اُختُزلَ في يوم واحد تقريبا. الأوديسة في العمل ليست مجرد مُلهم ومثال يتَّبع في هيكلة يوليسيس بل هي أيضًا مادة للتهكم سواء في خلق عالمٍ موازٍ لعالم أوديسيوس المتخيل المليء بالآلهة لكنّه عالمٌ واقعي بلا أبطال ولا آلهة فشخصياته شخصيات عادية لا تتمتع بالفضائل الكثيرة، أو في التوازي والمحاكاة لكنها محاكاة وإن بدت جدية ففي داخلها النَفَس الهازئ كالمواطن الذي يلعب دور السيكلوب ذي العين الواحدة، أو هلوسات ماخور بيلا كوهين مع ما فعلته سيرسي بأوديسيوس ورفاقه، أو الخدمة التي يقدمها بلوم لزوجته تُذَكِّر بالحبس بالسنوات السبع لأدويسيوس في جزيرة كاليبسو. 

إن الزمن لا يخرج من هذه المحاكاة (اقتفاء أثر أو بارودية)، فالزمن هو الحاضن للحدث والشخصيات والمكان، وهو في يوليسيس زمن مقتطع أكثر مما هو زمن خاص كامل. 


- يقرأ الواحد يوليسيس لكنه يجد نفسه في حضرة عالم كامل ومحظور عليه أن يعرف ما حدث في الأمس أو ما سيحدث في الغد إلا ما تشير إليه الشخصيات وتبقى معرفته قاصرة على الأحداث الواقعة في الزمن المذكور فقط. ولأن مشهد العربة في الحلقة السادسة من أكثر المشاهد التي شعرت بها في مخلوق جويس، فسآخذها مثالًا عن هذه النقطة، يصعد بلوم العربة مع بَوَر ومارتن كننغهام والمستر ديدالوس، هذا الرباعي الذي يجتمع داخل العربة المتوجهة إلى جنازة دغنام، هو رباعي يعرف بعضه بعضًا، لكن القارئ لا يعرف متى التقوا أول مرة وكيف عرفوا بعضهم بعضًا إو الذي يربطهم، وحتى الشخصيات نفسها فنحن لا نعرف عنها الكثير إلا ما يرد في النص إيجازًا أو تفصيلا. تستمر نقاشاتهم أثناء الطريق هكذا بشكل طبيعي دون أي توضيح أو تفصيل عن العلاقة الرابطة بين هؤلاء، وجويس هنا يفترض أن القارئ سلفًا يعرف هؤلاء، صحيح أن بعض الشخصيات ترد في أعمال سابقة لجويس كقصص أهل دبلن، وصورة الفنان في شبابه، إلا أن ما يزيد من قوة هذه النقطة هو قصر الزمن المُختار، إذ أحداث هذا اليوم شبيهة بخلع ورقة من منتصف كتابٍ، هذه الورقة هي الزمن في العمل وأما الكتاب فهو حياة هذه الشخصيات بكل ما تحمله من أحداث ومجريات ووقائع.


______

* الزمن الفعلي للمادة المسرودة: هو الزمن المطلوب لإتمام الأحداث المسرودة والواقعة في وقت واحد، والذي يختلف عن الزمن الحقيقي المكوّن لليوم الواحد والمقدر بـ 24 ساعة. فلو وقع حدثان في وقت واحد واستغرق كل حدث ساعتين مثلًا، وكان وقت حدوثهما من الثامنة إلى العاشرة صباحا، فإن زمن وقوع الحدثين هو ساعتين فقط لأنهما حدثا بوقت واحد (8-10 صباحا)، لكن الزمن الفعلي الكلي لهما هو أربع ساعات (إذ كل حدث يحتاج ساعتين حتى يتم). لا يختلف الأمر مع الزمن الفعلي للأحداث التي تقع في وقت واحد في الحلقات من 1 إلى 3، وفي الحلقات من 4 إلى 6، فالحلقات (1 - 3) تبدأ منذ الساعة الثامنة صباحا وتنتهي في الثانية عشرة ظهرا، والحلقات (4 -6) تبدأ من الثامنة من صباحا وتنتهي في الثانية عشرة ظهرا، ثم يمضي الزمن في الحلقات اللاحقة من الثانية عشر من ظهر الخميس إلى ما بعد الثانية صباحا من فجر الجمعة، والنتيجة أن لدينا أحداثا وقعت في الزمن نفسه، ولكل أحداث زمنها الفعلي الخاص، ومجموعها يساوي الزمن الفعلي الكلي الذي يجب أن يتوازن مع حجم المادة المسرودة. ولم يغب عن جويس أن ينتبه إلى هذا ويوازن بين زمن الفعل ومادته السردية. نستخلص من هذا أن زمن يوليسيس الذي تجري فيه أحداث الرواية هو 18 ساعة والزمن الفعلي الكلي لأحداثه المسرودة هو 22 ساعة، إذا ما استثنينا حلقة موللي التي لم يذكر زمنه لكنه بعد الثانية صباحا.


راي برادبيري ومفهومه لقوة الوشم السردية


آنا فيليسيتي فريدمان

كان يومًا صيفيا ممطرًا في أواخر الثمانينيات -قبل أن تبقينا الهواتف الذكية مشغولين باستمرار- عندما تسلقت ثلاث درجات من السلالم لأصل إلى علية صغيرة في المنزل المتعرش الذي نشأت فيه، كانت هذه الغرفة المغطاة من الأرض إلى السقف بألواح الصنوبر المريحة تحوي مختلف الأشياء، فمن بين الأشياء المترامية على أرضيتها، عادة ما تلفتني أرفف الكتب المنسية المليئة بالكتب الورقية القديمة والمغطاة بالأتربة.

بشعور ملل يغمرني، نقَّبتُ في الرفوف بحثًا عن كتاب أقرؤه، ففي الماضي، حينما كنت مراهقة تعشق الكتب، عثرت على بعض الكتب الثمينة من بين الكتب المعلوماتية والكلاسيكيات المملة، مثل: الروايات المثيرة، الشعر المثير للاهتمام، الفلسفة التكوينية وفي هذا اليوم وجدت مجموعة القصص القصيرة للكاتب راي برادبري والتي كانت بعنوان: "The Illustrated Man".

كنت في حالة فاسقة وغريبة، لكن الوشم كان لا يزال أمرًا غير معتادٍ عندما كنت في المدرسة الثانوية، كنت أقرأ مع أصدقائي نسخًا قديمة من مجلات الوشم الوحيدة التي تُتداول على نطاق واسع في ذلك الحين Outlaw Biker Tattoo Revue and Tattoo والتي لا نتمكن من العثور عليها إلا في المدينة، إذ لا تتوفر في مجتمع الضواحي حيث أقطن، في تلك المجلات، كونت رؤية للوشم المستقبلي الثقيل الذي سأضعه بشكل دائم على جسدي.

لكن المجلة لا يمكنها أن تأخذ الخيال إلى حد أبعد، إلا إن قصة برادبري "Illustrated Man" قدمت لي شخصية ساحرة للتأمل، وبتُّ أتساءلُ ما القصص التي قد يرويها وشمي المستقبلي للآخرين؟

لقد تغير الوشم وتصوراته بشكل كبير منذ عام 1950 إلى 51 عندما نشرت مجلة إسكواير Esquire قصة برادبري القصيرة لأول مرة في يوليو 1950، ثم استخدم المؤلف الشخصية مرة أخرى إطارًا للمقدمة والخاتمة لمجموعة The Illustrated Man، كان الوشم غارقًا في تاريخٍ مظلم آنذاك، وربما تعد تلك الحقبة أدنى مراحل شعبيته في العصر الحديث.

مرت ذروة عصر عروض السيرك ولم يكن للوشم دور أساسي آنذاك، إذ كان ينتشر بين صفوف القواعد العسكرية، وإذا ما استثنينا الشخصيات الذكورية مثل مارلبورو مان، فإن الوشم لم يكن مخصصًا للأشخاص العاديين.

بحلول الخمسينات من القرن العشرين، كان للوشم جاذبية قليلة في أوساط الرجال -مقابلة بالسيدات الواشمات- وقد صوَّر برادبري بشجاعة شخصًا موشومًا بالكامل آنذاك في صوره للسيد وليام فيليبوس فيلبس، على الرغم من كونه عملًا فنيًا استثنائيًا.

وفي ثلاثينيات القرن العشرين، عندما واجه برادبري فناني السيرك والعروض الجانبية لأول مرة، كان الوشم يعد أمرًا خاصًا، وكانت المناطق الموشومة تجتذب النساء بشكل خاص وتمنح صاحبها شهرة، كما ضجَّت العديد من قصص المغامرات والألغاز والروايات الرومانسية في عشرينيات القرن العشرين بشخصيات موشومة مثل رجل الوشم هوارد بيس الذي ظهر لأول مرة في عام 1926 والذي قرأه برادبري على نطاق واسع.

قدّر ألبرت باري مؤلف كتاب الوشم: أسرار فن غريب Tattoo: Secrets of a Strange Art (أحد كتب البحوث التي أجريت عن الوشم من أوائل القرن العشرين إلى منتصفه) أنه في وقت نشر كتابه عام 1933، كان هناك ما يقرب من 300 "وشم كامل لرجال ونساء في هذا البلد، والذين يكسبون لقمة عيشهم أو يحاولون كسبها من خلال عروض السيرك الذاتية لأنفسهم"، يدفعهم إلى ذلك الرغبة في أن يكونوا نجومًا، مقاومين حقيقة أن هذه الشهرة قد تتبخر بسهولة، وفي أحد قصص برادبري ذكر أن سبب وشم إيما الذي على شكل أسطول يكمن في أنها تشعر بأن حب زوجها لها سيختفي إذا لم تنقش المزيد من الأشرعة.

رغم أنه كان في ذاك الزمن رجال ونساء موشومين بشكل كامل، إلا إنه يمكننا بوضوح رؤية مدى تطور الوشم حتى الوقت الحاضر، وقد كتب برادبوري في المقدمة متنبئًا بالمستقبل أن: "النوافذ تبحث في الواقع المتقد"، فيمكن للوشم أن ينقل رواية مقنعة، أو يثير عاطفة قوية، أو يستحضر خيالًا، أو يتألق مع جانب جمالي، والآن في القرن الحادي والعشرين، ربما يكون الوشم قد نجح أخيرا في أن يحتل مكانة قوية في لغة التعبير البشري التي تتحمل التحولات وتدفقات الرأي التاريخي.

إن قراءة حكايات برادبري الثلاث المتضمنة للوشم تنبض بحياة جديدة في مفاهيمه حول كيفية تغير معاني الوشم، وكيف يمكن لمشاهد الوشمِ رؤيةَ معنًى مختلف عما قد يقصده صاحب الوشم، وكيف يتقاطع علم النفس مع رغبة الشخص في النقش على جلده بشكل دائم.

تسللت إلى أسفل الدرج، متخيلة رسم الوشم الذي أردت أن أنقشه، وقد كان الوشم أمرًا غير قانوني في ولاية ماساتشوستس حيث أقطن مما دفعني لأن أسافر إلى ولاية نيو هامبشاير المجاورة، وأقصد متاجر الدراجات التي كانت تعمل عملا إضافيا في عطلات نهاية الأسبوع، ولم أستطع الانتظار حتى أبلغ الثامنة عشرة وأنقش وشمًا دائمًا يجعلني مميزة كأني شخصٌ غريب، أو روح إبداعية، أو محارب للمعتقدات.

بعد مدة وجيزة من أول رحلات الوشم، وذلك قبل عيد ميلادي الحادي والعشرين، أصبحت واحدة من بضع مئات فقط من النساء في أمريكا اللاتي لديهن أذرع موشومة بشكل كامل، ولم أكن أعلم أنني بعد مرور عقد واحد فقط سأصبح امرأة عصرية، متبنية للوشم على نطاق واسع من شأنه أن يتخطى الثقافة السائدة له زينةً مرغوبًا فيه، أو علامة على المكانة، أو أمرًا يُحدث رواجًا مرغوبًا، وإذا ما كنت سأعود إلى الماضي فسأختار وشمًا مختلفًا يناسب معطيات الزمن الحاضر، ومع ذلك، فإن التحديق في الجلد المتعرج والمنقوش -الذي يشهد على الألم والبهجة وكل ما بينهما- لأمر يبعث على الراحة.

هل سيحمل لنا المستقبل وشم برادبري الذي يمكنه أن يتغير حسب رغبة أصحابه؟ فيوفر اليوم الحزين نافذة حنين إلى الماضي، وقد يستدعي تحدي التمطط درعًا مرئيًا، وينفجر الوقت البهيج إلى زخرفة نابضة بالحياة...

 

ترجمة: عبير علاو. 

تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.


الأربعاء، 24 يونيو 2020

أفكار مهمة: احصل على أفضل وأحدث الكتب غير الخيالية في العالم.


كاري إم كينج  
"أتريد أن تقرأ أفضل الكتب غير الخيالية ولكنك لا تعلم من أين تبدأ؟ نرفق لك فيما يلي بعض العناوين الأساسية التي تستطيع إضافتها إلى قائمتك القرائية".

جميعنا نعلم أنه هناك الكثير من الكتب الجيدة في العالم وليس لدينا الوقت الكافي لتصفحها جميعًا، ولكن عندما يكون كل ما يتطلبه الأمر لتغيير حياتك هو فكرة واحدة جيدة، حينها تشعر أنه عليك إيجادها وتبدأ في سؤال نفسك كيف يمكنك فحص آلاف الكتب المنشورة كل عام لتعثر على النصيحة الثاقبة التي تحتاجها حقًا في حياتك؟

لهذا السبب يوجد Blinkist، ففيه نقرأ الكتب غير القصصية الأكثر مبيعًا ونقدم لك منها رؤى أساسية في حزم قصيرة لا تنسى، فإذا كنت تريد أن تتعلم شيئًا جديدًا، أو تغير طريقة عملك، أو تعيد التفكير في علاقاتك، أو ترغب فقط في تحدي افتراضاتك، فإليك بعض العناوين التي تعد من أفضل الكتب غير الروائية في العالم:

1. العادات السبع للناس الأكثر فعالية من تأليف ستيفن ر. كوفي. 

لأول مرة في عام 1989، جعل نجاح ستيفن كوفي الضخم هذا المؤلف اسمًا مألوفًا وغالبًا ما يُدرج بكونه واحدا من أكثر الكتب غير القصصية تأثيرا في كل العصور، يشجع الكتاب فكرة تحقيق الأهداف من خلال مواءمة القيم الشخصية مع المبادئ العالمية مثل النزاهة والأمانة، وقد بيع من الكتاب أكثر من 25 مليون نسخة بأربعين لغة حول العالم.

2. إنجاز الأمور: فن الإنتاجية الخالية من الإجهاد بقلم ديفيد ألين.

أُصِدرَ الكتاب التقليدي لديفيد ألين Getting Things Done أول مرة في عام 2001 وأصبح نقطة الانطلاق لظاهرة الإنتاجية العالمية، فلقد غيّر النهج الواقعي والعملي للوصول إلى أهدافك أثناء قيامك بالعمل المنجز والطريقة التي يتعامل بها ملايين الأشخاص مع وظائفهم.

3. التفكير السريع والبطيء لمؤلفه دانيال كانيمان.

لا شك أنك قد رأيت هذا الكتاب يباع في المطارات في جميع أنحاء العالم، فدائمًا ما أراه هناك!
يُعد هذا الكتاب الأكثر مبيعًا عالميًا من بين أفضل الكتب غير الروائية في السنوات الأخيرة، ونتيجة لسنوات من البحث الحائز على جائزة نوبل للدكتور دانييل كانيمان، وهو يغطي المراحل الثلاث من حياته المهنية، من أيامه الأولى في العمل في التحيز المعرفي، إلى عمله الأخير في مجال السعادة الذاتية، ويعد هذا الكتاب مهم جدا لأي شخص يهتم بكيفية عمل العقل البشري.

4. قوة العادة: لماذا نفعل ما نفعله في الحياة والأعمال بقلم تشارلز دوهيج.

يعد كتاب Charles Duhigg من الكتب التي يجب قراءتها على كل شخص حاول وفشل في التحلي أو التخلي بأي عادة، تريد أن تقرأ أكثر؟ تتناول الطعام بشكل أفضل؟ أو تريد الإقلاع عن التدخين؟
هذا الكتاب يقدم بعض الأفكار حول كيف ولماذا نكافح العادات، وما يتطلبه الأمر حقًا للسيطرة على أنماطنا وعاداتنا، في قالب يحوي مزيجًا من البحث والأدلة القصصية، يوفر هذا الكتاب نصائح سهلة لتغيير العادات الشخصية بالإضافة إلى العادات التنظيمية الأوسع نطاقًا.

5. التأثير: سيكولوجية الإقناع لروبرت ب. سيالديني.
لماذا تفعل ما تفعله؟ لماذا تشتري ماركة معينة دون أخرى؟ ما الذي يدفعك لأن تصدق رأي شخص دون شخص آخر؟
يلقي كتاب "التأثير" نظرة رائعة على كيف يُتلاعب بنا من خلال المعلنين ومندوبي المبيعات والفنانين المخادعين، مما يساعدك على معرفة أساليب البيع الشائعة مع إعطائك نصائح حول كيف تقنع نفسك في شتى الأمور.
أيبدو كتابًا جيدا؟ نعم، أعتقد ذلك.

6. أسبوع العمل ذو الأربع ساعات: اهرب من الخامسة إلى التاسعة مساءً، عش في أي مكان، وانضم إلى الأغنياء الجدد لتيم فيريس.
من المحتمل أنك سمعت عن تيم فيريس، وإن لم تسمع، فلن يأخذ البحث منك الكثير من الوقت! فهو متحدث في العديد من البودكاست ولديه العديد من الكتب، وهو مساهم دائم في مجموعات متنوعة من وسائل الإعلام، فكتب رجل الأعمال هذا الكتاب بعد أن عانى من الإرهاق من العمل الزائد وأدرك أنه بحاجة إلى تغيير طريقة عمله، لذا ركز على فكرة "الأثرياء الجدد"، أي الأشخاص الذين يتخلون عن حياة العبودية المكتبية لينتقلوا إلى العمل بفعالية في أعمالهم الحرة مع الاستمتاع بكل اللحظات في هذه الحياة.

7. مبدأ 80/20: سر تحقيق المزيد بالأقل لريتشارد كوخ. 

حصل كتاب ريتشارد كوتش الذي نشر في عام 1997 على لقب أفضل كتب الأعمال في القرن العشرين من قبل مجلة جي كيو، إذ ينظر إلى الاعتقاد السائد بأن 80٪ من النتائج تُحقق بنسبة 20٪ من الجهد الذي يبذله أي منا في مهمة معينة.
وإذا كان هذا صحيحًا، فما تأثير ذلك على حياتنا؟، وكيف يمكننا قضاء وقتنا بشكل أفضل؟ لذا، إن كنت ترغب في تحقيق أقصى استفادة من وقتك؛ فلا تفوت قراءة هذا الكتاب.

8. الدافع: الحقيقة المفاجئة حول ما يحفزنا بقلم دانيال بينك. 

هل تعرف ما الذي يحفزك؟ أو أنك تكافح لتحصل على دوافعك؟
يلقي هذا الكتاب المبتكر لدانييل بينك نظرة على الفرق بين الدوافع الخارجية والجوهرية وكيف تخفق الشركات غالبًا في طرق تحفيز موظفيها، فإذا كنت مديرًا يرغب في تحفيز فريقه بشكل أفضل، أو إذا كنت ترغب في التحكم في دوافعك ومحفزاتك، فلا ينبغي عليك تفويت هذا الكتاب!

9. المتطرفون: قصة نجاح لمالكولم جلادويل. 

"المتطرفون: قصة نجاح" الكتاب غير القصصي الذي أضحى معروفًا باسم مؤلفه، مالكولم جلادويل، ينظر المؤلف الكندي في هذا الكتاب إلى أولئك الذين حققوا مستويات نجاح غير عادية عبر مجموعة واسعة من المجالات والصناعات، حيث يلقي نظرة رائعة على العديد من العوامل التي تؤدي إلى نجاح شخص ما أو فشله، ويشطب أسطورة "الرجل العصامي"، لذلك يعتبر هذا الكتاب خيار جيد لأي شخص لديه فضول حول كيفية تحقيق الناس للنجاح، وما إذا كان لدينا بالفعل أي سيطرة وقدرة عليه على الإطلاق!

10. تاريخ موجز للوقت: من الانفجار الكبير إلى الثقوب السوداء بقلم ستيفن هوكينج.

عندما يكون مؤلف كتاب ما موضوعًا لسيرة ذاتية حائزة على جائزة الأوسكار وقد ظهر في أكثر من حلقتين من مسلسل The Simpsons، فإنه لا يحتاج حقًا إلى مقدمة، ومع ذلك، فإن قائمة أفضل الكتب غير الخيالية لن تكتمل بدون كتاب "تاريخ موجز للوقت"، نُشر الكتاب لأول مرة في عام 1988، وقد جعل هذا العمل الجوهري ستيفن هوكينج مشهورًا وواحدًا من محددي من أين جاء عالمنا، وإلى أين نحن ماضون، فحين تقرأ هذا الكتاب فإنك تلج إلى قراءة كونية حقة تجعل منه كتابًا لا يُفَوّت.

11. الانقراض السادس: تاريخ غير طبيعي من تأليف إليزابيث كولبيرت. 

رغم أنه نُشر حديثًا في عام 2014 فإن كتاب الانقراض السادس لـ Elizabeth Kolbert عُرِف سريعًا بكونه أحد أهم الكتب في هذا القرن، مما يسلط الضوء على حقيقة أننا ربما لا ننتظر حدوث الانقراض أو الانخماد القادم لأننا تقريبا نعيش داخله، في صيف 2017 أوصت جامعة ستانفورد بإدراجه ضمن المقررات الإجبارية للطلاب قبل تخرجه كونه واحدًا من أهم الكتب في عصرنا.
هل اقتنعت بذلك؟ يجب أن تكون مقتنعًا!

12. الجين الأناني بقلم ريتشارد دوكينز.

ربما يكون ريتشارد دوكينز معروفًا في ثقافة البوب لكونه ملحدًا صريحًا أكثر من عمله العلمي، ولكن ربما يكون هذا الكتاب الذي صدر عام 1976 هو أكثر ما يلفت الانتباه، بل الأكثر جمالًا على الإطلاق! إذا يضع الجينات في مركز التطور ويستخدم فكرة "أنانية الجين" لشرح التنوع الهائل للحياة في هذه النقطة الزرقاء الشاحبة التي نسميها المنزل، ولا تنسَ أيضًا أن هذا الكتاب هو الكتاب الذي صاغ فيه دوكينز مصطلح "ميم" والذي ستجد أن صفحات الإنترنت محملة بالكثير من الشكر له على ذلك!

13. الحقيقة لهانز روزلينج.

يعرف بيل غيتس كيف يختار عندما يتعلق الأمر بأفضل الكتب غير الخيالية، ومن السهل معرفة سبب كون هذا الكتاب من بين الكتب المفضلة لديه، يطرح كتاب هانز روزلينج الأكثر مبيعًا في قائمة نيويورك تايمز أسئلة صعبة حول العالم، ويستخدم حقائق وإحصائيات قوية للإجابة عليها بنتائج مفاجئة إلى حد ما، أي أن العالم ربما لا يكون في حالة سيئة كما نعتقد!

14. لا شعار لنعومي كلاين. 

أصبح كتاب نعومي كلاين الآن اسماً مألوفاً  أو في الأقل  من الكتب التي يجب قراءتها في أي برنامج للدراسات الإعلامية، إذ يبحث في العلامات التجارية، وسوء استخدام العلامات التجارية ذات الأسماء الكبيرة، ويفحص المشكلات التي يوجدها الاستهلاك الشامل مثل المصانع المستغلة للعمال والرقابة على الشركات، ويعتبر هذا الكتاب مناسبًا لحياة اليوم تمامًا إذ صدرت النسخة الأولى منه في عام 1999.

15. كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس بقلم ديل كارنيجي. 

منذ نشره لأول مرة في أكتوبر 1936 جعل كتاب How To Win Friends and Influence People دايل كارنيجي مركزًا دائمًا لثقافة البوب، فبفضل النصائح الخالدة التي يمكن تطبيقها بسهولة مثل "أن تصبح مهتمًا حقًا بالأشخاص الآخرين"، فإن كتاب كارنيجي لا يتزحزح من قوائم أكثر الكتب مبيعًا منذ سنوات، وفي الواقع فإنه أحد أفضل الكتب مبيعًا في كل العصور!

16. تدفق لِـ ميهالي سيسكسزنميهالي. 

من خلال نشره في عام 1990، ساعد كتاب تدفق لِـ Mihaly Csikszentmihalyi ملايين القراء على اكتشاف الأنشطة التي تندرج تحت ما وصفه المؤلف بأنه حالة التدفق، إذ أنها صلبة بما يكفي لتحافظ على مشاركتنا وانخراطنا في الأنشطة وسهلة بما يكفي لتمنع الإحباط، والعمل في حالة التدفق يخفف من شعورنا بالأنا وبالوقت، فمن خلال انجذابنا نحو هذه الأنشطة نحقق قدراً أكبر من الشغف والمعنى من العمل الذي نقوم به.

17. نمط العقلية لكارول دويك. 

قلب كتاب كارول دويك مفهوم الكثير من الناس لعلم النفس الفردي، إذ عُدّ واحدًا من أكثر العناوين المؤثرة في القرن الحادي والعشرين، كان لـ Mindset تأثير كبير على الشركات من الشركات الناشئة إلى الشركات الدولية الكبرى، إذ أظهر مخطط Dweck للعقليات الثابتة والنمو أنه كان من الممكن تغيير مواقفنا تجاه العالم وتحقيق أهدافنا في مواجهة النكسات.

ترجمة: عبير علاو. 
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان. 

الأربعاء، 17 يونيو 2020

البحث عن الزمن المفقود (الكتاب الأول)



جانب منازل سوان - مارسيل بروست.


إنَّ روايات بروست السبع في بحثه عن الزمن المفقود عبر الذاكرة تعدُّ إحدى الأعمال التي شكلّت الانطلاقة الأولى لأدب الحداثة في القرن العشرين، الأدب الذي حدد ملامحه وعبّد الطريق ثم شرعها عدة روائيين كان من بينهم بروست، وعمله المعتبر هذا ولا سيما في تعامله مع الزمن وتداعي الذكرة الطوعي أو الحر، إحدى التقنيات الرئيسة لنوع روايات تيار الوعي في جنس الرواية. ولا نبخس روائيًا حقه إن قلنا أن أدب الحداثة في الرواية في القرن الماضي قد تجسّد في تيار الوعي وأعلامه جيمس جويس وفرجينيا وولف، إضافة لصاحب الزمن المفقود.


فما ثيمة هذا العمل الذي تجاوز المليون كلمة؟ 


إنه سيرة روائية ذاتية، عمل اختلط فيه المتخيل بالواقعي، الخيال بالحقيقة، سيرة إنسان تبتدئ منذ الصغر حتى شبابه عارضا فيها حياته وحياة من حوله، ومستعرضا مواضيع مختلفة كالعائلة والحب والعلاقات الاجتماعية والأسرية والحياة والخسارة والمجهول وطبيعة الأناس الآخرين والعلاقات الجنسية القويمة منها والشاذة، موزعةً في سباعيته التي حمل كل كتابٍ منها جزءًا من الحكاية! 

الكتاب الأول من هذه السلسلة (جانب منازل سوان)، وهو مادة حديثي في هذا المقال، يشرع فيه بروست بسرد مادته موزعًا إياها على ثلاثة فصول (كومبريه، ومن حب لـ سوان، وأسماء البلدان) فصلان يسرد بضمير المتكلم (كومبريه وأسماء البلدان) وفصل بضمير الشخص الثالث والراوي العليم (من حب لسوان).  


يفتتح السارد الرواية بتذكره الأيام الخوالي ووقت خلوده إلى النوم في فراشه، لننطلق معه برحلة إلى الماضي البعيد عبر تداعي الذاكرة الحر، ويُطرح السؤال لماذا اختار هذا الوقت بالتحديد للتذكر بدايةً للشروع في بحثه عن الزمن المفقود؟ 


القبض على زمن ما قبل النوم


يقبض بروست على زمن ما قبل الخلود إلى النوم، فكل إنسان يغرق في أفكاره وماضيه وحاضره ومستقبله في خلطة عجيبة في بوتقة الذاكرة (الاسترجاعية) والاستبصار المستقبلي، يرى نفسه هنا وهناك وفي كل مكان ولا أي مكان، وهو في فراشه ثابتٌ راسخٌ لكنَّ الذاكرة والوعي مستيقظان، فإلى الماضي ننطلق، وينطلق بروست وسارده الذي يقص علينا تفاصيل هذا الزمن الآني الذي يلفه ويسعى للقبض عليه وإيقافه ثم العودة به إلى الوراء محركًا عقارب الساعة إلى الخلف. تبدأ الرحلة ولا شيء يوقفها فقد امتطى صهوة الزمن بعد أن قبض على أحد أجزاء جسده الطويل، والقبض عليه من منتصفه يعني القبض على بدايته ونهايته، ليصبح التحكم سهلًا والانتقال تقدما أو تراجعًا مهمة يسيرة بين يدينا. 


فهل زمن ما قبل النوم سهل إلى هذه الدرجة؟ وما الذي يميزه؟ إن الجواب عن هذين السؤالين أو محاولة الإجابة أو حتى وهم الإجابة يعطينا الفرصة لفهم لماذا اختاره بروست. 

يبدو زمن ما قبل النوم، بطيئًا في حركته، هادئًا في تدفقه، طيّعًا في انصياعه لرغباتنا، بإمكان كلٌ منا أن يلجه، فهناك مسافة كافية للتحرك بداخلها؛ الغوص في الذاكرة والتحرر من ثقل الجسد الهامد في فراشه، الصفو الذي يأتي به زمن ما قبل النوم يجعل منه زمنًا حُلميًا، يتدفق مسرعًا دون أن نشعر به، الساعة كالدقيقة، والدقيقة كالثانية، أو يتحرك ببطء الثانية كالدقيقة، والدقيقة كالساعة. كل هذا يعتمد علينا، على وعينا وموضوع انشغالنا، لهذا كان التقديم الذي يسرده علينا الراوي الضمني في "جانب منازل سوان" طويلا ومفصلا ومتراجعًا إلى الوراء بحركة بطيئة لكن كل خطوة في هذا الحركة تمثل نقلًا لمدة زمنية كبيرة إلى الماضي، فكان توصيف حاله في سريره خطواتٍ يأخذنا بها نحو بوابة قريبة، في طريق الذاكرة، هذه الخطوات التي قد تكون مئة خطوة، لكنها تحمل فيها زمنًا طويلا، زمنًا فقد كل خاصية دفاعية، ليمضي بنا إلى بوابة الحدث المقصود، الحدث الذي تحفظه الذاكرة، وتؤدي إليه. 

الذاكرة والزمن في شراكة حقيقة يحاول بروست القبض على الأولى لكنها مثل الرمل تتسرب من بين أصابعه في حين الثاني يكون التعامل معه أسهل، فهو بين يديه مثل حجارة ينقلها قاذفًا إياه في بحيرة الوعي الكبيرة فوق أرضية الذاكرة، هذا التمازج الذي يتداخل ويتعارض ويتوازى في حلقة تلتف حول نفسها في حركة أفعوانية ملتهمة نفسها ومولِّدة نفسها في حركة تتابعية ترتفع وتنخفض، تموت وتحيا، تبدأ وتنتهي. 

أدرك بروست قيمة الزمن والذاكرة في التعامل مع الماضي، والقبض عليه ثم التحكم به، لذلك كان الزمن والذاكرة من أبرز ما أعطى لهذا العمل قواه ومزاياه وجعله تحفة أدبية ثورية في الرواية الحديثة. 


الذاكرة المتداعية الحرة المتقافزة والزمن المتصاعد  


أعطى بروست للذاكرة حريتها، وجعلها تتداعى متقافِزة بين حدث وآخر أو شخصية وأخرى دون أن يكون هناك أي صلة أو انتقال تتابعي، الذاكرة تمنح الحدث وبروست يكتب، مما يعطي شعورًا قويًا ودقيقًا بأنه يتذكر ويكتب ما يتذكره، سواءً كان حداثة أو شخصية أو موقفًا، كل شيء يحضر لكن الذاكرة تجعله يتدفق من كل مكان ضاخة كل ما في جَعبتها من ذكريات يسعى بروست خلفها. لكن هذه الذاكرة الحرة المتداعية التي تتجسد ليست عشوائية الحركة بالمرة كما تبدو عليه، فلديها نظامها الخاص ذو هيكلية في التداعي، فيُسرد الحدث المتذكر عبر خطوات: 


1- يعود السارد بالزمن إلى الماضي عبر تقنية الاسترجاعية ثم تداعي الذاكرة الحر. 


2- يتصاعد الزمن المستعاد عبر الذاكرة المتداعية الحرة المتقافزة، وهنا الحدث يُبنى من مادة الذاكرة في الزمن المتصاعد وهو زمن خيالي لا وجود له إلا في الذاكرة وآلية التذكر. 


3- التنقل الحر في الذاكرة بدون ضوابط نعرفها أو نميزها ظاهريا، إلا إنها محددة في زمن ومكان معينين وما يرتبط بهما؛ وموضوع محدد هو الطفولة وما لفها من أحداث التي يحاول بروست تذكرها في جزئي كومبريه وأسماء البلدان. 


4- السرد المتصاعد. على الرغم من أن الرواية مبنية على الرجوع إلى الماضي، إلا إنها تسرد تصاعديا، فهي عودة إلى الخلف ثم تقدم إلى الأمام وكل هذا يجري في زمنين، زمن المضي إلى الخلف وزمن التقدم إلى الأمام وتشكل الذاكرة ماهية هذا المضي والتقدم. 


إذن، فلدينا رجوع إلى الماضي، ثم تذكر حر متصاعد، يتحكم فيها السارد، ويسرد الأحداث وفق فعل قفز الذاكرة، فنرى تعدد الشخصيات التي يحكي عنها "يتذكرها" ومن شخص إلى آخر، لكنه أثناء هذا التذكر للأحداث والشخصيات يمزجها في مدينة كومبريه وطبيعتها وأشجارها وأزهارها ونباتاتها ومائها وسمائها والطرق التي سلكها وكنيستها وبهوها وجدرانها ونوافذها ورسوم زجاجها، وبأجواء العائلة المكونة من الأب والأم والجد والجدة والعمة ليوني والخادم المسنة فرانسواز وسوان وضيوف العائلة وشخصيات أخرى خالقا لوحة فسيفسائية. ويعمد إلى الإطناب في الوصف الذي يجعل التشبيه لمشهد ما أو منظر أو فكرة تخطر بباله "في الماضي" غارقًا في تفاصيل أخرى راسما عبر هذه التفاصيل الشبه الذي يريده أو التمثيل مما يسمح لنفسه بمساحة كبيرة في السرد ويضيف لها أي وصف أو حدث آخر يشاء، وهكذا يستمر. 

فيبدو السرد كأنه نوع آخر من التذكر أو التأمل أو التداعي الحر، فتنتقل إليه تقنية الذاكرة المتداعية المتقافِزة، ويصبح السرد قفزا ضمنيا متداعيا في الحدث المسرود. هذا السرد يجعل من الصعب التمييز ما بين التذكر والتفكر (وهذا ما له شواهد في رواية في ربيع ظلال الفتيات، سأكتب عنها في وقتها)، وهل كل ما يسرد هو فعلًا تذكر أو أنه ممزوج بتفكير آني في "زمن الكتابة"، وأقول زمن الكتابة لأنه الزمن الفعلي لكل هذا، الزمن الذي لا يستطيع بروست القبض عليه أو تحكم به، فهو يتدفق بقوى أكبر من إمكانية بروست المحدودة، لكنه زمن يبقى خارج اللعبة إلا عبر ما قد يثيره في ذات بروست الحقيقية التي تجعل أفكاره الآنية التولد أثناء الكتابة مخلوطة في جسد الذاكرة والماضي البعيد. 

  


السرد بضمير الشخص الأول العليم 

 


يعود السارد بالزمن إلى الوراء عبر تداعي الذاكرة الحر، ويتقدم بعدها متصاعدًا، إلا إنه يضيف على هذا التصاعد تقنية الراوي العليم الذي يعلم كيف سينتهي تذكره التصاعدي وماذا سيحدث لاحقا، دون أن يعطي انطباعا للقارئ أنه يكتشف معه  الأحداث من ذكرياته. هذه التقنية السردية نقلت قدرات السارد العليم الكلي المعرفة إلى السارد بضمير المتكلم فيما يخص الأحداث التي يتذكرها ويعرف نهايتها، وهذا التركيب بين الاثنين يتناسب تماما مع الذاكرة وآلية التذكر، فحين نسترد حدثًا من الماضي فنحن نعرف كيف يبدأ وكيف ينتهي، وكذلك كيف حدثت وانتهت أحداث أخرى مرتبطة به هذا كله يضفي للسرد في الرواية تصويرا للذاكرة وعملها في الرواية بشكل ملموس، فأنت تقرأ الذاكرة المسرودة. لكن هذا الخلط بين قدرات السارد العليم والسارد الشخصي أوقع بروست في هفوة لا يجب أن تقع في الفصل الثاني من الرواية "من حب لسوان"، إذ يسرد هذا الفصل بضمير الشخص الثالث، وبسرد راوٍ عليمٍ، وهذا أمر معتاد في تنويع الساردين في النص الروائي إلا إن مشكلة هذا السارد العليم هو نفسه السارد الأول الذي يتكلم عن تجربته الماضية، وقد ورد هذا التدخل في عدة مواضع أذكر، أذكر منها:


- ... إذ يبدو وكأنه يرصد المتع التي تنعم بها مع الآخرين والتي تبدو له -فيما هو يعود وحيدا ويبادر للنوم وفي صدره ضيق مثلما كان سيتم لي بدوري بعد عدة سنوات في العشيات التي يجيء فيها لتناول العشاء في بيتنا في "كومبريه"- غير محدودة لأنه لم يبصر نهايتها.  


-  استمر بعضهم في زيارته -كجدي الذي دعاه في السنة السابقة لحضور زواج والدتي- فيما يكاد البعض الآخر لا يعرفه شخصيا…


- وكانت شخصية "الابن سوان" التي تطلقها عليه، بهذا الشأن، شقيقة جدي، وهي متميزة عن شخصية  "شارل سوان" الأكثر فردية.


توضح هذه الأمثلة الثلاثة، وأمثلة أخرى في الفصل الثاني من الرواية، أن بروست جعل من السارد بضمير المتكلم في الفصلين الأول والثالث، هو نفسه السارد العليم الذي سرد قصة سوان مع أوديت، الأمر الذي لا يمكن حدوثه، فلكل ساردٍ إمكانياته وتقنياته الخاصة، وأن يكون السارد متكلما بضمير الشخص الأول وعليمًا يغوص في نَفْسِ شخوصه الذين هم شخصيات حقيقية في حياته أمر لا يمكن، وأن يكون بروست قد فعلها ساهيًا أو متعمدًا فقد أخطأ في هذا وارتكب هفوة سردية لا يمكن أن تقبل ولا تنسجم في عمل مبدع وبارز مثل هذا. إضافة إلى أن اللغة المستخدمة في الفصول واحدة وثابتة المستوى، دون أن يكون هناك تغايرٌ أو تمايزٌ بين السارد بضمير الشخص الأول أو السارد العليم. هذا التشابه يثبت -إن لم يكن تقصيرًا من المترجم- أن بروست لم يسعَ إلى التدقيق ما بين الساردين وأنه كان يكتب خالطًا ما بين قدرات الاثنين، بل وفي مقاطع يكون المتكلم هو العليم والعليم هو المتكلم عبر ذكر أمور لا يتسنى للسارد بضمير المتكلم أن يعرفها، وهذا ما يرد كذلك في الرواية الثانية، التي سنعود إليها لاحقا.    


والنقطة الأخرى التي آخذها على السرد في الرواية هي الاعتماد على سرد الشخص الأول في الزمن الماضي البعيد، وإشكالية وجود ذاكرة دقيقة لا تنسى كهذه، وجدوى التداعي الحر للذاكرة في ظل قدرة خارقة لها، فنحن نريد أن نكون واقعيين في السرد عبر الذاكرة العادية أو المتوسطة لكل البشر، لذا فالذاكرة هنا ليست ذاكرة واقعية لشخصية بل "ذاكرة متخيلة" يتحكم بها الراوي الضمني.

يتذكر السارد أحداثًا وقعت قبل زمن بعيد فرغم محاولته في جعل الذاكرة تتذكر طوعيًا متداعية دون ترتيب أو تناسق في التنقلات لكنه يذكر تفاصيل دقيقة وحوارات كاملة. وهذه الإشكالية قد تُتفهَّم في السرد الروائي قبل قرن من اليوم لكني اليوم في القرن الحادي والعشرين فلا يمكن تقبلها ما دمنا نتحدث عن رواية واقعية وأشخاص عاديين فمن المفترض أن تكون ذاكرتهم أيضا عادية (لذا فالملاحظة خارجية أكثر مما تصب في صلب العمل). يتذكر الإنسان العادي أحداث الماضي لكنه يعيد تشكيلها وفق لما يستطيع تذكره ولا يمكن لأي منا أن يذكر أحداثًا خالية كما حدثت بالفعل ولا حوارات كما قيلت بالفعل ولا مشاعر وأحاسيس كما انتابتنا بالفعل بل نعيد تشكيلها وسردها وقصها ونسجها وفق لقدرتنا على التقاطها في زمن السرد الحاضر، وهذا القص الجديد للحدث لا يعني بالضرورة أنه هو فعلا بل قد يكون الأمر تذكر وهميًا أو تداخلًا بين حدثين أو شعورين فلا يجب أن نأمن الذاكرة ولا نثق بها كثيرا. 

لذا فسرد الذاكرة المتداعية الدقيق يدعوني أن أسميها "ذاكرة متخيلة" يتحكم بها الكاتب لا الشخصية التي تسرد لنا حياتها، هذه الذاكرة المتخيلة هي مزيج بين الواقع والخيال لبروست يضفي على الحدث المسترَّد الحقيقي أو المتخيَّل ألوانًا وأبعادًا جديدة مستمدة من الفكر الآني والزمن الحاضر لا الفكر الخالي ولا الذاكرة المتداعية ولا الزمن الماضي. والكاتب هنا يمارس نوعًا من الإيهام للقارئ يحاول فيه أن يجعله يصدق بأنه يتذكر في حين أنه لا يتذكر فقط بل ويتخيل أيضًا أنه يتذكر من أجل الكتابة.  


لغة الرواية


تمتاز لغة الرواية بمزايا، يجعل منها جديرة بالتوقف والاهتمام، ومن هذه المزايا:


١- التشبيهات والصفات الكثيرة لكل حادثة أو موقف أو صورة أو منظر أو وصف.

والتشبيه أو الصفة التي تُرفق لشخص أو جماد أو مكان تمتاز بجسد طويل من الكلمات  مما يوحي بأنه الكاتب يستغرق كثيرا في وصفه إلى الدرجة التي يضيع فيها عن الحدث الذي يقصد سرده أو قصَّه، وهو هنا كذلك يعمد على إدخال تقنية تداعي الذاكرة فيمنح للذاكرة إمكانية أن تكتب في عملية خلق توازيات ومتواليات للأحداث، الشبه يتبع شبيهه وهكذا. 


٢- الثراء اللغوي الكبير فكل حدث موصوف لا يوصف بجملة أو اثنين بل عدد كبير من الجمل أو بجمل طويلة كأنه يرسم لوحة انطباعية أو طبيعية وهذا لا أمر لا يتم إلا عبر ملكة كلمات لا تنفد. ويجب الإشادة بالمترجم الذي أبقى هذه السمة جلية وراسخة في الرواية عبر ثراء الترجمة بل وشاعريتها. 


٣- شاعرية اللغة.  للغة الرواية شاعرية خاصة تكاد الكثير من المقطع تتراقص شعرًا، فهي نوع ثري ورصين من النثر الشعري، إتقان وإبداع، وأذكر هنا مثالا عن مقطعٍ مع الرواية أعدت ترتيبه عموديا لأبرز شاعريته: 

إني هاهنا 

كما في كل مكان 

أعرفُ الجميعَ ولا أعرفُ أحدًا.. 

أكثر معرفتي بالأشياء؛ وأقلها بالناس!

الأشياء نفسها تبدو شخصياتٍ

شخصياتٌ نادرة من جوهر رقيق

خيّبت الحياة آمالها!


٤- الجملة البروستية الطويلة، يمتاز عمل بروست بالجملة الطويلة وهي مكونة من عدد كبير من الكلمات حيث تتكون الجملة من جمل فرعية أخرى لتكوين حلقة متداخلة تحتاج إلى الجهد والانتباه وإعادة القراءة لتفهم. ونُسب هذا النوع  من الجمل إلى اسم بروست وتبلغ أطول جملة في رواية بروست 871 كلمة.


٥- تتخلل مقاطع الرواية السردية الجمل الاعتراضية الطويلة التي هي بالأحرى جمل اعتراضية استطرادية لا تفرق كثيرًا عن الإغراق بالتشبيهات وهي الأخرى تقنية ذاكرة في اللغة، فقد نستطرد طويلا عند تذكر حدث بتذكر كلام مشابه في حدث آخر أو بإقحامه إلى كلام الحدث الرئيس. 


السعي خلف استعادة طعم الماضي


إن هذا السعي المحموم خلف الماضي يأخذ من بروست كل مأخذ، ويجهده كل جهد، ويدفعنا للتساؤل ما الذي يريده من هذا السعي المحموم؟ وما الفائدة المرجوة من كل هذا؟ 

وهنا أذكر مثالين من الرواية الأولى حول الحياة الماضية في الزمن المفقود وكيف جعل من الحدث شريكا في تنازع الزمن ما بين الاسترداد والابتعاد. 


القبلة وانشطار الحدث

 

يتذكر بروستُ البالغ بروستَ الصغير (ولأسمِّه بروست) الذي كان يعيش مع عائلته، كيف كان حضور وقت النوم يشكل له حالة مأزومة ما بين الرغبة بقدوم والدته لتتمنى له ليلة سعيدة وتقبِّله والخوف من عدم مقدرتها على الحضور لأي سبب طارئ كأن تكون الأسرة مجتمعة مع ضيوف، ومن ردة فعل والده الذي يرى أنه أصبح كبيرًا ويجب عليه أن يتجاوز هذه العادة في جعل والدته تأخذه إلى سريره. هذه العادة الطفولية التي قد يكون كل منا قد مرَّ بها في طفولته تشكل جزءًا كبيرًا تقديميًا في العمل، فيحاول بروست بكل جهد أن ينقل تلك المشاعر ويسطِّرها، بل ويجعلها شاطرةً للحدث المسترَّد المسرود، فالقبلة كانت همه الذي يرافقه ولا يتخلى عنه. يحدثنا عن أيامه الخالية واجتماعات الأسرة وحياته في كومبريه لكنه فجأة وبفعل قفز الذاكرة يعود إلى القبلة ما قبل النوم، الشعور الذي ما زال يرغب به ويريد أن يعيشه مجددا. إذن فالرواية وكل هذا السعي خلف الماضي هو لأجل عيشه مجددًا أو الاحتفاظ به بكل ما أوتي بقوة، الماضي العزيز لبروست الذي لم يستطع أن يتخلَّى عنه ليعود متذكرًا إياه بكل تفاصيله.


ولا يقتصر الأمر على هذا التذكر المجرَّد للحدث بل هناك حضور للماضي أو استدعاءٌ إلزاميٌ له، المتمثل في رغبة الإحساس بالطعم وتذوقه كما كان، واستنشاق الروائح التي تحمل معها ذكريات، وحالات، وأحداثًا، وهذا أيضا ما يريده. كل منا تحمل ذاكرته رائحة معينة، مرتبطة بمكان وزمان محددين أو بشخص أو حالة معينة، حزينة كانت أو سعيدة، لكن الذاكرة محتفظة بها، وكلما نستنشقها أو نتذوق ما يذكرنا بها فنحن ننتقل من مكاننا وزماننا الآنيين إلى مكان وزمان آخرين، نبتعد عن ذواتنا ونطير مسافرين خارج أجسادنا لننزل في أجسادٍ أخرى تحمل في ذواتها أشياءَ نحنُّ إليها، هذا الحنين هو أحد الأسباب الذي يريد بروست أن يحققه ويقبض على الماضي بكل روائحه ومذاقاته وأحواله لكن هذا الحنين لا يحصل منه على الكثير لأنه يقر بمحال الحصول عليه كاملا لكن بذات الوقت راضٍ بما يجني عارفًا بماهية المستحيل الذي يطارده فيقول: 

"على أنه في حين لا يظل شيء من الماضي البعيد بعد موت الكائنات ودمار الأشياء فإن الرائحة والطعم وحدهما -وهما الأشد هشاشة ولكنهما أطول عمرًا وأكثر شفافية وأشد استمرارًا وأوفر عمرًا- إنهما يظلان مدة طويلة كمثل الأرواح يتذكران وينتظران ويأملان فوق خراب كل ما عندهما ويحملان دون خور على قطرتيهما غير المحسوسة بناء الذكرى المترامية. 


جملة فانتوي الموسيقية


يقص بروست في الفصل الثاني من الرواية، كيف وقع "سوان" في غرام "أوديت" بعد أن دعته لحضور إحدى أمسيَّات "آل فيردوران"، هذا القسم الذي يشكل أكثر من نصف الرواية تقريبا، والذي سيكون له توابع في الكتب اللاحقة، فكان لزاما أن يفرد له بروست جزءًا كبيرًا يتناول به قصة سوان وأوديت، هذه القصة من الحب الذي بدا وكأنه أعورَ تارة أو غير ناضج تارة أخرى أو حتى غير نزيه كذلك، يمكن أن نلملم أطرافها في جملة فانتوي، وهي قطعة موسيقية من سوناتا، شكّلت بوابة إلى الحب الذي ربط الاثنين، لكنها بذات الوقت أيضا ربطت سوان برباط زمني مع أوديت، جعلت من بروست يحولها حاجزٍ يحجز خلفها مشاعرَ وأشخاصًا وحياةً وأحاسيسَ وزمنًا محددًا في هذه الجملة الموسيقى. الزمن المفقود وكل خطوطه الزمنية السابقة واللاحقة ارتبطت بهذه الجملة الموسيقية، التي بقيت حاضرة وشاخصة. الموسيقى والزمن، فكما حدَّدَ الطعم والرائحة وقدرتهما على الخلود في الذاكرة- ولا ينبغي لنا أن نغفل عن مدارك الذاكرة المتمثل في الحواس، الحواس بوابة الذاكرة، الطعم من التذوق، والرائحة من الشم، والموسيقى والأصوات وجملة فانتوي من السمع فالسمع وإن لم يشر إليه مباشرة فهو أحد الوسائل البانية للذاكرة. يعمل بروست على خلق شخصية سوان لتمثل إحدى نظائرَ أسلوب التداعي والسعي خلف الزمن فتتداعى ذاكرة سوان في كل مرة يسمع جملة فانتوي الموسيقية لتنبعث فيه مشاعر وتجيش أحاسيس لكن ما يفرق ما بين تداعي سوان وتداعي بروست هو الزمن، فبروست يسعى خلف زمن ماضٍ بعيد؛ وسوان يسعى خلف زمن ماضٍ قريب، بروست يسعى خلف كل شيء يمكن للذاكرة أن تسترده وتمنحه لنا؛ وسوان يسعى خلف ما يمكن للذاكرة السمعية أن تعيده لنا. 

هذا التقابل في السعي يختلف في كيفية المطاردة وآلية الاسترجاع، لا يبحث سوان عن كل شيء بل عن أوديت التي يتجسد حضورها وحبه لها في هذه الجملة الموسيقية.   

  



مؤمن الوزان.


الثلاثاء، 16 يونيو 2020

هل كان توماس إرنست هيوم: أول شعراء الحداثة؟


من كتب أول قصيدة حداثية إنجليزية؟ متى وأين كُتبت؟ ثمة العديد من الترشيحات، وأسوأ ما يمكن اقتراحه هو تفضيل آخرَ على "ت. ي. هيوم الذي كتب قصيدة "غروب شمس مدينة في عام 1908، على ظهر فاتورة فندق".  ويمكن ضّمُّ هيوم مع حفنة من الشعراء ليشكلوا مخططًا لأسماء شعراء الحداثة. لـ"شعر الحداثة" سمات يمكن تميزها بسهولة كـ: الإيجاز، دقة اللغة، البيان غير الصريح والمباشر، انعدام القافية، المواضيع اليومية والعادية، وبهذه السمات نحصل على هيوم وآخرين. 

لهيوم شخصية ذات جاذبية خاصة وفي كل الجوانب فعليًا، فقد كان بطول ستة أقدام، وبتقاسيم وجه قرمزية، ورغبة بالجدال مع أي شخص ومشاجرته (خاض عراكًا شهيرًا بالأيدي مع Wyndham Lewis في ساحة سوهو)، انحدر هيوم من ستافوردشاير، الريف الذي أخرج للعالم قبل قرنين كاتبَ رسائلَ جذَّاب آخر وهو الدكتور جونسون. قضى في بداية عشرينياته مغامرة قصيرة في كندا، ورحل إلى لندن، حيث أسسَّ "نادي شعر" وجادل الناس، وأكل الكثير من الحلويات (لم يشرب الكحول قط، وليس بمدخنٍ، مفضلًا عليهما أكلة suet pudding ودبس السكر)، وكتب في نشاطه العارم "بيان الشعر الحديث". 

نال عزرا شرف الإعلان عن هذا، بعد تأسيس الحركة التصويرية رفقة آخرين، وقعَّد في مقالته A Few Don’ts by an Imagiste بعض قواعد شعر الحداثة، التي صاغها هيوم قبل خمس سنوات سلفًا. تشارك هيوم وعزرا في تأسيس التصويرية الشعرية، على الرغم من أن عزرا سيزيل دور هيوم بقسوة الذي لعبَ دورًا في تشكيل التطبيق التصويري الشعري. 

وبالعودة إلى تاريخ أول قصيدة حداثة كتبها هيوم، فلا مجال للتردد في تحديد تاريخها الكائن في السادس والعشرين من شهر أيّار/ مايو عام 1908 على ظهر فاتورة فندق، بدأ بها هيوم بإبداع مفهوم جديد للشعر، مبنيٌ على الوضوح، والدقة اللغوية، والتي سيطلق عليه عبارات مثل "جاف، وقاسٍ، وشعر كلاسيكي". تُقرأ القصيدة "غروب شمس مدينة" كما لو أنها تفكير شاعرٍ بصوتٍ مسموع، ومألفةٌ كما يمضي شاعرها في البحث عن لغة جديدة، والذي ادَّعى أن العديد من قصائده كانت ارتجالية، ومنظومة من أجل موضوع عابر، تاركًا الصور تتنزل طبيعيًا إليه. 

"غروب شمس مدينة": 

 

فاتنٌ -إغواءُ الأرضِ- بأوهامٍ سامية

غروبُ الشمس الذي يسود في نهاية الشوارع الغربيّة

توهجُ سماءٍ مفاجئ

مربكٌ بغرابةٍ للمارِّ

برؤى سيثارا 

-غريبٌ على الشوارعِ المديدة-

أو باللحم الناعم للسيدة كاسلماين... 

***

جَذَلٌ قرمزيٌ

هو البهاءُ المنتشرُ للسماء

خادمُ العلياءِ المَرِح 

تَبخترُ أذيالِ ثوبٍ أحمرَ 

طوالَ أسطح المدينة الراسخة

وقت عودة الحشد إلى المنزل

خادمٌ مغرور، وباقٍ، يأبى الذهاب

 

ابتدأ هيوم كتابة قصيدة بقافية ثنائية (Conciets/أوهام وStreets/ شوارع، وPasser by/ المار، Sky/ السماء) ثم تبنّى تطبيقًا جديدًا من الشعر الحر -ابتداءً من جذلٌ قرمزي- في قصيدته، بكتابة سطور غير مقفّاة متجنبًا فيها بحور الشعر المعتادة، وبنيوية الشعرية المقطعية، والتي ستوصف لاحقا من قبل روبرت فروست بصياغة لا تُنسى "مثل أن تلعبَ التنس والشبكة على الأرض". من هذا التساقط الحر للسطور تبرز صورةٌ أو زوجان من الصور هما غروب الشمس، مجاز شعري تقليدي، مربوطًا بثوب امرأة حمراء يرفرف على أسطح المنازل. 

من جذر هذه الفكرة الواضحة، تطوّرت قصائدُ أخرى مثل "الخريف" التي يرتبط القمر فيها بوجه فلاح أحمرَ، و"فوق رصيف الميناء" التي يظهر القمر مجددًا لكن هذه المرة كبالونة طفل، و"الجسر" حيث سماء مزدانة كليا بالنجوم مرتبطة ببطانية قديمة تآكلتها العثة تائقةً بحزن لشخص ما ينام على مضض فوق شاطئ نهر التايمز. في كل قصيدة من هذه القصائد القصيرة صورتان -واحدة مرتبطة بلا نهائية السماء والعلياء، والأخرى مرتبطة بمظاهر الحياة اليومية الصغيرة- ينضمان لبعض معًا، كما لو أن هيوم في بحث لجلب الفضاء اللا محدود للشعر التقليدي إلى الأرض. وهذا بالضبط، كان أول فعل شعر الحداثة بتطبيقه على شيء ما غير ملحوظ، والحياة اليومية، مثل فاتورة فندق (كتب هيوم قصيدة أخرى على ظهر بطاقة بريدية).     

تشبه هذه القصائد القصيرة شعر الهايكو الياباني، الذي خَبِره عزرا بعد سنوات قلائل. ومنحت تجارب هيوم النهضة للتصويريّة، التي كانت الشعر الحقيقي الأول الذي يتعامل مع قضايا الحياة اليومية: وغالبًا ما تناولت التفاصيل العادية للعالم المعاصر، مثل الانتقال عبر الميترو، والمشي في شوارع لندن، ومراقبة الحشود وهي تغادر صالات السينما. ويسبق الشعرُ التصويري بعقدين من الزمن قصائدَ لـ Pylon Poets التي ذاع صيتها في ثلاثينات القرن العشرين. وبزَّت واحدة من قصائد هيوم القصيرة قصائد الهايكو الشعرية* بإيجازها إذ تتألف من ثماني كلمات: "كانت المنازلُ القديمة سقّالةً ذات مرة/ وصفيرُ عُمّال". إن شبكة الأصوات فيها معقَّدة ومعتنًى بها، فكلمة "قديمة" تحظى بدعم من "سقّالة" التي تغلِّف الكلمة، في حين تعاودُ "كانت" الظهور في "عمَّال" حيث ترتبط الصورتان معًا عبر قافية داخلية وصدًى.     

وبالطبع فثمة ساحل شعري حداثي بديل يمتاز بكونه أكثر غموضًا وتلميحًا كما في أسلوب ت. س. إليوت، وجيوفري هِل- لكن الفكرة الأكثر شيوعًا لـ"الشعر الحداثي" بلا شك فكرةُ هيوم التي سادت التخيُّل الشعبي. 

اقترح كارول آن دوفي في عام 2011 بأن القصائدَ شكلٌ من أشكال الرسائل النصيّة للُغتها غير الراقية وإيجازها: مقارنةٌ مُوحية للشاعر الذي يمنحنا "نصًا" ربما يكون أول قصيدة جديرة بالملاحظة حول خبرة المراسلة النصيّة. 

لكن الشعر الإنجليزي كان قد نما سلفًا نحو صغر الشكل قبل مئة عام، قبل الهواتف الجوّالة وعوالم الرسائل النصيّة بكثير. 

فكّر هيوم بأن على الشعر أن يكون قصيرًا حتى يستطيع الشخص العادي قراءته وتقديَّره في الترام وهو في طريقه إلى العمل أو أثناء جلوسه على الكرسي بعد العشاء. ترك هيوم لنا حفنة من القصائد التي سيشيد بها ت. س. إليوت بأن "اثنتان أو ثلاث من أجمل القصائد القصيرة في اللغة". أنزلَ الشعر من عليائه لكن ما حققه بعيد كل البعد عن الضآلة، فقد ساعد في إبداع شعر الحداثة كما نعرفه اليوم.  

 

_____

* يتكون الشعر الهايكو من بيت واحد مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا، يكتب بثلاثة أسطر، يتألف السطر الأول من 5 مقاطع صوتية والثاني من 7 والثالث من 5. المترجم.


Interesting literature

ترجمة: مؤمن الوزان.

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب