المشاركات الشائعة

الأحد، 25 نوفمبر 2018

وفاة الأب والابن، في رواية أورهان باموق "المرأة ذات الشعر الأحمر"

كاتب المقال: هيربهد هدايات.

تخضع الأعمال الجديدة للفائز بجائزة نوبل -هنا نتحدث عن أورهان باموق الذي فاز بالجائزة في عام 2006- إلى تدقيقٍ مكثف، في حالة ظهور أيّ علامةٍ عن تراجع مستوى المؤلف، لكنّ رواية باموق الأحدث -المرأة ذات الشعر الأحمر -تُظهر المهارة العميقة لدى باموق وهي تعمل كأداةٍ ووسيلةٍ للتحليل الاجتماعيّ والنقد، لِتضعها على قُدم المساواة مع أفضل أعمال بلزاك. أظهر باموق في أحدث أعماله قدرةً على خلق وسيلةٍ هامةٍ لفهم الديناميكيات الكامنة وراء الاضطرابات السياسية المعاصرة، والصراعات بين العلمانيين والإسلاميين في بلده الأم تركيا.
تبدأ رواية المرأة ذات الشعر الأحمر خلال سنوات المراهقة الأولى للشخصية الرئيسة جيم، الذي يستعد لامتحانات القبول في الجامعة. حيث يقوم جيم بعملٍ صيفيٍ كونه متدربا عند حفّار آبارٍ يدعى السيد محمود، من أجل تمويل دوراته التحضيرية. تجري أحداث بداية ونهاية الرواية في مستوطنةٍ قاحلةٍ في إحدى ضواحيّ إسطنبول تسمّى أوونغرين، حيث تمّ تكليف السيد محمود بحفر بئرٍ وإيجاد الماء.
قام والد جيم الذي يعمل صيدلانياً وناشطٍ سياسيٍ يساريٍ في إسطنبول بالتخلي عن جيم ووالدته مؤخراً. إنّ علاقة السيد محمود بجيم هي كعلاقة أيّ خبيرٍ مع متدربٍ مبتدئ، فهم يحفرون الآبار بشكلٍ جيدٍ ويعملون عند رجل أعمالٍ محليٍّ ينوي بناء مصنع، لكنّ علاقة السيد محمود بجيم قد تطورت، ليصبح محمود بمثابة الأب بالنسبة لجيم. إنّ وجود جيم في أوونغرين رسّخ فيه الخيال والأوهام والأساطير، كان السيد محمود يقص على جيم القصص والحكايات التي تتطابق مع ما ورد في بعض الآيات القرآنية، والتي تقود الاثنين إلى التفكير في أمورٍ نبيلةٍ وموضوعاتٍ ساميةٍ كوجود الجنة والنار. يلاحظ جيم أنّه كلّما قُصَّت قصةٌ دينيةٌ يُظهر السيد محمود هدوءاً حذراً، ويلاحظ نبرة تهديدٍ وتحذيٍر مبهمةً في طريقة كلامه وكأنّه يقول: من الممكن أنّ يحدث لك هذا. يبدأ التوتر في علاقتهما عندما يتحدث جيم عن قصةٍ قرأها -قصة أوديب ملكا- في أحد متاجر الكتب في إسطنبول، ظنًا منه أنّه سيثير الرعب في نفس سيده. يبدأ جوٌ غير مريحٍ ومهددٍ لوجود جيم في أوونغورين، لا سيما وأنّ السيد محمود غير قادرٍ على إيجاد المياه، كما يزداد شكّه وقلقه من تصرفات جيم.
بينما كان يتمشى في إحدى جولاته المسائية في أوونغورين يلتقي جيم المرأة المعروفة بذات الشعر الأحمر، وهي ممثلةٌ في فرقةٍ مسرحيةٍ متنقلةٍ تقدم المسرحيات الأخلاقية المستمدة من القصص القرآنية والتراث والحكايات الشعبية. يتنامى في جيم شعورٌ بالإعجاب والتعلق بهذه الممثلة، ويبدأ في متابعتها والتفاعل معها بشكلٍ متزايد. كان لغياب والده أثراً واضحاً عليه، فقد وقع في حبها أو على أقل تقديرٍ بدأ في اشتهائها.
يشعر جيم أنّ غياب الإشراف الأبويّ يسمح لنفسه ولشخصيته الحقيقية بالظهور، لأنّه لا يحتاج إلى القلق بشأن النظرة الصارمة من والده بعد الآن، لكنّ نصيحة والده ما زالت تلعب دوراً في التخيلات التي يحملها عن المرأة ذات الشعر الأحمر. فهو يتخيل أنهما الاثنين يقرآن معا، واستعاد جيم في ذاكرته كلمات والده "إنّ أعظم سعادةٍ في الحياة هي الزواج من فتاةٍ قضيت معها شبابك في قراءة الكتب، مع السعيّ الشغوف لمثاليةٍ مشتركة " مع أنّه قد لا يكون على درايةٍ به، إلا أنّ عدم وجود الشخصية الأبوية لا يؤثر على الحياة الواعية لجيم فحسب، بل على نسخته المثالية التي تظهر في الخيال.
في تفاعله وحواره مع المرأة، تطرق جيم إلى ذكر والده الغائب، أجابت المرأة: ابحث عن والدٍ جديد، كلنا لدينا العديد من الآباء في هذا البلد. الوطن والجيش والمافيا... لا أحد هنا يجب أنّ يكون بلا أب. إنّ غاية جيم من هذه العلاقة تدفعه إلى أنّ يشكّل علاقةً أبويةً جديدة. في حالة جيم، هذا هو الرابط المحتمل بينه وبين السيد محمود، أمّا على مستوى اجتماعي أوسع فهو تعليقٌ على الدور الذي تلعبه الصّور الأبوية في خيال الجماهير، لا سيما في المجتمع التقليدي الذي يعزز ويؤكد سلطة الأباء. ففي السياق التركيّ مثلاً، من المهم بشكلٍ استثنائيٍ وخاصٍ أنّ مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال لُقب بأتاتورك والذي يعني أبو الأتراك. في أثناء مشاهدته إحدى مسرحيات الفرقة المسرحية المتنقلة يصادف جيم قصةً مستمدةً من ملحمةٍ باللغة الفارسية تُعرف بشاهنامه: قصةٌ أبطالها رستم وسهراب. رستم هو محاربٌ وبطلٌ للمملكة الفارسية، والذي يسافر إلى البلدان والأراضي المجاورة، وأثناء وجوده هناك ضاجع أميرةً تدعى تهمينه، وقد أعطاها قطعة قماشٍ أو طوقٍ لتلفه على يد طفله المستقبلي، حتى يتمكّن من التعرف إليه بعد عودته إلى موطنه. هذا الطفل هو سهراب، الذي سيصبح فيما بعد بطل أرض تهمينه، ويخطط لِلمّ شمله ووالده، من أجل توطيد حكم مملكتيّ رستم وسهراب. لكي تنجح خطة سهراب فهو بحاجةٍ إلى أنّ تتقاتل المملكتان فيما بينها، وأنّ يتعرف الأب والابن على بعضهما البعض. ومن خلال العديد من المكائد الخاطئة من جانب الملك سهراب، يضطر البطلان إلى مبارزةٍ بينهما، ولأنّها في حالة قتالٍ ضارٍ غير قادرين على التعرف على بعضهما البعض. وبعد قتالٍ متواصلٍ لعدة أيام، يقتل رستم سهراب وعندها يرى السوار بذراع سهراب ولكن بعد فوات الآوان. يصاب الأب بالكمد والحزن لقتل ابنه، بينما تموت الأمُ تهمينه عند سماعها بمقتل ابنها سهراب.
إنّ تحليلات الدراما العائلية أحيانًا تُظهر تجاهلاً لإحدى أهم الشارات الأساسية للمأساة، والتي يؤكد عليها باموق بشكلٍ كبيرٍ ألا وهي حزن الأم. وكما كتب باموق: "إنّ منطق الكون يتحول إلى دموع الأم" يقوم باموق بتوظيف السرد في "المرأة ذات الشعر الأحمر" للتأكيد على الدور العالميّ للأمهات في كل التقاليد الثقافية والأساطير. يؤثر العنف الذي يجلبه الآباء والأبناء بعضهم على بعض بشكلٍ عامٍ على شخصيةٍ واحدةٍ ألا وهي الأم، سواءً كانت جوكاستا أم أوديب أم تهمينه، في قصة رستم وسهراب، التي حدثت في الأراضيّ الشرقية لتركيا، هنالك علاقة أبٍ بابنه تترك الابن مقتولا. في أسطورة أوديب التي حدثت في اليونان، غرب تركيا (الجزء الذي يسمى بـالغرب) يقتل الابن أباه. أما في أوونغرين وقع حادثٌ في موقع الحفريات أجبر جيم على مغادرة المستوطنة الريفية، وأن يعود إلى إسطنبول معتقداً أنّه ربما تسبب في موت السيد محمود، إنّ نهاية عهد جيم في أوونغرين أدت بشكلٍ ما إلى لعب دوره في الدراما الأوديبية.
في إسطنبول يدرس جيم ليصبح مهندسا، وتعلم الأساليب المتقدمة تقنيًا لاستخراج المياه، والتي تجعل الحفارين القدامى أمثال السيد محمود عديمي الفائدة، ممّا يؤدي إلى تحمل توترٍ آخر في قلب الرواية -التأثير المتنامي للغرب على المجتمع التركي. لقد أدت حركة التحديث في القرن العشرين إلى التخلص من أنماط الحياة التقليدية والأوهام التي يمثلها السيد محمود، وقد أجبرت الآباء على الموت على يد أبنائهم المحدثين. ومع ذلك، تلعب الحكاية "الشرقية" لرستم وسهراب دوراً كبيراً في حياة النضوج لجيم، والتي تحتل النصف الثاني من الرواية.
على الرغم من أنّ جيم لم يكن يعرف عنوان المسرحية التي عرضتها فرقة المسرحيات الجوالة في أوونغرين لكنّ رحلة عملٍ إلى طهران تقود جيم للإطلاع رسمياً على القصة في سياقها الأدبيّ الأصلي. فإذا كان جيم قد أمضى فترة شبابه يفكر بقصة الملك أوديب، فقد أصبحت حياته الراشدة مكرسةً بشكلٍ متزايدٍ لقصة رستم وسهراب. يفتتح جيم شركة بناءٍ تدعى سهراب مع زوجته عائشة، ولزوجين بدون أطفال، تعتبر شركة الانشاءات تعويضٍ عن فقدانهم الأطفال. تشير الأحداث الأخيرة للرواية إلى وفاة الطفل الافتراضيّ (سهراب) أيّ فشل الشركة، مما يضطره العودة إلى أوونغرين من أجل التخفيف من شعوره بالذنب الذي يطارده بسبب الحادث الذي أصاب السيد محمود الأب الافتراضيّ الذي اعتقد أنّه قد قتله.
إنّ عرض المجتمع التركيّ في هذه الرواية في ظل الظروف المعاصرة تجاور نمطين أساسيين من التقاليد الثقافية قد جعلت التوترات والقواسم المشتركة واضحة، الأمر الذي يجعل من رواية "المرأة ذات الشعر الأحمر" واحدةً من أكثر الروايات إثارةً للاهتمام التي نُشرت في السنوات الأخيرة، وهي إضافةٌ جميلةٌ للأعمال الكاملة لباموق، إنّ التقاليد ما زالت تحظى بأهتمامٍ كبيرٍ بالنسبة لأولئك الذين يبتعدون عنها، كما أنّ رواية باموق بارعةٌ في استخلاص التوتر المتأصل في المجتمع في خضم أزمة الهوية المتعلقة بتاريخه وقيمه.


* أورخان باموق: كاتبٌ وروائيٌ تركيٌ فاز بجائزة نوبل للآداب سنة 2006 ولد في إسطنبول في 7 يونيو سنة 1952 وهو ينتمي لأسرةٍ تركيةٍ مثقفةٍ، درس العمارة والصحافة قبل أن يتجه إلى الأدب والكتابة كما يعد أحد أهم الكتاب المعاصرين في تركيا، ترجمت أعماله إلى 34 لغةً حتى الآن، ويقرأ له الناس في أكثر من 100 دولة.
* أونوريه دي بلزاك: من رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر في الفترة التي أعقبت سقوط نابليون. وهو كاتبٌ فرنسيٌ وروائيٌ وكاتبٌ مسرحي وناقدٌ أدبيٌ وكاتبُ مقالةٍ وصحفي. ترك لنا واحدةً من أكثر الكتب الروائية إذهالاً في الأدب الفرنسي، مع أكثر من تسعين روايةً وقصةً قصيرة (137 قصة) ظهرت منذ عام 1829 حتى 1855 مُجمعين بعنوان الملهاة الإنسانية.
* أوديب ملكا هي مسرحيةٌ من الأدب التمثيلي اليوناني القديم للكاتب سوفوكليس

الترجمة: فلاح حسن.
التدقيق اللغوي: عبد الله علي.

كتب الأطفال علمتني كل ما كنت أحتاج إلى معرفته عن ماضي الشخصيات - آن باتشيت



 

بتُّ أكافح مؤخرًا لمعرفة ماضي أبطال القصة. وما القدر الذي ينبغي أن يتاح للقارئ معرفته من أجل فهم شخصية ما، هل يجب أن نفهم شخصية والدي تلك الشخصية؟ ماذا عن الجد والجدة؟ هل يتوجب أن نعرف في أي مدرسة درسا، ومتى توظفا وماذا كانا يعملان أثناء الحرب؟ الأمر يبدو وكأن هذه المعلومات الأساسية من شأنها أن تؤدي بالرواية إلى نقطة التوقف الأبدي، لأن الحياة بطبيعتها تتجه إلى الأمام بغض النظر عما حدث في الماضي. أحيانًا أفكر بالأشخاص الذين عملوا في بارناسوس، أشخاص أحبهم وأعرفهم جيدًا- لكن باستثناء القليل منهم- لا أعرف ماذا كان أباءهم  يعملون لأجل كسب لقمة العيش. ومع ذلك كنا نضحك، ونتجادل ونجري العديد من الحوارات الهادفة. (عن الكتب في أغلب الأحيان وليس دائمًا). لماذا لا أستطيع إظهار الشخصيات في روايتي من خلال أفعالهم  بنفس الطريقة التي يكون عليها الناس في حياتي؟

كنت أبحث عن كتاب يمكنني استخدامه مثالا يحتذى به ووجدته في كتاب ساندرا بوينتون المعنون بـ But Not the Armadillo (دون المدرع). سأعترف أنه قبل أن أفتتح أنا وكارين بارناسوس لم أكن أعرف شيئًا عن كتب الرسوم. إذا سمعتُ أحدهم يقول: "سيسترعي هذا اهتمامك!"، أظنهم يتحدثون عن هنري جيمس أو توماس مان، تلك الروايات الملحمية التي تتطلب اهتمامًا ملحميًا. لكن كتب الرسوم ذو الحواف المستديرة والصفحات الجامدة المصنوعة من الورق المقوى الذي يصعب إتلافه -إلى حد ما- هو في الحقيقة ما ينبغي التركيز عليه. يسهل على الأطفال والرضع أن يقذفوا به في أي مكان حولهم أو أن  يقوموا بمص زواياه. يمكنهم التفاعل مع الكتاب بالطريقة التي يرونها مناسبة دون أن يتأذى أحد. على أن يكون كتب الرسوم ذات ألوان زاهية ويحتوي أقل من 150 كلمة. بحيث سيلزم الآباء قراءته ما لا يقل عن 150,000 مرة. ومن المستحسن أن تكون الكلمات من المستوى الجيد.   

 

"أتحدث بكامل الثقة عندما أقول أن قراءة قصة المدرع الذي يسير مع طبلته الخاصة تعادل قراءة إحدى مجموعات الجيب التي تزخر بالحكمة البوذية العميقة والتي كتبها ثيت نات هانه".

 

إن ساندرا بوينتون بالنسبة لكتب الرسوم الخاصة بالأطفال تمثل ما يمثله الدكتور سوس لكتب الصور الكرتونية، وموريس سينداك للصور التوضيحية، وشيل سيلفرستين لشعر الأطفال. إنها متربعة في القمة ثم يأتي الآخرون ليشغلوا المركز الثاني بعدها. على الرغم من أنه ليس لدي أطفال فإنني أملك الكثير من الأصدقاء الذين لديهم أطفالًا، ودائمًا ما أختار نسخًا من كتبها مثل (الجرو المهيأ للعناق والصغير بوكي) لإعطائها لهم هدايا. (كل كتاب في سلسلة الصغير بوكي ينم عن عبقرية فذة).

 

على مدى سنوات احتفظتُ لنفسي بمخزون من كتب بوينتون لذا فإني أتحدث بكامل الثقة عندما أقول إن قراءة قصة المدرع الذي يسير مع طبلته الخاصة تعادل قراءة إحدى مجموعات الجيب التي تزخر بالحكمة البوذية العميقة والتي كتبها ثيت نات هانه. ليس لهذا المدرع أي مرجعية زمنية ولا نعرف أي شيء عن ماضيه. لكن فيما لا يقل عن 124 كلمة (أحصيتها) نستطيع أن نرى ما بداخل روحه. فهو لا يشبه غيره، يأكل التوت البري ويقفز على أًصابع قدميه. هو مدرع مثالي وفريد من نوعه من كل النواحي. وكل ما يريده هو أن يُقبل على ما هو عليه. ولا يستهان بمثل هذه الرسالة عندما تُوجَّه لطفل أو لروائي متقدم في السن.

كلما نظرت إلى الضعف البادي على وجه المدرع الصغير؛  أدركتُ أن هذا ما أريد لشخصياتي أن تكونه. لم أكن في حاجة لأن أعرف عن والدي المدرع وإذا كانا قد تعرضا لنهاية مأساوية على الطريق السريع لولاية تكساس. لم يكن يلزمني أن أعرف من أين حصل على منطاده. هكذا فقط قبلتُ به شخصيةً وآمنتُ به. وأومن أن ساندرا بوينتون قد تكون هي الشخص الذي يعلمني ما أحتاج أن أتعلمه الآن.

قرأت مؤخراً مقالاً رائعاً لجويس ماينارد في " نيويورك تايمز" تحدثتْ فيه عن العلاقة التي جمعتها بالروائي ج. د. سالينجر عندما كان سنُّها 18 عاماً وهو في ألـ 53 من عمره. وقالت إنه بسبب كتابتها عن هذه العلاقة، نُبذت ولم يأخذها الناس على محمل الجد، وأدركتُ بدون أدنى إحساس بالخزي أنني لم آخذها على محمل الجد لذات السبب. عندما صارحتُ صديقة ذكية في رسالة عبر البريد الإلكتروني بذلك، قالت لي: "أنا أيضًا نبذت جويس، وأشعر بالسوء حيال ذلك. حينها تبنيتُ تلقائياً عقلية أبوية، فقط حتى لا أكون منبوذة لكوني كاتبة أنثى. أذكر كل ذلك وأتساءل ماذا نفعل بأنفسنا".

أفكر بكل السنوت التي كنت أريد أن يشعر فيها الناس بجديتي وأناقتي وأنا أحمل نسختي القديمة من (أجنحة الحمامة)، ولكن بفعل ذلك ربما فاتتني بعض الدروس الأساسية التي يمكن تعلمها من كتاب يسترعي اهتمامي حقا. لعلكم تعرفون رضيعًا أو طفلًا صغيرًا يحتاج إلى كتاب عن المدرع الذي يمتلك قوة شخصية تمكنه من السير في طريقه الذي اختاره، أو ربما أنتم مثلي بحاجة لأن تقتنوا هذا الكتاب لأنفسكم.

 


 

  •   آن باتشيت: مؤلفة لست روايات وثلاثة كتب غير روائية. فازت بالعديد من الجوائز ، بما في ذلك جائزة البرتقالة البريطانية، وجائزة فوكنر، وجائزة كتاب العام. تُرجمت أعمالها إلى أكثر من ثلاثين لغة. تعيش في ناشفيل، تينيسي، وتملك متجر بارناسوس للكتب بالشراكة مع كارين هايز.

  •    ترجمة: بلقيس الكثيري.

  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.


الخميس، 22 نوفمبر 2018

نفيسة خاتون امرأة بطعم الشرق والغرب - محمد حسن حمادة.


لم تكن تملك المال والجمال فقط اللذين أهلاها لتكون أغني وأشهر نساء عصرها وسيدة مصر الأولي بلا منازع ولا بما امتلكته من قصور وعبيد وخصيان وجواري وثروة عقارية صخمة والتزامات وضياع بعدد كبير من القري بأرياف مصر علاوة علي الحلي والمجوهرات الثمينة ،فعندما تزوجت مراد بك كانت تملك قصوراً وتجارة وجيشاً جراراً من العبيد المماليك وصل عددهم إلي 400 مملوك وأسطولاً من السفن كما استثمرت أموالها وتجارتها في الأسواق عن طريق إدارة وكالة خاصة بها.
بجانب المال والجمال الذي سحر الألباب والقلوب كانت نفيسة البيضاء لها مؤهلات أخري كالذكاء والتحضر واللباقة والقبول والشخصية القوية التي أبهرت كل من تعامل معها.
لاننكر أن مؤهلها الأول وجواز مرورها إلي قلوب رجال عصرها هو أنوثتها وجمالها الطاغيان حتي يقال أن كل من وقع عليها بصره من رجال عصرها أصبح أسيرها ومملوكها وهي التي كانت مجرد أمَة ُجلبت إلى مصر، لا نعرف محلاً لميلادها ولانعرف موطنها الأصلي فبعضهم يقول إنها شركسية والبعض الآخر يقول إنها من القرم أو القوقاز وبعضهم نسبها إلي الأناضول ولكن الأقرب إلي الصحة أنها كانت جورجية خطفها اللصوص من إحدي القري الجبلية بجورجيا لتباع في سوق العبيد بالقاهرة ليضرب لها القدر موعداً مع أحداث جسام لمرحلة شديدة الحساسية والتقبلات والخطورة في تاريخ مصر ،كانت هي بطلتها وأحد محركات هذه الأحداث فيها بلامنازع.
لم تقنع نفيسة البيضاء بالحرملك كنساء أمراء وبكوات المماليك بل تخطت قوانينه وداست علي يشمكه وبرقعه لتبدأ قصتها من مقر إقامتها الجديد قصر الأزبكية الذي كان تحفة معمارية يشبه جمالها بناه لها زوجها علي بك الكبير خصيصاً لها بعدما ملكت شغاف قلبه.
كان حي الأزبكية في ذلك الوقت في منتصف القرن الثامن عشر هو الحي الأرستقراطي الأول في مصر يضم كبار بكوات وأمراء المماليك ،حتي بونابرت عندما حل إلي مصر اختاره ليكون مقراً دائماً لإقامته ومن بعده كليبر بقصر الألفي الذي يبتعد عدة أمتار من قصر السيدة نفيسة خاتون.
إنها نفيسة البيضاء التي أطلق عليها آخرون اسم نفيسة المرادية، نسبة إلى زوجها الثاني مراد بك، سميت نفيسة البيضاء لجمالها الفتان الأخاذ وبياض بشرتها.
يصورها الجبرتي بعدسته فيقول: إن ظهور أمر نفيسة بدأ عندما دخلت في حريم علي بك الكبير، فأحب الأخير هذه الجارية الشركسية وأعجب بها، وبنى لها داراً تطل على بركة الأزبكية في درب عبد الحق، غير أن المملوك مراد وقع بدوره في هوى نفيسة، فلما أراد محمد أبو الدهب خيانة علي بك الكبير وتحدث إلى المملوك مراد في ذلك، اشترط عليه الأخير نظير موافقته على الخيانة أن يسمح له بالزواج من هذه الجارية، فلما قُتل علي بك الكبير عام 1773 تزوج مراد هذه الحسناء"
فكانت نفيسة البيضاء هي الرشوة الجنسية والمكافأة التي نالها مراد بك نظير خيانته ،لتصبح نفيسة البيضاء زوجة لأقوي أميرين حكما مصر في نهاية العصر المملوكي وحاولا الاستقلال من تبيعة الباب العالي.
لم تخلب نفيسة خاتون عقول وقلوب رجال الشرق فقط وخاصة كبار رجال المحروسة بل تعلقت أهداب أعظم رجال الغرب بجمال هده السيدة ومنهم نابليون بونابرت الذي راودها عن نفسها عندما وجهت له دعوة علي العشاء في قصرها المنيف بالأزبكية ،ذهل نابليون من ثقافتها وذكائها وشخصيتها القوية الآسرة فقد كانت تخاطبه بالفرنسية بطلاقة فقد كانت تجيدها كنابليون نفسه كما كانت تجيد العربية والتركية فأولع بها نابليون ،فلم يكن نابليون يظن أن نساء الشرق قد تفوق إحداهن نساء فرنسا قاطبة حتي علي حبيبته جوزفين ليس في الجمال فقط بل في الفكر والثقافة وفنون الذوق والإتيكيت ولكن نابليون الفارس المغوار في ميدان الوغي لم يجرؤ علي البوح بما أصابه من سهام ولحظ هذه المرأة التي عطلت ترسانته وشلت كل أسلحته الحربية فأهداها ساعة مرصعة بالألماس كحيلة من حيل نابليون الماكرة ليري رد فعلها كنوع من أنواع الالتفاف والمراودة الذكية لنفيسة هانم خاتون عن نفسها إلا أنها أبت.
من منفاه بسانت هيلانة يتذكرها نابليون بونابرت ويصفها في مذكراته بأنها: المرأة التي تمتعت بحظوة كبيرة وتقدير كبيرين بين الأهالي"
قدرها الفرنسيون ولم يصادروا أملاكها وتذكروا لها جميلها عندما عارضت زوجها مراد بك في مصادرة أموال الفرنسيين قبل دخول الحملة الفرنسية ليس ذلك فقط بل بسببها حصل الفرنسيون علي امتيازات تجارية لم يحصلوا عليها من قبل فكان تعسف مراد بك مع التجار الفرنسيين هو الذريعة الأولي لقدوم الحملة الفرنسية
لكن عدم مصادرة الفرنسيين لممتلكات نفيسة خاتون كان مرهون بدفع فدية تقارب المليون فرنك فرنسي ولصعوبة تجميع الفدية اضطرت لإدراج الساعة المرصعة بالماس التي أهداها لها نابليون بونابرت كجزء من هذه الغرامة كنوع من أنواع الاحتجاج والرفض الذكي فأهداها نابليون لعشيقته.
قبل الفرنسيون وساطتها بينهم وبين زوجها مراد بك فكانت السبب في توقيع معاهدة صلح بين الفرنسيين وزوجها بمقتضاه يصبح مراد بك حاكماً لصعيد مصر وبعد مغادرة الفرنسيين مصر يتولي مراد بك مقاليد السلطة والحكم،
فمراد بك هو الرجل المملوكي الوحيد الذي يستطيع توحيد المماليك وإعادتهم إلي المشهد السياسي بعدما ترنحت دولتهم وقد يعيد لها مراد بك بهذه المعاهدة بريقها وتوازنها ولكن تأتي الرياح بمالاتشتهي السفن.
توفي مراد بك بصورة مفاجائة جراء إصابته بالطاعون مما قلب حياة وأمنيات نفيسة خاتون بل مصر كلها رأساً علي عقب لتحتضر دولة المماليك بصورة رسمية.
كان مراد بك هو العون والظهر والسند لنفيسة خاتون وبعد وفاته انحدر الحال بالسيدة التي عشقها أهالي المحروسة كما عشقها نساء المماليك فقد كانت بالنسبة لهم سنداً وعوناً ومغيثاً من الفرنسيين، فبسطت حمايتها على كثير من نساء المماليك المنكوبين، وواست عدداً كبيراً من فقراء المحروسة الذين كانوا ضحية الحملة الفرنسية، ودفعت من حر مالها كثيراً من الغرامات والإتاوات التي فرضها الفرنسيون على المصريين ولم يستطع غالبيتهم دفعها، فنالت بذلك احترام المصريين.
كانت نفيسة خاتون تمتلك من الذكاء ما يمكنها من المحافظة علي شعرة معاوية بينها وبين القادة الكبار للحملة الفرنسية فسمحت بتمريض جرحى الجنود الفرنسيين في قصرها فكسبت احترام الأجانب.
ولما خرج الفرنسويون من مصر نجحت نفيسة في الحصول علي حماية الإنجليز الذين بسطوا نفوذهم لفترة محدودة ،ثم مالبث أن عزز العثمانيون سيطرتهم علي مصر وأحكموا قبضتهم عليها ،واصلت نفيسة خاتون سياسة حماية نساء المماليك بل حتي رجالهم حتي عرفت باسم( أم المماليك).
أما الوالي العثماني الجديد خورشيد باشا فقد كان يتوجس منها ويعتقد أنها السيدة الوحيدة التي تستطيع جمع شتات المماليك للقيام بثورة ضده فاستدعاها للقلعة للمثول أمامه.
وقفت نفيسة خاتون أمام الوالي العثماني في موقف لاتحسد عليه، مازالت مسحة من الجمال تزين وجه نفيسة خاتون لم يصل إليها الزمن رغم التجاعيد التي طرقت وجهها.
حاول خورشيد الإيقاع بها ووجه لها تهمة ترك جواريها يوزعون المنشورات للقيام بثورة ضده.
نفت نفيسة البيضاء الاتهام وردت عليه بشخصيتها القوية المعهودة:
"عاصرت مماليك وفرنسيس وإنجليز ولكن لم يجرؤ أحد منهم أن يقتادني هكذا ويفعل بي مافعلت وينكل بي بهذا الشكل وأنت تعلم تاريخي وتعلم من أنا...من هي نفيسة خاتون ياباشا"
وعندما شاهدها المصريون تتجه للقلعة فعرفوا أن الأمر جلل وعرفوا بمكيدة خورشيد باشا للإيقاع بأميرة عرش قلوبهم فثاروا وهاجوا وماجوا ومعهم العلماء والأعيان فما كان أمام خورشيد إلا أن أمر بنزولها بأحد بيوت القلعة وتم اعتقالها في بيت السحيمي للمحافظة علي ماء وجهه وحتي تكون تحت سمعه وبصره.
حاولت نفيسة الهرب لكن بأت محاولتها بالفشل.
كان القائد الألباني محمد علي باشا يرقب هذا الموقف ويعلم قدر نفيسة خاتون لكنه كان أكثر توجساً من خورشيد باشا من هذه السيدة وهو من هو العدو الأول للمماليك ومدبر مذبحة القلعة لاستئصال شأفتهم ويداه ملتخطتان بالدماء المملوكية فكانت نفيسة خاتون (أم المماليك) في مواجهة مباشرة مع محمد علي باشا عدو المماليك الأول.
أذاقها محمد علي كل صنوف وألوان العذاب ولم يرحم شيخوختها فأمر بالتحفظ عليها لتكون رهن الإقامة الجبرية في بيوت أحد العلماء تحت حراسة مشددة ،فتوسط لها العلماء لإطلاق سراحها بعدما صادر محمد علي باشا ماتبقي لها من أموال وعقار.
حظيت نفسية بمكانة كبيرة في المجتمع المصري فكان لها التقدير من الأمراء والمشايخ والأعيان وعامة الشعب المصري ليس لجمالها ولذكائها وثقافتها بل أيضاً لما كان لها من أيادٍ بيضاء في أعمال الخير فقد وهبت الكثير من مالها لبناء السبل والكتاتيب لتحفيظ القران
كما أنشأت مجموعة خيرية تتكون من سبيل يعلوه ُكتاب ووكالة تجارية بها محال تؤجر خصص ريعها للصرف علي أعمال الخير يعلو الوكالة حمامان ريعهما يذهب لإسكان فقراء المسلمين بمبالغ رمزية عرفت هذه المجموعة بمجموعة السكرية كما كانت تتبرع بإعانات شهرية للعديد من العائلات ودفعت الكثير من الغرامات والإتاوات التي فرضها الفرنسيون علي المصريين الذين عجزوا عن دفعها، كما أنفقت على كسوة الكعبه ،ومحمل الحجيج، وغيرها من أعمال البر.
صعدت روح نفيسة خاتون إلي بارئها في التاسع عشر من شهر إبريل 1816. في بيت زوجها الأول وحبيبها وأستاذها الذي لم تعشق غيره علي بك الكبير الذي تدين له بكل فضل ، وتنفيذاً لوصيتها دفنت بجواره بقرافة الإمام الشافعي.
وبعد وفاتها أجهز محمد علي باشا علي بيتها واستولي عليه وأسكن فيه كبار رجال دولته.
وفي يوم وفاتها اتشحت القاهرة بالسواد حزناً علي المرأة الكريمة التي شاركتهم أفراحهم وهمومهم وأتراحهم، نعاها الجبرتي ووصفها "بنفيسة الخير لها علي الفقراء بر وإحسان"
نفيسة البيضاء أو نفيسة خاتون الجورجية نموذج حقيقي للتحضر المصري ودلالة علي أن مصر بوتقة قادرة علي إذابة العناصر الخارجية وتمصيرها وصهرها داخل القارورة المصرية التي تسع الأجنبي طالما أن هذا العنصر الخارجي لم يتربص به بشرٍ ولم يأتِ لمصر مستعمراً.
لذلك أطلق الشعب المصري علي بكاوات وأمراء المماليك (المصرالية) تمييزاً لهم عن المصراوية ،أما نفيسة خاتون فلم ينظر إليها الشعب المصري بنفس النظرة التي كان يمقت بها المماليك ولم يضعها في نفس كفة زوجها مراد بك الذي كان يفرض الضرائب الباهظة علي المصريين بل كانت تقف له بالمرصاد وتحاول منعه من ذلك بل وتتحمل ما وسعها الجهد والإمكانات أن تدفع عن المصريين المظالم والأموال فهي النموذج الصارخ للمصريين الجدد التي منحها الشعب المصري الجنسية المصرية فقد كانت الجنسية والهوية آنذاك تمنح للقلوب وليس بمكان النشأة والولادة كما في عصرنا الحديث لتكون نفيسة خاتون إحدي الجسور المتحضرة الذكية ونقطة عبور وتواصل وتلاقٍ فريد ونادر بين الشرق والغرب.

الحرب والسلم لتولستوي - مؤمن الوزان.


تعد رواية الحرب والسلم لتولستوي واحدة من روائع الأدب الروسي ومن أبرز أعماله إن لم تكن تحفته الأدبية الخالدة، ولا عجب في تسميتهاإلياذة العصر الحديث، في هذا المقال سأعمل على ذكر نقاط مهمة عن هذا العمل المترجم والمنشور في أربعة مجلدات.



الرواية


تنقسم رواية الحرب والسلم إلى نصفين:


النصف الأولتدور أحداثها حول غزو نابليون لأوروبا ومعاركه فيها وبصورة خاصة يتحدث تولستوي عن معركة أوسترليتز، وهي المعركةالتي خاضتها الإمبراطورية الروسية متحالفة مع إمبراطورية النمسا ضد نابليون والجيش الفرنسي وتنتهي بانتصار نابليون على خصومهتؤرخ هذه الرواية في نصفها الأول، بداية العقد الأول من القرن التاسع عشر، ما بين حياة المجتمع الراقي الروسي وحياة الحرب والعسكر،فتدور رحى الصفحات ما بين الوسطين متناقلة مرة هنا ومرة هناك، مصورة الجانبين بكل دقة، وشمولية حتى لا يكاد تغيب عن تولستويشاردة أو واردة فيذكرها، وتبرز قيمة تولستوي الأدبية في عرضه وتمكنه من المادة المروية، فهو يتحدث بلسان القارئ للتاريخ والناقد له،بلسان الأمير والجندي والضابط، المرأة والفتاة، فتتنوع الشخصيات وتتنوع الموضوعات، فيشعر القارئ بسيطرته المتناهية على شخصياتهوحواراتهم، وسرده لكل الأحداث سرد الحكي غير المتجانس، مما أعطاه حرية أكبر في التنقل والعرض


النصف الثانيوهو مرحلة ما بعد حرب أوسترليتز والحال التي آل إليها المجتمع الروسي الراقي وشخصياته بعد الحرب، ثم غزو نابليونلروسيا واحتلال موسكو بعد أن صُدَّ في معركة بورودينو، هذه المرحلة الحرجة جدا في تاريخ روسيا الحديث والتي تُسمى الحرب الوطنيةالأولى، في عام ١٨١٢م، شهدت هجرة القرى القريبة من موسكو التي احتلها نابليون وجيشه، وكان قد هجرها أهلها أيضاتصور الروايةكيف كانت الحياة بعد الهجران وكيف تعامل الناس مع هذا الأمر، ثم حركة المقاومة، والتي انتهت بانسحاب نابليون وجيشه وتكبدهم خسائرفادحةلا يمكن القول إن النصف الثاني مشابه للأول إلا في تشابه خط التسلسلي للرواية هيكليا، ما بين حياة السلم والحرب، لكن المحتوىبكل مواضيعه وأحداثه الداخلية كان قائما بكيانه الخاص، وبشخصياته وحياتهم، مُنتجا لنا رواية ليست ككل رواية، بل حدثًا فارقا ليس فيأساليبه الروائية الفنية، وميزتها أنها كتاب تأريخ ورواية في ذات الوقت، ليخرج القارئ بعدها برواية ومعرفة تاريخية وفلسفة تولستويةشهدتها الخاتمة وتشبعت بها الصفحات والأسطر في قراءة التاريخ قراءة مستفيضة واستدراكية.



رواية لن تتكرر:

بعيدا عن حجم الرواية الكبير، فهي ليست رواية فقط، فيركز تولستوي كثيرا على محاولة فهم التاريخ وقراءته بصورة تجعله قادرا على نقدالتاريخ وعرض تناقضات المؤرخين فهو يروي الحدث ويؤرخه ويفككه إلى قطع صغيرة مستعينا بكلام المؤرخين من كلا الجانبين، ويضيفبعدها نظرته وفلسفته في فهم التاريخوفي ختام الرواية يُخصص تولستوي اثنتي عشرة مقالة، في السلطة والحرية والقانون والضرورة،طارحا ومجيبا عن أسئلة متعددة منها ما السلطة؟ ما التاريخ؟ الحرية الإنسانية والضرورة؟ وبإمكاني القول إنها نهاية فلسفية يقوم منخلالها تولستوي على طرح كل ما أراده وشغل باله أثناء كتابة الرواية دون العمل على إدراج هذه المقالات إلى جسد روايته، لأنه أراد أن يخلعثوب الروائي ويلبس ثوب الفيلسوف، فيلسوف التاريخ والسياسة



تولستوي:


تكمن عبقرية تولستوي في هذه الرواية بقدرته العجيبة على بناء شخصياته داخل الجسد الروائي، وإدراجهم في الأحداث، بصورة متناغمةومتناسقة، في أغلب الأعمال الروائية يعمل الروائي على بناء شخصياته كلًا على حدة وتكون أعداد هذه الشخصيات قليلة، لكن مع تولستويالأمر مختلف تماما، فسير الرواية بخطي السلم داخل أقبية المجتمع الروسي، والخط الحربي المتمثل بمواجهة الروس والأوروبيين ضد جيوشنابليون؛ وفي هاتين البيئتين هناك العشرات من الشخصيات، والتي قد يظن القارئ أن هناك عدة رواة متكفل كل منهم بجزء معين، لكنعبقرية تولستوي وقدرته كانت كافية لأداء المهمة على أتم وجه وبسهولة كبيرة دون أن تدري كيفإقحام أي شخصية في الحدث تأتي بصورةمباشرة، ويكون النداء لحضورها هو كتابة اسمها فقطكثرة الشخصيات لم تكن صعبة على إدراك القارئ ليفهم كل شخصية على حدة بكلصفاتها التي يعرضها تولستوي، فتتنوع الشخصيات ما بين الخيّرة والشريرة، ولا يقتصر عمل تولستوي على بناء شخصيات خيالية كذلك بلكذلك في تكوين وإدراج شخصيات حقيقية، حتى تكون جزءا من أبطاله، فهو يستعين بها ليدعم الخط التأريخي الذي انتهجه في تأريخالحقبة التي تدور فيها الأحداث، إن قراءة شخصية حقيقية وإدراجها داخل العمل الروائي تحتاج إلى دراسة متعمقة ودقيقة وقراءة لحياةهذه الشخصيات حتى يقف على جميع صفاتها ومميزاتها وليصنع نسخة تكون إنموذجا فعليا وصادقا في روايته وهنا يبرز دوره قارئاللتاريخ ومؤرخا له.

تولستوي ومهمة التأريخ في الحرب والسلم:


بما أن الحرب والسلم لم تكن مجرد رواية تاريخية، بل وتؤرخ مرحلة زمنية قُرابة عقد من الزمن (١٨٠٤-١٨١٢)، فكانت مهمة تولستويالتأريخية لا تقل أهمية من بناء رواية تامة التفاصيل ومتشعبة الأركان والزوايا، فحس المؤرخ لديه، ومعايشته لمدة زمنية لا تبعد كثيرا عن زمنروايته، أعطته الإمكانية والرؤيا التي سمحت له بصياغة التاريخ الروسي في العقد الأول من القرن التاسع عشر، بأسلوب يتناسب مع العملالروائي وبذات الوقت لا يخرج من منظور الأدب إلى كتاب تاريخ مليء بالتفاصيل والتشعبات، فلم تكن الحرب والسلم مجرد رواية نسجها منبُنيّات أفكاره فقط، بل كذلك أمدّها بواقع تنهل منه كل موارده، فأضحت كعبة القُرّاء والباحثين ولعمري إن هذه وظيفة من وظائف الأدب أنيكون سجلا لحفظ وقائع الأمم وتاريخها، ومترفةً بالإنسانية، ومثقلةً بالحقيقة، نظرا لنوع هذا العمل التاريخي.

لا ينقل تولستوي التاريخ بقلم المؤرخ، بل كذلك ينقله برؤية السائل والمجيب، فحين يكتب عن معركة بورودينو فهو لا ينقلها كما سمعها أو قرأهاأو عرفها، بل كذلك يُضيف لها طابع السؤال لمَ حدث هذا؟ ولمَ لم يحدث ذاك؟ وهل كان من الأفضل قطع الطريق على الجيش الفرنسيالمتقهقر أو تركه ليفنى لوحده، وغيرها الكثير من الأسئلة التي يحاول فيها أن يسبر غور القادة، ويفهم كنه قراراتهم وأسبابها، فيُشبع القارئبخاصية التساؤل وقراءة الحدث وتفكيك رموزه دون الأخذ به أخذا بلا بصيرة ولا دراية


تولستوي الناقد التاريخي:


ورأي تولستوي في التاريخ ومجرياته فهو ينقسم إلى اثنين رئيسين الأول إن أحداث التاريخ المهمة والتي منها غزو نابليون لموسكو لم يكنلعبقرية وهدوء نابليون الاستثنائيين بل كان نتيجة لقوانين الأحداث التي فرضت نفسها على تسيير الواقع.

والآخر فهو إن في الحروب خصوصا والتاريخ عموما لا يوجد بطل يُعزى إليه الفضل بكل ما يتحقق من نجاحات سواء على مستوى القرار أوالحكم، بل ينتج الأبطال انعكاسا لحركة الجماهير وانجرافهم لأمر ما، فنابليون لم يكن ليرغب بالقدوم إلى موسكو ما لم يكن هنا موافقة شاملةلصفوف جنوده وقادته، وبالتالي فهو جزء لا يتجزأ من عجلة كبيرة من الأسباب والنتائجوهنا يظهر يبرز شخص تولستوي الناقد التاريخي


تولستوي ينقد التاريخ ويحلل ويفند ما كتبه المؤرخون وخاصة الفرنسيون الذين عملوا على تجميد وتعظيم كل ما يقوم به نابليون، وتصل بهالدرجة إلى تسفيه كلامهم والسخرية من شخصية نابليون وتجريده من كل الصفات الأسطورية التي أُحيط ووصف بها، لتبرز لنا شخصيةتولستوي فذّة في قراءة التاريخ وفهم مجرياته ومعادية لنابليون كذلك، ليطرحها في عمله الروائي جزءًا لا يتجزأ من جسد روايته



شخصيات من الرواية:


بيير والتغيير


بيزوخوف بيير، شخصية ذات رمزية أعمق مما تبدو عليه فهو تُصوّر الإنسان بتقلبات حياته   سواء المادية أو الاجتماعية أو الفكرية، من ابنغير شرعي إلى أن يكون الوريث الشرعي للملايين ويكون كونتا في المجتمع الراقي الروسيالتغيرات التي طرأت عليه جعلت منه إنسانا آخركل يوم يجد نفسه في بحث عن الحقيقة التي لم يعرف كيف يصل لها، هل الحياة في الحرية؟ هل الحياة في الحب؟ كل شيء يدور حولهويحصل له يجعله يُفكر أين أنا وما الذي يجب أن أفعلهفبعد أن انضمَّ للفرق التطوعية لمقاومة جيش نابليون الذي غزا روسيا، تصطدم أفكارهما بين حياة السلم والمجتمع الراقي بكل تقاليده وعاداته، والراحة والدّعة التي يعيش بها أصحابه، وبين حياة الحرب والجنود الذين أرواحهمعلى كف عفريت لا يعرفون ماذا يكون مصيرهم، وهل سيعيشون إلى الغد؟ مع الوضع العسير في حياة الجندية وقلة الموارد وسوء الطعاموالظروف، تبرز في ذهنه فلسفة الحياة والموت، الفقر والغنى، التعب والراحة، من أنا وكيف يجب أن أعيش؟  وما المكان الملائم لي وأينأنتمي؟  هذه الأسئلة التي دارت في ذهنه، عمل تولستوي على صياغتها لتكون فلسفة واضحة للقارئ، غاص بها في مكنونات الفكر والنظرةللحياة التي يعيشها المرءوالنقلة الأخرى التي عايشها بيير كانت بعد وقوعه أسيرا، ليكون لسان حاله ما معنى الحرية؟ الحرية أن أعيشخارج السجن أم الحرية أن أفعل ما أريد؟ وما مفهوم الحرية للعبيد، الذين يفضلون الحياة في خدمة أسيادهم على أن يخرجوا من خدمتهملأنهم وقتها لن يعرفوا ماذا يفعلون أو ما هم صالحون لأجله، الحقيقة خلف معنى الحرية هي الغاية التي يركض خلفها والتي لن يبلغها، وهذهفلسفة تولستوي لن نبلغ الغاية في كشف كنه الحقيقة، فهي تبقى بعيدة المنال عن مساعينا في الوصول إليها، وتبقى مرآة يرى كل شخصما يريد أن يراه فيها

الحب وناتاشا، الشابة التي أسرت قلبه، الحب الذي نبت في صدره واستعمّره، كيف بإمكانه أن يصل إليها، ويكون زوجها، وما الذي سيغيرهالحب من حياته وكيف سيغير؟  فلسفة الحب التي أرّقت بيير، هذه الشخصية التي ترمز للإنسان بكل جوانبه وحالاته بعمقه وسذاجته بطبيتهوقسوته، بحبه وكرهه، بيير الغني، بيير الماسوني، بيير الزوج، بيير العاشق، بيير العسكري، بيير المدني، بيير الحر، بيير الأسير، بيير منأجمل وأبدع الشخصيات التي جاد بها تولستوي



أندريه وحياة التراجيديا


الأمير أندريه، الشخصية التراجيدية، فمآساته رواية داخل رواية الحرب والسلم، الأمير الذي رافقه الحزن، وصاحبته الأحزان والنكسات، مابين موت من يحب أو خيانته  أو أسر من عدو وجرح في حرب، الظروف التي عاش فيها أندريه تتلخص في عدة نقاط، فحين رُفع نداء القتالوالتلبية لواجب الوطن والإمبراطور آثر حياة الحرب على حياة السلم، وترك الأهل والزوجة والوطن ليلحق بصفوف القتال، ليُبرز فيه تولستوي،شخصية الروسي الذي يفدي نفسه وأهله لأجل وطنه فعلاقة أندريه بوطنه وأرضه ليس علاقته وحده بل علاقة الروسي الذي أراد تولستوي أنيُظهرها ويتفاخر بها هذا هو الروسي الذي يترك حضن الزوجة ليحتضن سلاحه ويدافع من أجل إمبراطورهأندريه المعجب بنابليون والطامحلأن يكون شخصية لها وزنها وتأثيرها في الجيش، الأمير الذي يريد أن يكون نابليونا جديدًا، نابليونًا روسيًا بقيم المجتمع الروسي الراقي،بإنسانية تُشرق بها الأرض وتعتنق السلام بعيدا عن الدماء والموتيسقط في الأسر، تتحطم الأحلام لكن لا تتحطم الإرادة لمعاودة الجريخلف الهدف، ليصطدم بوفاة زوجته ليز، تاركةً خلفها ابنا، فيسعى أندريه لتقبل الحياة من بعدها بمعزل عن عالم النساء الذي أخذته ليزمعها، ليقتحمه من جديد مع ناتاشا، وليتحطم قلبه بعدها جرّاء خيانة في ساعة ضعف منهاأندريه بكل مصائبه ونكساته لم يجد بُدا من أنيبقى قويا ومتماسكا، وإن لم يكن في الواقع كذلك فهو محطم النفس، لتنتهي حكايته في آخر الأمر متأثرا بجراحه، مع سكينة الحب التيعرفت كيف تصل إليه في آخر المطاف، التصالح مع الذات حين يقف على باب الخروج من هذا العالم إلى عالم الأموات، أندريه الذي عرفكيف يقرأ ذاته كيف يُعالج جراحه، ويواسي نكساته، وينهض بعد خيباته وعثراته، أندريه الأمير



وقفة


ما أرى أن تولستوي قد قصّر فيه، ولا أدري لماذا، ألا وهو أن الرواية في حياة السلم فهي تُدور في أروقة الطبقة الراقية والاستقراطية، مُعطيالها الدور الأساسي والثانوي، حتى في الوقت الذي هجر الموسكوفيون موسكو، كانت الأحداث تتكلم عن شخصيات الرواية والتي هي طبقةالأمراء والكونتات، المجتمع الراقي، متجاهلا كل الطبقات الأخرى العاملة والفقيرة خاصة، حتى حين يذكرها فهو يمرُّ سريعا، وإذا ذكر طبقةالعبيد، فهو يُظهرها بصورة دونية عن البقية سواء من خلال تصوير الحدث أو رأي أبطاله فيهم، وبإمكاني القول إنها حرب الأمراء وسلمالأغنياء، وكوني قارئًا لهكذا عمل يؤرخ عقدا من الزمن تقريبا حربا وسلما، يجب أن أقف على كل المستويات الاجتماعية لتلك المرحلة، فكماالحرب يشارك فيها الجندي والجنرال، والسلم هو البيئة التي تعيش فيها الطبقة الاستقراطية والبروليتاريةوالسؤال الذي يُطرح لماذا دارتهكذا رواية على طبقة وتجاهلت الأخرى؟ 

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب