المشاركات الشائعة

الخميس، 26 ديسمبر 2019

مجزرة زونغ/ نقابة جريجسون لتجارة الرقيق - ثانوس.



في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1781، أمر لوك كولينجوود قبطان السفينة البريطانية (زونغ) المتاجِرة بالعبيد، بإلقاء ثلث شحنتها في البحر. تلك الشحنة كانت من البشر، وثلثها يعني مئة وثلاثة وثلاثون من العبيد الأفارقة الذين كانوا متجهين إلى جامايكا، وكان دافعه تحصيل مال التأمين.
رفعت قضية إلى المحكمة ولكن ليس بتهمة القتل العمد، بل ضد شركة التأمين التي رفضت الدفع مقابل خسارة العبيد. هذا ملخص القصة البشعة لمجزرة زونغ.


سفينة تجارة الرقيق (زونغ).

في السادس من سبتمبر عام 1781 غادرت السفينة  زونغ (سفينة تجارة الرقيق) جزيرة ساو تومي، قبالة الساحل الغربي لإفريقيا متجهة إلى جامايكا. اكتظت السفينة بالرقيق بلا رحمة حيث كانت تقل أربعمئة واثنين وأربعين إفريقيًا، في طريقهم لأن يصبحوا عبيدًا، يرافقهم سبعة عشر فردًا من أفراد الطاقم.
كُبِّلَت الشحنة البشرية وكدِّسَت بشدة، حتى لم يبقَ مجال للتحرك. ولكن بحسب رؤية القبطان، لوك كولينجوود "كلما زاد عدد الأفارقة الذين يحشرون؛  زاد هامش الربح له ولمالكي السفينة".
عمل كولينجوود  سابقًا جراحًا في السفينة، وكانت هذه المرة الأولى التي يكون فيها قبطانًا وهي الأخيرة. فقد كان يخطط للتقاعد ويأمل أن يحصل على مكافأة سخية تساعده في تقاعده. وعليه كلما زاد عدد العبيد الذين يسلمهم إلى جامايكا، زاد نصيبه في المقابل.


قرار القبطان كولينجوود.

في منتصف نوفمبر وجد كولينجوود عديم الخبرة نفسه وسط المحيط الأطلسي، غير قادر على الخروج من نطاق الركود الاستوائي بسبب سكون الرياح. بدأ الموت يتصيد العبيد الذين يعانون من سوء التغذية، والزحار، وداء الاسقربوط ، وغيرها من الأسقام . وبحلول الثامن والعشرين من نوفمبر، توفي ستون شخصًا، بالإضافة إلى سبعة من أفراد الطاقم. وتزايد عدد المرضى أكثر فأكثر.

استبد القلق بكولينجوود؛ لن يجني مالكو السفينة من توصيله العبيد الموتى شيئًا. لكن إذا فقد الأفارقة بطريقة ما في البحر، فإن التأمين الذي يملكه مالكو السفينة سيغطي الخسارة بمبلغ 30 جنيهًا إسترلينيًا عن كل فرد. وخطرت ببالي كولينجوود  -الذي كان يعاني من الحمى حينئذ- فكرة.
وبعد أن ناقشها مع طاقمه، اتخذ قرارًا وحشيًا لا يمكن تصوره، ولكن في نظره، كان قرارًا منطقيًا.
بدلاً من السماح للعبيد المرضى بالموت على متن السفينة وخسارة قيمتهم، سيرميهم في البحر، ثم يمكن مطالبة الجهة المعنية بالتأمين.
احتجَّ مساعده الأول جيمس كيلسال، لكن تجوهِلَ. وأُوقف عن العمل في وقت ما أثناء الرحلة، ولا نعلم إن كان لأمر إيقافه علاقة  باحتجاجه، فعند الوصول إلى جامايكا، اختفى سجل السفينة بكل بساطة.
وهكذا، في التاسع والعشرين من نوفمبر، سُحب أربعة وخمسون من العبيد المرضى من عنابر السفينة، معظمهم من النساء والأطفال، وفك وثاقهم (حتى لا تضيع القيود سدى!) ورُموا من السفينة إلى المحيط. وقتل المزيد في اليوم الذي يليه. 
في المجمل، ألقى كولينجوود مئة وثلاثة وثلاثين من العبيد إلى حتفهم. قاوم الكثيرون مما اضطر الطاقم لربط كرات حديدية حول أعقابهم. وألقى عشرة عبيد آخرين أنفسهم في البحر بما وصفه كولينجوود تحديًا.
وصلت السفينة أخيرًا إلى وجهتها في الثاني والعشرين من ديسمبر 1781 - واستغرقت الرحلة التي تنقضي عادة في ستين يومًا، مئة وثمانية أيام تحت قيادة كولينجوود.
وكان لا يزال على ظهر السفينة مئتان وثمانية من العبيد الذين بيعوا بمتوسط ستة وثلاثين جنيهًا إسترلينيًا عن كل واحد منهم.

الحدث الوحشي المروع الذي حدث على متن سفينة تجارة الرقيق

عند وصول مالك السفينة  جيمس جريجسون إلى ليفربول، طالب بتعويض يقدر بـأربعة آلاف جنيه إسترليني عن "الشحنة" التي خسرها. قوبل طلبه بالرفض وأُحيلت القضية إلى المحكمة، ليس من أجل المئة والثلاثة والثلاثين نفسًا الذين قُتلوا بلا حول لهم ولا قوة، بل لتحديد من يتحمل التكاليف.
ادَّعى كولينجوود كذبًا بأن الضرورة قد اقتضت أن يفعل ما فعله خشية انعدام مياه الشرب، زاعمًا أنه لم يكن لديه ماء كافٍ للحفاظ على حياة الطاقم والعبيد الأصحاء.
وتحدث المساعد الأول كيلسال الذي وصف الحدث بـ "الوحشي والمروع"، مبينًا بطلان هذا الادعاء، وبكل تأكيد تبين أنه عند وصولهم إلى جامايكا كان هناك ما يقارب من أربعمئة وثلاثين جالونًا من المياه في المخزون الاحتياطي على متن السفينة.
وبالتالي عارضت شركة التأمين محتجةً بأن تحمّل التكاليف يقع على عاتق جريجسون لا هم، إلا أن قرار المحكمة كان في صالح جريجسون.

أشبه بخشبٍ ألقي في البحر.

طعن محامو شركة التأمين في القرار، وأُحيلت القضية إلى المحكمة للمرة الثانية. في مايو 1783 ، توفي كولينجوود (بعد ثلاثة أيام من وصول السفينة إلى جامايكا) وأصبحت القضية فضيحة ذات أبعاد ملحمية في بريطانيا.
استرعت القضية انتباه غرانفيل شارب رئيس الحركة المناهضة للعبودية بعد أن لفت انتباهه إليها العبد السابق أولوداه اكيوانو الذي كان قد اشترى حريته واستقر في لندن.
حاول شارب إثارة دعوى قضائية بتهمة القتل العمد، لكن القاضي اللورد مانسفيلد نحّى محاولته جانبًا مؤكدًا: "أي دعوى هذه بأن بشرًا قد ألقوا في البحر؟ هذه حالة رقيق بمثابة بضائع. السود ليسوا إلا بضائع وممتلكات. إنه لمن الجنون أن نتّهم هؤلاء الرجال الشرفاء بالقتل. لقد تصرفوا بدافع الضرورة وبأفضل طريقة ملاءمة للحالة التي هم فيها.  تصرف الراحل القبطان كولينجوود تحقيقًا لمصلحة سفينته ولضمان سلامة طاقمه. إن من الحماقة التشكيك في حكم القبطان البحّار ذي الخبرة الذي يُنظر إليه بأكبر تقدير، لا سيما عند الحديث عن العبيد. الحالة أشبه بخشبٍ ألقي في البحر!"

ربما فشل شارب في محاولاته لتحقيق العدالة، ولكنه استخدم ذلك على مدى السنوات التالية  للضغط على البرلمان والكنيسة، مما زاد المطالبة بإلغاء الرقيق.
واستخدمت الجمعية المناهضة للعبودية، التي تأسست عام 1787، مجزرة زونغ بوصفها مثالًا رئيسًا على فساد تجارة الرقيق. وأخيرًا في عام 1807  ألغت بريطانيا العظمى تجارة الرقيق.

ولكن في حدث موازٍ لبشاعة مجزرة زونغ، فإن إلقاء العبيد في البحر لم ينته بقرار إلغاء تجارة الرقيق. فقد فُرضت على البحارة البريطانيين الذين يواصلون الاتجار غير المشروع بالعبيد -إذا ما ألقي القبض عليهم- غرامة قدرها 100 جنيه إسترليني عن كل فرد موجود على ظهر السفينة.
وأسست القوات البحرية الملكية أسطولًا مهمته القيام بدوريات على ساحل غرب إفريقيا لاحتجاز السفن التي تحمل عبيدًا. لذا يلجأ قباطنة سفن الرقيق لإلقاء العبيد في البحر للحد من الغرامة التي سيتوجب عليهم دفعها، إذا ما أحسوا بأنهم سُيمسك بهم.

  • ثانوس.
  • ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

بيع الكتب في لندن على مركب هولندي عمره 100 عام.

بيع الكتب في لندن على مركب هولندي عمره 100 عام
 
مقابلة مع صاحب مكتبة "كلمة على الماء".
Word on the Water مكتبة لبيع الكتب العائمة في مركب هولندي يعود إلى عشرينات القرن العشرين، أُسست المكتبة من قِبل Paddy Screech و Jon Privett في عام 2011، وهي ترسو حاليًا في قناة ريجنت في كينجز كروس في لندن.

ما القسم المفضل لديك في المتجر؟
تعد غرفة الأطفال في عمق البارجة هي المكان المفضل لدي، فهناك موقد فحم وأريكة كبيرة مع وسائد مغربية وجدها جون بثمنٍ بخس في مراكش، كما يوجد وحيد قرن ذهبي، وهاتفان هولنديان مزخرفان وكتب أطفال محشورة في كل زاوية و في كل مكان، هناك أيضًا سجل نقدي فيكتوري مزخرف يوزع الحلويات المجانية ويدعو أي شخص للضغط على أحد الأزرار لتمني أمنية.

ما تخصص مكتبتك؟
نحن نحب الأدب الديني -وخاصة الكتابات الأمريكية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي- والكتابات التي تتحدث بتجربة أصيلة عن الأحداث الأكثر تطرفًا وتطوراً في الحياة، نحن نحب بوكوفسكي، كناوسجارد، بيكيت، كيلمان، فانتي، كيرواك، لدينا أيضًا نسخة أولى رائعة من دكتور ساكس التي لا يزال بإمكانك من خلالها أن تشعر بالدخان الغامر والنظارات الشمسية ذات القرن الواحد في الأيام الأولى لحركة بيت.

هل لديك حيوانات أليفة في المكتبة؟ 
لسنوات عديدة سكنت القارب عائلتين من القطط: كويني وسكيتي، وعندما بدأنا العمل في المتجر لم نتقن إزالة فضلات القطط وكانت توجد في المتجر بأكمله رائحة كريهة جدا، هاتان القطتان المسنتان الجميلتان لم تعودا معنا الآن، والآن أصبح لدينا Star- وهو كلب الكولي الذي يعيش في منطقة البارجة، إذ يمكنه مطاردة كرة التنس طوال اليوم، وهو ما يمثل شرارة شابة لديه على الرغم من أن سنَّه 15 عامًا، بالإضافة إلى ذلك، يمكن غالبًا رؤية عائلة ممتدة غريبة الأطوار من الكلاب الودية وهي تتجول في المنطقة.

ما كتابك المفضل لتهديه؟ 
الأكثر سحرًا هو أنه عندما تنحصر اختياراتنا ونحتار، ينتهي بنا الأمر إلى الحصول على الشيء الذي يحبه ذاك الشخص -كقصة السيدة الكورية التي بكت عندما عثرت على نسخة من القرن التاسع عشر من كتاب Tacitus باللغة اللاتينية لشقيقها الذي يدرس الكلاسيكيات- أو بنظرة عميقة، أو فرحة خاصة في أعين الناس الذين يخرجون وهم يتشبثون بنسخٍ صغيرة جدًا من كتاب The Little Prince يسترجعون من خلالها قصص طفولتهم عندما كانوا صغارًا.
 
إذا كان لديك مساحة لا متناهية، فما الذي ستضيفه للمكان (بخلاف البار/ المطعم)؟ كن دقيقا!
بيع الذرة! وربما أكثر واقعية، متجر للشاي والكعك والذي نأمل أن نضيفه للمكان قريبًا.

من المفضل لديك دائمًا؟
يمتلك ستيوارت لي الكوميدي والكاتب -وصديقي لعدة سنوات- طريقة لفتح الصناديق المليئة بالعناوين الرائعة والمدهشة والخاصة للتبرع، ولقد أرسل مجموعة من الكتب لمراجعتها، وكان يبدو وكأنه صياد قديم مع لحيته الرمادية الكبيرة.

ما الموقف الأكثر جنونًا الذي واجهته في المتجر؟
أن تكون قدمك مغمورة في الماء بعد تسرب حدث في أحد صباحات يناير المتجمدة، مما يضطرك إلى سحبها بيدك وأنت حرفيًا "تتجمّد فوق الكتب".

ما الذي يذهلك في إدارتك لمتجر الكتب؟
أنه لا يُشعرك بالملل، وأن السمعة التي تولّدها البارجة والانطباعات اللطيفة عنها تجعلها مكانًا سعيدًا وصحيًا دائمًا.

أخبرنا عن حدث لا يُنسى للمؤلفين.
كنت جالسًا في الرذاذ في بادينغتون قبل سنوات عديدة سادًّا فجوة في الواجهة بكتاب حين لمحني عميل متميز يرتدي القبعات، التفت إلي وسألني "لماذا وضعت هذا الكتاب هناك؟" نظرتُ جانبًا واحترت، كان الكتاب الذي وضعته في الفجوة هو "طريق الجوع The Famished Road" للمؤلف بن أوكري، قدمتُ له وصفًا موجزًا للكتاب، موضحًا أن أوكري كان أحد أبرز المؤلفين البريطانيين، من أصل نيجيري، حائز على جائزة البوكر، كنت أخدعه قليلًا إذ لم أقرأ الكتاب بنفسي، ففاجأني قائلًا "أنا بن أوكري"!
استمر بعدها في التردد على المتجر وأصبح صديقًا كبيرًا للمحل، حيث صوّر في النهاية لصالح هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) على ظهر السفينة عندما أعلن الفائزين بجائزة بوكر عن عام التصفية والمطالبة بأسعار منخفضة لمشترياتهم، حيث مزح  قائلًا "لكن أنا بن أوكري".
 
ما الكتاب الذي تريد إعادة طباعته؟
هناك كتاب رائع يصف تاريخ أول قارب يعبر المسيسيبي بقلم بيلي براينت بعنوان "Ol’ Man River".

هل شعرت بأي تحول في معنى أن تكون بائعًا للكتب خلال عهد ترامب؟
نحن الآن في خضم انفجار ضخم في مبيعات الكتب في جميع أنحاء العالم الناطقة باللغة الإنجليزية لا سيما في المجال القصصي، لا أعتقد أن الناس يثقون في الإنترنت مصدرًا للمعلومات الجادة مثلما فعلوا من قبل، إذ يقوم الناس بتثقيف أنفسهم بشراسة حول تغير المناخ، والتنوع الثقافي، والوعي السياسي، وإذا كان سلوك شراء الناس للكتب أمرًا ما، فهو يحمل كل أسباب التفاؤل، على الرغم من الوساطة الكئيبة التي عفا عليها الزمن للقيادة السياسية في الوقت الحالي.

ما الشيء المفضل لديك -غير الكتب- لتبيعه في متجر الكتب؟
الفن، الفن، الفن..
نملك العدد من الفنانين الموهوبين حقًا الذين يعيرون ويبيعون أعمالهم من خلالنا، كما أن قربنا من كلية الفنون في سانت سنترال مارتينز الشهيرة (CSM) يجعلنا نحوي أيضًا العديد من تفاصيل الفنون الجميلة.

ما كتاب الأطفال الذي تعتقد أنه يجب على جميع البالغين قراءته؟
Watership Down لريتشارد آدمز، إذ يحتوي جل الحياة.

ما أكثر الكتب بيعًا التي يمكن أن تكون أكثر بيعًا فقط في متجرك؟
يسعدنا بفخر عندما نتمكن من بيع الكتب التي نوفرها بالفعل، ويعتبر كتاب My Cool Houseboat لـ Jane Field-Lewis واحدًا منها.

ترجمة: عبير علاو.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.


الجمعة، 20 ديسمبر 2019

عشرة قياصرة: أباطرة الروم من أوغسطس إلى قسطنطين- بوب دافي.




تأليف: باري ستراوس.
 مؤسسة النشر: سايمون وشوستر.
 عدد الصفحات: 432
رحلة شائقة وماتعة خلال أربعة قرون من الحكم الإمبراطوري للروم.



هذه السيرة الماتعة والمتسلسلة ذات مستوى رفيع من ناحية الأسلوب والموضوع في دراسة القرون الأربعة الأولى للإمبراطورية الرومانية. مع إشارة واضحة إلى الاثني عشر قيصرًا الذين ذكرهم سويتونيوس، فإن المؤرخ الكلاسيكي باري ستراوس في كتابه عشرة قياصرة، يخصّ بالذكر أفضل عشرة من بين أكثر من خمسين من الأباطرة الذين حكموا خلال هذه المدة الزمنية.

سيحب أمناء المكتبات والقراء العاديون هذا القالب الانتقائي لأباطرة التاريخ الروماني، في حين قد تتحفظ الأوساط العلمية على هذه الانتقائية الشديدة في الاختيار. أما فيما يتعلق بالفئة المستهدفة فإن كتاب عشرة قياصرة مع ثغراته، والنقص النسبي في السياق على المستوى الأدنى إلا أن الرسوم التوضيحية الواسعة وأشجار نسب العائلة، والفهرس أيضًا تجبر هذا النقص وتضفي على الكتاب قيمة.

يثبت المؤلف ستراوس- من خلال تأطيره لإيجابيات وسلبيات نهضة الإمبراطورية الغربية وسقوطها- أنه مدرك لتفاصيل الاختيار، بالإضافة إلى الحكايات الرائعة التي من شأنها أن تجذب قراء اليوم. يتناول سرده الغني بالمعلومات الثقافية والمسلية والعامية المنعشة في كثير من الأحيان مهام وشخصيات كتابه بدقة موجزة تنم عن ذكاء.

لم يخفِ ستراوس عنا الأجزاء القذرة في حياة شخصياته سواءً الجانب الدموي أو الخدّاع وتفاصيل علاقاتهم فيما يتعلق بإشباع رغبات الجسد. يذكر لنا أن حياة أي إمبراطور أو أي منافس خطِر في مثل وضعه يمكن أن تكون في كثير من الأحيان وعرة مثل ركوب عربة في فيا أبيا (طريق أيبان)، إلا أنها لا تخلو من التعويضات الفارهة  والمترفة.

ومن المنظور الإيجابي قد يُعلن الإمبراطور الناجح إلهًا بعد وفاته، ويخصص للقوي والمتميز منهم بشكل استثنائي مرسًى في الحياة الآخرة بصحبة زوجته أو أمه، أو أخته أو اثنتين منهن. وهذا يضفي لمسة خفية ورائعة للكتاب: بما فيه من إشارة إلى عدد المرات التي ظهرت فيها المرأة قوية ومؤثرة في التاريخ الروماني مرارًا وتكرارًا.

ومن أمثلة ذلك المسيحية هيلينا التي تنتمي إلى أواخر القرن الرابع، وهي ابنة صاحب خان، ووالدة الإمبراطور قسطنطين ومستشارته. تحظى هيلينا بمكانة القديسة في كل من المسيحية الشرقية والغربية، ويُنظر لها على أنها حاجّة تقية إلى الأرض المقدسة.

كذلك تظهر في السنوات الأولى للإمبراطورية كوكبة من النجوم النسائية اللامعة والقوية. لنأخذ على سبيل المثال النبيلة الذكية والجميلة ليفيا، ذات الدماء الزرقاء[1] زوجة أوغسطس (الذي حكم من 27 ق.م. - إلى 14 م). وينظر ستراوس إلى ليفيا على أنها "توأم الروح" للإمبراطور الأول، تكافئ زوجها ذكاءً وطموحًا. ويبرز ستراوس أيضا في سرده: أغريبينا  زوجة كلوديوس (حكم من 41-54 م) وشريكته المؤثرة في الحكم.

وهي أيضًا أم نيرون أو نيرو، وحبيبته  إذا صدّقنا بعض الشائعات المعاصرة الشنيعة. وأيًا كانت الحقيقة، تمتعت أغريبينا بامتيازات لم يسبق لها مثيل في ظل حكم ابنها. كانت لديها وحدة خاصة من الحرس البريتوري، وهي قوة النخبة الرومانية التي كان لها نفوذ سياسي كبير (بما في ذلك سلطة اختيار الأباطرة وإزاحتهم  خلال السنوات القادمة).

كما سمح نيرو لأغريبينا بمراقبة إجراءات مجلس الشيوخ السرية في الخفاء من خلف الستار على غرار شخصية بولونيوس[2]. لكن في نهاية المطاف حدث صدام بين أغريبينا وابنها بمطالبتها ببيان عن النفقات الإمبريالية، وعلى حد تعبير ستراوس: "كان يمكن لأغربينيا أن تعطي ابنها الإمبراطورية على ألا يحوز على الحكم دونها". ثم قتَلها نيرو في ما يبدو أنها كانت محاولته الثانية للتخلص منها.

وفيما بعد يكرر التاريخ نفسه، مع زوجة نيرو الثانية رفيعة الحسب الجميلة بوبيا والتي كانت حبلى بطفله. تموت بعد ركلة قوية من زوجها. ثم يرثيها الإمبراطور بطريقة مصطنعة طنّانة ويأمر بتبجيلها على مستوى الإله، اتباعًا للعُرف السائد.

لم يكن طريق نيرو إلى العرش طريقًا شرعيًا مباشرًا. فهو ابن أغريبينا من زوجها الأول، تبناه زوجها الإمبراطور كلوديوس مثله مثل العديد من الأباطرة، مما أضفى عليه الشرعية باعتباره وريثا محتملا للعرش. كان هذا الإجراء مألوفًا: إذ تبنى يوليوس قيصر أوكتافيان (أوغسطس الثاني)؛ وتبنى أوغسطس تيبيريوس، وتبنى جرمانيكوس كاليغولا؛ وهلم جرا. ثم تصبح الأهلية بموجب المستند القانوني هي المعيار.

تغلغل إجراء التبني في وراثة العرش وأحاط بمفاهيمها، حتى إن سيفيروس (193-211 م)  -أحد أفضل العشرة لدى ستراوس- وثب إلى الحكم من خلال تبني نفسه في عائلة سلفه بتفويض وكالة. وكذلك هادريان (حكم من 117 - إلى 138 بعد الميلاد) الذي زوّر أوراق تبنٍ بعد وفاة سلفه تراجان ليصل إلى الحكم.

وأخيرًا يدير قسطنطين (المتوفي عام 337 م) دفة الحكم. فمن بعده انتقل الحكم تدريجيًا نحو الشرق، وفي الأخير إلى القسطنطينية،  مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا.

قد يكون كتاب عشرة قياصرة انتقائيًا بالضرورة، لكن هذا لا يقلل من سعة تغطية ستراوس لموضوعه. فهو خبير معترف به إلى حد بعيد، ألّف ثمانية كتب عن التاريخ العسكري القديم. وقد سدّ فرق المدد بين الحكام، وإن كان متسرعًا قليلاً، إلا أن ذوقه ودقته جديرين بالإعجاب.
سيخرج القارئ العادي بعد قراءة هذا الكتاب بشعور أن لديه إحاطة ومسح كامل للتاريخ الروماني.


بوب دافي: أكاديمي سابق ومؤلف واستشاري في ماريلاند. تتراوح سلسلة كتاباته بين المقالات العلمية عن التاريخ الأدبي، والأفلام إلى التعليقات على استراتيجية العمل، وتقنيات الإنترنت.

[1]  الدماء الزرقاء: مصطلح إنجليزي سُجّل عام 1834م ليشير إلى أصالة نسب النبلاء، وكان أساس التسمية تميّز بشرة ذوي الطبقة العليا -بلون الأوردة السطحية الزرقاء التي لم تصبغها حرارة الشمس- عن الطبقة الكادحة.
[2]  بولونيوس: شخصية خيالية من مسرحية هاملت لشكسبير.


ترجمة: بلقيس الكثيري.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان. 



  • بوب دافي: أكاديمي سابق ومؤلف واستشاري في ماريلاند. تتراوح سلسلة كتاباته بين المقالات العلمية عن التاريخ الأدبي، والأفلام إلى التعليقات على استراتيجية العمل، وتقنيات الإنترنت.
  • ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان. 


[1]  الدماء الزرقاء: مصطلح إنجليزي سُجّل عام 1834م ليشير إلى أصالة نسب النبلاء، وكان أساس التسمية تميّز بشرة ذوي الطبقة العليا -بلون الأوردة السطحية الزرقاء التي لم تصبغها حرارة الشمس- عن الطبقة الكادحة.
[2]  بولونيوس: شخصية خيالية من مسرحية هاملت لشكسبير.

الهرطوقي - ميجيل ديليبيس.



رواية التخيّل التاريخي التي تتناول حقبة مهمة من التاريخ الأوروبي الحديث والإصلاح الديني والصراع بين المذاهب المسيحية في أوروبا وإسبانيا تحديدا في النصف الأول من القرن السادس عشر، ومحاكم التفتيش وشهداء العقيدة اللوثرية (المهرطقين كما كانوا يُتهمون ويُعاقبون). عاشت عائلة ثيبريانو برناردو سالثيدو الابن الوحيد للدون برناردو في بلد الوليد حيث كانت ولادته بعد طول انتظار في عائلة عُرفت بضعف نجاعة إنجابها ليولد الابن الوحيد ثيبريانو رفقة مصيبة وفاة أمه بعد أيام قلائل. هذا اللقاء بين الموت والحياة، وإيقاد روح الابن التي تلتها انطفاء روح الأم، لمّحت لنا عن الحياة التي ارتسمت وسترتسم لثيبريانو فحضوره الجالب للموت، أو كما سماه أبوه الصغير قاتل أمه، وترتّب عليه أيضا تشكل ملامح علاقة الأب برناردو بابنه، العلاقة التي لم تتكون فيها أي أواصر للأبوة والبنوة ولا الحب والعاطفة التي قد تربط أي والد بوليده. 

قُسِّمت الرواية إلى ثلاثة فصول رئيسة، تسبقها توطئة للمستقبل مستخدما الكاتب فيها الاستباقية عارضا رحلة ثيبريانو إلى ألمانيا، وهي الرحلة التي حدثت في السنوات الأخيرة من حياته. واستخدم الكاتب في سرده المكاني في التوطئة ما أسميته السرد المكاني القنديلي إذ يلتزم الكاتب بمساحة معينة ضيقة من المكان تتحرك فيها الشخصيات، وهذه المسافة تبقى ذات أبعاد ثابتة يستكشف فيها القارئ مع الشخصية المقصودة المكان بمساحة لا تتجاوز ما يُضيئه القنديل (متر إلى مترين). 
ينتاول الكتاب الأول (السنوات الأولى) حياة دون برناردو وزوجته -التي يبتدئ الكاتب سرد الأحداث انطلاقا من بواكير القرن السادس عشر (زمن الرواية)- اللذين يُولد لهما ابن وحيد، ولم يكن مجيئه إلا منذرًا وفاة الأم مما سلب هذه الفرحة بهجتها والولادة قيمتها، ليمر الأب بعدها باكتئاب ما بعد الوفاة ورغبته بالزواج وكونه رجلا لزوجة وامرأة واحدة لكنه يتغير بعدها ليكون رجلا لزوجة واحدة فقط، ويبدأ بمحاولته اصطياد مينرفينا التي جلبها لتكون مرضعة ابنه، وتبوء محاولاته بالفشل في ظل تمنعها ورغبتها أن تكون مرضعة للصغير فقط. ثم يقع في شباك العاهرة بترا جيورجيغو ظنَّها محظيته وأسكنها في بيته ليكتشف عن طريق أخيه دون أجاناثيو أنها تخدع عليه وأن اسم العائلة على المحك. 
رسم الكتاب الأول حياة ما بعد وفاة الأم، وركّزت على حياة دون برناردو النفسية والاجتماعية  والتغييرات التي طرأت عليه بعد وفاة زوجته وعلاقته بابنه الصغير ثيبريانو التي لم تكن حسنة، فهو يشعر بأن ابنه سبب وفاة والدته بل ويصفه بأنه الصغير قاتل أمه لذا فلم يكنُّ له تجاه ابنه أي مشاعر أبوية، وحاول أن يثير موضوع العلاقة مع مينرفينا وفشله في الوصول إليها مستغلا إياها في اتهامها بأنها لم تعمل على توطيد علاقة الابن بأبيه وتحاول إبعاده عنه، ليقرر بعدها إبعاد الصغير الذي تعلّق بمرضعته ومربيته التي تلّقى معها أول بواكير العقيدة التي ستكون حجرة زواية التغيير في حياته وختامها وجدَّ في إرسال ابنه إلى مدرسة اللقطاء، الفعل الذي مثّلَ الحجرَ الذي يضرب فيه عصفورين منتقما من ابنه (لقتله زوجته) ومينرفينا المربية (لتمنعها عنه).

يتناول الكتاب الثاني (كتاب الهرطقة) في الرواية، حياة ثيبريانو  الصغير في مدرسة اللقطاء الداخلية التي أرسلها إليه والده في نوع من التأديب وتعليم الحياة/ والانتقام من الصغير قاتل أمه. يقضي ثيبريانو  في مدرسة اللقطاء ثلاثة أعوام يتعلم فيها ما أمكنه أن يتعلم ليبرز بين أقرانه ذكاءً وقوةً على الرغم من صغر حجمه ونحافته، يموت والده في سنته الثالثة في المدرسة بسبب الطاعون الذي ضرب المدينة، ليتخرج في المدرسة بعدها ويعيش مع عمه وزوجته حتى بلوغ رشده وإدارة أملاك أبيه. 
تتشكل هوية ثيبريانو  في المدرسة من عدة مواضع دينية وأخلاقية وحياتية وجسدية وتعرّفه على أنماط مختلفة من العالم الشاسع الذي حرمته منه مينرفينا كما يُخبر نفسه. ويرسم ميجيل ديليبس مقاربة ومقابلة في شخصية ثيبريانو مع أوديب، فأوديب الذي قتل أبيه دون أن يعلم وتزوج أمه دون أن يعلم أيضا، نجد تشكل القصة مقاربا في بناء شخصية ثيبريانو في مرحلة التكوين (الانتقال من الطفولة إلى البلوغ). يصفه أبوه بأنه "الصغير قاتل أمه" وقتله لأمه كان عبر وفاتها بعد ولادته، وهي عملية قتل غير مقصودة وغير متعمدة ولا يُعاقب عليها ثيبريانو  لكنها كانت كفيلة بأن يُسربله أبوه بها رغما عنه، وهذه هي الخطيئة الأولى غير المعتمدة لثيبريانو والخارجة عن إرادته، لم تكن خطيئته غير المتعمدة الأولى في قتل أمه فقط بل كانت سببا لقطيعة مع أبيه الذي بقي ينظر إليه مُذنبا، هذه العلاقة التي اتسمت بخشونة، إذ تعامل دون برناردو مع ابنه ولم يتعاطف معه كثيرا بل رأى في كثير من الأحيان أن معاملة ابنه ومينرفينا بقسوة تمنحه اللذة وشعور الانتقام وبلغت ذروة هذه القطيعة بينهما بإرسال ابنه إلى مدرسة اللقطاء، هذا الإرسال الذي توج القتل للأب في نفسِ الابن وهنا يرسم لنا مشهدا أوديبيا مضاعفا ومغلظّا بقتل الأبوين البيولوجيين دفعة واحدة، الأول آني والآخر ذو مدة من الزمن لكن جوهريا ونفسيا مات مع وفاة الأم "قتلها" بعد الولادة. وتمثلت الخطيئة الثانية -لكنها متعمدة هذه المرة- في مضاجعته مينرفينا مربيته ومرضعته وأمه الثانية، وأنقل مقتطفا من حوار ثيبريانو أثناء اعترافه للأب توبال:
*
لقد ضاجعت مرضعتي، يا أبتِ، المرأة التي أرضعتني من صدرها.
رد عليه الأب:
هذا يشبه مضاجعتك أمك ذاتها، يا ثبيريانو. 
*

نرى هنا ارتكاب خطيئة أوديب لكنه ارتكاب متعمد يستمر فيه الاثنان حتى يُكشفان من قبل زوجة عمه. 
رسمت هاتان الخطيئتان (غير المقصودة والمقصودة) على سواء بداية مسار ثيبريانو  مع الخطيئة وصراع الذات والعقيدة. واستمر في صفة جلبه الموت والخراب بحضوره إذ أُبعدت مينرفينا ولم يرَها إلا قبل موته في مشهد درامي عاطفي يحبس الدمع.

بعد الكتاب الأول الذي كان سردًا لماضي العائلة التي ولد فيها ثبيريانو لتتشكل للقارئ القاعدة التي انطلقت منها الأحداث (زمانيا ومكانيا) وتصاعديا باتجاه الكتاب الثاني الذي يمثل رواية تكوين في تنشئة ثيبريانو وانتقاله من عالم الصبا والطفولة إلى عالم البلوغ والشباب لنصل إلى الكتاب الثالث (مسائل الإيمان) من الرواية، الذي يمثل عِماد الرواية والقمة التي تتأزم وتلتقي فيها ذروة أحداث القصة والتاريخ المسيحي والصراع الديني ومحاكمة المعتنقين للمذاهب المسيحية غير الكاثوليكية كاللوثرية. واستمرارا في توضيح مسار حياة ثيبريانو فإن الكاتب يُكمل سرده لقصة ثيبريانو الذي سعى على إعلاء شأنه فعمل في صناعة المعاطف وحصل على الدكتوراة في القانون وأصبح ثريا وتزوج من تيودوميرا. هذا الزواج الذي يعد ثالث أهم الأحداث التي شكلت شخصيته وفكره (بعد حدث وفاة الأم والعلاقة بمينرفينا) لكن لهذا الزواج معاناته الخاصة ومشاكله التي ألقت بثقلها على كاهل ثيبير. فعلى الرغم من أن فارق الحجم بين تيو وثيبريانو كان بارزا؛ فتيو كبيرة الحجم وثيبريانو ضئيله، فإن ثيبريانو لم يعر الأمر أهمية بل ودفعه أن يتعلق بتيو وينام واضعا رأسه تحت إبطها شاعرا بالدفء والأمان والأمومة التي لم يشعر بها إلا يسيرا مع مينرفينا، لكن هذه العلاقة لم تدم على ذات المنوال إذ بدأت المشاكل تدب والعلاقة الجسدية تفتر تحت رغبات تيو بالإنجاب وعدم قدرة ثيبريانو  على الإنجاب المبكر كحال أبيه وعائلته، إلا أن كل هذا لم يُنفّر ثيبريانو من تيو جسديا حتى راقب مشهد تزاوج ذكر وأنثى العلجوم (ضفدع الطين) في إحدى رحلاته إلى ملاحات ثنجال، إذ الأنثى كبيرة الحجم والذكر أضأل منها بعشر مرات صاعدا فوق ظهرها العريض، أثار هذا المشهد ثيبريانو غثيانه واشمئزازه وجعله يتقيء وهو يرى نفسه مع تيودوميرا، وعلق بذهنه كلام الأب كاثايا وهو يصف ذكر العلجوم "الذكر ليس سوى قنينة صغيرة، وجراب من المني".

ويصف ديليبس الحالة "لم تبرح الصورة القذرة رأسه رغم تعذيبه لرملامباجو بالمهمازين، كأن المنظر القبيح له علاقة بالسرعة. تيو -أنثى العلجوم التي تترك ثيبريانو- ذكر العلجوم يعتليها، وبعد أن يمتلكها، يسبح فوقها في البحيرة الكبيرة، كان مشهدا يعود لإصابته بالغثيان، هل سيمتلك الشجاعة لامتلاك تيو مجددا؟".
"... لكن ثيبريانو لم يحاول الاقتراب منها ليلا. ولم تبحث تيو عن (الشيء)، كأنها شعرت بالتغيّر. وفي الليلة التالية تكرر الموقف. كل منهما انتظر مبادرة الآخر عبثا. لكن، بالنسبة لثيبريانو، كانت صورة أنثى العلجوم  السابحة في ملاحات ثنجال هي ما تمنعه. طال انتظار تيو أسبوعا من دون طائل. ولا يزال ثيبريانو يرى فيها أنثى العلجوم المتسلطة، والنزقة المحبة للتملك. وبقية المشهد تثير تقززه أكثر: موقف الخنوع، والذل، وطاعة العلجوم الضئيل، والفحل الجاثم على ظهرها. جراب من المني، كما قال كاثايا. لم يكن ثيبريانو زاهدا في الرغبات مطلقا كما في تلك الأيام. مجرد فكرة الاقتراب من خصر زوجته كان يصيبه بالغثيان".

أبدع ديليبس في رسم هذه الصورة وبث اللواعج والخطرات وشهوات النفس ونواقضها في مشهد أنثى وذكر العلجوم وأثرها في نَفْس ثيبريانو وهو يرى فيه زوجته، فكم تزخر الطبيعة بالمشاهد التي تعكس الواقع الإنساني والحياة البشرية. هذه الالتقاطة الفنية في بُنية النص كفيلة بتوضيح عدسة الراوي الدقيقة وهي تقرب القارئ إلى تلك النقطة المفصلية التي تلقتي بها عوالم الإنسان والحيوان في نقطة واحدة تتمثل في الاتصال الجسدي، وكيف أن المشهد برغم حقارته عكس علاقة ثبيريانو مع زوجته، هل هو مثل هذا الذكر الضعيف الضئيل الخاضع مع ذلك الجسد الكبير الطري الذي يشتهيه كل ليلة وينام تحت إبطه؟ صدمة الواقع لا تختلف عن صدمة القارئ، فإن كان القارئ يملك مقام رؤية أعلى لعلاقة ثبيريانو مع تيودوميرا فإن ثيبريانو لا يملكها قبل أن يكتشفها ذاتيا مع العلجوم فلما اكتشفها رأى نفسه بوضع حقير يزدريه ويثير اشمئزازه. ويبقى السؤال هل كان ثيبريانو بحاجة إلى هذا المشهد ليدرك طبيعة علاقته بتيو أو أن المشهد جاء مؤكدا لفارق الحجم بين الاثنين الذي كان مثار سخط زوجة عمه ورفض عمه غير المباشر، يحتمل الجواب الاثنين إذ من المستبعد أن تحضر صورته مع تيو مباشرة دون إخطار سابق في وعيه إلى هذه العلّة وإلا لكانت وطأة المشهد أخف شدة وثقلا مما أصابه، فالغثيان والتقيء من المشهد ثم النفور من تيو جسديا دليلٌ على أن في نفسه شيء من فارق الحجم بين الاثنين، فالصدمة قوية وهو يرى نفسه في ذكر العلجوم، ولم يعد تقبل تيودوميرا أمرا مجردا من دوافع الاحتقار للذات والصورة التي طُبعت بذهنه، وسيكون في محاولة تجاوز أمرين:
مشهد العلجوم.
حقيقة الفارق بين جسديهما المثير الغثيان والقيء الشاخص في علاقتهما الجسدية.

كانت النتيجة لكل هذا أفول تلك الصورة التي رأى بها ثيبريانو لزوجته تيو المرأة البيضاء الجميلة ذات الجسد الأمرد، ولم يعد يمثل له جسدها الأنثوي إلا القليل وتحولت إلى ظلٍ واق كما يصفها ميغيل ديليبس، وعندما نسي مشهد أنثى العلجوم والنكاح المثيرين للغثيان، تحولت علاقته الجسدية إلى أمر عادي بلا نفور أو رغبة بل تأدية واجب فحسب وانتظار حصول الإخصاب الذي سعت إليه تيو مع وصفات الطبيب جالاتشي. وكانت المرحلة اللاحقة لهذا هو فصل سرير النوم، ولم تكتفِ تيو بهذا بل نقلته إلى غرفة أعدتها لهذا، وبدأ تيو مرحلة جديدة في حياته الجسدية والإيمانية ببدء تقبله عقائد مسيحية جديدة عليه عند الدكتور كاثايا ونفسية عبر بحثه عمن يمنحه شعور الأمومة الذي وجده مجددا عند دونيا ليونير.
وفي ظل هذه الظروف وصلت حالة تيو إلى أسوأ درجاتها بعد محاولتها اليائسة في أن تحبل من ثيبريانو لتحاول قتله فاقدة رشدها وصوابها وراكضة بسرعة نحو الجنون لينتهي بها المطاف أن تُودع في مستشفى المجانين ثم تموت لافظة أنفاسها الأخيرة في المستشفى.

لم يتبقَ شيء في القصة ليعُرض ويطرح بعد أن تمت في تكوين شخصية ثيبريانو وانتهت حياته العاطفية والعائلية والعملية (باستثناء علاقته بعمه) بعرضها وتفصيلها فيما سبق سوى الحياة الدينية الجديدة باعتناقه المبادئ اللوثرية وإنكاره وجود المطهر، إذ وفقا المعتقد اللوثري فإن تضحية المسيح كافية لئلا يتعذب في المطهر أيُّ مسيحي وإلا فما فائدة تضحيته، إضافة إلى إنكار وجود أكثر من جسد للمسيح وقبر، وأكثر من رأس. هذا الإيمان الجديد منح ثيبريانو السكون والراحة بعد أن كان في تقلبات ونزاعات دينية وروحية لم تهدأ إلا مع اعتناقه الأفكار الجديدة. لكنَّ سلطة محاكم التفتيش كانت أعلى ويدها الطولى تمكنت من الوصول إليه وجماعته وإلقاء القبض عليهم جديدة لتنتهي بعدها المحاكمة والسجن والتعذيب حياتهم ما بين حبس والقتل خنقا بالدخان وحرقا. 
تطرح النهاية تساؤلا عن فداحة قتل المرء بسبب معتقداته وما يؤمن به بغض النظر عن كونه على حق أو خطأ، ولا أتحدث عن محاكم التفتيش وقتلها للمهرطقين الخارجين عن الكاثوليكية لكنني أقصد هذه القضية بشكل عام ولا يختلف الأمر كثيرا لدينا في الإسلام وقتل المرتد، الثابت دليله في القرآن والسنة النبوية. وأجد نفسي سأكون في موضع تناقض لو عارضت محاكم التفتيش وأيّدت قتل المرتد عن الإسلام، ولا يجب أن يفهم أن قتل المرتد مشابه لقتل المحاكم التفتيش، فالأمران في ذاتيهما مختلفان وفي تطبيقهما كذلك، لكنني أعني الفكرة بحد ذاتها. وأعود متسائلا عن قيمة حياة المرء مقابل معتقداته؟ منحنا ثيبريانو نموذج تضحية يُحتذى به في التمسّك بالعقيدة التي يؤمن بها المرء مهما كانت العواقب والنتائج، وبغض النظر عن مدى صحة أو خطأ الفكر إلا أن العذاب والموت هو الفيصل الذي يكشف مدى صدق الاتباع وقيمته الحقيقية، لذا فقد كانت المصائب دوما معيّارا ومقياسا لمعرفة الصادق من الكاذب وبين من يصبر على ذاك الذي يجزع سريعا.
لم تكن الرواية مجرد عرض تاريخي أو تخيّل بل وثيقة تاريخية لتصوير ذاك الزمان المسيحي المليء بالصراع والإصلاح والتجدد والنهضة، وهل غير الرواية قادرة على سلب لب القارئ وجعله في حضرة التاريخ المُغيّب، ولن تكون بالتأكيد كتاب تاريخ موثَّق لكنها بالتأكيد كافية لتوضيح أكبر قدر ممكن منه.

مؤمن الوزان.

نُزهة في رسالة الغفران - مؤمن الوزان.

(في الجنان والمحشر والنيران)  

إن رسالة الغفران للأديب واللغوي والشاعر الفيلسوف النابغ أحمد بن عبد الله المعروف بأبي العلاء المعري- واحدة من أفضل الأعمال الأدبية العربية على مر العصور، بل والأدب العالمي فهي تسبق الكوميديا الإلهية لدانتي في رحلته إلى العالم الآخر. 
كتب المعري رسالة ردا على رسالة وصلته من الأديب الحلبي علي بن منصور المعروف بابن القارح، ورسالة الأخير عُرفت برسالة ابن القارح، أرسلها إلى شيخ المعرة، ذاكرا له فيها أحواله وترحاله، وطائفة من أخباره وعصره ومن فيه من الملاحدة والزنادقة، وفيها مقتطفات من الشعر والحكم والنثر المسجَّع اللطيف. وهي رسالة أدبية ولغوية وشعرية وإخبارية. يرد المعري على رسالة ابن القارح برسالة مكونة من جزأين الأول، وهو المشهور -وموضوع مقالتي- حين أرسل المعري علي بن منصور ولقَّبه الشيخ في رحلة إلى الجنة والنار والمحشر، وفي الجزء الثاني من الرسالة أجاب فيها عن رسالة ابن القارح، وهي رسالة لا تقل أهمية من الجزء الأول لمضمونها اللغوي والأدبي والشعري والإخباري عن أحوال العصر ورجاله ولا سيما من الملاحدة والمجّان والزنادقة من حلولية وصوفية متطرفة وشعراء فسقة، وقد بلغ حجم هاتين الرسالتين ستة أضعاف رسالة ابن القارح تقريبا. 
أعود إلى الجزء الأول من رسالة الغفران لأبي العلاء، إن أهمية هذا النص الأدبي تكمن في اتجاهين رئيسين: الأول قيمته الأدبية والفكرية والآخر أسبقيته وتأثيره. سبق نصُ المعري الكوميديا الإلهية للإيطالي ابن فلورنسا دانتي أليغري، هذا السبق الذي عبّر عنه الشيّخ -وهو علي بن منصور ابن القارح- حين يحاور الشاعرَ عدي بن زيد ويذكر له أن شاعرا عربيا مسلما قد نظم على وزن قصيدة له فيقول الشيخُ لعدي: إلا أنك يا أبا سوادة أحرزت فضل السبق. 
والمعري قد أحرز فضل السبق على دانتي. لكن الأمر لا ينتهي في السبق فقط بل والتأثير كذلك، ويفصّل عمّر فرّوخ في كتابه "أبو العلاء المعري (الشاعر الحكيم)" في ذكر التأثير، وأنقل هنا أوجه الشبه والتقليد التي ذكرها فرّوخ ومن أحب الاستزادة في هذا الموضوع ليرجع القارئ إلى الكتاب المذكور، والنقط التي ذكرها فرّوخ:
1- كلا الشاعرين اتخذ رسالته سبيلا إلى إظهار مقدرته الأدبية واللغوية وإبراز معرفته بالتاريخ، وإلى التعبير عن فلسفته الدينية. 
2- كلا الشاعرين اتَّخذ من الأشخاص الذين لقيهم هنالك من البشر المعروفين في أيامه أو قبل أيامه أو من الجن.
3- كلاهما جعل أهل الجنة جماعات جماعات، وجعل أهل النار أفرادا أفرادا. 
4- كلاهما وقف على الأشخاص الذين لقيهم يحادثهم في أمور جرت لهم في الدنيا وصاروا إليها في الآخرة، ولقد قلّد دانتي في ذلك المعري تقليدا تاما… 
5- يدهشك أن ترى "المطابقة" التامة بين دانتي وأبي العلاء حين يأتيان إلى قوم قد خفف الله عنهم العذاب أو بعضه. 
ولفرّوخ إسهاب في الموضوع أكثر. 
وهنا لا يغيب عنا أن المصدر الرئيس لرحلة النيران والجنان مستوحاة ومقتفاة من رحلة الإسراء والمعراج للنبي الأمين (صلى الله عليه وسلم)، التي ذكرها الله في سورة الإسراء، وذكرتها بعض الأحاديث، وقد كثرت الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات عن/ في هذه الرحلة، والتي كان لها الأثر الكبير والواضح الذي لا يقبل الشك في أبي العلاء ورسالته وفي دانتي. ويخصص آنخيل جونزاليز بالنثيا في كتابه تاريخ الفكر الأندلسي موضوعا كاملا بعنوان "دانتي والإسلام" كشف فيه ناقلا بحث ميجيل الأستاذ ميجيل آسين بلاثيوس في كتابه "الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية"، وهو بحث شائق، تبرز المطابقة والنقل في الكوميديا الإلهية من المصادر الإسلامية كرسالة الغفران والأحاديث المتعلقة برحلة المعراج المترجمة إلى اللاتينية والبروفنسية التي عثر عليها المختصون، وللإطلاع أكثر الرجوع إلى الكتاب المذكور "تاريخ الفكر الإسلامي"

نعود إلى قيمة نص المعري الأدبية والفكرية، تبرز قيمة النص من عدة نقاط منها: 

- قدرة المعري الخيالية وكيف بعث بمُراسله برحلة إلى العالم الآخر ليكشف له عن مصير الكثير من الناس ولا سيما الشعراء والنحويين سواء في الجنة أو السعير، وعدَّ كثير الدارسين أن هذا النص عبّر فيه المعري عن سعة رحمة الله، وأن الحكم على من اشتهر بالزندقة والفسوق لا يصح حتى وإن مات قبل الإسلام أو مات على ما اشتهر به. 

- مكانة المعري اللغوية والأدبية والنقدية والشعرية وتمكنه منها ذاك التمكن المشهود له بالإبداع والإصالة، ومعرفته بالرجال والشعراء وأخبارهم وحتى خلافاتهم، الأمر الذي مكّنه من إدارة دفة الحوار والنقاش بشكل جذّاب ومشوّق. كما عندما حاور الشيخُ الشاعرَ عدي بن زيد العبادي وطلب منه أن ينشده قصيدته التي مطلعها: 
أبلغ خليلي عبدَ هندٍ فلا *** زلتَ قريبا من سواد الخُصوص 

فينشده عديا، فيجيبه الشيخ أن أديبا من أدباء الإسلام نظم قصيدة على هذا الوزن، وهو المعروف بأبي بكر بن دريد، ثم يقرأ له أبياتا من شعر ابن دريد، ويعلق قائلا: 

إلا أنك يا أبا سوادة أحرزت فضل السبق. 

- يستخدم المعري الشيخَ في مساءلة الشعراء ليبثَّ نقوده في الشعر، ويصوّب رأيه ويرجّحه على أقوال الرواة، وينتصر لنفسه بحضرة الشعراء القائلين للأبيات جاعلا إياهم الحكم. وكذلك يتأكد من الشعر المنحول والمنسوب إلى الشعراء، فيعترف الشاعر كما فعل أعشى قيس في أبيات مطلعها: 
أمن قتلة بالأنقا ** ء دارٌ غير محلولة 

بأن هذا الشعر لم يصدر عنه. 

ويساءل الشيخ الشعراء لماذا قلت كذا في مدح فلان كما سأل النابغة الذبياني في أبيات قالها للنعمان بن المنذر: 
زعم الهمام بأن فاها بارد ** عذب إذا ما ذقته قلت ازددِ
زعن الهمام ولم أذقه بأنه ** يُشفي ببرد لثاتها العطشُ الصدي

يكثر علي بن منصور، مساءلة الشعراء والاستفسار عن صحة شعرهم وما نُسب إليهم، وما عنوه في هذا البيت وذاك، وما وجه الصحة في هذه اللفظة أو تلك، حتى يكاد يكون النص كله كأنه قد كُتب لأجل مساءلة الشعر ونقد شعرهم لتتضح للقارئ مقدرة المعري الأدبية ومعرفته بالشعر والشعراء واللغة ومسالكها.

- إن النص مبني بحبكة، سواء في تفصيله لفصول الرحلة (الجنة - المحشر - النار) أو تفصيل كل رحلة في الجنة والنار، إذ تبنى الأحداث تصاعديا، لتتضح سمات قصة متكاملة مادتها الأدب واللغة وثيمتها الحياة الآخرة، أو في الأساليب السردية إذ استخدم أسلوب السرد غير المتجانس (أسلوب السرد الحر غير المباشر)، والخطاب المباشر الداخلي وتدخلات السارد الخارجي (الراوي العليم)، وتعدد مستويات السرد، واستخدام أسلوب الاسترجاعية (الفلاش باك)، وهذه تفاصيل وتسميات عُرفت حديثا بعد أن تطور النقد والدراسات البنيوية والسردية، أو التأني في الكشف عن هويته الشيخ إلى أن كان في أرض المحشر فإن الشيخ يبقى مجهول الهُوية عند القارئ حتى يكشف عنه المعري في وسط الرسالة (النص)، وإن كان المعري قد كتبها إلى ابن القارح، ويعرف ابن المُخاطَب أن الشيخ المقصود هو ذاته علي بن منصور*، لكن قراءة الرسالة دون معرفة أنها رد توضح هذه المزية في النص وانتقاله من الستر إلى الكشف عن الهُوية، أو الأدلّاء الذي يقودونه في الجنة وحظي الشيخ في الجنة بدليلين هما عدي بن زيد وملك من الملائكة.     
***
يستفتح المعري بعد أن قدّم في الرد على رسالة ابن القارح بسرد راوٍ عليم عن رحلة الشيخ في الجنة فيقول: 
فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل -إن شاء الله- بذلك الثناء غرسٌ في الجنة لذيذُ اجتناء… 
ثم يُكمل بعدها الوصف وما فاز به الشيخ.
ونلاحظ هنا أن الرسالة  تبدأ بسرد غير متجانس بضمير الغائب يرويه الراوي العليم "أبو العلاء" السارد الخارجي، عن الشيخ الجليل، علي بن منصور الحلبي، وهو يمضي في الجنة يمضي ويرى أحوال أهلها وحالها، ويلتقي الشيخ بعدد من أهل الجنة -سأذكر أسماءهم كاملة وأسماء من التقى بهم الشيخ في الجنة والنار في آخر المقالة- ما بين رجال ونساء وحيوانات وجن وملائكة، ليذكر بعدها لتميم بن أبي قصته في أرض المحشر وكيف شفع له النبي ودخل الجنة، ثم ذهابه ولقائه بأحد الجن وهو الخيتعور ثم رحلته إلى النار ولقائه بعدد من أهلها الشعراء ثم عودته إلى جنته حيث يستلقي الشيخ وسط النعيم والحور وينتهي الجزء الأول من الرسالة. 
***
ومن أحاديث الشيخ ومحاوراته  تبرز العديد من العلامات السردية في هذه الرسالة والبنيوية في حبكة النص. 

- فالشاعر ميمون بن قيس الأعشى الذي دخل الجنة لكنه حرم خمرها بعد أن أراد الإسلام فصدته قريش وحبه الخمر، فشفع له النبي بشعر يقول فيه 
ألا أيهذا السائلي أين يمَّمتَ ** فإن لها في أهل يثرب موعدا
فآليتُ لا أرثي لها من كلالة *** ولا من حَفًى حتى تلاقي محمدا 
إلى آخر الأبيات

- أما زهير بن أبي سلمى المزني، وكان قد مات في الجاهلية لكنه دخل الجنة لأنه كما يقول:
 كانت نفسي من الباطل نفورا، فصادفت ملكا غفورا، وكنت مؤمنا بالله العظيم، ورأيت فيما يرى النائم حبلا ينزل من السماء، فمن تعلق به من سكان الأرض سلم فعلمت أنه أمر من الله، فأوصيت بني وقلت لهم عند الموت: إن قام قائم يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه، ولو أدركتُ محمد لكنت أول المؤمنين، وقلت في الميمية، والجاهلية على السكينة والسفه ضارب بالجران: 
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ** ليخفى ومهما يُكتمِ اللهُ يعلمِ
يؤخر فيوضع في كتابٍ فيدخر *** ليوم الحساب أو يعجل فينتقم 

- وأما عبيد بن الأبرص فيعرف الشيخُ أن سبب خروجه من الهاوية ودخوله الجنة بيت شعر قاله وسار في آفاق البلاد وهو: 
من يسألِ الناس يحرموه *** وسائلُ اللهِ لا يخيبُ


- وأما عدي بن زيد العِبادي، فقد كان مؤمنا بالمسيح ويقول له: من كان من أتباع الأنبياء قبل أن يُبعثَ محمد فلا بأس عليه. وهو الذي أصبح أول دليل للشيخ في الجنة. 
*

- وفيما يخص السرد والرواة، نلاحظ في غمرة السرد أن الشيخ يختفي كونه شخصية وجهة النظر (التي يعي القارئ عبرها المَشاهد ويرى الجنة) ويصبح السارد الخارجي "المعري" هو ذاته الناطق بلسان الشيخ "المختفي" ويتماهيان في سارد واحد، كما حدث في الحديث الذي جرى ما بين نابغة بني جعدة أبي ليلى والأعشى أبي بصير، ليتحول الحوار إلى نزاع ما بين الاثنين، وهنا نواجه هَنتين الأولى في البنية السردية باختفاء الشيخ وحضوره السردي، ويحل محله السارد الخارجي، والثانية في مخالفة الخبر الإلهي القائل بانتزاع الغل والعداوي في الجنة، وما حدث بينهما لا يحدث في الجنان، يقول تعالى "ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ إخوانا على سرر متقابلين".

- ويقتحم السارد الخارجي النص أحيانا متحدثا بأسلوب السرد الحر غير المباشر عما يدور في فكر ونَفْسِ الشيخ (شخصيته الرئيسة) ويتحول السرد من سرد الخارج إلى سرد الداخل: 

وهو -زيّن الله الآداب ببقائه- يخطر في ضميره أشياءُ، يريد أن يذكرها لحسّان وغيره ثم يخاف أن يكونوا لما طلب غير مُحسنين فيضرب عنها إكراما للجليس. 

ويبرز الراوي العليم في موضع آخر:

ويميل من خطاب أهل النار، فينصرف إلى قصره المشيد، فإذا صار على ميل أو ميلين، ذكر أنه ما سأل عن مهمل التغلبي، ولا عن المُرقَّشَين، وأنه أغفل الشنفري، وتأبط شرا، فيرجع على أدراجه، فيقف بذلك الموقف ينادي: أين عدي بن ربيعة؟ فيقال: زد في البيان. فيقول الذي يستشهد النحويون بقوله: 
ضربت صدرها إليَّ وقالت: *** يا عديا لقد وَقَتك الأواقي 

وكذلك كما يحكي عنه فيكتب:
فيقول في نفسه: قد علمتُ أن الله قدير. 

- ويتدخل الراوي العليم في شرح مقصد شخصيته الرئيسة في النص، كما حدث في حديث الشيخ مع علقمة بن عبدة:
 "فيقول: أعْزِزْ عليَّ بمكانك! ما أغنى عنك سِمطا لؤلؤك، يعني قصيدته التي على الباء: 
طحى بك قلبٌ في الحسان طروب

والتي على الميم 
هل ما علِمت وما استودعتَ مكتوم 

- وقد يغيب الراوي العليم ويندمج مع شخصية وجهة النظر في خطاب مباشر بضمير الشخص الأول كما في: 

فليت شعري ما فعل عمرو بن كلثوم، فيقال ها هو ذا من تحتك، إن شئت أن تحاوره فحاوره. 

فهنا المتحدث لا يبين هل هو المعري أو ابن القارح، أو أنهما الاثنان، وكما حدث في مساءلته عمرو بن كلثوم فيقول:
هل يجوز نصب شمطاء؟ فلم يُجب بشيء، وذلك يجوز عندي من وجهين: أحدهما على إضمار فعلٍ دلَّ عليه السامع معرفته به… 

ويقصد السائل هنا البيت: 
ولا شمطاء لم يترك شقاها *** لها من تسعة إلا جنينا 
لا نعرف السائل هنا أيهما؟ الأرجح أن كلاهما واحد وهو أبو العلاء المعري، الكاتب لهذا النص. 

- ويظهر لنا تعدد مستويات السرد، وتعدد الساردين، وتحول الشخصية الرئيسة إلى سارد داخلي، عندما يحكي الشيخ ابن القارح عن حاله في المحشر وكيف نال الشفاعة بعد أن شُهد َ له بالتوبة (رسالة ابن القارح إلى المعري كتبها ليذكر له توبته ويبرئ نفسه مما أُشيع عنه من أخبار سيئة). يسرد الشيخ كل هذا لتميم بن أبي، وهذه النقطة تُحسب لأبي العلاء المعري، على الرغم من أن هذا الأسلوب (تعدد الساردين ومستويات السرد قد سبق وظهر في حكايات ألف ليلة وليلة) فإن حضوره في رحلة الغفران، يمنح القصة قوة ومزية في تعدد أشكال بناء النص، وطرق تركيب القصة، وتنوع السرد. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فإن قصة الشيخ في أرض المحشر، تمتاز بـ: 

1- استخدم فيها أسلوب الاسترجاعية وعاد بالزمن إلى الوراء متجاوزا البداية التي ابتدأ فيها المعري السرد حين أوجدَ الشيخ في الجنة.  

2- تداخل الأزمنة السردية (الحاضر والماضي عبر الاستذكار) فالقصة تجر بخط زمني كرونولوجي واحد، ثم يتوقف ليرجع الزمن بشكل فرعي إلى الوراء.   

3- ظهور مستوى خيالي ثانٍ (هذا ما يمثله تعدد المستويات السردية)، هذا المستوى الخيالي الثاني مثّل نقطة رابط ما بين عالم الجنة وعالم النار في بُنية القصة، وجعل الرحلة مقسمة إلى ثلاثة أقسام، بها اكتملت الصورة واتضحت. فالشيخ مرَّ بالمحشر ثم الجنة ثم النار، لكن أبا العلاء لم يعرضها بشكلها التتابعي بل تلاعب بها وداخل بعضها ببعض زمنيا وسرديا ومكانيا: 

رحلة الشيخ تبدأ بـ

                             (الرحلة كما وقعت)
وهذه الرحلة كما وقعت (لا كما سُردت) حيث يمر الشيخ برحلته بثلاث مراحل، تجري في ثلاث أماكن مختلفة في تتابع زمني. 







لكن أبو العلاء يسرد القصة بشكل مختلف، حيث يبدأ برحلة الجنة أولا ثم يغير المكان إلى أرض المحشر تغييرا ذهنيا لا حسيا، وتغييرا زمانيا بقطعه خط الزمان المتصل التقدمي بالعودة إلى الخلف، ثم يعود ليكمل إلى رحلة النار، وتغييرا في مستويات السرد، حيث تصبح قصة/ رحلة المحشر جزء من رحلة الجنة لا منفصلة عنها لها كيانها الزماني والمكاني الخاص، وترتيبها الأولي.    


                 (الرحلة كما سُردت)


        (مستويات السرد وتداخلها)

- يلتقي الشيخ هنا  بعد رحلته مع عدي -وهو دليله الأول في الجنة- بأبي ذؤيب الهذلي. 
لكنه لا يذكر أن عديا مضى مع الشيخ لكنه كان موجودا، إذ يقول: ويمضي في نزهته تلك بشابين يتحدثان وهما النابغتين (نابغة بني جَعدة ونابغة بني ذُوبيان) وحين يقول الشيخ وهو يحاور النابغتين أين لنا بأبي بصير -يقصد الأعشى- فلا تتم الكلمة إلا وأبو بصير قد خمسهم… 
يقول خمسهم والدليل أنهم كانوا أربعة من ضمنهم عدي بن زيد، وهذه من نقاط الضعف في السرد، واختلال لغة السرد وتركيز الضوء على الشخصية الرئيسة، وإبعاد الشخصية المرافقة إلى الظل، في حين تظهر فجأة لماما ثم تعود لتغيب. 
** 

أما فيما يخص الحبكة في سرد الرحلة فهي:

 - متنوعة الأجناس والأنواع والأشخاص فقد التقى الشيخ بأكثر من ستين شخصا ما بين إنسان (رجل وامرأة) وجن وملاك وحيوان.  
- متنوعة الأسئلة: فمنها عن الشعر، ومنها عن الأسماء، ومنها عن النحو، ومنها عن نسبة بعض الأبيات إلى الشاعر.
- متنوعة الردود: فمنهم من يجيب الشاعر ومنهم لا يجيبه، ومنهم يُقصِّر الجواب ومنهم من يُطيله، ومنهم من نسي شعره ومنهم من يذكره، ورفض بعض الشعراء تذكر أو إنشاد شعرهم لكونهم في الجنة وأنساهم نعيمها الشعر والرغبة في إنشاده، كما فعل الشمّاخ معقل بن ضرار. 
- توزع الرحلة في أماكن متعددة ما بين الجنة والمحشر والنار، بل وأن الجنة نفسها فيها أماكن متعددة وجنان مختلفة، فهناك جنة لمن التقى بهم الشيخ من شعراء ونحويين ولغويين، وجنة خاصة بالجن، وهؤلاء ليسوا بشباب لأنهم كانوا في الدنيا يحظون بالشباب لزمن طويل جدا، وهناك جنّة خاصة بشعراء الرُّجز. 

- التأخر في الكشف عن هوية الشيخ حتى منتصف النص وهو الأديب علي بن منصور الحلبي ويشهد توبته في أرض المحشر عبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب في ولاية صالح بن مرداس، وكان هذا زمن أبي العلاء المعري، إذ استخدم السارد أسلوب الفلاش بلاك المتجاوز لخط وزمن الحدث الأول، وبسرد غير المتجانس يتحدث الشيخ  بأسلوب الخطاب المباشر عما حدث له في أرض المحشر وكيف نال الشفاعة.

- وجود الأدلاء، فقد حظي الشيخ بدليلين هما عدي بن زيد، وملك من الملائكة حين يسأله الشيخ عن الحور العين فيجيبه: اقفُ أثري لترى البديء من قدرة الله. 

- كرامات أهل الجنة ومنها الإلهام السريع، وخاصية لأهل الجنة كما يوردها المعري في رسالته، وفيها سرعة استجابة الرب الخالق لأهل النعيم، فيحصلون ما يريدون بلمح البصر، وقد ذكر هذا في أكثر من مرة. 
وكذلك تحول بعض حيوانات الجنة إلى نساء كما في الحيات والإوز التي يصيرهن الله إلى جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يُلتمس به الملاهي، كما يصفهم. 

هذا التنوع يدل على الحبكة الموجودة في النص، وعلى مهارة في الصياغة، وإلا لكانت الأحوال والردود مشتابهة وواحدة، وحال الجميع متقارب، وهذا ما لا يوجد في النص المسرود، ولسردت القصة بشكل تتابع لا كما الشكل التي وردت فيه.

***
قوائم بأسماء من التقى بهم الشيخ علي بن منصور المعروف بابن القارح.

من رجال الجنة التي التقى بهم تواليا: 

1- ميمون بن قيس الأعشى 
2- زهير بن أبي سلمى المزني.
3- عبيد بن الأبرص 
4- عدي بن زيد العِبادي.
5- أبو ذؤيب الهذلي. 
6- نابغة بني جَعدة. 
7- نابغة بني ذُوبيان. 
8- الراوي أبو عمرو المازني.
9- الراوي أبو عمرو الشيباني. 
10- الراوي أبو عبيدة. 
11- الراوي عبد الملك 
12- لبيد بن ربيعة بن كلاب. 
13- حسان بن ثابت. 
14- تميم بن مقبل العجلاني. 
15- عمرو بن أحمر الباهلي. 
16- الشمّاخ معقل بن ضرار. 
17- أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان.
18- عبيد بن الحُصَين النميري. 
19- حُميد بن ثور الهلالي. 
20- عمرو ابن أحمر.
21- تميم بن أُبي. 
22- الغريض 
23 ابن مِسجح. 
24- ابن سُريج. 
25- إبراهيم الموصلي. 
26- إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
27- جران العود النميري. 
28- الخليل بن أحمد الفراهيدي.
29- ابن درستويه. 
30- النضر بن شُميل. 
31- أبو عثمان المازني. 
32- عبد الملك بن قُريب الأصمعي. 
33- الحطيئة العبسي.

في جنة الرُّجَّز

34- رؤبة.
35- أبو النجم. 
36- حُميد الأرقط. 
37- عُذافِر بن أوس.
38- أبو نخيلة.


من النساء:

القيان:
1- بصبص.
2- دنانير.
3- عِنان.

4- أم عمروٍ في معلقة عمرو بن كلثوم:

تصد الكأس عنا أم عمرو *** وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو  *** بصاحبك الذي لا تصحبينا 

5- حمدونة بنت صاحب الرحى 
6- توفيق السوداء. 
7- الخنساء السلميّة

من سكان الجنة الجن، ولهم جنان خاصة بهم: 

1- الخيتعور. 

من حيوانات الجنة:

1- الأسد.
2- الشاة.
3- الذئب.
4- الظبي، والظبية.
5- الإوز.
6- الحيّات.



أهل النار:

1- إبليس 
2- بشار بن بُرد. 
3- امرؤ القيس 
4- عنترة العبسي
5- علقمة بن عبدة 
6- عمرو بن كلثوم 
7- الحارث بن حلزة اليشكري
8- طرفة بن العبد 
9- أوس بن حَجَر 
10- أبو كبير الهُذلي عامر بن الحُلَيْس
11- صخر الغي [صخر بن عبد الله الخيثمي الهذلي]
12- الأخطل التغلبي. 
13- عدي بن ربيعة 
14- المرقش الأكبر 
15- الشنفري الأزدي 
16- تأبط شرا 
17-  صخر أخو الخنساء.

_____________

* علي بن منصور (المصدر: موسوعة رواة الحديث). 
علي بن منصور بن طالب، أبو الحسن الحلبي، الملقب دوخلة:
أديب فاضل شاعر، راوية للأخبار والآداب، يعلم أولاد الأكابر، قدم بغداد، وصحب أبا علي الفارسي النحوي، وأقام مدة وروى بها شيئا، روى عنه من أهلها أَبُو مُحَمَّدٍ رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ التميمي.
قرأت على أبي الكرم الهاشمي، عن محمد بن عبد الباقي، حدّثنا أبو محمد التميمي إذنا، أنشدنا أبو الحسن الحلبي المؤدب وذكر أنه مؤدب الوزير المقرئ، أنشد الوزير المغربي لنفسه:
قطعت الشام في شهري ربيع ... إلى مصر وعدت إلى العراق
فقال لي الحبيب وقد رآني ... سبوقا للمضمرة العتاق
سريت على البراق فقلت كلا ... ولكني سريت على اشتياق 
قرأت في كتاب «الشعراء وأخبارهم» للوزير أبي سعيد محمد بن الحسين بن عبد
الرحيم قال: أبو الحسن علي بن منصور بن طالب الحلي يلقب دوخلة، شيخ من أهل الأدب، شاهدناه ببغداد راوية للأخبار وحافظا لقطعة كبيرة من اللغة والأشعار، وفئوما بالنحو، وكان ممن خدم أبا علي الفارسي في داره وهو صبي، ثم لازمه وقرأ عليه على زعمه جميع كتبه وسماعاته، وكانت معيشته التعليم بالشام ومصر، وكان يحكى أنه كان مؤدبا لأبي القاسم المغربي الذي ورد بغداد، وله في هجو كثير، وكان يذمه، ويعدد معايبه وشعره يجري مجرى شعر المعلمين، قليل الحلاوة، خاليا من الصلاوة، وكان آخر عهدي به بتكريت في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، فإنا كنا مقيمين بها واجتاز بنا، وأقام عندنا مدة، ثم توجه إلى الموصل، وبلغني وفاته من بعد.
وكان يذكر مولده بحلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، ولم يتزوج ولا أعقب، فمهما أنشدنيه لنفسه في الشمعة:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي طول ما ألقى وما أتوقع
نحول وحرق في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب