المشاركات الشائعة

السبت، 12 سبتمبر 2020

البحث عن الزمن المفقود - (الكتاب الرابع)


سادوم وعامورة  - مارسيل بروست.


كان الكتاب الرابع آخر كتب سلسلة البحث عن الزمن المفقود التي رأت النور ما بين سني (1921-1922) قبل وفاة بروست المبكرة. في هذا الكتاب يُكمل بروست رحلة سارده التي يقصها في أروقة المجتمع الباريسي والفرنسي الراقي. من العنوان الذي يشير إلى الشذوذ الجنسي لبعض شخصيات الرواية، كانت هذه الثيمة هي الخلفية التي ضمت كثير الأحداث ولها التأثير في أخرى، سواء فيما يخص العالم الخارجي الذي كان سارد بروست يراقبه متمثلًا بالسيد دو شارلوس، أو العالم الداخلي والخارجي معًا فيما يخص ألبرتين. لكن هذا الشذوذ لم يستحوذ على العمل أو يكون هو المحور على العكس تمامًا إذ بدا في كثير من مراحل الكتاب الرابع مجرد إضافات أو لمحات يُعطف عليها لتبقى في الأجواء التي رسمها بروست في عمله حوله. 


يشهد الكتاب الرابع العودة إلى بالبيك وأمسيَّات آل فيردوران وأخذ علاقة السارد مع ألبرتين مسارات جديدة ما بين التقرب والابتعاد والشكوك بشذوذها ثم الإقرار على الزواج بها، في جو نفسي حائر مرتبك ونمط شكوكي متقلب ما هو إلا استمرارا للحالة التي كان عليها سارد بروست في الكتب الثلاثة السابقة. وبدا الحشو والتكرار في هذا الكتاب أكثر وضوحًا وبروزًا دون أي إضافات جديدة تثري العمل والقارئ بل يوحي بشدة على أن بروست لم يكن يملكُ شيئًا يفعله سوى الكتابة، الأمر الذي أثَّر في العمل كثيرا وجعل الحشو والتكرار في الأمسيات أو تصوير جو العلاقة مع ألبرتين مملًا بعض الشيء، وأن على القارئ أن يكون شبيهًا مع بروست في عدم توجب فعله شيئًا سوى القراءة. فحياة الكاتب الخالية من المشاغل والالتزامات انعكست في العمل جليًا بل وتطلّبت نموذجًا معينًا من القرّاء لا تختلف حياتهم كثيرًا عن حياة بروست، السبب الذي يوضح لنا نفور الكثير من الأدباء والقراء من قراءة العمل، أو حتى التهكم بالقول أن قراءتها بحاجة إلى الدخول إلى السجن حتى يتفرغ القارئ لها كليًا. 


منح أسلوب السرد الذي اتبعه بروست في روايته باعتماده على سرد فعل الذاكرة المتقافز الإمكانية في تجاوز بعض الأحداث ضمن تسلسها الذي سردها فيه ثم العودة إليها بشكل حر في العرض والتضمين والاستدراك، في نوعٍ من ذاكرة الذاكرة، والسرد الاسترجاعي الذي هو أساس العمل لكنه سرد استرجاعي ثانوي ضمن جسد السرد الاسترجاعي الرئيس. هذه التقنية التي استعان بها بروست في سرده، تعضد تقنية الاعتماد على الذاكرة، ولا ترابطية النص، وضياع خيط السرد. إذ السرد العشوائي (التنقل والتحول) كان السمة الأكثر وضوحا في الأسلوب الذي قام البحث عن الزمن المفقود عليه. 

كما وقد استمر الاضطراب في هوية السارد وإمكانياته في هذا الكتاب أيضًا، بل وكان أكثر بروزًا بشكل لا يمكن التغاضي عنه. فعلى سبيل المثال يغيب عن شخصية السارد ما وقع بين دو شارلوس والطبيب كوتار، بعد أن راسل دو شارلوس الأخير ليكون شاهدًا عليه في المبارزة التي أشاع أنه سيفعلها بسبب تلميحات تخص موريل، إذ كان سارد بروست بعيدًا مكانيًا وليست له القدرة على معرفة ما دار بين الاثنين لكنه يسرد كأنه سارد عليم يعرف ما تفعل شخصياته وأين تذهب وماذا يجول في أذهانها، وعلى الرغم من هذا الفارق بين قدرة من يسرد أحداثه بضمير المتكلم وبين قدرة السارد العليم فإن السرد يتشكل من قدرة الاثنين معرفيًا دون أن يبنى الحدث على هذه المعرفة أو يؤثر هذا الخلط في نوع الحدث ومآلاته. فكون شخصية السارد لها (علم فوق المكان والزمان) لا يُعرف مصدره فإنها تبقى تمضي مع الحدث كما لو أنها لا تعرف. هذا الذي يُثبت أن بروست يتحكم بالسرد بشكل فاقع دون توارٍ فهو يعطي الحرية الكاملة لسارده أن يتناول حياته وأحداثه فيها كونه هو الذي يعود بالزمن إلى الخلف باحثًا في مجريات سنينه الخالية وما وقع بها، لكنه يتدخل بذات الوقت في بعض المقاطع والأسطر جاعلًا من سارده مجرد قناع مزيف متهرئ مكشوفة هوية من يقف خلفه، فيقصيه كليًا مؤقتًا رغم عدم إشارته إلى هذا، وبوجود صوت السارد ولغته وطبيعة أسلوبه الواحدة نقف على حقيقة (صوت سارد بروست، ومعرفة بروست الكاتب الكلية). وتماهى كثيرًا بروست في هذا دون أن يضبطه، وحتى إن كان تماهيًا مقصودًا إلا أنه أخلَّ بهُوية السارد وزاد اضطرابها دون كبح أو حتى تدارك ما فعله في الكتب الثلاثة الأولى. 


تكثر الإشارة في هذا الكتاب أيضا إلى مخاطبة القارئ مباشرة: 

سوف يقول القارئ... 

سيادة القارئ... 

مع أني لا أريد أن أخلف لدى القارئ انطباعًا 


أو افتراض وجود مستمع ينصت: 

- وقبلما أحكي عن ذلك لا بد لي أن أقول...


هذه الأمثلة الأربعة توضح تمامًا، كما تبيّن لأول مرة في الكتاب الثالث، أن السارد هنا (هل هو الشخصية "سارد بروست" أو هو بروست نفسه) يوجه خطابه إلى القارئ، والسؤال الذي يُطرح هل العمل أصبح رواية أو هو مذكرات أو هو تذكّر حر استخدمه بروست أسلوبًا لسرد عمله؟ 

في الكتاب الأول يبدو العمل أنه تذكر دون أي إشارة إلى كتابة مذكرات أو أن الخطاب موجه مباشرةً إلى متلقٍ، قارئًا كان أو مستمعًا، ثم يظهر السارد العليم في قسم حب لسوان، ثم يعود الأمر إلى نمط التذكر العادي في ظلال ربيع الفتيات "الكتاب الثاني"، وكذلك في الكتاب الثالث "جانب منازل غيرمانت" حتى يوجه الخطاب مباشرة بقوله: ويجب أن نقول...، ثم في الكتاب الرابع "سادوم وعامورة" أضحى الأمر واضحا بتوجيه النص إلى قارئ. هذا التوجه الواضح يجعل كفة أن بروست يعترف أن عمله كتابة لنص نثري يسرده للقارئ دون محاولة أن يعطي العمل طابع التذكر لشخصية ما تغوص في ماضيها أو أنه مذكرات تخص فردًا من الناس دون غيره أثناء تدوينها بل على العكس تماما هي مكتوبة للقارئ. 


سادوم وعامورة 


من الالتقاءات البارزة في روايات البحث عن الزمن المفقود ما بين حياة بروست وشخصيات رواياته تمثلت في تصوير حياة الشذوذ الجنسي لبعض شخصياته ذكورًا وإناثًا، والتي قيل عن بروست إنه كان على علاقة بسائقه الشاب أغوستينلي. تعود أولى الإشارات إلى الشذوذ الجنسي في الكتاب الأول "جانب منازل سوان" والحادثة المتعلقة بأوديت والتي كانت مثار شك وحيرة ومتابعة سوان الذي كان وقتها هائمًا وعاشقا لأوديت، زوجته المستقبلية، إلا أن التصوير لهذه العلاقة السحاقية "عامورة" بقي سطحيًا إلى حد ما. 

ثم تظهر بعض التلميحات في الأحداث في الكتاب الثاني لا سيما في بلدة بالبيك، والعناية التي أبدها البارون دو شارلوس بحق سارد بروست وعلى الرغم أنها لم تشِ بالكثير فإن تصرفات البارون بدت ذات نوايا مبطنة وغير سليمة. لتبرز في الكتاب الرابع هذه العلاقات الشاذة ما بين البارون دو شارلوس وجوبيان اللذين رآهما متلبسين السارد دون أن يكشف هذا لهما، ثم في علاقة البارون مع موريل المحمومة. الجانب الآخر من هذه العلاقات الشاذة تمثل السحاق سواء ما كان يخص شخصيات ثانوية أو دون الثانوية مع قريبات بلوك، أو ما يخص تلك التي بين ألبرتين من جهة وبين أندريه وأُخريات من جهة أخرى. لم يمتكن سارد بروست من الوقوف بشكل قاطع وبات على سحاقية ألبرتين لكنه بقي في حالة من التأزم والمراقبة والصراع النفسي الذي تفاقم تباعًا بشكل زاد من اضطراب العالم الداخلي لهذه الشخصية التي لا تعرف ماذا تريد في كثير من المواقف، فلا هي تجد الراحة في الحب، هذا الحب الذي عاش متقلبًا فيه ومتنقلًا من واحدة إلى أخرى وإن في عوالمه الداخلية فحسب دون أن يظهر هذا الشغف إلى الخارج. يزداد الشك بألبرتين زيادةً تُكبر من حجم الهوة التي تبتلع سارد بروست شيئًا فشيئًا مخلوطة بنوع من الغيرة التي لا تلبث أن تأخذ مسارات مجهولة الدوافع تقرّبه منها في محاولة لتملكها بل والتفكير حتى بالزواج منها لكن سرعان ما يجد نفسه متراجعًا وثمة ما يثنيه عن أمره هذا. 

وبالعودة إلى شخص الكاتب "بروست" فأنَّ اثنين من أهم نظائره هما الشخصيتان: الأولى  "سوان" اليهودي الذي يتشابه مع بروست في كونه يهوديا من جهة الأم، وأنه الشخصية المثقفة والمتعلمة التي تحمل جزءًا كبيرًا من بروست كما يصفها المتتبعون لحياة بروست، والأخرى هي البارون دو شارلوس التي تعد من أهم الشخصيات التي ابتكرها بروست وتحمل في طياتها الشذوذ العلاقاتي والرغبة العاطفية المنحرفة المتقابلة مع علاقة الحب لبروست غير المتبادلة مع أوغستينلي. 


مؤمن الوزان.


الحركة التصويرية الشعرية وأبرز شعرائها - الجزء الأخير

  

ت. ي. هيوم (1883-1917)

T.E. Hulme

 

وُلِدَ توماس إرنست هيوم في السادس عشر من شهر أيلول/ سبتمبر   1883 في إندون، إنجلترا. قصدَ كلية القديس جون - كامبريدج، لكنه غادرها دون أن يتخرَّج. أصدرت مجلة "العصر الجديد" الأدبية خمسًا من قصائده التي أُعيد طبعها في مجموعة عزرا الشعرية "الردود الخاطفة Ripostes (1912". 

لهيوم شخصية ذات جاذبية خاصة وفي كل الجوانب فعليًا، فقد كان بطول ستة أقدام، وبتقاسيم وجه قرمزية، ورغبة بالجدال مع أي شخص وفي مشاجرته،(خاض عراكًا شهيرًا بالأيدي مع Wyndham Lewis في ساحة سوهو)، انحدر هيوم من ستافوردشاير، الريف الذي أخرج للعالم قبل قرنين كاتبَ رسائلَ جذَّاب آخر وهو الدكتور جونسون. 

قضى في بداية عشرينياته مغامرة قصيرة في كندا، ورحل إلى لندن، حيث أسسَّ "نادي الشعر" وجادل الناس، وأكل الكثير من الحلويات (لم يشرب الكحول 

قط، وليس بمدخنٍ، مفضلًا عليهما أكلة suet pudding ودبس السكر).

 

وعلى الرغم من نشره العدد القليل من القصائد في حياته إلا إنه يُعدَُّ من مؤسسي الحركة التصويرية وشخصية مهمة في شعر القرن العشرين. كتب إليوت عنه قائلًا: "هيوم كلاسيكي، ورُجْعي، وثَوري؛ إنه مضادات العقل الديمقراطي والانتقائي والمتسامح في آخر القرن التاسع عشر". قُتل هيوم في معركة في الحرب العالمية الأولى في الثامن والعشرين من شهر أيَّار/ سبتمبر 1917.

 

بعد هذا العرض الموجز لحياته القصيرة نجيب عن سؤال هل كان ت. ي. هيوم: أول شعراء الحداثة؟ 

 

من كتب أول قصيدة حداثية إنجليزية؟ متى وأين كُتبت؟ ثمة العديد من الترشيحات، وأسوأ ما يمكن اقتراحه هو تفضيل آخرَ على "ت. ي. هيوم" الذي كتب قصيدة "غروب شمس مدينة" في عام 1908، على ظهر فاتورة فندق.  ويمكن ضّمُّ هيوم مع حفنة من الشعراء ليشكلوا مخططًا لأسماء شعراء الحداثة. لـ"شعر الحداثة" سمات يمكن تميزها بسهولة كـ: الإيجاز، دقة اللغة، البيان غير الصريح والمباشر، انعدام القافية، المواضيع اليومية والعادية، وبهذه السمات نحصل على هيوم وآخرين. 

 

كتب هيوم في نشاطه العارم "بيان الشعر الحديث" الذي نال عزرا شرف الإعلان عنه بعد تأسيس الحركة التصويرية رفقة آخرين، وقعَّد في مقالته A Few Don’ts by an Imagiste بعض قواعد شعر الحداثة، التي صاغها هيوم قبل خمس سنوات سلفًا. تشارك هيوم وعزرا في تأسيس التصويرية الشعرية، على الرغم من أن عزرا سيزيل دور هيوم بقسوة الذي لعبَ دورًا في تشكيل التطبيق التصويري الشعري. 

وبالعودة إلى تاريخ أول قصيدة حداثة كتبها هيوم، فلا مجال للتردد في تحديد تاريخها الكائن في السادس والعشرين من شهر أيار/ مايو عام 1908 على ظهر فاتورة فندق، بدأ بها هيوم بإبداع مفهوم جديد للشعر، مبنيٌ على الوضوح، والدقة اللغوية، والتي سيطلق عليه عبارات مثل "جاف، وقاسٍ، وشعر كلاسيكي". تُقرأ القصيدة "غروب شمس مدينة" كما لو أنها تفكير شاعرٍ بصوتٍ مسموع، ومألفةٌ كما يمضي شاعرها في البحث عن لغة جديدة، والذي ادَّعى أن العديد من قصائده كانت ارتجالية، ومنظومة من أجل موضوع عابر، تاركًا الصور تتنزل طبيعيًا إليه. 

تتألف "غروب شمس مدينة": 

فاتنٌ -إغواءُ الأرضِ- بأوهامٍ سامية

غروبُ الشمس الذي يسود في نهاية الشوارع الغربيّة

توهجُ سماءٍ مفاجئ

مربكٌ بغرابةٍ للمارِّ

برؤى سيثارا 

-غريبٌ على الشوارعَ المديدة-

أو باللحم الناعم للسيدة كاسلماين... 

***

جَذَلٌ قرمزيٌ

هو البهاءُ المنتشرُ للسماء

خادمُ العلياءِ المَرِح 

تَبخترُ أذيالِ ثوبٍ أحمرَ 

طوالَ أسطح المدينة الراسخة

وقت عودة الحشدِ إلى المنزل

خادمٌ مغرور، وباقٍ، يأبى الذهاب

 

ابتدأ هيوم كتابة قصيدة بقافية ثنائية (Conciets/أوهام وStreets/ شوارع، وPasser by/ المار، Sky/ السماء) ثم تبنّى تطبيقًا جديدًا من الشعر الحر -ابتداءً من جذلٌ قرمزي- في قصيدته، بكتابة سطور غير مقفّاة متجنبًا فيها بحور الشعر المعتادة، وبنيوية الشعرية المقطعية، والتي ستوصف لاحقا من قبل روبرت فروست بصياغة لا تُنسى "مثل أن تلعبَ التنس والشبكة على الأرض". من هذا التساقط الحر للسطور تبرز صورةٌ أو زوجان من الصور هما غروب الشمس، مجاز شعري تقليدي، مربوطًا بثوب امرأة حمراء يرفرف على أسطح المنازل. 

من جذر هذه الفكرة الواضحة، تطوّرت قصائدُ أخرى مثل "الخريف" التي يرتبط القمر فيها بوجه فلاح أحمرَ، و"فوق رصيف الميناء" التي يظهر القمر مجددًا لكن هذه المرة كبالونة طفل، و"الجسر" حيث سماء مزدانة كليا بالنجوم مرتبطة ببطانية قديمة تآكلتها العثة تائقةً بحزن لشخص ما ينام على مضض فوق شاطئ نهر التايمز. في كل قصيدة من هذه القصائد القصيرة صورتان -واحدة مرتبطة بلا نهائية السماء والعلياء، والأخرى مرتبطة بمظاهر الحياة اليومية الصغيرة- ينضمان لبعض معًا، كما لو أن هيوم في بحث لجلب الفضاء اللا محدود للشعر التقليدي إلى الأرض. وهذا بالضبط، كان أول فعل شعر الحداثة بتطبيقه على شيء ما غير ملحوظ، والحياة اليومية، مثل فاتورة فندق (كتب هيوم قصيدة أخرى على ظهر بطاقة بريدية).     

تشبه هذه القصائد القصيرة شعر الهايكو الياباني، الذي خَبِره عزرا بعد سنوات قلائل. ومنحت تجارب هيوم النهضة للتصويريّة، التي كانت الشعر الحقيقي الأول الذي يتعامل مع قضايا الحياة اليومية: وغالبًا ما تناولت التفاصيل العادية للعالم المعاصر، مثل الانتقال عبر الميترو، والمشي في شوارع لندن، ومراقبة الحشود وهي تغادر صالات السينما. ويسبق الشعرُ التصويري بعقدين من الزمن قصائدَ لـ Pylon Poets التي ذاع صيتها في ثلاثينات القرن العشرين. وبزَّت واحدة من قصائد هيوم القصيرة قصائد الهايكو الشعرية* بإيجازها إذ تتألف من ثماني كلمات: "كانت المنازلُ القديمة سقّالةً ذات مرة/ وصفيرُ عُمّال". إن شبكة الأصوات فيها معقَّدة ومعتنًى بها، فكلمة "قديمة" تحظى بدعم من "سقّالة" التي تغلِّف

 

_____

* يتكون الشعر الهايكو من بيت واحد مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا، يكتب بثلاثة أسطر، يتألف السطر الأول من ٥ مقاطع صوتية والثاني من ٧ والثالث من ٥.

 الكلمة، في حين تعاودُ "كانت" الظهور في "عمَّال" حيث ترتبط الصورتان معًا عبر قافية داخلية وصدًى.     

وبالطبع فثمة ساحل شعري حداثي بديل يمتاز بكونه أكثر غموضًا وتلميحًا كما في أسلوب ت. س. إليوت، وجيوفري هِل- لكن الفكرة الأكثر شيوعًا لـ"الشعر الحداثي" بلا شك فكرةُ هيوم التي سادت التخيُّل الشعبي. 

اقترح كارول آن دوفي في عام 2011 بأن القصائدَ القصيرة شكلٌ من أشكال الرسائل النصيّة للُغتها غير الراقية وإيجازها: مقارنةٌ مُوحية للشاعر الذي يمنحنا "نصًا" ربما يكون أول قصيدة جديرة بالملاحظة حول خبرة المراسلة النصيّة. 

لكن الشعر الإنجليزي كان قد نما سلفًا نحو صغر الشكل قبل مئة عام، قبل الهواتف الجوّالة وعوالم الرسائل النصيّة بكثير. 

فكّر هيوم بأن على الشعر أن يكون قصيرًا حتى يستطيع الشخص العادي قراءته وتقديَّره في الترام وهو في طريقه إلى العمل أو أثناء جلوسه على الكرسي بعد العشاء. ترك هيوم لنا حفنة من القصائد التي سيشيد بها ت. س. إليوت بأن "اثنتان أو ثلاث من أجمل القصائد القصيرة في اللغة الإنجليزية". أنزلَ هيوم الشعر من عليائه لكن ما حققه بعيد كل البعد عن الضآلة، فقد ساعد في إبداع شعر الحداثة كما نعرفه اليوم.  

 

****

 

أفضل قصائد هيوم من اختيار وتعليق د. أوليفر تيرل: 

تعد قصيدة "الخريف" واحدة من القصائد التي عمل عليها هيوم لتصبح قصيدة كاملة (يُجادلُ بأنها أول قصيدة حداثية بالإنجليزية) وقد نلمحُ فيها الذاتيّة في صورة "فلاح ذو وجهٍ أحمر"

لمسة برد في ليلة الخريف 

مشيتُ خارجًا

ورأيت قمرًا ينحني على سياجٍ 

مثل فلاحٍ ذي وجهٍ أحمرَ

لم أقفْ للحديث، أومأتُ فحسب

وحوله كانت النجوم الحزينة

بوجوهها البيضاء مثل أطفال المدينة 

*

كان هيوم مأخوذًا بالقمر لكونه ربما الصورة الشعرية الرومانسية التي تبزُّ كل الصور الشعرية الرومانسية الأخرى، ويعود إليها في قصيدة "فوق رصيف الميناء" (يعود هيوم في هذه القصيدة بشكل طفيف إلى التقليدية الشعرية عبر نظمه بقوافي ثنائية):

فوق رصيف ميناء هادئ في منتصف الليل 

مربوطٌ بحبلٍ الصارية الطويلة- 

يعلِّقُ ارتفاعه القمرَ 

ما يبدو بعيدًا جدًا ليس إلا بالون طفلٍ 

منسي بعد اللعب 

*

يعجب هيوم بحزن المدينة أو البلدة في الليل، مع ذاك اللقاء الرومانسي (للنجوم والسماء) والعصري والحَضَري. كما في هذين السطرين الشعريين مع قافية ثنائية تُظهر هذا بإيجاز:

المشهدُ المُبهَمُ الأسى

لبلدة بعيدة في الليل تُرى

ظهرت قصيدة "مانا أبودا" -وهي إلهة بولينيزية- مع القصيدتين السابقتين ضمن القطع الخمس القصيرة التي ألَّفت في الأصل "الأعمال الشعرية الكاملة لـ ت. ي. هيوم" في حاشية ديوان عزرا "الردود الخاطفة" (لا بد أن هيوم أمسك لسانه جيدًا واحمرَّ خده فعلًا عندما قرأ العنوان):

مانا أبودا، ذاتُ شكلٍ منحنٍ

هي السماء في دائرةٍ مُقنطرةٍ

بحزن يبدو مجهولًا ليُرثى 

رغمَ سماعي لبكائها يومًا

سئِمٌ من الأزهار وغناء الشعراء 

ويوسف فوق هذا ليس طويلًا ليحاول

 

*

 أما قصيدة "سوزان آن والخلود" فهي تنوع آخر في الثيمة العامة في شعر هيوم -العلاقة بين المدى الفسيح للسماوات وصغر الأشياء الأرضية الراسخة تحت أقدامنا: 

 

مدلًّى رأسها إلى الأسفل 

محدقةٌ إلى الأرض، وثابتةُ الحماس 

مثل أرنبٍ  عند ابن أوى 

حتى كانت الأرضُ سماء

والسماء خضراء

ومرّتْ الغيوم البنيّة

                             *

وفي القصيدة "الشاعر" وهو شخصية تحلم بشاعرية مؤسسة على الصور المركَّزة أكثر من الصور الشعرية المجرَّدة المبتذلة: 

 

فوق الطاولة الكبيرة 

انحنى بابتهاج في حلمٍ 

تحوَّل إلى أخشاب 

تحدَّثَ ومشى مع الأشجار مغادرًا العالم 

وعاد إلى الأرض 

مع مجوهرات ملوَّنة 

حجرية، وصلبة، ومحددة 

بها لعبَ في الحلم على الطاولة الملساء

 

                           *

ويعقد في قصيدة "الغروب" مقابلة مدهشة بين الرمز الرومانسي التقليدي (وهنا الغروب أكثر من القمر) مع شيء غير متوقع "راقصة باليه":

 

زعيمُ حزب طامعٌ بالإطراء

وممانعٌ عن مغادرة المنصّة 

بسِحرها الختامي، توازنت ساميةً على إصبعها

ومظهرةً لباسها القُرمزي الغيوم الشفقيّة

وسطَ همهمات المنافسين المتذمِّرة 

*

انشغلت بعض قصائد هيوم بالتعامل مع شخصيات متهاوية، أناس فقدوا كل شيء وألفوا أنفسهم يحلمون بشيء لا يستطيعون الحصول عليه الآن. فأما القصيدة الأولى قصيرة وأقل شهرة عن السير والتر رالي: 

 

محبوسٌ رالي في البرج المظلم 

حالمٌ بالبحر الأزرق 

وما وراءه في فردوسَ ذاتِ مَدارٍ لم يُدرك- نما مِسكٌ...

 

 والأخرى وهي لربما أشهر قصائد هيوم "الجسر" (قصة خيالية لانهيار رجل وقور في ليلة باردة ومُرَّة):

في غمرةِ عذوبة الكمانات 

ألفيتُ نفسي ذات مرة 

منتشيًا بوميض الكعوب الذهبية على الرصيف 

أرى الآن دفء أشياء الشعر الدقيقة 

يا إلهي.. 

اجعل دثار السماء القديم الآكل للنجوم صغيرًا 

فقد أتلحف به وأستلقي مرتاحًا 

 

المصادر: 

Writers their lives and works.(Book)

 

Poetry Foundation.

Academy of American poets.

Interesting literature.

(Websites)


الحركة التصويرية الشعرية وأبرز شعرائها - الجزء الثالث

 وليام كارلوس وليامز (1883-1963)

 

وُلدَ وليام كارلوس وليامز في السابع عشر من شهر أيلول/ سبتمبر 1883 في رذرفورد، نيو جيرسي. 

بدأ وليام بكتابة الشعر في المرحلة الثانوية عندما كان طالبا في مدرسة هوراس مان، ووقتها اتَّخذ قراره وحزم أمره في أن يكون طبيبًا وكاتبًا. 

وهذا ما تحقق لاحقًا بعد نيله شهادة الطب في جامعة بنسيلفانيا، حيث التقى وكوّن صداقة مع عزرا باوند.

بدأ تأثير عزرا يُصبح عظيما في كتابات وليامز، ورتّب لوليام في عام 1913 نشر مجموعته الشعرية الثانية "Tempers" في لندن. وبعودته إلى وذرفورد استمرَّ وليام بممارسة الطب خلال حياته، وابتدأ النشر في مجلات مغمورة وشرَعَ بمسيرة أدبية غزيرة شاعرًا وروائيًا ومسرحيًا وكاتبَ مقالات. 

 

كان وليام واحدًا من الشعراء المؤسسين للحركة التصويرية خلف عزرا، إلا إنه بمرور الوقت عارض القيم التي رُوِّجَ لها في كلٍّ من أعمال عزرا وإليوت ولا سيما الثاني الذي شعرَ أنه أكثر اتصالًا بالثقافة الأوروبية وتقاليدها. 

 

باستمراره في تجربة تقنيات جديدة في بحور الشعر والسطورية الشعرية (نظم الشعر وفقًا للسطور الشعرية ومراعاة النَغم الشعري والإيقاع وطول السطر وقصره وتواصله وانقطاعه في النظم الحر)، سعى وليام إلى إبداع شاعرية أمريكية فريدة وجديدة بالكامل، يتركّز غرضُ موضوعها الرئيس حول ظروف الحياة اليومية وحيوات عامة الناس. 

انتشر تأثير وليام الشعري ببطء في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وشعر بأن الشعبية الكبيرة لقصيدة إليوت "الأرض اليباب" قد طَغت عليه. لكن الالتفات إلى أعماله شهد تزايدًا ملحوظا في خمسينات وستينات القرن الماضي من الشعراء الشباب من بينهم Allen Ginsberg وThe Beats، الذين أُعجبوا بوصولوية لغته وصراحته بصفته مرشدًا. 

 

تنوعت أعماله الرئيسة بين:

Kora in Hell (1920); 

Spring and All (1923);

 Pictures from Brueghel and Other Poems (1962) المجموعة الشعرية التي نالت جائزة Pulitzer; 

the five-volume epic Paterson (1963, 1992); 

Imaginations (1970).

 

تدهورت صحة وليام بعد نوبة قلبية في عام 1948 وسلسلة من الجلطات الدماغية، لكنه استمرَّ بالكتابة حتى وفاته في الرابع من آذار/ مارس عام 1963 في مسقط رأسه نيو جيرسي.

من شعره:

*

عربة يد

 

كثيرةٌ هي الأشياء 

التي عليها تعتمد 

 

عربةُ يدٍ حمراء

مكسوَّةٌ بماء المطر 

بجانب الدجاجات

البيضاء

 *

مرثاة أرملة في الربيع 

 

الأسى في ساحتي

حيث العشبُ الطري

متوهجٌ كما لو أنه التهبَ

مثل السابق غالبًا بنارٍ باردة 

نارٌ تقترب مني هذه السنة

 

خمسة وثلاثين عامًا 

عشتها مع  زوجي 

 

شجرة البرقوق بيضاء اليوم

تحطيها أحراش الورود

تحمل أغصان الكرز 

ثمة بعض الشجيرات الصفراء

وبعض الشجيرات الحمراء

لكن حُزن قلبي أقوى منها وألوانها

رغم أنها كانت فرحتي في الماضي 

أطالعها اليوم وابتعد نحو النسيان

 

أخبرني ولدي وسط المروج اليوم 

رؤيته لأشجار الأزهار البيضاء 

عند نهاية الأيكة في الغابة 

 

يتنابني شعور عارم بالذهاب إلى هناك

والانغمار وسط تلك الأزهار

والغرق في المستنقع قرُبها

*


هذا ما يُقال فحسب

 

أكلتُ البرقوق 

الذي ضمَّه البرَّاد

 

البرقوق الذي 

قد تكونين تحتفظين به للإفطار

اغفري لي 

فقد كان شهيًا

ولذيذًا جدًا

وباردًا جدًا

** 

آمي لوويل (1874-1925) 

 

وُلِدت آمي في التاسع من شهر شباط/ فبراير عام 1874 في سفينلز، الأخيرة من بين خمسة أطفال للعائلة في إقطاعية بمساحة 10 فدادين تعود ملكيتها لذويها في بروكلين - ماساشوستس. اعتنقت عائلتها مذهب الكنيسة الأنجليكانية لنيو إنجلاند القديمة، وكانت على قمة هرم مجتمع بوسطن. 

 

كان أخوها الأكبر، أبوت لورانس، طالبًا جامعيًا في هارفارد وقتَ ولادتها ثم أصبح لاحقًا رئيس كلية هارفارد. تعلَّمت آمي الصغيرة في المنزل، ثم قصدت المدارس الخاصة في بوسطن، وخلال هذه المرحلة من حياتها زارت أوروبا مع عائلتها في عدة رحلات. 

وبسن السابعة عشرة وضعت آمي لنفسها قائمة كتب مكونة من 7000 كتاب في مكتبة سفينلز لدراسة الأدب، وشجَّعتها عائلتها على الكتابة في سنٍّ مبكرة. 

 

كتبت آمي مع أمها وأختها في عام 1887 "Dream Drops أو Stories from fairy land" ووضعنَّ كلمة "حالم" استعارة عن اسم كاتبها، وطُبعَ الكتاب سرًا من قبل شركة كوبلز وهورد في بوسطن. 

نُشرت قصيدتها "Fixed Idea فكرة راسخة" في عام 1910 في مجلة أتلانتك الشهرية، واستمرت بعدها آمي بنشر قصائد مفردة في مجلات مختلفة. ظهرت أول مجموعة شعرية لها في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1912 والتي حملت عنوان "قُبّةُ زجاجٍ ملون A Dome of Many-Coloured Glass" 

كانت آمي، امرأة الأعمال النشِطة والصريحة، ذات نزعة إلى الجدَل المُثير، واهتمت من أعماقها وتأثرت بالحركة التصويريّة التي قادها عزرا باوند. 

آمنت الحركة الأنجلو-أمريكية بكلمات آمي "التكثيف هو جوهر الشعر الحقيقي" وسعتْ جاهدة "لإنتاج شعر صلب وواضح لا بالضبابي أو الغامض". قادت آمي الحركة الشعرية التصويرية في أمريكا، واعتنقت مبادئ أعمالها الشعرية، وشغلت دور مُروِّجة عمومية للحركة، محررةً ومساهمةً في "مختارات شعراءَ تصويريين" في عام 1915.

 

ساهم تأثيرها ومشاركتها الحماسية في انفصال عزرا عن الحركة، ووصفته بأنه ذو رؤية شعرية قاصرة وقادت الحركة الأنجلو-أمريكية لعامين (1915-1917). 

 

استمرت آمي في استعراض الأسلوب التصويري في الشعر وكانت الطلائعية في استخدام "النثر المتعدد الأصوات" في اللغة الإنجليزية، مازجة الشعر التقليدي بأشكال الشعر الحر. 

غمرت نفسها لاحقا بالشعر الصيني والياباني متأثرة به، وقادها هذا الاهتمام لمشاركة المترجم فلورنس آيسكاف Florence Ayscough في ديوان "Fir-Flower Tablets" في عام 1921.

أحبَّت آمي طوال حياتها الشاعر كيتس، ويُمكن رؤية تأثيره واضحًا في قصائدها ورسائلها، وآمنت بأنه سلف التصويريّة. ونُشر كتابها عن سيرة كيتس في عام 1925 وهي ذات السنة الذي حازت فيها جائزة Pulitzer عن مجموعتها الشعرية "What's O'Clock". 

 

توفيت آمي لوويل الشاعرة المتكرَّسة للشعر، والمروِّجة العامة، وجامعة التحفيات، والناقدة، والمحاضرة في الثاني عشر من أيَّار/ مايو عام 1925 في إقطاعية العائلة، سفينلز. 

 من أعمالها:

 

Selected Poems of Amy Lowell (Rutgers University Press, 2002)

What's O'Clock (Houghton Mifflin Company, 1925)

Sword Blades and Poppy Seed (The Macmillan Company, 1914)

A Dome of Many-Coloured Glass (Houghton Mifflin Company, 1912) 

 

من شعرها: 

أوبال

 

ثلجٌ ونارٌ أنتَ، 

وبلمسة منك تحرق يديَّ كالجليد 

 

بردٌ ولهبٌ أنتَ، 

يا لونَ النرجسِ القرمزيّ

يا لونَ زهرِ المغنوليّة الفضيّ

 

حين أكون برفقتك 

يُصبح قلبي بركة متجمِّدة 

تبرقُ بأضواء مُتهيِّجة

 

 

كهولة

 

مثلُ جليدٍ أسودَ 

 

يمرُّ فوقه مرَّ سحابٍ بتخبُّط

 

متزلِّجٌ جهولٌ

 

هذا سطحُ قلبي البليد 

*

ريحٌ وفضة

 

مُشرقٌ بعظمة 

يطفو قمرُ الخريفِ في السماء الرقيقة

تهتز أسماك الزينة في أحواضها

وتومضُ حراشفها التنينيّة

في كل مرة مرَّ فوقها 

 

زوجة الصياد 

 

حين أكون وحيدة 

الريحُ بين أشجار الصنوبر 

مثل صفعِ الموجاتِ 

على جوانبَ قاربٍ خشبيّة 

 

عاشق 

 

إذا تمكنت من إمساكَ خضرةِ مشكاةِ الحُباحِب

قد أنظرُ في كتابةِ رسالةٍ إليكَ

 


افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب