المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 26 يناير 2021

المنظور الماركسي والنسوي لرواية قلب الظلمات.

 



نستطيع القول إن رواية "قلب الظلمات" للكاتب جوزيف كونراد كُتبت خلال حقبة التغيير، إذ كان العالم في طور التحول من نهاية العصر الفيكتوري إلى بداية العصر الحديث.  ينظر لهذا العمل على أنه من أعظم الروايات الخيالية المكتوبة بالإنجليزية، والتي تتبع حكاية شخصية مارلو خلال رحلاته عبر نهر الكونغو وصولًا إلى دولة الكونغو الحرة في "قلب إفريقيا". قلب الظلمات عمل روائي ثري ويمكن دراسته وفق منظورات نقدية مختلفة، كالنسوية  والتحليل النفسي والماركسية وغيرها الكثير.


تركّز هذه المقالة على تحليل قلب الظلمات حسب مقاربتين نقديتين مختلفتين، النهج ماركسي إلى حدٍ كبير والذي نشأ من خلال كتابات كارل ماركس وفريدريك إنجلز وعلى النهج النسوي كذلك، تركّز هذه المقالة أيضًا على تحديد معالم القوة وعيوب لكل نهج. 1- ينظر النقاد الماركسيون إلى "الأعمال الأدبية بحسبها انعكاسات للمؤسسات الاجتماعية التي وُلدت منها"  وهذا يعني أن النقاد الماركسيين لا ينظرون إلى علم اجتماع الأدب فحسب، بل إنهم مهتمين أيضاً بكيفية نشر الروايات، وما إذا كانت الطبقة العاملة تظهر بها أم لا.

 2- يهتم النهج النسوي بعدم المساواة، وفي هذه الحالة نرى الرواية عبر وجهة نظر نسوية، أو عبر سياسة نسوية.  

"يشير النقد النسوي إلى أن النساء  قدّمن في الأدب سابقًا كأشياء من منظور ذكوري". 

يمكن تحليل رواية كونراد وفق النهجين الآنف ذكرهما إذ من شأنهم المساعدة على التبحُّر أكثر في كتاباته ودلالاتها.

وكما ذكرنا، فإن هذا المقال يهدف  إلى الموازنة بين مواطن القوة والقيود التي يفرضها كلا التوجهين الماركسي والنسوي. وسيتحقق ذلك عبر تقديم اقتباسات وأدلة من داخل الرواية تدعم هذين التوجهين واختتمها برأيي الشخصي حول كل جدلية. 


يحلل النقد الأدبي الماركسي الأعمال الأدبية بناءً على المؤسسات الاجتماعية التي انبثقت منها. إذ يعتقد منظرو الماركسية أن "الأدب ينشأ من وظيفة أيديولوجية محددة تمامًا، والتي تقوم على نحو كبير على خلفية المؤلف وأفكاره" وفي هذه الحالة لدينا جوزيف كونراد الذي، وعبر سبر أغوار حياته، نجد أن موطنه الأصلي هو بيردوشيف، في الأراضي المسروقة من أوكرانيا التي غزتها قوى إمبريالية، روسيا بالتحديد، وقد يجادل منظرو المنهج الماركسي بالقول إن ذلك وراء تعاطفه مع السكان الأصليين الآخرين. لنأخذ على سبيل المثال تعاطف كونراد مع الأفارقة الأصليين في روايته القصيرة ووصفه لمتاعبهم على إنها مأساوية جدًا. في حين إنه يدين وعلى نحوٍ صريح الأهداف "النبيلة" التي يسعى  المستعمر الأوروبي لتحقيقها، ثم خَلق انطباعًا بتفوق وغلبة المستعمر الأبيض. إضافةً إلى ذلك، يُعتقد أنه ونظراً لترحله عبر أفريقيا تولّد لديه نوع من الاهتمام الكبير بالرحلات والسفر واكتشاف أراضٍ جديدة؛ ويتجلى هذا بوضوح في حكاية سفر مارلو إلى الكونغو. وأخيرًا، يُعتقد كذلك أن جزءًا كبيرًا من حكايات مارلو داخل الرواية كُتبت سردًا للأحداث التي وقعت في رحلات كونراد الخاصة عبر إفريقيا. 

____

يُـنظَر بالاطلاع على سيرة كونراد إلى النهج الماركسي بكونه قوة في هذا السياق، إذ تعكس شخصية مارلو ذلك في أعماله، وعليه فإن كتاباته لا تصبح قابلة للتصديق فحسب، بل واقعية أيضًا للقارئ.

____

يتعلق جزء كبير من النهج الماركسي أيضاً بالتقسيم الطبقي، وأبرزها الطبقة "الرأسمالية" الثرية، وطبقة الفقراء المعرضين للاستغلال "البروليتاريا"، الأمر الذي أدى إلى خلق أرضية مشتركة بين الأثرياء تمكنهم من تسخير الفقراء لخدمتهم بسهولة تامة. ثم استهجن الكتّاب الماركسيون هذه المعاملة وسعوا بدلًا من ذلك إلى خلق مجتمع متكافئ. 

يوضح كونراد في روايته كيف استغلت القوى الإمبريالية في أوروبا الأفارقة لزيادة ثرواتهم؛ الأمر الذي أدّى إلى خلق انقسام طبقي صريح بين الطبقتين. كما تتبدى الماركسية جليّةً أثناء تقدمنا في قراءة قصة استغلال الأوروبيين للسكان الأصليين، وهذا من شأنه أن يثير مسألة وحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان. تكرار وصف مارلو لجشع المستكشفين البرجوازيين "بالدناءة"  يتلاءم وهذا النهج. على سبيل المثال، يتساءل مارلو عن سبب وجود الرجل البدين الذي يوصف وكأن ليس بمقدوره النجاة في الكونغو: "لم أستطع منع نفسي ألّا أسأله ما الذي أتى به إلى الكونغو في كل الأحوال. أجب بازدراء 'ما الذي تعتقده؟ من أجل المال بالطبع.' " يرسم هذا الاقتباس خطًا متوازيًا بين الاستغلال والمكاسب المادية، كما أنه يظهر لنا كيف أن الاستغلال جوهر الرأسمالية وأساسها. علاوة على ذلك، من خلال كتابات كونراد الوصفية وشخصية مارلو نرى أن أيدي كورتيز "مكتنزة" وهذا يوضح فكرة أنه لا يعمل كما يعمل السكان الأصليون الذين يتضورون جوعًا حتى الموت، ثم فمن المنطقي الاعتقاد أنه لن تكون لديهم أيدٍ مكتنزة. 

بالإضافة إلى ذلك، نجد أنه لا يوجد توزيع متساوٍ للثروة داخل مجتمع قلب الظلمات، حتى إن كونراد يصف بعض الأوروبيين البيض بالفقر. كما يروي لنا خطبة كوريتز من حبيبته  ورفض عائلتها لأنه "لم يكن غنيًا على نحو كاف"، مما يوحي بأن كورتيز لم يكن قادرًا على تحمل نفقات الزواج بامرأة من طبقة تفوق  طبقته مستوى، ثم غادر إلى الكونغو من أجل ما قد نعتقده، ليجني ثروة تليق بطبقة محبوبته.

إن القوة التي يتمتع بها التوجه الأدبي الماركسي في هذا السياق هي نظره إلى المجتمع كليا وأخذه في الاعتبار السلوك الجنحي داخل المجتمع  وتفهم مشكلة الصراع الطبقي. ومن خلال هذا التوجه، يمكننا نخن القراء أن نؤكد على نحوٍ صريح وجود طبقة مهيمنة حاكمة وندرك السبب وراء ذلك.

من بين القيود التي تُعيب النهج الماركسي حين ننظر إلى ديناميكيات القوة في المجتمع أن النظرية الماركسية لا تضع في الحسبان ديناميكيات السلوك البشري، مثل الأنانية والرغبة في تحسين الأداء والوصول إلى أعلى المراتب. فهذا مثبت في الطبيعة البشرية، فنحن دائمو السعي نحو المزيد. حتى لو كان ذلك على حساب إنسان آخر. لا تأخذ الماركسية في الاعتبار السلوك البشري الكلاسيكي، لكنها تشير بدلاً من ذلك إلى مجتمع متساوٍ حيث لا توجد رغبة في التقدم أعلى في "السلسلة الغذائية" البشرية. 

*

أمّا فيما يخص النقد الأدبي النسوي فأنه يُعنى بالطريقة التي "يعزز فيها الأدب أو يضعف مكانة المرأة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية".

إلى جانب ذلك، انتقادات الحركة النسائية تُعنى أيضاً باستبعاد النساء عن الكتابة: "ما لم تكن وجهة النظر النقدية أو التاريخية نسوية، يكون الغرض منها إذًا إقصاء إسهام الكاتبات وتمثيله تمثيلًا منقوصًا".

لا بد لنا أن ندرك رواية كونراد ليست أكثر من مغامرة ذكورية، إذ يروي ويكتب رجل ما، وعلى هذا فهو يشكل موضوعاً صعباً للمجازفة  فيما يتصل بالنقد النسائي. وهكذا، وبسبب بنية الرواية، فإن الشخصيات النسائية تُخاطب لمامًا لأنها وجدت لتكون في الخلفية. كما أنَّ هناك شخصيتين من ثلاث شخصيات نسوية لا توجد حتى في أفريقيا، الأمر الذي يصعب معه تضمينها في كثير من الكتابات النقدية. وعلى الرغم من أن هذا قد يكون قيداً على النظرية النسوية فإنه يترك إنطباعًا ضمنياً في ذهن القراء مفاده أن كونراد ربما لا يعارض الحركة النسوية، ولكنه يرى أنَّ لا حاجة لوجود هذه الشخصيات في سير رواية القصيرة، لكن هذا يثير بعض التساؤلات. على سبيل المثال، وما قد يمكن الاحتجاج به من وجهة نظر نسوية: اعتقاد كونراد أن لا حاجة لوجود شخصيات نسائية في إفريقيا، حيث لا مكان لهن هناك داخل تلك القارة لأنها وظيفة الذكور. علاوة على ذلك، فإن السرد اللفظي للنساء طوال الوقت يجعل الأمر يبدو كما لو أن كونراد يهمل نوعهن متعمدًا. 

وعلى ذلك فإن علاقة القوة التي تولّدت من تعامل الرجال مع النساء من الممكن أن يخلق  توجهًا نسويًا على نحو أساسي بقدر ما يخلق ذرائع للأيديولوجيات الأبوية الإمبريالية. بناءً على ذلك، فأن كلا التفسيرين للنقد الأدبي النسوي الذي حددتهما تايسون في كتابها (النظرية النقدية اليوم):  يمكن أن يكونا دليلا سهل الاستخدام للإشارة إلى النهج النسوي الذي اتخذه كونراد في قلب الظلمات. وتُظهر القراءة النسوية للرواية أن الوضع الهامشي للنساء يضرب مثالاً آخر لهيمنة الذكور الأوروبيين أثناء تلك الحقبة. أولًا، يتعرضن النساء للاضطهاد ويصوّرن على إنهن ممتلكات،  كما ينظر إليهن الشخصيات الذكورية بازدراء بما أنهن تبّع لهم. تتضح هذه النظرة من الطريقة التي يتحدث بها مارلو عن السيد كورتيز "كان يجب أن تسمع لسيد كورتز الخارج من قبره قائلا يصل 'امرأتي'".

يستمر استخدام ضمير التملك في الاقتباس أعلاه إلى ما هو أبعد من ذلك في سير الرواية حيث يصل محبوبة كورتز في أجزاء مختلفة على أنها "مرادي" و "عاجي" و "محطتي" و "نهري" ، كما لو أنها شيء يخصه، وهي نفسها لم تكن إنسانًا، وهذا يظهر الاضطهاد  والقمع  وتملّك للرجال للنساء. وإلى جانب ذلك فأن تفسير تايسون الأخير للنقد النسوي يظهر أيضًا عندما نرى شح الشخصيات النسائية بالرواية، إذ تظهر ثلاث نساء في النص فقط، وهن عمة مارلو وخطيبة كورتز وعشيقته من الأمازون. ولا يقتصر الأمر على تجاهل هذه الشخصيات، بل إنها لا تُسمع في النص أيضًا، يقول مارلو: "غريب كيف أن المرأة أبعد ما تكون عن الحقيقة، تعيش في عالمها الخاص، لا شبيه لعالمها ولن يكون". بإمكاننا تحليل هذا الاقتباس من وجهة نظر نسوية واستنتاج تجاهل النساء في النص، ولعبهن  لدور غير ذي صلة بالمجتمع.  كما أن وصف مارلو للنساء يوحي بعدم أهميتهن للرواية، وكيف أنهن لسن حاضرات حتى في عالمهن المحيط،  ولكن بدلاً من ذلك لهن صورة خيالية خاصةً بهن.

وعلى الرغم من ذِكر ثلاث نساء في  الرواية، فإن القارئ لا يسمعهن أبداً إلا عندما يتواصل بعضهن مع بعض، أو مع غيرهم من الشخصيات الذكورية، الأمر الذي يثير فكرة "إهمال" الإناث، كما هي الحال عملياً. ليس هذا فحسب، بل إنهن ينسلخن عن إنسانيتهن مثل السكان الأصليين عندما يقول مارلو: "فتاة! ماذا! هل قلت أنا فتاة؟ آه، كلا لا أعني هذا – تماماً. هن- النساء أعني يجب عليهن أن يكنَّ خارج الأمر".

والواقع أن إشارة مارلو إلى الشخصيات النسائية بوصفها "فتيات" بدلاً من "نساء" تُظهِر استجابة نفسية من قِبَل الذكور لتنظر إلى النساء فتياتٍ يافعاتٍ وصغيرات الحجم. وإذا لم يكن كذلك، فهن عندئذ سوى متعلقات يفعل بهن الرجال ما يحلو لهم.  لا يظهرن النساء في قلب ألا لحاجة الرجال لهن للتكاثر أمّا فيما سوى ذلك فإنهن يغيّبن كما لو أنهن لسنَ ذا أهمية.

تكمن قوة النقد النسوي في  سهولة رؤية دواعيه، إذ نرى التصوير المهين للمرأة، حيث إنهن لا يعاملن أملاكًا فحسب، بل بالكاد يشار إليهن في النص، مما يفسر الحاجة إلى مزيد من المساواة بين الجنسين.

لكن هناك ما يعاب على النقد النسوي فيما يخص العمل، فعلى الرغم من شح وجود الشخصيات النسوية في النص فإن كونراد لا يبذل جهدًا جهيدًا  للارتقاء بالشخصيات الذكورية أيضًا، وعلى هذا فأنه لا يمكّن أيًا من الجنسين. نحن كقراء نحتاج أيضًا إلى أن نأخذ في عين الاعتبار أن الرواية نُشرت خلال فترة كان من غير المألوف فيها أن يكون للمرأة رأي صريح في أيًا من مساعيها اليومية، إذ وفي معظم الحالات يُتجاهلهن و/ أو يستغللن جنسيًا و/ أو يُقلل الذكور من شأنهن سواء كنَّ حاضرات أم لا. لذلك، كانت هناك أوجه قصور فيما يتعلق بالنقد الأدبي النسوي. 

ختامًا لئن كانت رواية كونراد قد دُرّست وقُرئت جيدًا على مدى عقود من الزمان، إلا أن هناك أمثلة داخل الرواية تمكننا من المجادلة حول وجود فسحة للتغيير أو التحسين داخل النص. فبعد تحليل النص من وجهتي نظر ماركسية ونسوية لم نتمكن من استيعاب المعاني وراء السرد فحسب بل تكشّفت لنا جوانب جديدة من التفكير حول النص أيضًا.

لأن كان النهج الماركسي لا يهتم فقط  بأيديولوجية المؤلف وخلفيته، بل يركز أيضًا على النضال من أجل مجتمع  يخلو من التقسيم الطبقي، إلا أن ذلك يشكل للنهج نقاط قوة وضعف في الآن ذاته. كنّا قد ذكرنا سابقًا أن الماركسية لا تأخذ في الاعتبار الطبيعة البشرية الفطرية، مثل الرغبة في التقدم، والأنانية الغريزية لنا نحن الثدييات. ولهذا السبب أعتقد أن هناك مآخذ على النهج الماركسي أكثر من نقاط القوة. ورغم أن هذا النهج  يضع في الحسبان "المؤسسات الاجتماعية التي تنبع منها الأعمال الأدبية" إلا أن هذه الخلفية ليست مضمونة أو مؤكدة. ومع ذلك، فإن محدودية النظرية الماركسية حول رغبة الإنسان في التقدم، والمشاعر الأنانية الفطرية داخله أرى أنها شائعة لدى معظم القراء، ثم هي أكثر موثوقية ويمكن الاعتماد عليها.

إن النقد الادبي النسوي هو إعادة تأكيد على إهانة النساء اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا، أو حتى من خلال إقصائهن. وكما ذكرنا آنفًا، لم يكن هناك حضور نسوي قوي في رواية قلب الظلمات حيث صوّرن على إنهن ممتلكات ليس إلا، أو أُهنَّ عبر ألفاظ سوقية. كان بمقدورنا أيضًا رؤية خضوع النساء بوضوح في النص، مما أدى إلى خلق نقد نسوي بديهي لنتدارسه. وعلى الرغم من ندرة ظهور النساء في كافة أجزاء النص، فإن الرجال لا يشاد بهم ولا تمنح لهم سلطة كذلك، وهذا من شأنه أن يحد من قوة النقد النسوي لهذا العمل، إذ ليس لدينا معرفة تامة ما إذا كان كونراد يحاول حقا أن يكون مناهضا للحركة النسائية أو أنه لم يكن بحاجة ماسة إلى شخصيات نسائية كي يروي قصة الرحلة عبر نهر الكونغو. مع ذلك، هذا ليس ما نرمي إليه، إذ نجد الشخصيات النسائية في النص غير قادرة على التواصل أو التعبير عن أفكارها، كما أن هناك رد فعل عنيف موجود في جميع أنحاء الرواية يرجح احتمالية أن تجاهل المرأة قد يكون أمرًا مقصودًا. وعلى هذا فإن إحدى نقاط القوة في النقد الأدبي النسوي هي تمكينه القراء من إعادة النظر في موضوع التفاوت بين النوعين وإعادة قراءة القصة وفق هذا المنظور.


Ukessays

ترجمة: شوق العنزي 


الجمعة، 22 يناير 2021

الأدب وقيمة العفوية

 


العفوية هي ميزة قد لا يأخذها المرء بعين الاعتبار في الحياة اليومية لأنها تقدم كشوفات يقوم بها أفراد محددون. لن ينظر العديد من الناس عند تقديم هذه الفكرة إلى الرضا والمساواة عند مواجهة المواقف التي يختار فيها المرء مواصلة الرغبات نظرا لدوافعهم الداخلية المفاجئة، فالأفراد الذين يظهرون عفويتهم في هذه الحالات الدائمة يكونون مثيرين للجدل بين المجتمع، حيث إنَّ هؤلاء الاشخاص المحددين يجب أن يتحملوا المصاعب والتوقعات التي يمنحها المجتمع لهم. تظهر مؤلفة كتاب "أن تقرأ لوليتا في طهران" آزار نفيسي تجربتها مع المجتمع الذي يجبر الأفراد بالالتزام بسمعة مثالية لكي يشعر الآخرون بالراحة تجاههم، وتركز مؤلفة قصة "القلعة العارية" سوزان فالودي على أهمية المجتمع الذي يحابي الرجل كما في تعامله مع النساء اللاتي تنخرطن في أكاديمية عسكرية خاصة بالذكور. هاتان المؤلفتان تتعمقان في الخاصيات الجامحة للعفوية والعواقب المنتظرة لأولئك الذين يتصرفون بناء على هذه الميزة الخاصة. سيدعم المجتمع تلك التوقعات التي من شأنها توجب على الأفراد فعل أمر ما بغض النظر عما يسعى إليه هؤلاء الأشخاص، فالعفوية تقدم نتائجَ غير متوقعة تتعارض مع التطابق المنتظر والذي يجبر البعض على الاستسلام للإغراء ولكن على الرغم من وجود العديد من الظروف فإنه يمكن تقديمها كقوة للأفراد الذين قُلِّل من شأنهم في المجتمع، كالنساء.
إن العفوية تظهر العديد من المفاجآت للمجتمع والأفراد على حد سواء حيث إن الميزة –العفوية- تكشف عن نقاط القوة والقدرات التي يمتلكها الإنسان ولكن العديد من أفراد المجتمع سيقللون من إمكانيات الآخرين للحفاظ على القيم والتوقعات التي يتبناها المجتمع والتي ينبغي على الجميع تحملها والالتزام بها. العفوية تتيح للأفراد مثل النساء التمتع بالحرية ومتابعة الأنشطة والأعمال التي قد لا يتوقع المرء منهم أن يشاركوا فيها. في كتاب القلعة العارية لسوزان فالودي تستعرض تجارب النساء في مجتمع يتحيز للرجال خصوصا، إذ تقدم المؤلفة تجربة إمرأة شابة سعت إلى رفع مستواها عن طريق الالتحاق بمدرسة عسكرية مخصصة للرجال وقالت: "إن التصميم الذي دفع شانون فوكنر على دخول فيلق كاديت القلعة لم يكن مدفوعا بالرغبة والريادة بقدر ما كان الأمر يعزى إلى الشعور بالذهول والسخط في آن واحد، لأن هذا المسار في المقام الأول كان محصنا" (فالودي 88). توضح فالودي الاستعداد الذي قد يعرب عنه الفرد والذي يتعارض إلى حد معين مع الحدود والمعايير التي يسور فيها المجتمع نفسه والتي تحد من إمكانيات المرأة في "القلعة". يمكن أن يعدَّ الأفراد ضعفاء من تلقاء أنفسهم بسبب تصور المجتمع، لكن عندما يتعلق الأمر بهذا الموضوع فإن المجتمع يكون غاضا للبصر عن موضوعة المساواة التي تتقدم بها المرأة بخطوة واسعة وعوضا عن ذلك يضطهد المجتمع المرأة لكي لا تكون عفوية لأنها تشوش على توقعاتهم. في كتاب "أن تقرأ لوليتا في طهران" لآزار نفيسي تتحدث عن امرأة تسعى لإقامة توازن بين قدراتها وامكانياتها بناء على احتياجات وتوقعات المجتمع. تقول نفيسي: "لطالما كانت نسرين تتصرف بثقة شديدة لدرجة أنني نسيت أحيانا مدى ضعفها في ظل هذا التصرف الخشن. ولكن قلت لها بلطف إنني أحترم ثقتك بنفسك إضافة إلى أنك فتاة كبيرة وتعرفين ماذا تفعلين" (نفيسي 287). تستعرض نفيسي مظهرين لتلميذتها داخل مجتمعها، فالأول هو الضعف، والثاني هو الأمل والقوة عندما تكون قادرة على التعبير عن ذاتها، حيث يمكنها أن تكون عفوية لأنها لا تخشى الدخول في تحدٍّ ضد المعايير المهيمنة في المجتمع. الأفراد يدركون أنهم يجب أن يتوافقوا مع هذه المعايير وإلا سيواجهون العواقب، ولكن في الوقت نفسه فإن هذا يمنحهم المجال ليظهروا العفوية والصفات المرغوبة المخفية التي هم مصممون على التعبير عنها وإظهارها. فعند النظر في المثالين السابقين سنجد أن استخدام هذه الأمثلة يظهر القدرة والسمات التي يمكن أن يمتلكها بعض الأفراد من خلال تجاربهم لأنها تمكنهم من النجاح والازدهار ببطء بين الآخرين من خلال إمكانياتهم.
 
يعبَّر المجتمع عن ضعفه حيال العفوية  من خلال فرض الأفكار والاستدلال على أفعاله التي تثبت أنها تتجاوز الشك. يظهر الإخلاص للآراء التقليدية والمثالية المفترضة. إن المجتمع ينظر الى ما حوله بالطريقة التي كان عليها لعقود لا تحصى بدلاً مما يمكن استكشافه والتوسع فيه، وتجدر الإشارة الى المنطق والتدابير اليائسة المُتخذة لعرقلة القرارات والإجراءات التقدمية التي تؤثر في المجتمع ومعتقداته الأساسية. "فالودي" مثال بارز لمحاولات المجتمع منع مثل هذه الإجراءات، فعند معارضة التكامل بين النوعين، تقول: "تُظهر الدراسات- و لا يمكنني الاستشهاد بها، لكنها تظهر أن الذكور يتعلمون أفضل حينما لا تكون ثمة اناث. أوضحت لي إحدى الطالبات”. فالودي (75). استخدم هذا الاقتباس من الطالبة لكشف انحلال توقعات المجتمعات الذي يعزى إلى نفوره من اتخاذ القرارات الخطرة والمتهورة. علاوةً على ذلك، تُظهر الدوافع غير المتوقعة التي يتصرف عليها هؤلاء الأفراد أن المجتمع في بعض الأحيان ليس مستعداً للتعامل مع مثل هذه المواقف التي لا يمكن كبتها. على الرغم من هذه الفكرة الشائعة فإن فهمهم للعفوية ينطوي على موضوع الاعتماد على الذات والعمل وفقاً لمصالحهم العليا. وتعترف "سوزان فالودي " كذلك بهؤلاء عندما قالت: "إنهم خائفون جدا تقريباً”، وكما قالت "لقد ضاعوا كثيراً وهم بحاجة الى الاحتواء، فإن الذوق الجيد لا يتطرق إلى موضوع آداب السلوك تجاه النساء اللواتي لا يحتجن إلى احترام وانقاذ" (فالودي85). في هذا الاقتباس تُعبّر المؤلفة عن المجتمع الذي لا يعترف بفكرة المرأة التي تتعلم أن تكون مستقلة ولا تعتمد على مساعدة الآخرين. يمكن عدُّ المجتمع ضعيفاً بسبب عدم اليقين فيما يتعلق بعفوية المرأة التي تسعى وراء ما هو أفضل لها دون التفكير في التوقعات التي يمنحها إياها المجتمع. نظراً لأن المجتمع لا يقر إلا بما هو أفضل لهم،  فإنهم لا يدركون الصفات الكامنة داخل هذه المجموعات، والتي تثبت أن العفوية قوة خفية بين الأفراد. عند التفكير في ذلك، يفرض الرجال في مدينة طهران احتمالات وجوب التزام النساء بسياسات مثل التصرف وارتداء الملابس بطريقة معينة لتجنب العقاب. تُظهر" نفيسي" جهل المجتمع الذي تعيش فيه النساء عندما تقول: "أريد أن أكتب عن لوليتا،لكن في الوقت الحالي لا توجد طريقة يمكنني من خلالها الكتابة عن تلك الرواية دون الكتابة عن طهران أيضا. هذه إذًا قصة لوليتا من طهران،  كيف أعطت لوليتا لونا مختلفا لطهران، وكيف ساعدت طهران في إعادة تعريف رواية "نابوكوف" وحولتها إلى لوليتا الخاصة بنا" (نفيسي279). تقدم المؤلفة للقارئ فكرة أن المجموعة التي عانت من استبداد طهران الذي يحرم  أي سلوك عفوي للنساء لأنهم يتوقعون منهنّ أن يكنّ متحفظات. استخدمت الرواية الخيالية "لوليتا" للتأكيد على الاختلاف الذي يمكن أن تحققه العفوية أثناء الأنشطة اليومية. غالبًا ما يُثبَّط الافراد عندما يعبِّرون عن عفويتهم، بسبب تأسيس المجتمع مفهوميَّ الصواب والخطأ. يحدد هذان المثالان احتمال أن يحظر المجتمع مثل هذه السمات التي يعبر عنها الأفراد والتي تمكن بعضًا من الوقوف ضدها.
ختاما، إن موضوع العفوية ليس ما يصمم المجتمع عليه على أنه الضعف بل هو تمثيل للقوة والعزيمة بين الأفراد الثائرين على معايير المجتمع المفروضة، فالنساء اللائي يُقلل من شأنهن ينظر اليهن كأفراد عاجزين وضعفاء،  ويجب عليهن الاتكاء على الآخرين لإنجاز أي شيء. ومع ذلك فهنالك النساء اللواتي أظهرن عفويتهن لتحدي الظروف الآنية التي وضعها المجتمع لهن. وبهذا  يثبت المجتمع عدم كفاءته عند الاصطدام بهذه الأعمال المفاجئة بسبب المحاولات التي من خلالها يرجو البعض تقويض قيمهم وفرض ما هو مناسب لهم ولاخلاقياتهم. يتعلم الأفراد المصممون أشياء كثيرة ويتخذون قرارات متهورة دون الدخول في العقبات والمصاعب. ولهذا الأمر، فإن العفوية هي بمثابة دلالة على القوة بين الأفراد وسوف تستمر في إحداث تأثير في مجتمع إن كان بدعم أو بدونه


Ukessays.

ترجمة: مصطفى حمزة. 


الثلاثاء، 19 يناير 2021

أغنيس غري - آن برونتي.

مؤمن الوزان

الرواية الأولى لـ آن برونتي، الأخت الصغرى للأخوات برونتي (شارلوت وإيميلي)، والتي نُشرت مع رواية إيميلي "مرتفعات وذرينغ" في ثلاثة مجلدات (اثنان لرواية إيميلي وواحد لرواية أغنيس) في كانون الأول عام 1847 من قبل الناشر Newby. وسبقتهما أختهما شارلوت بشهرين بنشرها رواية "جين إير" الرواية التي ذاع صيتها وقتها ووصفتها مجلة ويستمنستر ريفيو أنها رواية الموسم. 

كان الزمن كفيلًا بالكشف عن مستوى الأخوات الثلاث شعريًا وروائيًا، كان الاعتراف بموهبة الأخوات الثلاث شعريًا متأخرًا إلا أن الاعتراف بالموهبة الروائية جاء مبكرًا ولا سيما الأختان الكبريان شارلوت وإيميلي (إيميلي برواية واحدة، وشارلوت بعدة روايات). كلما مرّت السنوات؛ أُزيحت آن إلى ظل أختيها رغم نشرها لروايتين (أغنيس غري، ونزيلة ويلدفيل هال)، فأهملها النقّاد تدريجيًا حتى أضحت ظلًا لأختيها أو مجرد شخص آخر ضمن الأخوات برونتي كما تكتب كاثرين وايت في مقدمة طبعة وردزورث. 

لم يكتفِ هذا الإهمال بروايتيها بل وحتى بسيرة حياتها، إذ لم يكتب عنها شيء حتى عام 1954 عندما كتبت إيستل تروث أول سيرة عنها ثم تبعتها وينفريد جيرن في عام 1959. (وهي سيرة غنية بالتفاصيل والمعلومات والشروحات عن حياة آن وعملها وأدبها الروائي والشعري). 

يبدو الإهمال الذي تزايد خلال السنوات التي لحقت وفاة آن في الرواية الأولى "أغنيس غري" طبيعيًا لكنه غير طبيعي مع رواية نزيلة ويلدفيل هال. تتحدث رواية أغنيس غري بأسلوب مذكرات على فصول منوعة وقصيرة ومتصاعدة زمنية بتباطئ أو ذي قفزات كبيرة، عن حياة أغنيس غري وعملها مربية لدى عائلتي بلومفيلد ومورّاي في بلايك هال وهورتون لودج. 

يلتقي هذا العمل في كثير من أحداثه مع سيرة حياة آن الشخصية مما يجعله "سيرة روائية" تكشف فيها عن مصاعب العمل مربية، وتنتصر فيها لذاتها ضد القدر الذي حرمها من الحب في نهايتها ومنحها السعادة التي افتقدتها. هذا الاعتماد الكبير على حياتها تصفه شارلوت بقولها: "اعتمدت آن على خبرتها في العمل مربيةً" وتقول إنه "مرآة عقل الكاتبة". فنحن هنا مع شهادة من شخص قريب من آن في أيام حياتها القصيرة في هاورث ووفاتها في سكاربرا (1820-1849). إضافة إلى التشابه الكبير ما بين شخصيات العمل والأشخاص الذين التقت بهم آن في حياتها سواء في منزلها كما في (ويتسون الخوري وويتمان الخوري الذي عمل مع والدها "والذي أحبته آن"، وأفراد أسرة بلومفيلد التي عملت لديها أغنيس واستغنت عن خدماتها بعد شهور قلائل وأسرة إنْغام التي عملت لديها آن واستغنت عنها كذلك في مدة نفسها، وأسرة موراي وأفرادها "بنتان وولدان" وأسرة روبنسون "ثلاث بنات وولد" واستمرت مع الأسرتين أغنيس وآن مدة خمس سنوات، تركت آن العمل عند أسرة روبنسون لأسباب تتعلق بأخيها برانويل وعلاقته بالسيدة روبنسون وتركت أغنيس العمل لدى أسرة موراي بعد وفاة والدها وافتتاح أمها لمدرسة ساعدتها أغنيس في إدراتها). 


لا يمكن الاعتماد كليا على رواية أغنيس غري بأنها سيرة ذاتية حقيقية لآن لكن يمكن الاستفادة من كثير من أحداثها سواء في الكشف عن مشاعرها وما واجهته في عملها مربية من سوء معاملة وازدراء ومحاولة إلغاء ذاتها وكيانها وجعلها مفرغة من أي وجود شخصي وهذا ما تؤكده آن نفسها في مقدمة الطبعة الثانية من رواية "نزيلة ويلدفيل هال" بقولها: ولقد نسخت أغلب هذه الفصول من حياتي متوخية بدقة شديدة كل أنواع المبالغة. وما قد يزيد فكرة الاعتماد على روايتها في توثيق أو تأكيد بعض الأحداث في حياة آن، هو ما نراه واضحة لدى وينفريد جيرن وكتابها عن آن، إذ استخدمت الكثير من مقاطع الرواية لتؤكد مشاعر آن أو في إسقاطها على حياة آن للخروج باستنتاجات عن طبيعة مشاعرها ورغباتها وعواطفها ولا سيما تلك التي كنتها آن لويتمان الخوري الذي أحبته حبًا وانتهى دون تحقيق شيء بوفاة ويتمان عندما كانت تعمل آن لدى أسرة روبنسون. وكذلك في استخدام اعتراف أغنيس في كون الشعر ملجأها بعد التعرِّض لقسوة الحياة واضطهادها- ليكون دليلًا على أن كثير من قصائد آن الذاتية هي تعبير صادق عن مشاعرها سواء في الحب أو الحنين إلى الماضي أو رؤاها الدينية وعقيدتها. 


تبدأ رواية أغنيس غري بتقديم أغنيس نفسها بضمير المتكلم في الزمن الماضي مسترجعةً في مذكراتها ما مرَّت به، وكاشفة قُبالة القارئ الذي لم تكن لتكشفه لأعز أصدقائها، وعارضةً تاريخها الشخصي الذي قد يكون في الأخير لا يستحق كل عناء قراءته، لكنها بالكاد مؤهلة للحكم عليه. تنقلب ظروف حياة أسرتها بعد استثمار والدها الفاشل مع تاجر صديقه بغرق السفينة وما تحمله من بضائع كان يُمني الوالد -الذي كان خوريا مثل والد آن- بتحسين وضعه المادي عبرها، لتبدأ بعدها رحلة أغنيس ذات الثمانية عشر ربيعا من أجل العمل مربية (وهي وظيفة شائعة في القرن التاسع عشر في إنجلترا، إذ كانت الجامعات مقتصرة على الذكور، وعلمت الأخوات الثلاث في هذه المهنة) المهنة التي تعد المحور الذي ركزت عليها الرواية في فصولها الأولى، وهي بمثابة احتجاج وبيان استنكار للمعاملة السيئة التي تواجهها المربية في بيوت الأسر التي تعمل في تعليم وتقويم أطفالها (ذكورًا وإناثًا من بعد سن النطق وحتى سن البلوغ "للإناث"). إذ المربية كائن معدم الوجود في نظر الأسرة الموظِّفة، فلا هي عبد يطيع فقط ولا هي معلم مُربٍّ بصلاحيات يفرض من خلالها سلطته على طلبته لا سيما أولئك المشاغبون والأشقياء ومن تنقصهم التربية ذوو الطباع الهمجية والمسرفة الدلال. نقرأ هذا الوضع السيئ الذي تعيش المربية أغنيس في الفصول الأولى بعملها لدى أسرة بلومفيلد ومعاناتها مع الشقي الصغير توم (يشعر القارئ برغبة جارفة بضربه) الذي لم تكن تملك أغنيس عليه أية سلطة، وتقول متهكمة إنها تطيعه وأخته لا العكس. 

حتى الآن فإن الأحداث مجرد سرد عادي بلا أي مزية، وتبدو الشخصيات جميعًا مجرد ظل شخصيات، حضورها صوري كالسرد الذي يغرق بالتقريرية الوصفية دون أي متعة أو إثارة- وهو ما تكتب عنه آن في مقدمة الطبعة الثانية من رواية "نزيلة ويلدفيل هال": اتُّهمت قصة أغنيس غري أنها مفرطة التلوين...". وبعد فشل عملها لدى بلومفيلد تنتقل للعمل لدى أسرة موراي، فإن العمل يأخذ منحًى أكثر ثباتًا ورسوخًا وتحكم الراوية سيطرتها على عملها وفي جعل شخصياتها ذات كيان واضح يمكن الحكم عليها وتحليله لا مجرد صور، فتظهر لنا شخصيات رئيسة مثل الخوري ويتسون والآنسة روزالي موراي، وشخصيات ثانوية مثل السيدة موراي، والآنسة ماتيلدا موراي، والمسنة القروية نانسي، ثم تتضح ملامح أكثر لأم أغنيس. وكذا الحال مع الأحداث التي تُلملم وتُرص مع تقدم العمل وبروز الشخصيات إلى الأمام، فيبدو العمل وكأنه انطلاق من الخلف إلى الأمام، من الظلمة إلى النور، فتقف الشخصيات قُبالة القارئ، وتضاف بعض المتعة والحبكة، لكن ما يبقي مُعيبًا للعمل هو الإيقاع السريع في العمل، وبتر الأحداث، واللهاث نحو النهاية بأقصر الطرق. مع لمس قدرة آن على إعطاء المساحة الكافية لراويتها للسيطرة على سردها مذكراتها إلا أنها لم تمنحها ويبقى العمل متضعضعًا وفاقدًا للفنية المنافسة أو المُرسِّخة لنفسها في عالم الرواية، لكنها قدمت كل ما تحتاج إليه للرسوخ في عالم الرواية مع روايتها الثانية نزيلة ويلدفيل هال. 

حتى على المستوى المهني لعمل أغنيس، فإن فصول أسرة بلومفيلد تركز فيها على معاناتها الشخصيّة في العمل، فتبدو أغنيس أقرب لخادمة منها إلى معلمة مربية، في حين تركز في فصول أسرة موراي على العلاقات الاجتماعية الشخصية لأغنيس سواء مع بنات أسرة موراي أو مع البيئة القروية المحيطة، وكذلك تصوير لمجتمع القرن التاسع عشر في ثورتون "وثورب غرين (في الواقع) الذي سيتضح أكثر في روايتها الثانية" سواء في السعي إلى الزواج أو نوع العلاقات التي تربط عليّة ذاك المجتمع، فتبدو أغنيس أقرب إلى وصيفة ووسيطة مستخدمة من قبل السيدة موراي لإقناع بنتها بما يصعُبُ عليها فعله. ثم بعد انتهاء عملها لدى أسرة موراي، فإن أغنيس تتمتع بكيان خاص وبمراسلة روزالي لها، 


تدخل المرحلة الثالثة في تطور شخصيتها ووضعها الاجتماعي بصفتها صديقة وإنسانة بكامل حريتها وإرادتها وفكرها، ومع الطور الثالث من الشخصية والرواية، تنتهي الرواية بزواج أغنيس ويتسون. 

قد تبدو هذه النهاية سعيدة في العمل إلا أنها تكشف عن ألم داخلي اجتاح آن في سنوات حياتها وحتى مماتها. إذ تمثّل شخصية ويتسون الخوري ويتمان الذي أحبته آن، ولم تستطع أن تكاشفه مشاعرها، ويبدو حبها له غير متبادل، فإن هذه النهاية هي نهاية مُتمناة للكاتبة حاولت تعويض خسارتها لمن أحبته في حياتها إلى ربح أبدي يبقى ما دامت الرواية تُقرأ فأغنيس "آن" تتزوج ويتسون "ويتمان" وتعيش معه الحياة التي تَمنتها، الحياة التي لم تحظَ بها. لذا فالنهاية حزينة لو استطعنا إدراك ما وراءها من أسس قامت عليها. تنتهي بعدها مذكرات أغنيس وبنهايتها ينتهي العمل. 


الأحد، 10 يناير 2021

تلال همنغوي المجازية.


يعرف عن الكاتب إرنست همنغوي حرصه الشديد على جعل قصصه مختزلة قدر الإمكان، وإعطاء القارئ مؤشرات كافية لا يمكن إنكارها، ليتمكن من الوصول الى استنتاجات غير محددة. نجد هذا واضحا بالتأكيد في قصته القصيرة تحت عنوان (تلال كالفيلة البيضاء). وقد كتب العديد من الباحثين حول هذه القصة القصيرة والاستعارات التي تضمنتها.

أربعة من هؤلاء الباحثين هم فردريك بوش، لويس ويكس، دوريس لاينر وبول رانكين.

ناقش هؤلاء الباحثون رمزية العنوان وتحليل الحوار ومحاولة التنبؤ بمستقبل هاتين الشخصيتين الناضجتين، من خلال الاستعارات التي ضمَّنها همنغوي في قصته.

وتناقش المجلات الأكاديمية عنوان القصة والتفاصيل الأخرى التي تبدو تافهة وهي بمثابة رموز لظروف الشخصية، وأنا أوافق على ذلك لأنه حينما تتكشف القصة يظهر أنهم لا يقارنون التلال بالفيلة البيضاء لأغراض وصفية فحسب، بل من الواضح أن هناك معنى أعمق لكلماتهم يتعيَّن علينا نحن القراء أن نكشفه.

سأقوم بدراسة الاستعارات التي استخدمها همنغوي في قصته تلال كالفيلة البيضاء، من خلال معتقداتي الخاصة، والأفكار المقترحة في المجلات الأكاديمية التي كتبها الباحثين المختصين يمكن الكشف عن هذه الاستعارات من خلال تحليل الحوار غير المباشر بين الشخصيات الرئيسة ووظيفة العناصر المادية المذكورة في القصة. يضع همنغوي رموزا في جميع أنحاء القصة، مما يسمح للقارئ أن يصوغ استنتاجات تتعلق بمعنى العنوان.

يشير ويكس (Weeks) في مقاله الذي يحلل قصة همنغوي أن جزءا كبيرا من القصة المكونة من ثلاث صفحات يلتزم بوصف التلال يزعم أنها تبدو كالفيلة البيضاء، ويذكر ويكس أن همنغوي لم يستخدم الرمز في عنوان القصة فقط بل في بقية أجزائها أيضا، فنجد أن هناك إشارتان لبياض التلال، وأربع إشارات بأن التلال تبدو كالفيلة.

يدعم ويكس المفهوم القائل بأن العنوان الذي أعطاه همنغوي للقصة له معنى مزدوج.

النقطة الأولى التي يصوغها ويكس تتعلق بمبيعات الفيلة البيضاء، والهدف من مبيعات الفيلة البيضاء، هو أن يتبرع الناس ويتخلصوا من بضاعتهم غير المرغوب بها.

يعتقد ويكس أنه بحسب القصة فإنَّ الفيل الأبيض يمثُّل الطفل الذي لم يولد بعد من وجهة نظر الرجل الامريكي. وأنا أتفق مع هذه الفكرة التي استمدها ويكس.

أما التفسير الثاني للعنوان من وجهة نظر ويكس فهو أكثر مساندة للمرأة والطفل الذي لم يولد بعد. إن معنى الفيل الأبيض يخلق ازدواجية ذلك لأن الفيل الأبيض كائن نادر، قيم، ملكي، ومقدس. أعتقد أن هذا التفسير هو تكريم للطفل الذي في بطن (جيغ) ، وفي الطرف الآخر للعلاقة [وهو الرجل الأمريكي] يرفض هذا التشريف.

بالمقابل فإن بوش Bush يلاحظ جاذبية العنوان في القصة، يقول بوش: لكن التلال والتشبيه الذي استخدمته جيغ يحملان عبء موضوعهم الحقيقي، إرادتها وجسدها التي يضعها همنغوي في مواجهة خطط حبيبها لجسدها على الرغم منها.

النضوج الأخير في جسد جيغ لا يتوافق مع الخطط التي رسمها الأمريكي لنفسه ولشريكته، وهكذا ترك القارئ لتخمين كيف أن تفسير بوش للاستعارات في عنوان القصة سيؤثر على موقف جيغ بما يخص حملها.

تبدو هذه الحقيقة التي قدمها بوش صحيحة، لأنه، كلما تكشفت القصة واتضحت وازدادت تعليقات الأمريكي السلبية؛ تبدو جيغ أكثر ملائمة ولا تميل للتعبير عن أفكارها على نحو مفصل. تصف جيغ التلال «بأنها بيضاء تحت أشعة الشمس وكانت الأرض بنية وجافة» وهذا يسمح بوجود تباين بين الفرح والحزن، ويقول ويكس: من المهم أيضا، النظر الى هذا التعليق الذي صرحت به جيغ أنه يدل على التباين بين جيغ وشريكها في الموقف الذي أقحموا أنفسهم فيه على وجه التحديد.. وذلك للأن رد الأمريكي على تعليقها حول ما تبدو عليه التلال، يرفع التوتر في الحوار بين الاثنين.

وفي خضمِّ محادثة مضطربة حول التلال والفيل الأبيض، يشرح الأمريكي بانزعاج: لمجرد قولك أنني لم اشاهد فيلا أبيضَ، فهذا لا يثبت أي شيء. 

وهذا يؤكد التناقض نفسه الذي ناقشه ويكس بين الشخصيات وأفكارها التي يحتمل أن تكون منقسمة حول مستقبل علاقتهم. إن وجهتا نظر ويكس وبوش حول العنوان لا يجب أن تؤخذا حرفيا، وأن للعنوان معانٍ متعددة يُعبَّر عنها بمهارة عبر الحوار الذي تتبادله بين الشخصيات خلال القصة. يبدو أن جيغ تساوي التلال، والتي هي جزء من الأرض الإسبانية، بالفيلة البيضاء، لأنها ترى طفلها الذي لم يولد بعد له قيمة في تناقض مباشر مع إشارة الأمريكي إلى أنه لا يرغب بهذا الحمل.

حلل العديد من الباحثين الحوار في قصة تلال كالفيلة البيضاء، والحوار بين هاتين الشخصيتين يكشف الكثير لكونهما بشرا، يحصل القارئ على دلالات حول طبيعة الشخصية الأمريكية من خلال ردود الأمريكي الساخرة والبرمة.

يصرح بوش أن الأمريكي يجيبها بلغة مستفزة، وأعتقد أن هذا يزيد من تطوير المنظور الأمريكي للموقف، ويفسر ديناميكية العلاقة بينهما. لاحظ ويكس بعد تبادل الآراء، أن جيغ تلاحظ أن حياتهما ترتكز حول النظر إلى الأشياء وتجريب مشروبات جديدة، التي تشكل ضمانة من تفاهة والاستهتار في حياتهم. ثم عزز لانير الموضوعات المتعلقة بمشروباتهما من خلال اختيار الأفسنتين.

هذه القصة غنية بالحوار لدرجة أن معظم القرائن التي يتركها همنغوي للقارئ تكمن في الحوار، ويذكر لانير أنه في قصة همنغوي يضطر الزوجان إلى التنفيس عن مشاعرهما بطريقة غير اقتحامية. وبعيدا عن تفسيرات لانير، يفسر هذا استخدام التعليقات الرافضة والساخرة بين الاثنين مع تطور القصة، في موضع محدد خلال حبكة القصة.

بعد تبادل حادٍ للآراء بين الشخصيتين الرئيستين، يترك الأمريكيُّ جيغَ حتى يتمكن من أخذ الحقائب منها إلى الجهة الأخرى من محطة القطار حيث ينتظران. يسلط بوش الضوء على جوهر قيام الأمريكي بذلك، فهذا التصرف يعبِّر عن شخصيته. بعد أن يفعل الأمريكي ذلك، يصفُ الركابَ الذين ينتظرون قطارهم بقوله "معقول تماما" من هذا التفكير اليسير الذي بدا غير ذي اهمية لدى الأمريكي، يمكن لبوش أن يستنتج أنَّ الأمريكي يعتقد أن الفتاة التي جعلها حاملا تستطيع أن تنتظر على نحو غير معقول بسبب رغبتها في الاحتفاظ بطفلها الذي لم يولد بعد، ويضيف بوش موضحا إنَّ المنظور اللأمريكي للعقلانية يتعلق بالمتعة مع تعظيم الذات، لكنه ضد الولادة، وهو بذلك يختلف عن تعريف جيغ للمعقول. ويمكن أن يعزى هذا التباين بين الشخصيتين الرئيسيتن إلى تجاربهما المختلفة كونهم بشرًا في هذه الحياة.

ثمة رمز جوهري آخر في القصة، وهو اختيار الشخصية للكحول، وتحديدا اختيارهم للأفسنتين. يجادل لاينر بأن هناك أهمية لاختيارهم هذا الشراب، لأن الشخصيتين يشربان وهما يناقشان مواضيع مهمة جدًا. حتى إن لاينر ذكر أن "الأفسنتين يتردد ذكره أثناء القصة"، ولهذا معنى خاصًا لأن أحد الآثار الجانبية للأفسنتين هو النسيان، وهو ما يتمناه الأمريكي، في إشارة إلى لحمل الذي يرغب الامريكي بعدم ذكره.

يمكن مقابلة فكرة النسيان التي ذكرها لاينر بالأفكار المتعلقة بمبيعات الفيلة البيضاء التي افترضها ويكس.

وللأفستتين تأثير آخر يكشف عن معنى أعمق للقارئ وهو طعمه، يصف الأمريكي طعم الأفسنتين بأنه يشبه عرق السوس، وهو طعام معروف بأنه مر المذاق. يقول " كل شيء طعمه كعرق السوس لا سيما الأشياء التي كنت تنتظرها طويلا كالأفسنتين".

يمكن مقابلة مرارة الأفسنتين بالحوارات المتبادلة بين جيغ والأمريكي، عبارة الأمريكي تتحدث عن عدد الأشخاص الذين يشبهون جيغ، فمن وجهة نظر أمريكية فإن هذا الحمل غير مرغوب به، وهو كطعم عرق السوس المر.

وعلى غرار مرارة الأفسنتين فأن مذاق لحم الفيل أيضا غير محبب لدى معظم الناس.

وقد أثبت المستكشف "الفيست كادموس Alvis Cadmos" في القرن الخامس عشر، أن طعم لحم الفيل غير مستساغ، في تلك الحقبة وكان من النادر أن يتناول الناس لحم الفيل، ويعدُّ كادموس أول من سجل مذاق لحم الفيل، وتناول لحمه يشبه يشبه احتساء الأفسنتين.

من خلال ما تقدم يتضح لنا أن هناك روابط بين العنوان والرموز في القصة وهذا يعزز البغيضة التي يشعر بها الأمريكي وجيغ تجاه ظروفهم. ويشير لاينر إلى أن المرارة أصبحت بديلا للحلاوة. 

يسأل الأمريكي في نهاية القصة جيغَ  فيما إذا كانت تشعر بتحسن فأجابت "أشعر بأنني بخير لا أعاني من أي خطب، إنني بخير" وفيما يتعلق بمشكلة الزوجين الحالية يلاحظ بوش أن الأمريكي "يريد إجهاض الجنين وأن جيغ تريد الاحتفاظ به" وفي النهاية يتوقع بوش أن الأمريكي سيفوز.

يتنبأ ويكس أيضا بمستقبل حمل جيغ، فهو يعتقد أن الأمريكي لن يسمح بذلك، وسيحرم المرأة من تحقيق الأمومة. أما رانكين فهو أيضا يدعم فكرة أن الرجل سيحصل على مبتغاه قائلا "إن بطل قصة همنغوي، وهو الذكر الأمريكي الذي لم يذكر اسمه، يهيمن على شريكته، وهي الأضعف نوعًا من ناحية أنوثتها وشبابها وغربتها". ويخلص رانكين إلى نتيجة مفادها أن جيغ "تخضع لإرادته وتوافق على إجهاض الجنين".

استنادا إلى اقتباس رانكين المتعلق بجنس جيغ وعرقيتها، فمن الممكن أنَّه قد توصل إلى هذا الاستنتاج مستندا إلى دليل اجتماعي. فوفقا لعلم الاجتماع يكتسي الذكور المزيد من الموارد السياسيّة والاقتصادية مما يمنحهم قوة أكبر في صنع القرار، مقابلة بنظرائهم من الإناث. ويرى أن هذه القاعدة المجتمعية بين النوعين تنطبق على جيغ والأمريكي.

وثمة إمكانية أن تكون جيغ استثناءً لهذا التفاوت في السلطة، وذلك بسبب تعليقاتها الساخرة والواثقة تجاه الرجل الذي يحاول إقناعها لكي تجهض جنينها.

ولا أعتقد أن جيغ ستخضع لمحاولات الإمريكي للإجبارها على الإجهاض بل إنها لن تذعن لرغباته نظرًا لقوتها المنطقية والهادئة التي أظهرتها في حوارها طوال القصة. إنَّ عدم الرد على أي تعليق عدائي، قد يكون أقوى شيء يمكن فعله، وهذا بالضبط ما تفعله جيغ في هذا السيناريو، عندما يشاهدها الأمريكي في نهاية القصة.

يتبدَّى لي أنها قد اتخذت قرارها بالفعل وأنها راضية تماما عن قرارها وهو الاحتفاظ بالطفل. بل على العكس من ذلك أزعم أيضا أن العادة الخطيرة التي يتسم بها الأمريكي المتلخصة في كونه أنانيا، وبدائيا في طبيعته، ستكون السبب في سقوطه نهاية المطاف، كما ستؤدي إلى أن تتقاطع طرق جيغ معه.

تتجلى فكرة افتراق الطرق من خلال اختيار همنغوي إعداد القصة لتكون في محطة قطار، حيث هناك مسارات مختلفة يمكن للمرء أن يسلكها. قرغبة جيغ القوية في الامومة والتي تتعرض لضغط متمثلا برغبات الأمريكي الأنانية الرامية لإجهاض طفلها. يخلق  هذا الاختلاف في الآراء معركة ملحمية، ويتراءى لي أن جيغ والطفل سينتصران بها.

ناقشت المجلات العلمية رمزية عنوان قصة "تلال كالفيلة البيضاء" إضافة الى المعنى العميق ضمن الحوار، والتنبؤات لما سيحصل لطفل جيغ الذي لم يولد بعد وكذلك الرموز المبطنة التي ضمنها همنغوي. عمد همنغوي على نحو فعال إلى غرس الرموز وتطوير الحوار في هذه القصة الثرية بالحوار والمؤلفة من ثلاث صفحات. وأرى أن الخلاصة غير مدونة لهذه القصة على مختلف، فقد ناقشت المجلات الأمريكية دعم فكرة الضغط على جيغ لكي تجهض جنينها، ويظهر لي أن جيغ معتدة بنفسها أكثر من الإشادة بما قامت به عبر إعطائها الثقة لتكونَ ضد رغبات الأمريكي وتحتفظَ بالطفل. 

استخدم همنغوي عموما قدرته ليترك أدلة واضحة للقراء لكي يصلوا إلى استنتاجات ضمنية واضحة على نحو مميز في قصة "التلال والفيلة البيضاء"


Ukessays 

ترجمة: عباس جميل الحساني.

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب