المشاركات الشائعة

الأربعاء، 30 ديسمبر 2020

كتاب قرطاس الأدب II

 كلمة




جمعنا في هذا الكتاب المقالات التي ترجمناها وكتبناها ونشرناها في مدونتنا، مدونة قرطاس الأدب، في السنة الثانية من مشروعنا الأدبي. 

يضم هذا الكتاب في جزئه الأول مقالات أدبية مترجمة سواء فيما يخص الكتب والروايات والشعر والأدب. أما في جزئه الثاني فيحتوي على المقالات الأدبية والقراءات المكتوبة بأقلامنا. 

نأمل أن ينال الكتاب الثاني من كتاب قرطاس الأدب المقبولية وتعم فائدته الجميع.


ولمعرفة آخر ترجماتنا وكتباتنا فعليكم بمتابعة مدونة قرطاس الأدب أو صفحة قرطاس الأدب في الفيس بوك.


قرطاس الأدب.



للتحميل: 

https://drive.google.com/drive/folders/10A7HX5UygmcPR0eOXkTTQJtBy1DEPivi


الاثنين، 14 ديسمبر 2020

هاروكي موراكامي ينقد رواياته نقدًا نسويًّا


حاورته: ميكو كواكامي

 

مؤخرًا لم يكن هاروكي موراكامي يُجري العديد من المقابلات، إلا أنه في عام 2017 قام باستثناء للروائية المعجبة بأعماله ميكو كاواكامي، والتي كتبت عن التأثير الذي أحدثه موراكامي في رواياتها التي بدأت تُنشَر باللغة الإنجليزية، قضى الثنائي ستَّ عشرة ساعة معًا في أربع مناسبات في طوكيو، وقد أسفرت تلك اللقاءات عن كتاب "البومة تنشر أجنحتها مع سقوط الغسق"، الذي نشرته دار شينشوشا باللغة اليابانية في عام 2017، في هذا الحوار، سألت كاواكامي موراكامي عن الأدوار التي تلعبها شخصياته النسائية، أسبابها، ومبررات تصرفاتها:

 

ميكو كواكامي: لدي فضول بشأن شخصية ماري أكيجاوا في رواية "مقتل الكومنداتور Killing Commendatore"، يمكنني معرفة مدى توترها بسبب ارتباط هويتها بنهديها، إلا أن هذا الأمر لم يكن ساريًا على الفتيات الشابات في رواياتك الأخرى، مثل شخصية يوكي في رواية "رقص رقص رقص Dance Dance Dance"، أو ماي كاساهارا في رواية " The Wind-Up Bird Chronicle".

لنتناول المشهد الذي تتحدث فيه ماي كاساهارا فتقول: "نتوءات الموت ... دائرية وإسفنجية، تمامًا مثل الكرة اللينة"، فمن مناقشة لبطل الرواية نجد أن ماي لديها أسطر قوية كهذه بروعة خلال جميع أحداث الرواية، عبارات حول التمييز الغامض بين إيذاء نفسك وإيذاء الآخرين، أو بين موتك وموت الآخرين، فالنثر رائع، ويجسد على نحو مذهل الروح الحقيقة التي تحكي واقع الفتيات، لذلك أحببت هذه المقاطع كثيرا، فشخصيتي يوكي وماي لا تتحدثان كثيرًا عن نهودهن أو أجسادهن، لكن ماري في مقتل القائد…


هاروكي موراكامي: إنها تركز عليهما حقًا، يكاد يكون ذلك هاجسًا لديها.

 

ميكو كواكامي: بالتأكيد، لكن ألا تعتقد أنها شديدة التركيز عليهما أكثر من اللازم على الرغم من ذلك؟ ففي المشهد الذي كانت فيه لوحدها مع الراوي الأول، وهو رجل لم تقابله من قبل، كانت كلماتها الأولى شيء مثل: "ثدياي صغيران حقًا، هل تعتقد ذلك؟". لقد وجدت هذا مفاجئًا جدًا، فمن أين يأتيها هذا الهوس؟

هاروكي موراكامي: لا يوجد سبب لذلك، فقد تخيلتُ فقط أن هناك فتيات يشعرن بذات الأمر.

ميكو كواكامي: لكن ماذا عن تلك الفجوة التي بينها وبين الراوي؟ فهل اجتهدت في التفكير حول كيفية رده عليها حينما سألته عن ثدييها؟

هاروكي موراكامي: أعلم ما تعنينه، لكن حقيقة أنها طلبت رأيه بشأن ثدييها تشير إلى أنها لا تراه حقًا رجلا، ولا تفكر عنه بهذه الطريقة، وهذا يقوي الاستبطان، أو الطبيعة الفلسفية لحوارهم، هذا هو نوع العلاقة التي تريدها ماري منه، لدي شعور بأنها كانت تبحث منذ مدة عن شخص يمكنها أن تسأله عن هذه الأشياء، وأعتقد أننا يمكن أن نتفق على أنه -عموما- وإذا ما رأى المرء فرصة أن يكون هناك ميل تجاهه من الطرف الآخر، فإنه لا يخوض في مثل هذه التفاصيل. 

ميكو كواكامي: أتفهّم وجهة نظرك، على الرغم من أنني في الواقع رأيت الاحتمال المعاكس، كأن ماري كانت تحاول في أن تلفت انتباهه إليها، لكنك تقول إنه يطهّر الهواء من أي نوع من التوتر بينهما، ويقوي الجانب الفلسفي لحواراتهما؟

هاروكي موراكامي: صحيح، ونتيجةً لذلك، أصبح الحوار بين ماري والراوي إحدى نقاط التحول الدافعة للرواية، وسلّط ضوءًا جديدًا على القصة. 

ميكو كواكامي: بعبارة أخرى، تقدم لنا تلك المحادثة مزيدًا من المعلومات حول شخصية وسلوك الراوي، والذي كان سيظل لغزًا للقراء لولا ذلك. 

هاروكي موراكامي: صحيح، إنه يملك تلك الشخصية التي تجعل فتاة في الثانية عشرة  من عمرها تشعر بالراحة وهي تتحدث معه عن نهديها.

ميكو كواكامي: يقودني هذا إلى سؤال آخر عن النساء في رواياتك، وهو أمر يظهر كثيرًا عند الحديث عن أعمالك، وكثيرًا ما أفكر في الطريقة التي تُصوَّر النساء في رواياتك، والأدوار التي تُمنح لهن، وكثيرًا ما تقول لي صديقاتي النساء: "بما أنكِ تحبين أعمال هاروكي موراكامي كثيرًا، كيف تبررين تصويره للمرأة؟". المغزى أن هناك شيئًا مقلقًا بشأن تصوير النساء في قصصك، وهذا يزعج بعض الناس، رجالاً ونساءً على حد سواء. 

هاروكي موراكامي: حقًّا؟ كيف ذلك؟ 

ميكو كواكامي: يتمحور حول ما إذا كنّ واقعيات أو يمكن مصادفتهم "في الحياة الواقعية"، كما أن الأمر يتعلق بالأدوار التي تلعبها النساء، على سبيل المثال -كما أسلفنا- تعمل المرأة بمثابة وسيط روحي لطيف، كما لو أنها وسيط للقدر.

هاروكي موراكامي: تأخذك من يدك وتقودك إلى مكان ما.

ميكو كواكامي: بالضبط، فهي تؤدي إلى تحول ما في بطل الرواية، وهناك العديد من الأحداث التي تُصوَّر النساء فيها كبوابات أو فرص للتحول.

هاروكي موراكامي: نعم، يصبحن عنصرا فعَّالا لذلك.

ميكو كواكامي: في هذه التحولات، طالما أن الجنس يُطرح ليكون وسيلةً إلى عالم غير مألوف، فإن النساء عندما يكُنّ مع بطل الرواية، فإنهنّ لا يملكن أي خيار سوى لعب دور الشريك الجنسي، وبالنظر إلى الأمر من زاوية معينة، أعتقد أن الكثير من القراء قد يجادلون بأن النساء قد وُضعن في هذا الموقف إلى الأبد، لمجرد أنهن نساء، يسعدني سماع أفكارك حول هذا الأمر.

هاروكي موراكامي: لست متأكدًا من أنني فهمتك، عندما قلتي دور أكثر من الضروري، هل تعنين…؟

ميكو كواكامي: أنا أتحدث عن العدد الكبير من الشخصيات النسائية التي يُوجدن فقط لأداء وظيفة جنسية، فمن ناحية، تعد أعمالك خيالية بلا حدود عندما يتعلق الأمر بالحبكة، والمؤامرات، والرجال، لكن لا يمكن قول الشيء نفسه عن علاقاتهم مع النساء، فليس من الممكن لهؤلاء النساء أن يوجدن بمفردهن، وعلى الرغم من أنهن قد يكنّ بطل القصة، أو إحدى الشخصيات الداعمة، وقد يتمتعن بدرجة معتدلة من التعبير عن الذات، وذلك بفضل استقلالهن النسبي، فإنَّ هناك ميلًا مستمرًا للتضحية بالنساء من أجل القادة الذكور، لذا فإن السؤال هو، لماذا تلعب النساء في كثير من الأحيان هذا الدور في روايات موراكامي؟ 

هاروكي موراكامي: حسنًا، الآن فهمت.

ميكو كواكامي: هل يمكن أن تشاركني أفكارك حول ذلك؟

هاروكي موراكامي: قد لا يكون ما سأقوله التفسير الأكثر إرضاءً، لكنني لا أعتقد أن أيًا من شخصياتي معقدة إلى هذا الحد، فالتركيز في رواياتي ينصبّ على الشمولية، أو كيفية تفاعل هؤلاء الأشخاص -رجالًا ونساءً- مع العالم الذي يعيشون فيه، وإذا ما كان هناك أي شيء، فأنا أحرص على عدم الإسهاب في الحديث عن معنى وجود المرء أو أهميته أو تداعياته، وكما قلت سابقًا، لستُ مهتمًا بالشخصيات الفردية، وهذا ينطبق على الرجال والنساء على حد سواء. 

ميكو كواكامي: فهمت. 

هاروكي موراكامي: كانت رواية 1Q84 أكثر رواية قضيت فيها وقتًا في التعامل مع الشخصيات الأنثوية، فشخصية أومامي مهمة جدًا لتنجو، وشخصية تنجو مهمة جدًا لأومامي، لم يكن الأمر يبدو وكأنهما سيجتمعان في النهاية، لكن القصة تركز على تحرك بعضهما تجاه بعض، فتقاسما المكانة بطلين مشتركين لها، وفي النهاية، اجتمعا معًا، وأصبحا واحدًا، بهذا المعنى، أود أن أقول إن الشخصيات جميعها متساوية في المخطط الواسع للرواية، لأن الكتاب يعتمد عليهم جميعًا  بنفس القدر. 

ميكو كواكامي: غالبًا ما تدور رواياتك الطويلة حول نوع من الصراع ضد قوى أكبر، ففي رواية Wind-Up Bird Chronicle يكون الصراع بين تورو وكوميكو أوكادا ضد نوبورو واتايا، في حين يحارب أومامي وتنجو قوةً شريرةً عظيمة في رواية 1Q84، فنجد أن القاسم المشترك بين هاتين الروايتين هو أن قتال الرجال في عالم اللا وعي.

هاروكي موراكامي: هذا ما يبدو عندما نقرأها على هذا النحو، ربما يتعلق الأمر بعكس الأدوار المعتادة للنوعين، كيف ترينه أنتِ من منظور نسوي؟ لا أستطيع الجزم بذلك.

ميكو كواكامي: الأمر المشترك أن شخصياتك الذكورية يخوضون معاركهم في دواخلهم، أي عالم اللا وعي، تاركين النساء يقاتلن بمفردهن في العالم الواقعي، فعلى سبيل المثال، في رواية The Wind-Up Bird Chronicle نجد أن كوميكو هي من تسحب القابس وتقتل نوبورو واتايا وتدفع الثمن في النهاية، وفي 1Q84 قُتل القائد على يد أومامي، صحيح أنه ليس من الضروري تطبيق النقد النسوي على كل رواية، وأن السعي وراء الاستقامة ليس هدف الكتاب من الكتابة الخيالية، ولكن قراءة هذه الكتب من منظور نسوي، يجعل ردة الفعل المشتركة تكون: "حسنًا، هذه امرأة أخرى سُفك دمها لأجل إثبات رجل لذاته".

معظم النساء في العالم الحقيقي مررن بتجارب جعلت حياتهن لا تطاق بسبب كونهن نساء لا أكثر، مثل ضحايا الاعتداء الجنسي المتهمين بالمطالبة به، فالأمر يتعلق بحقيقة أن جعل المرأة تشعر بالذنب لامتلاكها جسد امرأة يعادل إنكارنا لوجودها، من المحتمل أن هناك بعض النساء اللواتي لم يفكرن بهذه الطريقة قط، ولكن هناك حقيقة علينا طرحها وهي أنهن ربما تعرضن لضغوط من المجتمع لخنق مشاعرهن، وهذا هو السبب الذي يجعل رؤية هذا النمط يظهر في القصص الخيالية أمرًا مرهقًا جدا، كونه تذكيرا بالواقع المؤلم الذي يضحّي بالنساء لأجل إثبات الرجل لذاته أو لرغباته الجنسية.

هاروكي موراكامي: أعتقد أن تطبيق أي نمط على هذه الروايات محض مصادفة، في الأقل، لم أكتب قط لهذا الغرض. كما أنني أعتقد أنه من الممكن للقصة أن تسير بهذه الطريقة على مستوى اللا وعي البحت، ولا أقصد عدم أخذ الأمر بعين الاعتبار ولكن لا تخضع كتاباتي لأي مخطط أو نمط، لنأخذ رواية Norwegian Wood الغابة النرويجية على سبيل المثال، حيث يتصارع ناوكو وميدوري على التوالي مع الوعي واللا وعي، والراوي الذكر معجب بهما معًا، ويهدد بتقسيم عالمه إلى قسمين، ثم نصل بعد ذلك إلى ما بعد الظلام، إذ تُدفع القصة حصريا تقريبًا نحو ما ترغبه الشخصيات النسائية، لذلك لا يمكنني أن أتفق على أن النساء دائمًا ما يكنَّ عالقات في لعب الدور الداعم للأعراف الجنسية أو أي شيء من هذا القبيل، حتى بعد أن أنسى أحداث القصة، تبقى هؤلاء النساء معي، مثل ريكو أو هاتسومي في الغابة النرويجية، وحتى الآن يدخلني التفكير بهما في شعور عاطفي، فهؤلاء النساء لسن مجرد أدوات روائية لي، بل إنَّ كل عمل فردي يتطلب ظروفه الخاصة، أنا لا أختلق الأعذار هنا، بل أتحدث من عمق الشعور والتجربة.

ميكو كواكامي: أفهم ما تعنيه، ولكوني كاتبة فأنا على دراية كاملة بما تعنيه بالشعور، وفي الوقت نفسه، أستطيع أن أرى كيف ينظر القراء إلى هذه التجربة القراءة التي نناقشها.

هناك شيء مهم جدا في نظري حول ما كنت تقوله، الفكرة التي قلت فيها إنه يمكن للمرأة أن تقدم ما هو أبعد من الجنس، أو تُوجد بعيدًا تمامًا عنه، وتأخذ القصة إلى اتجاه مختلف تمامًا. 

هاروكي موراكامي: صحيح، أشعر أن لدى النساء وظائف مختلفة عن الرجال، ربما يكون الأمر مبتذلاً، ولكن هذه هي الطريقة التي يعيش بها الرجال والنساء، إذ يساعد بعضهم بعضا، ويعوض كل منهما الآخر عما يفتقر إليه، وهذا قد يعني تبديل أدوار ووظائف النوعين في بعض الأحيان، وأعتقد أن هذا الأمر يعتمد على الشخص وعلى ظروفه، سواء كان يرى هذا طبيعيًا أو مصطنعًا، عادلًا أو غير عادل، سواء كان يرى أن الفروق بين النوعين تنطوي على معارضة شديدة، أو أنها في تناغم متوازن، وربما لا يتعلق الأمر بتعويض ما نفتقر إليه، بقدر ما يتعلق الأمر بإلغاء بعضنا لبعض، وفي حالتي، لا يمكنني معالجة هذه الأسئلة المعقدة إلا من خلال الخيال، دون أن أجعلها إيجابية أو سلبية، فأفضل ما يمكنني فعله هو أن أتعامل مع هذه القصص كما هي بداخلي، أنا لست مفكرًا أو ناقدًا أو ناشطًا اجتماعيًا، أنا مجرد روائي، وإذا ما أخبرني أحدهم أن عملي مسيء عند النظر إليه من خلال مذهب معين، أو كان يحتاج المزيد من التفكير، فكل ما يمكنني فعله هو تقديم اعتذار صادق وقول: "أنا آسف"، سأكون أول شخص يعتذر حينها.

ميكو كواكامي: في روايات رايموند تشاندلر المسلية، عادة ما تقدم النساء مهمة أو عمل للرجل ليقوم به، إلى حد ما، يجب أن يستند عملك إلى انعكاس حول كيفية تصوير النساء في الروايات التي قرأتها، لأن لما نقرأه تأثير كبير على ما نكتبه.

ولكن من بين كل النساء اللواتي كتبتهن، أكثرهن بقاءً معي هي بطلة القصة القصيرة "Sleep النوم" (The Elephant Vanishes, 1993)، لقد قرأت عن الكثير من الشخصيات النسائية التي كتبها نساء والكثير من الشخصيات النسائية التي كتبها رجال، ولكن حتى يومنا هذا، لم أواجه امرأة مثل التي في رواية Sleep، إنها إنجاز غير عادي! 

هاروكي موراكامي: نُشرت هذه القصة في مجلة New Yorker في الوقت الذي لم أكن فيه معروفًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وما لم أتوقعه في الأمر أن الكثير من القراء ظنوا أن "هاروكي موراكامي" امرأة، ولقد أرسلت إليَّ الكثير من النساء رسائلَ تشكرني فيها على إجادتي لما كتبت!

ميكو كواكامي: هل ما فهمته صحيحًا؟ كانت روايتك "النوم" هي الأولى من نوعها والتي كُتِبت من منظور نسائي؟ 

هاروكي موراكامي: نعم، أعتقد أن هذا صحيحًا.

ميكو كواكامي: ما الذي جعلك تركز على كتابة شخصية أنثوية؟ هل حدث الأمر من تلقاء نفسه؟

هاروكي موراكامي: كتبت تلك القصة عندما كنت أعيش في روما، لم أكن على وشك الانهيار العصبي، لكنني كنتُ متوترًا وقلقًا جدًّا بسبب شعبية روايتي الغابة النرويجية "Norwegian Wood" والذي كان من أكثر الكتب مبيعًا في اليابان، شعرت أنني أريد الهروب إلى عالم آخر، لذلك غادرت اليابان إلى إيطاليا وانكببتُ على نفسي مدة من الوقت، كنت مكتئبًا نوعًا ما، واستعصت عليّ الكتابة، وفي ذات يوم، في أوائل الربيع، تملكتني الرغبة في الكتابة من جديد، وكتبت روايتي "TV People" و "Sleep". 

ميكو كواكامي: ما القصة التي انتهيت منها أولا؟ "TV People"؟

هاروكي موراكامي: أعتقد أنني أنهيت رواية "TV People" أولاً، فقد رأيت أحد مقاطع الفيديو الموسيقية لـ Lou Reed على قناة MTV وقد ألهمني بشدة لدرجة أنني كتبت الرواية دفعة واحدة، ثم صنعت شخصية نسائية لرواية "Sleep"، شعرت حينها أن هذه أفضل طريقة أعبر بها عما كنت أشعر به في ذلك الوقت، فقد كنت أرغب ببعض المسافة والابتعاد ربما حتى عن نفسي، وربما لهذا السبب كانت بطلة الرواية امرأة، وحسب ما أتذكر، فقد كتبت تلك الرواية بسرعة كبيرة أيضًا.

ميكو كواكامي: "النوم" رواية مذهلة، عدم القدرة على النوم يشبه العيش في عالم لا يوجد فيه الموت، القلق الذي ينتج عن ذلك، وذلك النوع المميز من التوتر الذي لا يهدأ أبدًا للحظة، إنها استعارة مثالية للوجود النسائي، أعتقد أن كتابتها استغرقت منك بضعة أيام كونها قصة قصيرة. 

هاروكي موراكامي: بالتأكيد، لكنها احتاجت أسبوعًا حتى نُقحت.

ميكو كواكامي: لقد عكفت على رواية "النوم" بضعة أيام، قرأتها سطرًا سطرًا، وحقا لم أقرأ امرأة كهذه من قبل، وقد كان الأمر برمته متعة عظيمة لي أن أقابل "امرأة جديدة" في النص، والأكثر إثارة للدهشة أنَّ كاتب تلك المرأة هو رجل، لأجل ذلك وأكثر كانت قراءتها تجربة رائعة لي.

من بين كل الشخصيات الأنثوية في قصصك، تقف المرأة في رواية "النوم" فوق البقية في نظري، وبصفتي نسويّة، بنت هذه الشخصية شعور ثقة بيني وبين أعمالك، ومن الناحية العملية، تعني هذه الثقة؛ الثقة في الكتابة، في الكلمات نفسها.

أعلم أنك ترجمت قصص قصيرة من اليابانية للكاتبة غريس بالي، لذلك ربما يكون ولّد ذلك لديك نوعًا من الارتباط مع الشخصيات النسائية وكيفية خلقها.

هاروكي موراكامي: ليس هذا ما حدث بالضبط، لقد قررت ترجمة روايات غريس بالي لكونها روايات ممتعة وجديرة بالاهتمام، لم أكن أدرك كيف كانت تصور شخصياتها النسائية، وعندما كنت أكتب رواية "النوم"؛ كتبت كل ما كنت أفكر فيه، واعتقدت أن المرأة ستكون كذلك في ظل تلك الظروف، لقد تصادف أن تكون الروائية امرأة في ذلك الحين، لكنني لم أبذل أي جهد واعٍ لاستكشاف عقل الأنثى.

ميكو كواكامي: عند كتابة شخصية أنثوية، يؤطر الكتّاب لبعض الدوافع التي تُستخدم لإرضاء توقعات القراء من الذكور أو الإناث وجعل تلك الشخصية قابلة للتصديق، ولكن هذه القصة لا تحتوي على أي من ذلك.

هاروكي موراكامي: باستثناء النهاية، عندما تركن سيارتها في الواجهة البحرية ليلاً، في ذلك المشهد، كنت أدرك تمامًا أن الشخصية الرئيسة هي امرأة، لذا كانت تلك التداعيات؛ رجلان يحيطان بسيارة امرأة في ليلة مظلمة ويبدآن في دفعها للأمام وللخلف، ذلك المشهد كان لا بد من أن يكون مخيفًا حقًا.

ميكو كواكامي: سيكون الأمر مخيفًا جدًا للرجل أيضًا، ولكن ربما مخيفًا أكثر للمرأة.

هاروكي موراكامي: من كل النواحي الأخرى، كتبت الشخصية استنادًا على كونها إنسانًا، دون أن أعير كونها امرأة اهتمامًا خاصًّا.

ميكو كواكامي: صحيح، أعتقد أن هذه هي الطريقة المثلى لخلق المسافة، والتركيز على الإنسان، لأن هذا ما هو عليه المرء، وقد كانت الجوانب الإنسانية للشخصية الأنثوية، هي ما تضيء مكانتها امرأةً، في الأقل في ذهني، إذ لم أقرأ امرأة كهذه في أي مكان آخر، يا لها من قصة رائعة!

هاروكي موراكامي: بالنظر إلى الخلف، أعتقد أنه كان من الممكن أن تصل ذات الفكرة فيما لو كانت الشخصية الرئيسية هي رب منزل وكانت الزوجة طبيبة أو طبيبة أسنان، ويكون الزوج رب المنزل غير قادر على النوم فيستيقظ طوال ساعات الليل ويطبخ ويغسل الملابس ويؤدي الأعمال المختلفة، ورغم ذلك، ستختلف بعض النواحي على ما أعتقد.

ميكو كواكامي: أعتقد أنه من المهم أن يكون للزوجين ولد، فالمرأة هي من تنجب، وقد يمنحها وعيها بهذا شعورًا باليأس لا يستطيع الأب مشاركته معها تمامًا.

هاروكي موراكامي: هناك أيضًا الامتعاض الذي تشعر به تجاه زوجها، أشعر أن هذا النوع من الاستياء خاص بالنساء. 

ميكو كواكامي: إنه أمر يتجاوز الاستياء، ولكن هناك شيء ما بالتأكيد.

هاروكي موراكامي: صحيح، أحيانًا عندما أتجول حول المنزل، أشعر به ورائي يتسلل إلى الغرفة.

ميكو كواكامي: لنقبل بمصطلح التسلل، في معظم الزيجات، يحدث فيضان مفاجئ!  لذا، أفكر في كيفية تصوير الابن والأب وهم يفعلون الأشياء بطرق متشابهة، ولنأخذ طريقة تلويحهم لها مثالا، ونظرًا لأن الاستياء لا يُعبّر عنه على هذا النحو، يجب على القارئ أن يتعامل معه على أنه هذا الإحساس الذي لا يمكن وصفه، ولقراءة رواية آنا كارنينا تأثير جيد في هذا الموضوع. 

هاروكي موراكامي: انا كارينينا، مثال كلاسيكي آخر على الاستياء من الزوج، وربما شعر تولستوي في حياته المنزلية بذات النوع من التوتر المتسلل إلى الغرفة.

ميكو كواكامي: لقد كتبت الكثير من الشخصيات الذكورية في حياتك المهنية، هل تعتقد أنه من الممكن أن تكون لك في الكتب المستقبلية أمثلة نسائية لشخصيات مثل مينشيكي في رواية Killing Commentator؟ أي شخصيات غامضة أو غير مألوفة بعض الشيء تجعلك تقول: "قف، هذا جديد!"؟ أم تظن أن الشخصيات النسائية ستستمر في لعب هذا النوع من الأدوار الأسطورية أكثر من الأدوار الواقعية؟

هاروكي موراكامي: سأستمر في إنشاء شخصيات جديدة مختلفة عن تلك التي جاءت من قبل، وهذا الأمر ينطبق بالتأكيد على النساء أيضًا، مثل شخصية شوكو أكيجاوا -على سبيل المثال- والتي لم تكن شخصية رئيسة لكنها في رأيي كانت خروجًا عن نمط معظم الشخصيات التي كتبتها، ففيها شيء مميز في نظري، شيء يدفعني لمعرفة المزيد عنها، وفي كل مرة أشعر وكأني لم أعرف عنها سوى القشور.

ميكو كواكامي: سأكون فضولية جدا لمعرفة ما كانت تقرأ، ماذا يوجد من كتب على منضدتها؟ أصعب الروايات التي يمكن أن تجدها؟ أنا حقا متشوقة لمعرفة ذلك، وعلى سبيل المثال، ماذا سيكون عنوان الكتاب الذي تتناوله لتقرأ في هدوء؟

هاروكي موراكامي: ربما عمل ملحمي مثل رومانسية الممالك الثلاث* Romance of the Three Kingdoms.

ميكو كواكامي: شخصية قوية وواضحة، أليس كذلك؟ تعطيك بعض الروايات كل التفاصيل حول الشخصية الأنثوية، تسريحة شعرها، ملابسها وغير ذلك... كما هو الحال في تشاندلر، حيث إننا حينما نرى امرأة لأول مرة نحصل على وصف مفصّل لها من الرأس إلى أخمص القدمين، مما يمنحنا صورة واضحة عنها، يميل التوصيف في رواياتك إلى البدء بتفاصيل دقيقة عن الملابس، إلى أين تذهب للحصول على معلومات حول ملابس النساء؟

هاروكي موراكامي: لا أذهب إلى أي مكان، بل أكتب فقط ما أفكر فيه، ولا أقضي وقتي في البحث عن هذا النوع من الأشياء، عندما أقوم بتكوين صورة شخصية أنثوية ما فإن ما ترتديه يسقط في خيالي طبيعيا، على الرغم من أنني سأقول إنه ربما بسبب أنني أولي اهتمامًا وثيقًا لملابس النساء في الحياة الواقعية، فأكون أشبه بالمتسوق.

ميكو كواكامي: تتصف شخصية الزوجة في فيلم Tony Takitani (Blind Willow, Sleeping Woman, 2002)  بأنها مهووسة بالتسوق، وهكذا ينتهي بها الأمر بالموت في حادث سيارة في النهاية، وفي كل مرة تفكر فيها في الملابس، تهتز، وهي تفاصيل أحبها تمامًا.

ونحن نتحدث عن هذه الأمور، أتذكر مجموعة متنوعة من الشخصيات النسائية التي كتبتها، لن أقول إنَّ كل النساء يمكن تصنيفهن في فئة واحدة، على الرغم من أن كتابة شخصية أنثوية لا تعني بالطبع جعلها مهمة للقصة.

هاروكي موراكامي: بصراحة، أنا لا أفهم فكرة الأنماط هذه، يمكننا التحدث عن النساء في رواياتي كمجموعة، لكن في رأيي، هن فريدات بمفردهن، وعلى المستوى الأساسي، فإنني قبل أن أتعامل معهم رجلا أو امرأة، فإنني أراهن إنسان، لكن بغض النظر عن كل ذلك، ماذا عن الزوجة في رواية The Little Green Monster؟ إنها مخيفة بعض الشيء، أليس كذلك؟

ميكو كواكامي: نعم، توجد تلك المرأة أيضًا.

هاروكي موراكامي: كنت أستكشف نوعًا من القسوة التي يبدو أن النساء تمتلكها، يمكنني الشعور بها عندما تصدر عن الشخص، لكن لا يمكنني المطالبة بها، لا أريد أن أقع في مشكلة الاختلافات بين النوعين، لكني أعتقد أن هذا النوع من القسوة نادر الحدوث لدى الرجال، يمكن للرجال بالطبع أن يكونوا قساة، لكنني أعتقد أنهم يتعاملون مع ذلك بطرق أكثر تنظيمًا وحكمة، فيأتون إليك بمنطق، أو باختلال عقلي تام، لكن قسوة النساء أكثر اعتيادية كل يوم، بين الحين والآخر، يمسكون بك على حين غرة، والمثير للدهشة أن الكثير من القارئات يبدو أنهن استمتعن بلعبة The Little Green Monster، أو ربما هذا ليس مفاجئًا على الإطلاق؟

ميكو كواكامي: نعم، الكثير من صديقاتي أحببنها أيضًا، إنها واحدة من الشخصيات المفضلة لي كذلك، كيف يمكنني وصفها؟ يبدو الأمر وكأن الخوف لا يُسجل على أنه مخيف، مما يسمح للقارئ بتقبله على أنه أمر طبيعي تمامًا، إنه نوع مألوف من القسوة.

______

- وُلد هاروكي موراكامي في كيوتو عام 1949 ويعيش الآن بالقرب من طوكيو، تُرجمت أعماله إلى أكثر من 50 لغة، وحصل على مجموعة من الجوائز والتكريمات الدولية بما في ذلك جائزة فرانز كافكا وجائزة القدس**، كما حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة لييج وجامعة برينستون تقديرًا لأعماله.

- ولدت ميكو كاواكامي في محافظة أوساكا عام 1976 وبدأت مسيرتها الفنية مغنية وكاتبة أغاني قبل أن تبدأ ظهورها الأدبي في عام 2006، رُشحت روايتها الأولى "أنا، أسناني والعالم"، التي نُشرت في عام 2007، لجائزة أكوتاغاوا، حصلت على جائزة Tsubouchi Shoyo للكتاب الناشئين الشباب. في العام التالي، نشرت كاواكامي روايتها القصيرة "الصدور والبيض"، وفازت بجائزة أكوتاغاوا، وهي أرفع تكريم أدبي في اليابان، كما حصلت على إشادة من الكاتبة المشهورة يوكو أوغاوا، وهي أيضًا مؤلفة روايات أخرى مثل الجنة، والليل ملك للعشاق، والصدور والبيض الموسعة حديثًا، وهي أول رواياتها التي تنشر باللغة الإنجليزية، وتعيش كاواكامي في اليابان. 

تُرجمت المقابلة أعلاه عن اليابانية من سام بيت ودافيد بويد. 

* رواية تاريخية تعود إلى القرن الرابع عشر تُنسب إلى المؤلف الصيني لو قوانتشونغ، تتحدث عن نهاية سُلالة هان وفترة الممالك الثلاث في تاريخ الصين؛ ابتداءً من عام 169 ميلاديًّا حتى نهاية عام 280 عند توحيد الأرض.

** جائزة القدس جائزة أدبية صهيونية دولية تمنحها بلدية القدس، أعلن عنها أول مرة عام 1963، اسمها الرسمي هو جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع، تُمنح الجائزة لكتاب وكاتبات تتطرق إنتاجاتهم الأدبية إلى حرية الفرد في المجتمع ويُختار الفائزون من قبل لجنة تحكيم يتبدل أعضاؤها في كل دورة.

 

ترجمة: عبير علاو.

تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الأحد، 13 ديسمبر 2020

حين يخال لامرأة أنَّ منزلها - قصص قصيرة مترجمة

 حين يخال لامرأة أنَّ منزلها يحترق.

‏قصص قصيرة مترجمة - ⁧‫#قرطاس_الأدب‬⁩.


















‏اشترك في الترجمة: 

بلقيس الكثيري، دعاء خليفة، عبير علاو، سارة محسن، مؤمن الوزان.


‏تصميم الغلاف: محمد إسلام.


‏للتحميل بصيغتي PDF و EPUB:

https://drive.google.com/drive/folders/108Nt3wgQsPlIku3OJhUHkbKNKNiYxMi1




لإبداء آراءكم ومراجعاتكم: صفحة الكتاب في Goodreads 

https://www.goodreads.com/book/show/56266842

البحث عن الزمن المفقود - (الكتاب السابع)


الزمن المستعاد - مارسيل بروست.


تنتهي رحلة بروست في بحثه عن زمنه المفقود في كتابه السابع -وهو ثالث الكتب الأخيرة ضمن السلسلة التي نُشرت دون أن تراجع وتدقق من قبل بروست الذي عاجلته الوفاة- المقسّم في أربعة نصوص يتناول كل نص منها مرحلة معينة ابتداءً من النص الأول الذي زامن الحرب العالمية إلى النص الأخير في مرحلة الأخيرة من الحرب العالمية في عام 1918، وهي الحرب التي قد أعاقت بروست في كتابته لروايته السباعية. إن الزمن الذي يستعيده بروست ويقصده هو الزمن الزمن الماضي الذي نستذكره ونشعر به في الزمن الحاضر عبر وسائل تُذكِّرنا به، وتربط ما بين الزمنين دون أن تخلطهما معًا، ويبقى شعورنا بالماضي وما انتابانا من أحاسيس وأفكار ومشاعر منعزلًا عن شعورنا بالحاضر وما فيه من أحاسيس ومشاعر، فنشعر بالزمنين معًا ونعرف ما كان يميز الماضي عن الحاضر، وندرك من هو الشخص الذي يشعر بالماضي (وهو الشخص الذي كناه وقتئذ) وندرك من هو الشخص الذي يشعر بالحاضر الآن، ويستعيد شخصنا في الماضي ويترك له المجال ليقرأ الحاضر بشعور وأحاسيس الماضي لا إرادة منا بل دون إرادة لأن شعوره هو الشعور الوحيد المستحوذ علينا، وما شعورنا الحاضر إلا بوابة لاسترداد شعور الماضي الحقيقي والوحيد الذي يتملكنا مع مواقف بعينها يكررها الزمن أو يبعثها. فالاستعادة هنا استعادة الذات التي تعرف الزمن الماضي أكثر مما هي استعادة الزمن نفسه لأن الزمن يقبع في ذواتنا التي تسعى خلفه، الذات التي يبحث بروست وسارده خلفها، ولقاء هذه الذات هو إعادة بعث للزمن الماضي الذي لم يعد له ملمس أو شكل أو سمات إلا فيما نتذكره نحن، أي أنه زمن يقبع في الذاكرة الذاتية لكل واحد منا، لنعود إلى العلاقة المتداخلة التي يتكئ فيها الزمن والذاكرة بعضهما على الآخر، فالذاكرة هي حافظة الزمن الذي من دونه تفقد جدران قالبها الذي يُحبس فيه الزمن، ويبقيه محفوظًا لنا بكل ما حواه من ذكريات وأحداث وإدراكات وروائح وأطعمة وأحاسيس إلخ، ويقول سارد بروست: "لأن الذاكرة حين تُدخل الماضي في الحاضر دون أن تبدله، تماما كما بدا عندما كان حاضرا، فإنها بذلك تُلغي بالتحديد البعد الكبير للزمن الذي تدور وفقه الحياة". إنَّ عملية استعادة الزمن هي عملية لتحليل العلاقة ما بين الزمن والذاكرة وبين تأثيرهما فينا.

 يحضر سارد بروست حفلة نهارية "حفلة الرؤوس الراقصة" عند آل غيرمانت في نهاية روايته ويرى تأثير الزمن في من عرفهم في الماضي، لكن هذه الرؤية ليست لهم فقط بل هي رؤية ذاتية أيضا يكتشف فيها أنه تقدم بالسن هو الآخر تقدمًا لم يستطع أن يلاحظه من قبل أو يقف على كنهه وماهيته، فتتحول عملية إدراك تأثير الزمن فيمن يراهم إلى إدارك تأثير الزمن فيه نفسه. فهو لم يعرف تأثير الزمن في نفسه إلا بعد اكتشافه في الآخرين، في عملية إدارك انعكاسي، يعبر عنه وصفه لما حدث بينه وصديق الطفولة بلوخ: "وصرَّح لي هو أنني لم أتغير، ففهمت أنه يظن نفسه لم يتغير". 

لكن هذه الاستعادة للزمن الماضي وهذا السعي المحموم خلفه لا يتم معه إلا عبر العمل الفني الذي يعترف به دون تردد فيقول: "وعندئذ حلَّ فيَّ نور جديد، ولكنه أقل سطوعا في الأرجح من النور الذي جعلني أدرك أن العمل الفني كان الوسيلة الوحيدة لاستعادة الزمن الضائع". ويُوقِّر هذا الزمن ويجل من قدراته التي تجعل الأشكال تُعرف دون أن تكون متشابهة ليس لأنه تملقها بل لأنه جعلها تشيخ على حد وصفه

إنَّ الرعبَ الذي يثيره بروست في سارده عندما يضعه قبالة حقيقة تتكشف له تباعًا حول تقدمه بالسن وشيخوخته ودنوِّه من الموت- رعبٌ كفيل بأن يحثَّه على كتابة كتاب يحفظ فيه نفسه، فالبحث عن هذا الزمن المفقود هي محاولة للبحث عن الذات المفقودة (مستقبليا بالموت)، أي أنه يستبق موته بتخليد ذاته، وهذا ما ينطبق على الاثنين سارد بروست وبروست نفسه، إذ تتطابق الشخصية الروائية وخالقها في مسعًى واحد من أجل غاية واحدة ألا وهي مواجهة الموت والاندثار، ولا يمكن قول إن كلاهما قد فشلا على العكس تمامًا فما رغبا به قد نالاه، وانتصرا في مواجهة الموت وصراع الاندثار وهجوم النسيان الذي لا يهرب منه إنسان، والأمر بذات الوقت دعوة للخلود عبر الفن، الوسيلة الوحيدة التي آمن بها بروست ليخلد. إن التاريخ البشري مليء بالأمثلة التي توضح لنا عظمة الفن في تخليد الإنسان وإرشاده على الدرب الذي يمكنه من الخلود وهزيمة الموت، الموت الذي هو الوجه الآخر للنسيان، النسيان الذي يفر منه بروست وسارده، النسيان الذي حاربه باسترداد الزمن وقوة الذاكرة في روايته السباعية.    



سلطة الكاتب وسلطة الراوي 


إنَّ سلطة الكاتب "بروست" على الراوي الداخلي للعمل "سارد بروست الذي يقص حياته" تبدو جلية، إذ يقصي سارده وتبقى الساحة خالية من سوى بروست الذي لا يُخطئ متتبعا لسيرة حياته من معرفة أن المتحدث هنا هو نفسه، ويبرز هذا في الاستغراقات في الزمن والذاكرة التي يتيه فيها سارد بروست "ظاهريًا" وهي استغراقات بروست الكاتب "حقيقة" عندما كان ينتظر في الصالة حتى انتهاء المعزوفة التي كانت تعزف في الحفلة النهارية. يسرد فيها بروست علاقة الزمن والذاكرة والاستعادة الزمنية وعلاقة الإنسان بالزمن الماضي والحاضر، ويطرح قضايا أدبية أو حتى التعريض بأدباء أمثال الناقد سانت-بوف الذي عُرف بروست لتعريضه المستمر به، وهنا نؤكد على اضطراب الصوت السردي الذي لاحظناه على مدى كتب الرواية السبعة وأن بروست في عدة مقاطع سردية ينسى أن سارده من يجب أن يتكلم فيقصيه وعيًا وذاتًا ويبقيه مظهرًا مفرغًا ثم يملأه بذاته هو ويتحدث بلسانه هو. لكن هذا الراوي الداخلي يُنازع بروست السلطة وينزعها منه ونرى مثالا على ذلك في نهاية الرواية التي يبدأ سارد بروست بالحديث عن نفسه وهو يكتب كتاب حياته، ويشارك القارئ طقوس كتابته، لهذا العمل، وهي اعترافات تضع الختم على تقنية ما وراء القص، التي تطرق إليها بروست عبر سارده في أكثر من مرة، والتأكيد أن هذا العمل الذي يقرأه القارئ هو عمل متخيّل لا أكثر.  




الذات الفردية المتعددة


تعدد ذات المرء الذي يبني عليه بروست في هذا العمل الكثيرَ من التحليلات النفسية لشخصياته أو قراءة التغيّر الذي طرأ عليهم يشبه الوقوف في غرفة مليئة بالمرايا تعكس أشكالنا بعدد المرايا، لكن كل مرآة هنا تمثل زمنًا معينًا أو حتى ذاتًا معينة ترتبط بظروف خاصة بها. إن أول تطرق لهذه الذات المتعددة نقرأها في العلاقة مع ألبرتين، وتعدد حيواتها الظاهرية والخفية التي ما فتئ سارد بروست يبحث عن حقيقتها دون جدوى، فخلق لنا ألبرتينات (كما يجمعها سارد بروست نفسه) كثيرات، هذه الألبرتينات هنَّ تعدد لذات بروست، المرايا التي تعكس ذاته، فكما ذكرت في المراجعة السابقة أن ما أميل إليه هو أن ألبرتين هي انعكاس لبروست ونظير له وسارده الذي يقرأ نفسه فيها. تنعكس هذه التعددية في سارد بروست وتبقى بعد أن يتقدم في السن، وتتعدد الأنا، ويبدأ بتميز هذا التعدد، وأجلى توصيف له حين يذكر أن هذه الأنا من تتذكر وتلك الأنا من تنسى، فالتعددية هنا مرتبطة بالزمن والذاكرة والنسيان، التي لا يستطيع أن يخرج من حدودها، والزمن المستعاد الذي قلنا إنه استعادة للذات القديمة التي تعرف ذاك الزمن وتحفظه الذاكرة، هو تكاثر للأنا الواحدة التي نملكها، فكل أنا لها عالمها الخاص، هذه العوالم التي استطاع سارد بروست الوقوف عليها وتمييزها مما جعل التعامل مع زمنه واسترداده والبحث فيه سهل المنال، لأنه يقسم زمن حياته على أقسام مرتبطة بالحوادث والوقائع التي يتذكرها، ولكل قسم أناه الخاصة ولكل حادثة أناها الخاصة، هذه الأنوات التي بتجمُّعِها تخلق ذاتنا الواحدة، ذات النماذج المختلفة في سياقاتها والمتشابهة في جوهرها، بل هي أيضا تمثل الجنس البشري أجمعه الذي يعود إلى أصل واحد، وما تعدد النفوس البشرية إلا تعدد للذات الواحدة التي انبثقت منها





                       ***



قراءة البحث عن الزمن المفقود لبروست. 

(نصائح وتوجيهات)  - مؤمن الوزان.


راودتني فكرة قراءة البحث عن الزمن المفقود منذ أكثر من ثلاث سنوات، لكن الشروع بقراءتها احتاج مني وقتًا طويلًا حتى ابتدأت به (بعد ثلاث سنوات من انبثاق الفكرة تخللتها سنة وضعتها ضمن جدول قراءتي لكني لم أقرأها)، لذا فإن أول نقطة لقراءة بروست تتمثل في رسم الفكرة في الذهن ووضعها ضمن الخطط المستقبلية للقراءة لا سيما حين نتحدث عن سبعة كتب بمجموع يقارب مليون ونصف مليون كلمة. 


إنَّ مجرد التفكير بقراءة سباعية الزمن المفقود يُعطي دافعًا لقراءتها ويشكّل حافزًا لدى القارئ بالشروع بها في أقرب وقت ممكن وأول فرصة تتاح له. ولا بد قبل القراءة أن نقف على قيمة الزمن المفقود لبروست. أحدث هذا العمل بثورته الفنية في التعامل مع الزمن في الرواية نقلة نوعية في الرواية الحديثة عموما والأوروبية خصوصا، لا سيما وأنها جاءت في مرحلة متقلبة على مستوى الفكر في أوروبا وقرمزية على مستوى السياسة والعلاقات بين دول القارة، كل هذا ألقى بظلاله على الجيل الجديد، فظهرت أسماء كبيرة مثل جيمس جويس وفرجينيا وولف وسبقهم بروست في الظهور عملاقًا من عمالقة الرواية بروست في هذه الرواية، التي تحددت معه وسابقيْه على نحو غالب ملامحُ وسماتُ رواية تيار الوعي وسبقوا زمانهم كذلك في وضع خط انطلاق لرواية ما بعد الحداثة خاصة في علاقة الراوي مع شخصياته والميتا سردية (ما وراء القص) وهذا ما نلاحظه جليًا في البحث عن الزمن المفقود. لكن يبقى عنصرا الذاكرة والزمن عند بروست وتعامله الفني الدقيق في نسج نصه استنادًا إلى الذاكرة الطوعية (أو ما اسميتها الذاكرة الحرة المتقافزة) والزمن (الذي جعله طيّعًا مرنًا بين يديه)- هما من ضمنا لبروست مكانًا مرموقًا واعترافًا بعبقريته الروائية وكونه واحدًا من أبرز روائي القرن العشرين وأحد المؤثرين بفن الرواية في تاريخ تطورها. 

تتمحور النقطة الثانية قبل الشروع في قراءة الزمن المفقود حول معرفة قيمة الرواية في مجال الأدب الروائي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القارئ غير المهتم بفن الرواية وتطور الرواية، ويبحث عن المتعة دون الإكتراث بقيمة الرواية الفنية فإن مشروع قراءة رواية البحث الزمن المفقود غير ضروري وليس بحاجة إلى أن يقضي وقتًا طويلًا مع هذا العمل الذي بقدر ما يمنح ويؤخذ مقدمًا من جهد ووقت. 

 *

الشعور بقيمة الزمن والذات بعد القراءة 


إن الفائدة الرئيسة التي يُمكن أن ألخص فيها قيمة قراءة هذا العمل لمن يهتم بتطور فن الرواية أو القارئ العادي (الذي سيواجه صعوبة دون شك في المطاولة مع هذا العمل) هو ما قدمه بروست من إحساس بالزمن يخرج به القارئ بعد نهاية القراءة، ومغيّرًا شعوره بالسن وتقدمها ومرور الزمن، فحين نتعرف على شخصية -بطل الرواية الذي يروي حكايته (سارد بروست)- وهو صغير مرورًا بمرحلة الصبا والشباب المبكر والبلوغ والكهولة انتهاءً بالشيخوخة التي يكتشف القارئ مع الرواي صدمة إدراك بلوغ سن الشيخوخة. إن متابعة حياة البطل والعيش معه أدق تفاصيل حياته على مدى آلاف الصفحات تجعل من القراءة معايشة واقعية أكثر من مجرد قراءة، ويصبح التقدم بالسن ملموسًا لدى القارئ حتى يشعر بمدى قدرة الزمن على التغيير في البشر، ولبروست تقنيته الخاصة في اكتشاف التقدم بالسن فهو اكتشاف انعكاسي، يرى تأثير الزمن في ذاته من خلال تأثير الزمن في الآخرين المحيطين به، وعلاقة هذا التأثير بالمكان، لتصبح القراءة هي الأخرى خوض في الزمن وتأثيراته في الذوات والجمادات، وتتحرر من قيود الورق والخيال وتقتحم حياة القارئ، وتغيّر نظرته وإدراكه لمفهوم التقدم بالسن أو تزيد وعيه بمدى الرعب الذي يقترب منه بنهاية حياته مع مرور الوقت، أن يدرك تناقص المسافة نحو النهاية لحياة ربما ما زال يبحث عن معنًى لها، معنى حين تكتشفه قد تموت، معنًى قد لا تكون له أي قيمة حين يكون الموت وجهته الثانية، لذا فإن الغواية في قراءة بروست تتمثل في إعادة توجيهنا وتقويم أخطائنا -إن وجدت- مع مفاهيم الزمن والسن والحياة والموت ومعنى الوجود، والحث على الإسراع في معرفة ما نريد وأين نتجه وكيف نمضي قُدمًا بأخف متاع وأدومه. 

*

أما النقطة الثالثة في القراءة لبروست فهي القدرة على اتخاذ الخطوة الأولى في البدء ثم المواصلة باستمرارية ورغبة متقدة لإكمال العمل دون تهاون أو تراجع أو تأجيل إلى مدة بعيدة، لا سيما وأن بعض الحوادث في الكتاب الأول أو الثاني يُرجع إليها أو تكشف أسرارها في الكتاب الأخير، وهنا مع كثرة الأحداث والشخصيات وحتى عدم مراجعة بروست لكتبه الثلاثة الأخيرة من السباعية- فإن أحوج ما يحتاجه القارئ هو الاتقاد الذهني وقوة الحفظ وسرعة معالجة الذاكرة للأحداث دون لبس أو تداخل -الذي قد يقع بعضه بطبيعة الحال ولا مفر من هذا- لكن الاستمرارية في القراءة تمنح القارئ المساعدة على البقاء في أجواء الرواية دون نسيان أو شرود ذهني أو استطراد الخيال وخلق أحداث لم تقع. 


 ولهذه الاستمرارية تقنيات تعين القارئ منها:

- جدولة قراءة الكتب في مدة لا تقل عن الشهرين ولا تتجاوز ثلاثة أشهر:

قراءة الكتاب الأول ثم أخذ توقف قصير (يوم أو اثنان). 

قراءة الكتاب الثاني والثالث ثم توقف قصير. 

قراءة الكتاب الرابع ثم توقف قصير أو قراءة كتاب خفيف آخر. 

قراءة الكتاب الخامس والسادس ثم توقف قصير.

قراءة الكتاب الأخير.             


  • يمكن للقارئ أن يدخل اختبارًا لقدرته في المطاولة مع قراءة هذا العمل مع الصفحات الأولى من الكتاب الأول، فإن هذا الأسلوب البطيء في السرد، الدقيق في التفاصيل، الغارق في الشاعرية والتوصيف والتداخل والقفز العشوائي والتنقل غير المحدد أو اللا منضبط (ظاهريا)- يكشف عن قابلية القارئ، وهو بمثابة مِقياس لتفاعل القارئ مع النص. وقد يكون القارئ محظوظًا إن تشابهت طفولته مع طفولة بروست -كما حدث معي- لذا فقد يشعر بالألفة مع الرواية لذا:


  • ابحث عن وجه الشبه بين طفولتك وطفولة الراوي، فإنه بروست يأخذ قارئه معه في رحلة إلى الماضي، وإن كانت هي رحلته الخاصة لكنها في المقابل رحلة القارئ أيضا إلى ماضيه الخاص، وفرصة لاستعادة الذكريات والزمن الماضي ومقابلتها مع طفولة السارد. 


- إنَّ معرفة ماهية السرد القائم على الذاكرة الحرة أو الطوعية وارتباطها مع الزمن يعين على التواصلية مع العمل، فعند معرفة هذه العلاقة -بالإمكان مراجعة ما كتبته في قراءتي للعمل- وفهم أصولها وآلية عملها تجعلُ القراءة استكشافَ عقلية بروست وآلة زمن وقدراته الفنية في الرواية، فالمسألة تضحى نوعًا من الرياضة الذهنية والألعاب العقلية التي تساعد القارئ على فهم الزمن وكيف يمكن أن نتعامل معه عندما نحاول تجسيده والإمساك به، وكذلك في السيطرة على الذاكرة والتحكم في تدفقها عند التذكر واستعادة الماضي.



مؤمن الوزان.

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب