المشاركات الشائعة

الأربعاء، 24 فبراير 2021

العزوف عن محبة أدب الحداثة



بقلم فيرونيكا إسبوسيتو Veronica Esposito 

ترجمة: عباس جميل الحساني.


لا أعلم إن كنت سأومن بأدب الحداثة بعد الآن، كان أدب الحداثة يعني لي الكثير أكثر من أي نوع آخر، لكنني أتوجس منه خيفة الآن، إنني أراه الآن كرؤية للبشرية مبنية حول اللا معنى، النقص والضعف. 

وهو أدب عن المهام العقيمة والبحث عن هوية صعبة التحقق وغالبا ما يشار إليها بالظلام، طوال حياتي شعرت أن هذه القيم فطرية، أما الان فهي غريبة. إن ما أعنيه بالأدب الحداثي هو مجموعة من المؤلفين الرواد الذين أسسوا حركة أدبية بعيدا عن الصدمة والشوق، فقدان الشخصية وفوضى العلم الحديث. عاش هؤلاء الكتاب خلال حقبة تحول مجتمعي غير سابق، وكذلك خلال حرب لم تشهد حضارتهم مثل قساوتها، وقد واكبوا انهيار الأنظمة السياسية التي كانت مهيمنة على مجتمعاتهم، كما أنهم شهدوا تحولات مزلزلة في بيئتهم الثقافية والاجتماعية، وردًا على ذلك فقد أنتجوا أدبا يعبر عن محاولاتهم لصياغة معنى لهذا الواقع المقلق. وفوق ذلك فإن أغلب كتاب الحداثة تعرضوا لمشاكل وصدمات نفسية هزت وجدانهم، فعلى سبيل المثال عانت الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف (1882-1941) من الاكتئاب الهوسي أدى بها الى الانتحار بعد سنوات من الاضطراب. كما إن كافكا انكسر في الأساس بسبب شعوره بالظلم وقد توفي بسبب مرض مروع. وجيرترود شتاين [روائية وشاعرة امريكية 1874- 1946] التي أُسيء فهم حياتها الجنسية، مما أدى إلى استبعادها من الحياة والمجتمع الطبيعي. وقد كانت تعاني من مرض عقلي في الأرجح. وهناك أيضا الشاعر النمساوي ريلكه الذي تصور أنه بديل عن أخته الميتة كما أنه عانى من المرض في طفولته، والقائمة تطول. 

كان أدب الحداثة مفهوما لي لأن حياتي اتسمت بصدمة نفسية هائلة ومستمرة أيضا، لقد نشأت وأنا أفهم أنني على خطأ وأنني غير محبوب، ولن أتمكن من الوصول الى ذاتي الحقيقية. والواقع أنَّ قسما كبيرا من هذه الصدمة كان نابعا من إرغامي على النمو والعيش في نوع جندري خطأ كما كان نابعا من ديناميكية أسرية مختلة جعلتني أشعر بالخوف على سلامتي وعجزي عن اكتشاف هويتي، بسبب تعرضي لهذه الصدمات الهائلة التي لم أفهمها، ناهيك عن شفائي منها، وعندما رأيت الحداثيين يصورون صدماتهم وأزماتهم النفسية في أدبهم، شعرت أنني أفهم حالتي. كانت رواية (مذكرات مالته لويدز)، وهي الرواية الوحيدة للشاعر ريلكه ( 1875_1926)، واحدة من أولى الأعمال الأدبية التي جعلتني أشعر بأنني شخص متحول جنسيا، أجزاء كثيرة من الكتاب كانت تمثيلا لحياتي وما يكتنفها من السرية والأقنعة والشوق امرأةً متحولةً جنسيا. أتذكر ما أكثرَ حماسي عندما قرأت الكتاب، لأنني وجدت مؤلفا يفهم مشاعري ويعبر عنها في أعماله بدقة. لقد شعرت بأنه يكتب عني. في تلك الأيام لم أعتقد أبدا أنه يمكنني الحصول على ما أريد، وبسبب ذلك خدرت مشاعري كي أتخلص من ألم عيش حياة فاشلة، لقد تعلمت أن أتعايش مع حياة الحسد والسرية والشوق، لأنني اعتقدت بأنها الحياة الوحيدة الممكنة، الخدر الذي جعلني أتخطى هذه الحياة يعني أن عالمي ليس له أي معنى متأصل، لم أفهم لماذا يسعى أي شخص إلى السعادة، كنت دائما أعرف أنني سأعيش مع ألم لا يمكن التعبير عنه أو شفاؤه. 

إنَّ قراءة أعمال أدباء الحداثة كانت السبب في بعث الارتياح في نفسي، ذلك لأنهم حولوا حياة اللا جدوى الى حياة البطولة، وكان من المفيد أن نراهم وهم يبنون معانيهم الخاصة انطلاقا من الفلسفة الوجودية، وكيف تعلموا الاعتزاز بآلامهم وشوقهم لانهم يعتقدون أنهم لا يملكون خيارا آخر. أما الآن فقد تغير كل شيء في لقد أصبحت الشخص الذي كان يجب أن أكون عليه، وقد غادرت حالة الخدر التي لا يمكن علاجها. 

لقد تغيرت معتقداتي وقيمي تغيرا جذريا حتى إنَّ الكتابات الحداثية لم تعد تمسني كما كانت، لا زال بإمكاني أن أعجب بجمالية العمل الأدبي لكن خبرتي به فقدت شيئا حيويا. كانت نقطة التحول الاساسية عندي حينما غيرت نوعي، لقد فهمت أن النوع الذي عينني به العالم بناءً على أعضائي التناسلية غير صحيح. وأخيرا بدأت أعيش في النوع الذي ولدت به حقا. عندما خضت هذه الرحلة بدأت أفهم أن الصدمة العميقة التي تعرضت لها، وكيف شكلت هذه الصدمة شخصيتي وسلوكي. وببطئ بدأت أعيش الحياة التي كان ينبغي أن أعيشها، فبدأت أتخلص من هذه الصدمة، وأظهرت الاشياء التي كانت مكبوتة داخلي، وبمجرد أن أخرجتها بدأت بالتعافي من ضررها. ولكي أتمتع بصحة جيدة بدأت بتغيير معتقداتي حول الحياة، وما تعلمته من الحداثيين هو محور هذه المعتقدات. 

أتذكر جيدا عندما أدركت ما كان يحدث، لقد كان أول عيد ميلاد لي وأنا أنثى، حينها كنت قد أمضيت سبعة أشهر امرأةً، وقد مرت بضع سنوات حتى أعلنت عن كوني متحولة جنسية، ثم بدأت بتأنيث حياتي بطرق مختلفة. استيقظت مرة في الصباح الباكر وأخذت حماما دافئا، وجلست مستضيئة بنور الفجر وبدأت أقرأ قصائد ريلكه (سونيتات لاورفيوس)، وهي ذات الأشعار التي قرأتها من قبل واعتززت بها، وجعلتني أشعر بأنني فهمت ومكنتني من الإحساس بنفسي. لكن هذه المرة لم اأأثر بالكلمات كما تأثرت من قبل، لم يمسني العمل، كما أن الكلمات لم تتوغل الى داخل نفسي وروحي، لقد أحسست بالانفصال عن هذا الشعر. في ذلك الصباح بدأت أفهم أن الحداثيين كانوا ذات مرة منطقيين في نظري لأنني عشت مع ينبوع طافح من الألم والشعور الدائم بالضياع. لكن الآن وبعد أن طورت جسدي الصحيح، وافتراض مكاني المناسب في العالم، بدأت هذه المشاعر بالتلاشي، وببطء بدأت استبدلها بمشاعر الرضا، الصواب، الشفاء، والصحة فكنت أراجع اللغة التي أستخدمها في التكلم عن عالمي وأطور موقفا جديدا تجاه الحياة، ولأول مرة في حياتي شعرت بالامتنان لوجودي وآمنت أن السعادة هدف جدير بالاهتمام يجب أن أتابعه. رغم أن حياتي كانت بعيدة عن المثالية، ولا يزال لدي الكثير من المشاكل الجسدية، كما أن الغرباء يصنفوني كائنا مميزا. لكن التغيير في منظوري أحدث فرقا جوهريا. 

لأنني قمت بهذه الرحلة فإنني الآن أعرف قوة فهم قصة حياتك، ذات مرة كنت عالقة داخل هذا السرد الحداثي عاجزة ومرتبكة كبطل كافكا، لم أكن أعرف بداياتي ولم أفهم ما حصل لي، لم أعرف رأيي الخاص ولم أكن أملك جسدي، لكنني وجدت المعاني التي مكنتني من شق طريقي الفكري والخروج من السرد الحداثي بعد أن فهمته، وبمجرد أن رأيت قصة حياتي وما كانت عليه بدأت في إعادة تشكيلها في عملية تحويل جعلت مني ما أنا عليه الآن. 

إنَّ الصدمة التي ميزتني تمتد بعمق لا يصدق وتشكل الواقع المادي لعقلي، لكنني تعلمت أن أفهم مافعلته بي وألا أكون أسيرة لها مرة أخرى. 

وبسبب ذلك أقرأ الان أشياء مختلفة، وابتعدت بضع سنوات عن تلك الكتب التي كانت كل عالمي في يوم ما، أرى تلك الكتب على الرف وأتساءل إن كان علي التخلص منها، أشعر بالذنب، فرميها يمثل خيانة لها. بعد قبولها في حياتي الجديدة. أتساءل هل علي الابتعاد عنها (كتب أدب الحداثة) أو هل يمكنني إدخالها الى حياتي الجديدة، أعتقد أن هناك طريقة للتعايش، كما يمكنني الحصول على أشياء مختلفة منها، لكن ليس الآن، لقد قضيت شطرا من حياتي وأنا أعيش معها. والان أرى أن هناك الكثير في الحياة لاستكشافه.

الخميس، 18 فبراير 2021

الإيمان في رواية "حياة باي" لمؤلفها يان مارتل.


يُعرف الإيمان على أنه الاعتقاد أو الثقة في شيء أو شخص أو مفهوم. في الدين، يتمحور إيمان المرء حول الثقة والالتزام في نظام معين من المعتقدات الدينية. في رواية ايفان مارتيل، حياة باي، نرى بطل الرواية محتارًا بشأن اختيار ديانة ليعتنقها، لكنه يؤمن على نحوٍ مذهل بمجموعة راقية وذات دلالة من المعتقدات الشخصية، والتي كانت مفتاحًا لنجاته. قدّم إيمان باي في ثلاث ديانات، المسيحية والهندوسية والإسلام، لصاحبه مساعدةً جوهرية في رحلة البقاء. كما شكّل إيمان باي بالمسيحية مصدر إيمان قوي وفعّال خلال الرحلة. ينصب تركيز الديانة المسيحية على معتقدات تتعلق بميلاد يسوع المسيح وحياته وموته وقيامته، ("النصرانية"). كما قاده إيمانه بالمسيحية نحو خلق روتين صلاة، فقد كان يصلي آناء الليل وأطراف النهار. يقول باي: "أبقيت نفسي مشغولًا، كان هذا سبب نجاتي". "الشروق: استيقظ، صلاة". "منتصف النهار: صلاة، غداء". "الغروب:... صلاة". "الليل.. نوم متقطع، صلاة". (حياة باي ص210). في ضوء هذه الشهادة، نستجلي استخدام باي إيمانه على أنه آلية تكيف أثناء الصعوبات التي مرَّ بها في محنته. حتى إنه يقول عن نفسه "كان هذا سبب بقائي حيًا"، وذلك لأنه علِم في قرارة نفسه أنه لا يجدر به اتباع روتينه الديني المعتاد، بل فعل ما هو أكثر، مما حافظ على صحته العقلية، وحال دونه والجنون. كان بطل الرواية يواجه فراغًا رهيبًا، وهذا من شأنه أن يقود المرء إلى الجنون مع غياب أي عمل ليفعله. طالما كان لدى من يؤمن بديانة ما منظورٌ إيجابيٌ متفائلٌ نحو الحياة، وذلك لإيمانهم بما هو أكثر من الواقع.  ثمة شيء صالح ومقدس في هذا العالم. الأمر الذي ينطبق على بطل الرواية باي، كانت لديه عقلية منفتحة ساعدته على التنقل بين ثلاث ديانات، على الرغم من عدم تقيده بتعاليم ديانة محددة الأمر الذي كان سببًا لنجاته. ساعدت النصرانية باي على تجاهل الواقع والنظر إلى ما وراءه، كان يتعامل مع الكارثة كما يتعامل مع بقية كوارث العالم، يتطلع إلى ما وراءها ويصلي من أجل أن يمنحه الرب سببًا ومعنًى  للبقاء حيًا. كما أدخلت له طقوسه الدينية الطمأنينة على نفسه، ومدّته بإرادة الاستمرار. يقول بطل الرواية: "أدخلت  طقوسي الدينية الراحة على نفسي، إنه أمرٌ مؤكد. لكنه كان شاقًا، أوه، ما كان أشقاه. الإيمان بالرب انفتاح واستغناء وثقة عمياء. محبة غير مشروطة - لكن يصعب جدًا في بعض الأحايين أن تحب" (الرواية، ص 231). يقرُّ باي بتضعضع إيمانه عندما بدا له أن الرب لم يكن يصغي إلى نداءاته. لكنه ظل مواظبًا على الصلاة كما ظل مخلصًا وممارسًا لطقوسه الدينية طوال 227 يومًا بأكملها. كان إيمان باي السبب الأساسي في الحفاظ على عقله من الجنون وفي نجاته كذلك. أمّا إيمانه بالهندوسية فهي مثال آخر قوي أسهم في صموده أثناء محنته. الهندوسية ديانة قديمة في الهند تجمع خليطا متنوعا وغنيا من الطقوس التي تشترك في موضوعات مشتركة، لكنها لا تفرض مجموعة واحدة من المعتقدات أو الممارسات على الفرد. ("الهندوسية").  ساعد إيمان باي المتين بالهندوسية على تجاوزه لمحنته. تأتي الرواية على ذكر لحظة يستيقظ فيها البطل في منتصف الليل ليجد نفسه ضحية مشاعر هوان وضآلة تستبد به نظرًا لحالته. كانت تلك المشاعر تطفو بشكل خوف واكتئاب، لكنها تأخذ بالتلاشي عندما يستذكر قصة شخصية هندوسية تدعى ماركانديا كان قد تعرَّف عليها بسبب إيمانه بالهندوسية. يقول باي: "شعرت وكأنني الحكيم ماركانديا، الذي سقط من فم فشينو عندما كان نائمًا، تفحّصَ الكون بأكمله، رأى جميع خبايا الوجود. لكن قبل أن يقضي الحكيم نحبه من الذعر استيقظ فيشنو وأعاده إلى فمّه" (الرواية، ص 177). أعطى إنقاذ فيشنو للحكيم  باي دافعًا نحو الاستمرار، كان يُبعث مجددًا كل صباح  ويواصل القتال من أجل حياته. غالبًا ما سلبت منه الليالي شعوره بالأمل، لكن شروق الشمس أعاده إلية أعاد رغبته في القتال والنجاة. كان من الواضح أن باي استمد قوّته من خليط صلواته وممارساته الدينية. إذ كان إيمانه القوي بالهندوسية يدفعه إلى استخراج الأفضل في كل موقف والنظر إلى الأمور بمنظورٍ مختلف. عندما يتذكر قصة الحكيم كان التفاؤل يسري في عروقه حتى نهايتها تحديدًا، الأمر الذي دفعه نحو مواصلة طقوسه وأعماله اليومية. لقد أدرك أن وضعه لم يكن مثيرًا للإعجاب كما هو وضع الحكيم في القصة، لكنه أدرك أيضًا ضرورة الحفاظ على النظرة الإيجابية لوضعه وآداء طقوسه كما ينبغي وذلك لينجز مهام يومه، الأمر الذي سيبقي عقله نشطًا، وأمله حيًا. في الختام، كان الدين الإسلامي آخر أسلحة باي في محنته، إذ شكّل الإسلام مصدرًا لقوته ونجاته من الكارثة. يرتكز الدين الإسلامي على الوحي الذي تلقاه النبي محمد والخضوع لإرادة الله. كما يركز على نحو كبير على الحيوانات وأن جميع المخلوقات مخلوقات الله ويجب معاملتها بلطف ورحمة. ("دين الاسلام"). عندما رأى باي أن جميع حلوله للبقاء جنبًا إلى جنب مع النمر ريتشارد باركر تتعارض مع معتقداته  تفكّر في جوهر إيمانه ووجد أن عليه ترويض النمر والاعتناء به. بدأ باي يؤمن في خطّته واستنتج أنها الخطة المثالية. يقول باي:"كان علي ترويضه. في تلك اللحظة أدركت هذه الضرورة. لم يكن السؤال أنا أو النمر، بل كان أنا والنمر. كنّا، بالمعنى الحرفي والمجازي، على ذات القارب. إما نعيش - وإما نموت معًا "(الرواية، ص 181). أدرك باي أن عليه التعايش مع النمر بكل لطفٍ واحترام  إذ يفرض عليه الإسلام ذلك. يظهر هذا الاقتباس إيمان باي الإسلامي العطوف نحو ريتشارد باركر، النمر، إذ يدرك أن ليس عليه إبقائه حيًا فقط بل والسيطرة عليه أيضًا. فهو عالق معه طوال الرحلة التي يتحتم عليه خلالها وضع ثقته في دينه وفي النمر كذلك لكي يتمكن من النجاة. يعتقد باي أن النمر أخاه وذلك بناءً على معتقداته الإسلامية التي ظل يتذكرها رغم كراهيته للنمر وحقده عليه.  وبالاعتماد على تعاليم الإسلام التي تحثّه على معاملة الحيوانات بكل لطف ومراعاة آمن بأن الحيوان سينجو في آخر المطاف على القارب. وسرعان ما أدرك مع مرور الوقت أنه ما كان لينجو لولا ترويضه للنمر ومرافقته. يقول بطل الرواية: "شجعني وجود النمر على  الاستمرار في العيش. كرهته لذلك، بيد أنني شعرت بالامتنان نحوه في الوقت ذاته، كنت ممتنا. أنا ممتن. إنها الحقيقة المجردة: فمن دون ريتشارد باركر، ما كنت على قيد الحياة اليوم لأروي بقصتي". (الرواية، ص 186).  ويستمر هذا ليثبت أن ترويض النمر لم يكن جانبًا مهمًا من الرواية فقط، بل يوضح تمام الوضوح كيف أن لولا وجود النمر ما كان ليبقى باي على قيد الحياة.  كما أن ثمة مصدر آخر هام لعقيدته الإسلامية يتمثل في الوقت الطويل الذي استغرقه باي لإعادة صياغة قواعده الطقوسية وذلك عندما قال: "في مثل هذه اللحظات حاولت الارتقاء بنفسي. كنت لألمس طاقيتي التي صنعتها من بقايا قميصي وأقول بصوت عال "هذه قبعة الله!"... كان اليأس سوادًا حالكًا لا يسمح بدخول الضوء أو خروجه، كان جحيمًا يتعذر وصفه كما أظن. لكنه يمضي على الدوام" (الرواية، ص 209). تعود هذه القبعة إلى القبعة الإسلامية التي اعتاد على ارتدائها كل يوم. في هذه الحالة، عندما استخدم قمصانه بدلًا من العمامة العادية، وهو بهذا أعاد أساليب حياته إلى وضعها الطبيعي. وهو يخلق جوًا يشبه كثيرا ما اعتاد عليه، فإنه يخفف من حقيقة وضعه ويجلب الضوء إلى كل ما هو مظلم. يظهر التزام باي بهذا الدين والأديان الثلاثة المختلفة كليا أن الحب والإيمان يزدهران في داخله، كما  يظهر أيضًا أنها المصدر نفسه الذي يستمد منه القوة والرغبة في النجاة من محنته. يظهر باي خلال الرواية محتارًا حول أي ديانة ليتّبعها إلا أن إيمانه بمزيج من المعتقدات الهادفة والراقية كان السبب الرئيس لبقائه حيًا. كما أن تحليل إيمان باي لدياناته الثلاث، المسيحية والهندوسية والإسلام، يساعد على نحوٍ عام في فهم القوى الدافعة التي سمحت له في النجاة من كارثة غيّرت حياته إلى الأبد. أما المسألة الأكثر تشويقًا في إيمانه والتي تُفهم عبر الرواية هي عندما يسرد باي نسخة بديلة من قصته باستبدال جميع الحيوانات ببشر. ونظرًا لكلتا النسختين، فإن هذا يجبر القراء على التفكير بأي نسخة يفضلون، تلك التي تتضمن الحيوانات ويرّوض بها النمر طوال 277 يومًا أو تلك التي تتضمن أشخاصا حقيقيين غير زائفين. وبطبيعة الحال، الآراء مختلفة، ولكن السؤال موجه إلى أن يكون بمنزلة الانعكاس اللاهوتي. هل يفضل المرء أن يؤمن بالاستدلال المنطقي والأشياء التي يراها مجسدةً أمامه؟ أو يفضل الإيمان بالمعتقدات والمعجزات؟ 

الجدل هو أنه إذا كان المرء يفضل القصة مع الحيوانات، ويختار أن يؤمن بالمستحيل، وأن يكون لديه إيمان لا يتزعزع، كما يؤمن بعالم حيث السحر والأشياء التي لا تصدق، عالم حيث الناس يساعدهم "الرب" على أي نحوٍ يقبله المرء. وهذا من شأنه أن يتلاءم و الغرض الرئيس من القصة توجيه القارئ نحو الإيمان بالرب. ولكن على أي حال، وبصرف النظر عن تكرار سرد المرء لقصة الرب (من خلال المسيحية أو الهندوسية أو الإسلام)، إلا أنه يبقى كما هو، يغيّر الرب القصة تمامًا لتتناسب والشخص أو الثقافة.

UKESSAYS. 

ترجمة: شوق العنزي.


السبت، 13 فبراير 2021

نزيلة ويلدفيل هال - آن برونتي.



مؤمن الوزان.


بعد ظهور روايتها الأولى "أغنيس غري" بسنة، نشرت آن روايتها الأخرى والتي فاقت روايتها الأولى حجمًا ومستوًى فنيًا وموضوعيًا في عام 1848 قبل وفاتها بعام تقريبًا. هذه الرواية هي الأخرى استمدت آن الكثير من حياتها في كتابتها ولا سيما من مصدرين مهمين، الأول عملها مربيةً لدى أسرة إدموند روبنسون في منطقة ثورب غرين، حيث عملت آن خمس سنوات واستمرت في تواصل مع بنات إدموند روبنسون (الذي تبيّنت علاقتها معهم على نحو أوضح في رواية أغنيس غري) بعد تركها العمل، والثاني على حياة أخيها برانويل برونتي ووقوعه في غرام السيدة روبنسون التي أحبها على نحو محموم بعد أن عمل مرشدًا لابنها إدموند في ثورب غرين مع أخته، وكان يمني نفسه بزواجها بعد وفاة زوجها (يمكن رؤية بعض النقاط المتشابهة التي تُذكر في رواية ويلدفيل هال إلا أنها نقاط عرضية والوقوف عندها يستدعي دراسة تحليلية ونقدية مفصَّلة للعمل ليس هذا مقامها). هذان المصدران الرئيسان اللذان ارتكزت آن عليهما في خلق شخصياتها وعرض المجتمع ونقده إضافة إلى المواضيع الأخرى التي تضمها الرواية- لا يمكن أن نُوعز فكرة العمل وإلهامه إليهما بالكامل فكما تقول كاتبة سيرة آن برونتي وينفريد جيرن: "لم تكن رواية نزيلة ويلدفيل هال مجرد دراسة عن شخصية فاسقة (شخصية هنتنغتن زوج هيلين) بل تقديم لمجتمع فاسق، ولا يمكن تعريف شخصيات الرواية بأنها تصوير لشخص محدد أو مجموعة أشخاص عرفتهم آن، لكن -وبوضوح- لأصولهم التي كانوا أبعد من أن يبحثوا فيها، إن عالم غراسدايل (حيث عاشت هيلين مع زوجها سنوات زواجها) هو في الأساس البيئة الاجتماعية لثورب غرين هال". لا ينفع القارئ الوقوف كثيرا على نقاط التشابه والتقاطع ما بين حياة آن ومن عرفتهم وبين الرواية وشخصياتها إلا في التحليل المفصّل كما ذكرت آنفا*. 


إنَّ رواية نزيلة ويلدفيل هال واحدة من بواكير الأعمال الروائية النسوية، فمواضيعها المتنوعة التي تركزت حول شخصية البطلة هيلين منحت زخمًا كبيرًا للكثير من القضايا النسوية في المجتمع الإنجليزي في وقتها، وسلَّطت الضوء على الكثير من المفاهيم مثل عمل المرأة، واستقلالها المادي، وأدوار النوعين (الجندر)، والعنف الأسري، وترك المرأة لزوجها، والزواج الإجباري، وانعدام ذات وخصوصية الزوجة، وتكريس حياتها لخدمة زوجها وسعادته، إلخ، ونُوقِشت هذه المواضيع جليا في العمل ضمن متن الأحداث الواردة فيه. ولا نحصر مواضيع العمل في الجانب النسوي فقط، بل ضمَّ كذلك مواضيع مهمة أخرى مثل تربية الأولاد والبنات والتفريق بين تربية الاثنين، التي كان لهيلين رؤيتها المخالفة لرؤية المحيط في نظامه التربوي المُفرِّق بينهما، وحال المجتمع الفاسق المتهتك وعلاقات أفراده المتضعضعة، والخيانة الزوجية، والعلاقة الزوجية السيئة ،والحب، والأمومة. كما يمكن ضم الرواية إلى أنواع مختلفة من بينها الرواية الاجتماعية، ورواية الأفكار عبر طرحها ونقاشها للأخلاق والدين والفضائل فضلا عن رواية رسائلية ورواية يوميات. 


هذا الثراء الموضوعي توزع في أجزاء الرواية الثلاثة، وتناوب كل عرض مواضيع معينة من القصة التي امتدت لأكثر من أربعمئة صفحة، وتميّز كل جزء بسارد خاص  وأسلوب سرد مختلف وزمان ومكان خاصين به. لنقف أمام عمل متكامل ومميز في بنيويته وسرديته. 


يُسرد الجزء الأول من العمل في رسائل يكتبها جيلبرت ماركهام إلى خطيب أخته هالفورد، ويقص في هذه الرسائل حال هذه السيدة الغريبة "غراهام" التي حلّت في بلدتهم وسكنت في قصر قديم "ويلدفيل هال" يعود إلى الحقبة الإليزابيثية والذي لم يُسكن منذ سنوات عديدة شغلته مع ابنها "آرثر" وخادمتها "راشيل". وبعد بداية قوطية حول هذه السيدة التي بدا عليها أنها أرملة شابة وغامضة، يبدأ سكان البلدة ومن بينهم جيلبرت وأمه وأخته في التعرف على هذه السيدة وتكوين علاقات معها، إلا أن طبيعة هذه السيدة الحذرة والمنعزلة والمتكتّمة، وتواصلها اللافت مع فريدريك لورانس (أحد سكان هذه البلدة ويُكشف عن قرابته بها في الجزء الثاني) يثير الشائعات حولها وماضيها يصل إلى التشكيك بأخلاقياتها، ينبري ماركهام في الدفاع عنها وعدم تصديق ما يقال عنها، ويقع تدريجيًا في غرامها. 

تعمل السيدة غراهام في رسم اللوحات في كسب دخلها المادي لتعيش في هذا القصر الذي هُجر طويلًا، لكنها تضيق ذرعًا بتدخلات أهل البلدة، ثم اهتمام جيلبرت بها واعترافه بحبه لها، لتكشف له عن حقيقة شخصها وماضيها وما مرت به حتى انتهى بها المطاف هنا. 


الجزء الثاني من العمل، تتولى فيه هيلين هنتنغتن (السيدة غراهام اسم مستعار لها بعد هروبها من زوجها) سرد قصتها في يومياتها في السنوات التي سبقت قدومها لتسكن في ويلدفيل هال (استرجاعية للأحداث الماضية) التي أعطتها لجيلبرت كاشفة له هُويتها وحياتها الماضية. ينقلها جيلبرت كما هي في رسائله إلى هالفورد إلا أنه لا توجد إشارة إلى هذا النقل لأن الصوت السردي صوت هيلين والأسلوب السردي هو اليوميات، ويغيب جيلبرت عن هذا لكنه يحضر قارئا لهذه اليوميات، والقارئ العادي وخطيب أخته هالفورد يقرآها بقراءة جيلبرت لها (قراءة ضمنية داخل قراءة ضمنية؛ يغيب الوسيط "جيلبرت" بل تصبح قراءته وقراءة هالفورد وقراءة القارئ متزامنة وواحدة). يمثل هذا الجزء من الكتاب القسم الأكبر من العمل، وفيه تدور أغلب مواضيع الرواية المهمة والرئيسة، فبعد بداية زواج ظنته هيلين سعيدًا ينقلب عليها وبالًا في أكثر من خمس سنوات من المعاناة. تحاول خالتها رفض زواجها من هنتنغتن محاولة تبرير اعتراضها على سوء سمعته وسلوكياته الفاسقة إلا أن هيلين ترفض ما يُشاع عنه وتصرُّ على زواجه (نرى في هذا الإصرار على الزواج ورفض ما يُقال عنه- ذات السمة حين أصرَّ جيلبرت على رفض ما أُشيع عن علاقة السيدة غراهام ولورانس فريدريك وما قيل عنها وبقي متمسكًا برأيه بشأنها ودفاعه عنها وسمعتها وأخلاقها). 

لا ينفك تطور شخصية هيلين بتقدم الأحداث وتعددها وتنوع مواضيع الراوية بل نلتمس في قراءة هذا الجزء بأحداثه المأساوية التي أصابت هيلين تطور شخصيتها سُبكت وحُبكت على نحو متقن جدا ما بين "أحبه (تقصد زوجها هنتنغتن) وأكرهه". تمر شخصية هيلين خلال هذه السنوات ما بين حياة العزوبية والزواج والهروب والترمل والزواج مجددا بمراحل مختلفة ومتعاقبة، تخلق من هيلين هيلينَ أخرى، هي في النهاية نتاج للمجتمع الفاسق الذي عاشت داخله في غراسدايل والمعاناة والمأساة والأخلاق والقدر والدين: 


عزباء متحمسة لإصلاح زوجها. 


المرحلة الأولى في شخصية هيلين تمثلت في كونها عزباء غريرة وقعت في غرام هنتنغتن ورضيت به رغم سمعته وسلوكياته التي شاهدت بعضها لأنها أحبته وطمحت لإصلاحه مفرطة التقدير بقدرتها ومخدوعة بكلامه المعسول ووعودها المُلونة "لو تتحدثين معي كل يوم سأتحول إلى قديس" هذا القديس الذي سيكشف عن قدسيته المريعة والشنيعة بعد الزواج. 


-  زوجة تحاول إرضاء زوجها وإصلاحه ثم الصِدام والصبر عليه.


بعد الزواج تتكشَّف لهيلين مساوئ زوجها وسلوكياته اللا أخلاقية وإدمانه الكحول ولقاءاته مع مجموعته المتهتكة، ويتضح لها أن مساعيها مهما تكاثفت فهي فاشلة، وأن زوجها لا يطمح لإصلاح نفسه، ولا يستمع إليها إلا من أجل إسكاتها والتخلص من مواعضها التي يضيق بها ذرعا. 


أمٌّ تلتهي بابنها ثم تحاول تقبل زوجها. 


تشهد المرحلة الثالثة من تطور شخصية هيلين منعطفًا مهمًا بعد أن تصبح أمًا، فالأمومة تحوّل اهتمام هيلين وانشغال فكرها من زوجها الميئوس منه إلى ابنها، ثم تقبل زوجها كما هو لتعلن عن أول فشل وخيبة أملها سعت لأجلها قبل وأثناء زواجها. 


اكتشاف خيانة زوجها له ومصارحته بالأمر. 


أماطت خيانة زوجها اللثام عن هيلين جديدة، هي الطور الأهم من أطوار شخصيتها في حياتها، لتظهر بهيئة قوية وصلبة لا تُبدي ضعفها قُبالة أي أحد وتعيش حياة منفصلة مع زوجها في زواج ظاهري فحسب تحت سقف واحد. يُسدل الستار عن مرحلة تهتك سري عمل هنتنغتن على إخفائها عن زوجته وليبدأ الآن -بعد معرفتها بخيانته لها ومصارحته بالأمر- فصلٌ جديد من هذه العلاقة المشؤومة ما بين الاثنين سعى فيها زوجها إلى الإساءة لها بقدر الإمكان فتواجهه هيلين بجَلَد وصبر وثبات. 


رفض الخيانة والتمسك بأخلاقها وقيمها ودينها المسيحي وتعالميه.


لم تضعف الخيانة وانفصال الحياة الزوجية بين الاثنين القيمَ والأخلاقَ التي اعتنقتها هيلين، فالتقوى والإيمان المسيحيان يلعبان دورًا مهمًا في كونهما سلوى لمصابها يدعمانها في هذه المرحلة العسيرة من حياتها وكذلك ترسًا صلبًا يحميها من الغواية والانحدار الأخلاقي والقيمي للانتقام من زوجها، فهي رغم كل هذا لا تفكر بالانتقام من زوجها عبر الخيانة وتعلل هذا "لن يجعله أفضل وسيجعلني أسوأ".  


التخطيط للهروب وحماية ابنها من تأثير والده المتعمّد ومجتمعه المتهتك.


بعد أن تضيق بها الحياة مع هذا الزوج ذرعًا فإن الطور المهم الثاني في شخصية هيلين متمثلٌ في محاولة إنهاء هذه التعاسة والبؤس الذي تعيشه، ولأجل حماية ابنها في المقام الأول من تأثير والده، فكلما كبر ابنها زاد تأثير والده السيئ فيه وتفاقم همها وتضاعف قلقلها لتلفي نفسها لا خيار أمامها سوى الهرب من هذا الجحيم الذي تعيشه. 

 

حياة ما بعد الهروب. 


في هذه القسم الأخير من يومياتها والجزء الثاني من الرواية الذي يتصل ببداية الجزء الأول، الذي يسرده جيلبرت في رسائله لخطيب أخته، تترسم آخر ملامح تكامل شخصية هيلين، فخلال بضع سنوات، تتحول من شابة ثرية غريرة محبة يملأها ويدفعها طموح إصلاح حبيبها وزوجها وسحبه من عالمه إلى أم عزباء وامرأة مستقلة تعيش في فاقة عركتها الحياة وتعتمد على نفسها في جني قوتها وتربية وحيدها. 



في الجزء الثالث الأخير من الرواية يتولى جيلبرت وهيلين مهمة السرد في رسائلهما إلى هالفورد وفريدريك على التوالي، ويكملان فيه مُجريات الأحداث المتممة لقصة هيلين التي تعود إلى زوجها من أجل الاعتناء به بعد مرضه ثم وفاته، وما يكتبه جيلبرت في رسائله (رسائل هيلين يقرأها هالفورد والقارئ بذات طريقة الجزء الثاني عبر الوسيط -جيلبرت- الضمني) عن تصميمه وإصراره في حبه الذي ينتهي بزواجه هيلين في نهاية شجية وعاطفية حملت في طياتها الصراع النفسي والرومانسية الخالصة.


تقدم آن في هذه الرواية عملًا إنسانيًا عظيمًا موضوعيًا وجيدًا فنيًا بتقديم رؤية بانورامية للمجتمع الذي اختلطت به في ثورب غرين من عدة جوانب حياتية وفكرية وأخلاقية ودينية تمثلت في شخصيات العمل الرئيسة (هيلين وهنتنغتن وجيلبرت). وتمَّ هذا التقديم عبر شقين رئيسين من السرد بضمير الشخص الأول. فما يخص الجزئين الأول والثالث فإنهما يُسردا بأسلوب الرسائل،  الجزء الأول رسائل جيلبرت فحسب، ونرى في الجزء الثالث من الرواية تمازج الصوت السردي في نسج الحدث بتوازٍ دون إخلال أحدهما بالآخر بل يتعاقبان ويتتابعان في رسائل جيلبرت إلى هالفورد وهيلين إلى فريدريك. كان الصوت السردي لكل منهما واضحًا يحس القارئ بتميّزه عن الآخر سواء من لغته أو فكره. أما السرد في الجزء الثاني الخاص بيوميات هيلين وهنتنغتن التي تدونها في أوقات متباعدة متصاعدة منذ مرحلة ما قبل زواجها وحتى فرارها. ويطبع على يومياتها سمة التحليلة للسلوكيات والعمق النفسي الذي تسبر غوره لكشف أسبابه سواء من خلال سرد الأحداث أو الحوارات. 

تُعرض الشخصيات جميعا عبر الساردين الرئيسين لذلك فهي تحدد القارئ بمنظار وسياق رؤية معين مهما حاول السارد الحياد في نقله وعرضه فإنه يحرم الشخصيات حرية الدفاع عن ذواتها وأفكارها وسلوكياتها، وهذا ما يجعلنا نُسلم إلزامًا بصدق السارد وما يرويه، ونأخذ به في تحليل صراع الخير والشر في العمل وعند الشخصيات، فأي ظلم قد يقع على الشخصيات أو إطراء مبالغ به فإن المسؤول الأول عنه هما هيلين وجيلبرت.


صراع الخير والشر 


إنَّ الموضوع الرئيس الذي يضم جميع أحداث الرواية مُشكَّلا إطارًا وخلفية هو صراع الخير والشر والفضيلة والرذيلة والدين والكفر وما يتفرع عن هذه الأطراف الستّة المتنازعة من سلوكيات وأفعال وأقوال وأفكار في الرواية. 

تتقدم هيلين لتكون رمزَ الخير المطلق كما نقرأ هذا في يومياتها عبر ما كنَّته لزوجها قبل زواجها من محاولة إصلاحه ثم نصحه والصبر عليه بعد زواجها إلى أن وصلت إلى مرحلة التسليم ثم الصدمة باكتشاف خيانة زوجها لها وإصرارها على أخلاقياتها في وجه الإغواءات رافضة الاستسلام له وسيلةً للانتقام ثم هربها فعودتها لنجدته وإعانته في مرضه المُميت. تسرد وتبرر هيلين كل أفعالها وأفكارها ومعتقداتها في يومياتها ثم في رسائلها لأخيها، هذه الخيرية والإنسانية مُزجت بإيمانها بالرب وبالعقيدة المسيحية التي تتصارع مع قوى الشر في العمل، الشر المتمثل في شخصية هنتنغتن. إن الشرانية عند هنتنغتن متعددة الوجوه سواء في معتقداته وأفكاره وأفعاله، وتجاوزت حدودها الإنسانية المتثملة في شخصه ليصبح رمز الشر الإنساني المطلق في صراعه مع الخير في العمل، وحلبة الصراع هي الحياة الزوجية. يأخذ مسار الصراع نمطًا اعتياديا تمر به هيلين وهنتنغتن، وتكون الغلبة في صالح هنتنغتن في المراحل الأولى حتى الوصول إلى مرحلة الذروة ثم تبدأ قوته بالانخفاض تزامنا مع صعود قوى الخير المتمثلة بهيلين التي تنتهي بانتصارها وخلاصها. لكن هذا الصراع هو معركة شرسة حيث حرب الأفكار والأفعال والمقاومة بين جميع القوى المتضاربة، وثمة المصرُّ على أفعاله وثمة المتردد الذي يأخذ جانب الخير مرة والشر في أخرى، مما يعطي للعمل زخمًا قويًا وتشعبًا في الرؤية لا يتمثل في القوى الكبرى فحسب. 

لا يقتصر الأمر كذلك على الشخصيات الرئيسة بل وكذلك على شخصيات دون رئيسة مثل أنابيلا وجيلبرت في هذا الصراع وثانوية مثل لورد بورو وهارغرايف وكذا الأمر في تعدد حلبات الصراع وإن كانت حلبة الحياة الزوجية هي السائدة، هذا التعدد منح صراع الخير والشر توازيًا في قواه في الوقت الذي لا يشهد تغليب طرف على طرف بالكامل وإن انتهى بموت هنتنغتن وزواج هيلين مرة أخرى، لكن هيلين لم تستطع أن تُعيد هنتنغتن إلى جادة الصواب حتى في فراش موته، وسقطته وتدهور صحته ليسا بسبب هيلين بل القدر المكتوب سلفا. ونشهد عدم تغليب نوع على نوع في الخير والشر وإن تمثل طرف الخير الرئيس في شخصية الأنثى "هيلين" والشر في شخصية الذكر "هنتنغتن" فارتدت هيلين ثوبًا ملائكيا وهنتنغتن ثوبًا شيطانيًا وبقيا في احتدام مستمر حالف القدر هيلين في صراعها وحياتها في آخر الرواية.


_____

* نرى انقسام شخص وحياة برانويل برونتي في عدة شخصيات في العمل، فالجانب المتهتك والفاسق والمنحل وإدمان الخمر نجده في شخصية هنتنغتن، وكذلك ساهم شخص إدموند روبنسون (الذي عملت آن لديه خمس سنوات) ومجتمعه في خلق هنتنتغتن، والجانب المحب والمولع بإخلاص من شخص برانويل للسيدة روبنسون في شخصية جيلبرت ماركهام الذي أحبَّ هيلين بعد تركها ثم بقاؤه مخلصًا في حبها ومنتظرًا إياها حتى تزوجها بعد وفاة هنتنغتن، وهنا المفارقة أن برانويل لم يتزوج السيدة روبنسون (تزوجت آخر بعد وفاة زوجها) بل إن عدم قدرته على زواجها والمشاكل التي واجهته والعراقيل في مسعاه هذا أودت به إلى الإفراط في التهتك وإدمان الخمر والأفيون ثم الموت بعد تدهور حالته الصحية. أما شخصية هيلين ولا سيما في جانبيها الأخلاقي والديني فهما مستمدين من شخص آن والتزامها الأخلاقي والديني المسيحيين وكذلك من حياة السيدة روبنسون. لذا يمكن -وبالرجوع إلى قول وينفريد غرين فإن شخصيات ويلدفيل هال- إن شخصيات العمل هي خليط من أشخاص عرفتهم آن وتخيّلتهم بعد صهرها معارف حياتها وعملها في بوتقة واحدة ثم استخلصت شخصيات متنوعة من هذا الخليط الذي مرَّ عليها في حياتها. 

تتعدد البحوث والكتابات حول جذور هذه الشخصيات، وكذلك فيما يخص العمل نفسه الذي أُهمل كثيرًا ولم ينل حظه من المكانة والشهرة لحساب أعمال أختيها لأن عديد النقاد قالوا إن العمل لم يقدم شيئًا أفضل من رواية إيملي "مرتفعات وذرينغ" المنشورة في عام 1846، ورواية شارلوت "جين إير" المنشورة في ذات السنة، بل وذهب بعضهم إلى أن آن أخذت من روايتي أختيها في بناء روايتها (ثمة بعض التشابه بين جين وهيلين). هذا العمل الذي مقتته شارلوت لأسباب تخص موضوعه ووصفته بأنه "غلطة بأكلمه" بل ولم تمنح الإذن بإعادة نشره بعد نفاد طبعته ووفاة أختها.  



















لمشاهدة المسلسل الذي أنتجته قناة BBC المقتبس من الرواية في ثلاث حلقات (غير مترجمة) لكل جزء من الرواية حلقة: 



الحلقة الأولى: 

https://www.dailymotion.com/video/x2anyfs

الحلقة الثانية:

https://www.dailymotion.com/video/x2ao4ck


الحلقة الأخيرة: 

https://www.dailymotion.com/video/x2aogv3



لقراءة سيرة آن برونتي:

https://drive.google.com/file/d/1EKlbk8aQMmp18nE4cAxloCp1KVtEgYqS/view?usp=drivesdk


السبت، 6 فبراير 2021

هل كتاب الأمير الصغير قصة للأطفال؟



هل كتاب الأمير الصغير قصة للأطفال، أو يوجد به ما هو أكثر من ذلك؟ أُلِّفَ كتاب الأمير الصغير الكاتب الأرستقراطي الفرنسي أنطوان دو سانت-أكزوبيري الذي كان طيارًا. تتحدث القصة عن أمير صغير يزور عدة كواكب في الفضاء من بينها كوكب الأرض، ويسلِّطُ هذا الكتاب أيضًا الضوء على عدة مواضيع أخرى كالوحدة، الصداقة، الحب والفقد. ورُغم أن أسلوب الكتاب يبدو كما لو أنه موجه للأطفال، فإن الأمير الصغير يحوي تأملات ثاقبة عن الحياة مما يجعل القراء يظنون أن الكتاب موجه للقارئ البالغ أيضًا. مع ذلك فإنه حين تلمح الكتاب لأول مرة قد يبدو الأمير الصغير كتابَ أطفال سهل المحتوى يتحدث عن معاني الصداقة، مما يُظهر أن هذا الكتاب من الممكن تأويله على عدة مستويات مختلفة.

لم يحدثنا الراوي خلال الكتاب عن نفسه ولم نعرف أيَّ شيء عنه عدا كونه رجلا بالغا وطيارا. يُبدعُ أنطوان دو سانت-أكزوبيري عمدًا شخصيةً غامضةً للقاص لسببين، أولهما أن دور القاص الأساسي هو أن يصف رحلة الأمير الصغير للقارئ دون معرفة من هو الراوي في القصة. ثانيًا، إنه من المفترض للراوي أن يمثل جميع البالغين كما يفترض بالأمير الصغير أن يمثل الأطفال عموما. لذلك من خلال عدم خلق شخصية معينة ومليئة بالحياة، يمكن للراوي أن يكون ذا صلة وعلاقة بكل من البالغين ولدى القارئ الحرية الإبداعية لتخيل الراوي كما يشاء.

خلال الكتاب توجد شخصيات تستكشف عدة مواضيع مختلفة.  لاحظ سانت-أكزوبيري ذات مرة أن البالغين قد يكونوا أنانيين وينسون التفاصيل الصغيرة التي جعلتهم سعداء حين كانوا في سنٍّ أصغر. "كان جميع البالغين أطفالًا في يوم ما.. لكن فقط قلة منهم من يتذكرون ذلك". فكرة أن الأمير الصغير يملك شخصية واضحة ذات إنسانية ساذجة تُظهر أنه لا يرتدي النظارات المجازية التي تشوه نظرة معظم البالغين للعالم. 


يناقش هذا المقال كون الكتاب أكثر من مجرد قصة للأطفال وعلى البالغين ومن بإمكانهم تفسير رؤية الكتاب وتصويره أن يقرأوه.


يكشف الكتاب عموما عن رغبات البالغين ويحتفل بالبراءة والطبيعة الفضولية للأطفال. يستخدم سانت-أكزوبيري رموزا وصورا تُشير إلى أفكار أو مشاعر تُساعد على تيسير دروس الحياة. يسأل الأمير الصغير الفضولي خلال الكتاب البالغينَ مجموعةَ من الأسئلة، ويعلق على المجتمع الحديث الذي ينشغل فيه الناس بفعل ما يراه هو عديم الفائدة ويتجاهل ما هو مهم من وجهة نظره كالإبداع والصداقة. 

في بداية الكتاب، توجد هنالك رسمة توضيحية تمثل محاولة الطيار الصغير رسمَ ثعبان يبتلع فيلًا. يوضح أنه بعد ذلك عرضَ الصورة على بعض الأشخاص البالغين وسأل إن كانت تُخيفهم لكن ظهر أنه اختلط عليهم الأمر واعتقدوا أنها رسمة لقبعة. ثم قاموا بمحاولة التأثير فيه وفي مستقبله ونصحوه بأن يترك الرسم والفن، ويهتم أكثر بمواضيع فكرية وعملية. يُظهر سانت أكزوبيري أن البالغين يرون الأشياء من وجهة نظر مختلفة مقابلةً بالأطفال. ويقترح أيضًا ألا تدع الآخرينَ يُملوا عليك مواهبك، لأنه كان من الممكن لراوي الأمير الصغير أن يمتلك حياة مختلفة جدًا إن لم يُضغط عليه ليترك شغفه واهتمامه خلفه في طفولته. 

يزور الأمير الصغير عدة كواكب تقطنها شخصيات مختلفة حيث يلتقي بالطيار، ممن يشكل معه علاقة وطيدة لأن الأمير الصغير يُذكّر الطيار بطفولته. هذه القصة هي قصة صداقة تبني جسورًا وتربط بين الأجيال والخلفيات الثقافية.

تسمح البراءة وحسن النية للأمير الصغير بالاندماج مع مختلف الأشخاص، وتجعل طاقته اليافعة الناسَ الذين يقابلهم يرغبون في قضاء الوقت معه. وتمثل جميع الشخصيات التي يقابلها الأمير الصغير خلال الرواية شيئًا في العالم الواقعي وهذا يدعم الحجة القائلة إنَّ هذا الكتاب مكتوبٌ للبالغين أيضًا.

كان من بين الأشخاص الذين قابلهم الأمير الصغير هو الملك الذي يتصف بالأنانية والنرجسية، مع ذلك فإن شعوره بالفوقية على الآخرين تجلب له الوحدة حين يغادره الأشخاص. ويمثل الملك الناس الذي يظنون أنهم الأفضل في كل شيء وأنهم لا يتلقون سوى عدم الاحترام بدلًا من الاحترام الذي يستحقونه. يقوم الكاتب بعرض نماذج مختلفة من الناس في المجتمع الحديث ويقابل الأمير الصغير على نحو متصاعد كل هذه النماذج بنظرته البريئة.ومع نظرته الساذجة والحيوية، كان يظن أن حقيقة كل شخص تبدو كما هي عليه في الظاهر.

أما الشخص الآخر الذي قابله الأمير الصغير هو المهرج ويشارك المهرج الملك في كونه يحب نفسه ويرغب في أن يحبه الناس، ويركز بشدة على ذاته بدلًا من رؤية جمال العالم والناس من حوله، ولا يمكنه التعرف على أخطائه بسبب عدم قدرته على تأمل نفسه والتفكير في وجوده. يعيش في حياة بلا معنى ويؤمن بصدق أنه الأجمل في العالم حتى مع أنه لم يفعل شيئًا لبناء سمعته. ثم يُظهر الكاتب أن المهرج شخصٌ لا يمكننا الحكم عليه بناءً على مظهره أو بالطريقة التي يتحدث بها ولكن بأفعاله. وهذا ما يحثنا على الحكم على الآخرين بحسب أفعالهم بدلًا من مظهرهم وهذا ما يقوم به الأطفال غالبًا.

يقابل الأمير الصغير أثناء رحلته رجلَ الأعمال، وهو شخص مشغول جدًا يقضي معظم وقته في عدِّ النجوم التي يظنها تنتمي إليه. ويسجِّل رجلُ الأعمال عددَ النجوم على قطعة من الورق ويضعها في البنك. نتعلم هنا أن رجل الأعمال هو رمز لطمع الإنسان لأنه يرغب في امتلاك جميع النجوم ويفكر دومًا في جمعها. هو ليس مجرد صديق سيئ بسبب تجاهله للأمير الصغير ولكنه لا يسانده أيضًا في رحلته للبحث عن الحقيقة. ويبقى رجل الأعمال يصّر على امتلاكه للنجوم لأنه قام بعدّهم حتى لو لم تكن تلك هي الحقيقة. وهو هنا يلاحق مجرد كذبة وبسبب كونه جشعًا لم يركز على السعي وراء الحقيقة والجمال الحقيقي ولكن تركيزه كان منصبًا على الأشياء المادية بدلًا من ذلك.

أما أكثر الشخصيات جاذبية وأهمية للأمير الصغير هي الزهرة. تشكل الزهرة جزءًا جوهريا من الرواية، وبسبب طبيعتها الدرامية والمستقلة فإنها توحي للأمير الصغير أن يترك كوكبه ويبدأ أسفاره. مع ذلك فإنَّ ذكريات الأمير الصغير عن الزهرة هي ما تلهمه للعودة. ورغم أن الزهرة تكون في معظم الأوقات متكبرة ومتغطرسة فإن الأمير الصغير يحبها بعمق بسبب الأوقات التي قضاها في سقايتها والقلق عليها.

تُقارن الزهرة بكونسوليو زوجة سانت أكزوبيري لكن يمكن قراءة الوردة أيضًا أنها رمزٌ للحب العالمي. يقول أنطون سانت أكزوبيري "C'est le temps que tu a perdu pour ta rose qui fait ta rose si importante." بما معناه أن الوقت الذي تضيعه من أجل زهرتك هو ما يجعلها شديدة الأهمية.

وهذا يظهر ما أكثر حب الأمير الصغير للزهرة. يقول الكاتب أيضًا إن قضاء الوقت في مكان بعيد عن المحبوب يجعل الشخص أكثر تقديرا لحبه. من الممكن مقابلة الزهرة بالأمهات اللواتي يُزعجن أطفالهن ويتذمرنَّ منهم لكنهن يقمنَّ بذلك بحُسن نية. كما تفعل الزهرة للأمير الصغير وفقط حين نفقد أمهاتنا ندرك مدى أهميتهن.

تُمثل في القصة أشجارُ الباوباب أو التبلدي قوات الشر المتفاقمة  في العالم. يزيل الأمير الصغير كل صباح بذور أشجار التبلدي الضخمة من نبتته الصغيرة.  "Il faut s'astreindre régulièrement à arracher les baobabs dès qu'on les distingue d'avec les rosiers auxquels ils ressemblent beaucoup quand ils sont très jeunes.". (صفحة 23، الأمير الصغير)، هذا ما يُشدد على خطورة هذه الأشجار. كما أنه من الضروري التحكم بهم حين لا يزالون صغارًا قبل أن ينموا مسببين الفوضى والدمار. وهذا ما يفعله الأمير الصغير بدافع الخوف من نموهم ليصلوا إلى حجم كبير جدًا. فقد تمتد جذورها الضخمة لتدمير كل ما يعرفه ويحبه. 

قد تحمل أشجار التبلدي معنى أشد ظُلمة كأن ترمز إلى صعود النازية في أوروبا. قاتل في الحرب العالمية الثانية أنطوان دو سانت-أكزوبيري ضد القوات النازية ودول المحور وكتب بعدها رواية الأمير الصغير.

ختامًا، يمكن عدِّ كتاب الأمير الصغير أكثرَ من مجرد قصة ممتعة للأطفال. يتراءى لكاتب المقال أن استخدام الرموز والاستعارة في الكتاب كُتبت لتُفسَّر وتُقيَّم من البالغين، مثل الأعمال الكلاسيكية الخيالية: سيد الخواتم وسجلات نارنيا التي تستشهد بمواقف السياسة المعاصرة التي قد لا يعيها القراء اليافعين. في المقابل يستمتع الصغار بالشخصيات الخيالية والرسومات ومسار القصة الحي دون الحاجة إلى التعمق في التأويل.


Ukessays.

ترجمة: زينب محمد.


افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب