المشاركات الشائعة

الأحد، 8 ديسمبر 2019

العلاقة الفريدة بين المؤلف والمترجم "حوار صامت".



كلير أرميستيد.

يناقش كبار المؤلفين والمترجمين (من أولغا توكارتشوك الحائزة على جائزة مان بوكر الدولية والنوبل، إلى الشريكين ما جيان وفلورا درو) إيجابيات التعاون الثقافي (الترجمة) وسلبياته. 
أولغا توكارتشوك والمترجمة جنيفر كروفت. 

في ليلة حفل توزيع جوائز مان بوكر الدولية في العام الماضي، اكتسح فائزان المنصة- الروائية أولغا توكارتشوك ومترجمتها جنيفر كروفت- لكن شخصًا ثالثاً في الخلف كان يهتف من على طاولته بصوت أعلى من الجميع. إنها أنطونيا لويد جونز التي علّقت: "شعرتُ بسعادة غامرة، وما زلت كذلك".
ما يضفي غرابة على الأمر أن لويد جونز هي مترجمة بولندية لمؤلفة أخرى كانت تعمل معها مدة أطول، ولكنها ليست صاحبة الرواية الفائزة "رحلات[1]".
بوجود جائزة مالية مشتركة بقيمة خمسين ألف جنيه إسترليني على المحك، ألم ينتابها أدنى شعور بالحسد؟ تقول لويد: "نحن فريق، صحيح أن الرواية الفائزة لأولغا وجنيفر وليست روايتنا، لكنه أمر رائع لنا جميعًا وقد أمضينا سنوات في محاولة للترويج لكتب أولغا خارج بولندا، وهو أمر يُحسب للأدب البولندي في مجال الترجمة".
 وتقول لويد جونز: "لقد كان هذا إنجازًا كبيرًا بعد ثلاثين عامًا تقريبًا من العمل. وقد أسهم في رفع مبيعات الترجمات الخاصة بي". 
وهذا يشير إلى الجدولة الرائعة لمؤسسة النشر المستقلة فيتزكارالدو الناشرة لأعمال توكارتشوك بما في ذلك "انطلق بجرافتك على عظام الموتى[2]" وهو عمل إيكولوجي غريب جدًا يختلف كثيرًا عن "رحلات"، وقد فاز بجائزة مان بوكر الدولية الثانية في القائمة الطويلة.
سيعلن عن القائمة القصيرة لهذا العام يوم الثلاثاء (أعلن عنها).
الأمر لا يقتصر على زيادة مبيعات الرواية البولندية، فقد ارتفعت مبيعات الأعمال الروائية المترجمة في المملكة المتحدة بنسبة 5.5 ٪ في العام الماضي إذ زادت مبيعات أعمال الأدب المترجم بنسبة 20 ٪. 
مع تحول المملكة المتحدة إلى الشؤون الداخلية، وانشغالها بالصراع المرير المتزايد حول مغادرة الاتحاد الأوروبي، يتطلع القراء إلى الخارج، إذ يستأثر الأدب الأوروبي القاري بالنصيب الأكبر من الازدهار والانتشار. يقول جاك تيستارد (المؤسس الناشر لـ توكارتشوك)  الذي يعد جزءًا من الموجة الجديدة للناشرين المستقلين الذين يأملون أن يزيدوا من إدماج الأعمال المترجمة في التيار الرئيس للأدب، مشيرًا إلى أن المملكة المتحدة وحدها تفصل الأدب الأجنبي عن الأعمال المكتوبة أصلًا باللغة الإنجليزية: "ستجد في فرنسا -حيث تُنشر خُمُس الكتب المترجمة- بلزاك وَبولانيو، كالفينو وَكارير على الرف نفسه في المكتبات. فقط في الأنجلوسفير[3] يُفصلان".
هذا الفصل جلي في عالم الجوائز ومكتبات بيع الكتب، حيث تعد جائزة مان بوكر الدولية الأكبر بين مجموعة المنح والجوائز عن الأعمال الخيالية المترجمة. كيف قرر كروفت ولويد جونز من سيكون مسؤولًا عن رواية توكارتشوك التي فازت في نهاية المطاف؟
تقول توكارتشوك: "إنها مسألة ثقة". وتقول لويد جونز: "بالتأكيد لستُ المترجمة المناسبة لرحلات، لكن فيما يخص رواية انطلق بجرافتك، قالت أولغا إنه يتعين علي القيام بذلك. وقالت مازحة أننا في سن السابعة والخمسين، أصبحنا أنا وهي أشبه بالسارد غريب الأطوار دوزيجكو... حسنًا ثمة شيء من الحقيقة في هذا".

ما جيان والمترجمة فلورا درو. 

قد يكون فريق توكارتشوك على وفاق لكنه ليس على صلة وثيقة ببعضه كما هو الحال لدى الروائي الصيني ما جيان ومترجمته فلورا درو، وهي أيضًا أم لأطفالهما الأربعة.
يقول ما جيان: "فلورا هي الشخص الوحيد الذي ترجم كتبي إلى الإنجليزية. لقد جاءت إلى هونغ كونغ لإجراء مقابلة معي عشية يوم تسليم العمل. كانت لغتها الصينية جيدة جدًا، لذا أعطيتها نسخًا من كتبي وقلت لها شبه مازحٍ أنها يمكن أن تترجمها إلى الإنجليزية إذا شاءت". يقول الروائي: "كان من الغرابة قول ذلك، لكن كان فيه شيء من الشعور بالقدر".
كان آخر تعاون بينهما عن كتابه "حلم الصين" [4]، وهو هجاء شرس يرسم الانهيار العصبي لمسؤول حكومي محلي فاسد. صدر باللغة الإنجليزية في الخريف الماضي، لكن من غير المرجح قراءته باللغة الصينية -التي يعدّها ما جيان النسخة الأصلية- لأن الرقابة في الصين أصبحت الآن شديدة جدًا لدرجة أن ناشري هونغ كونع لا يجرؤون على تحدي الحظر الذي طال أمده بمنع نشر رواياته في الأرض الأم. 
يتكلم ما جيان النزر اليسير من الإنجليزية، لذلك يتحدث على لسان درو في الحياة وكذلك في العمل. 
هل فصل الحياة المهنية عن المنزلية تحدٍ؟
تقول درو: "ما جيان الذي أترجم له كيان مختلف تمامًا عن ما جيان الذي أعيش معه".
"لا يوجد أي لبس على الإطلاق. لا أشعر أبداً أني أترجم كلمات الشخص الذي تناولت معه العشاء للتو  أو الذي أخذ أطفالنا إلى الحديقة. إن معرفته حق المعرفة تعني أنه يمكنني بطريقة غريبة أن أكون ما جيان نفسه وأن آخذ مكانه... لا أترجم له بصفتي صديق أو مترجم، بل بالطريقة التي كان ما جيان سيكتب بها  لو أنه يكتب بالإنجليزية. ثمّة أوقات أثناء الترجمة أشعر فيها أننا نجري حوارًا صامتًا بيننا، قد لا نجد الوقت لنُجريه في الحقيقة. وتتضمن العديد من كتبه إشارات إلى الأماكن التي كنا فيها معًا، وأحلامي التي أخبرته بها أو ما يقوله أطفالنا".

ليلى سليماني والمترجم سام تايلور. 

العلاقة بين المؤلفين والمترجمين ليست عادة بهذا القرب، ولا يقتصر السبب في كثير من الأحيان على أنهم يعيشون على بعد آلاف الأميال عن بعضهم.
أُدرج اسم المترجم سام تايلور -المتخصص الفرنسي الذي يعيش الآن في الولايات المتحدة- في قائمة مان بوكر الدولية، مع رواية أربعة جنود [5]، وهي رواية قصيرة للمؤلف هوبرت مينجاريلي تدور أحداثها بالقرب من الحدود الرومانية في الأيام الأخيرة للحرب الأهلية الروسية. قدّم الكتاب بنفسه لمؤسسة النشر جرانتا. ومن نتاجه الأدبي المترجم في العامين الأخيرين روايتان مثيرتان للجدل هما "التهويدة[6]" و"أديل[7]" للمؤلفة المغربية الفرنسية ليلى سليماني. في كلتا الحالتين لم يلتقِ سام بأي من المؤلفَين قبل أخذ الروايات. يقول "لا أتذكر أي حديث مباشر مع ليلى عن التهويدة، مع أنها كتبت لي رسالة شكر لطيفة جدًا عبر البريد الإلكتروني لاحقًا".
"أما فيما يتعلق بـ أديل فقد كان لدي قائمة تضم زهاء خمسة عشر سؤالًا أرسلتها إليها بعد ترجمة الكتاب (وقبل مراجعته). أجابت عن هذه الأسئلة وتبادلنا بعض الرسائل بالبريد الإلكتروني".
من الواضح بشكل خاص أن التعاون بين سليماني وتايلور كان أخاذًا فتايلور رجل، في حين أن عمل سليماني ذا طابع جنساني شديد، ويركز على جسد المرأة. هل تساءل أي منهما عما إذا كان العمل يقتضي أن تقوم به امرأة؟
تقول سليماني "بالطبع لا! الغاية من الأدب أن يكون عالميًا. أكتب عن النساء ولكني آمل أن يتمكن الرجال من تمييز شخصياتي. وَسام فهم شخصياتي وأسلوبي أيضًا بطريقة حاذقة جدًا، ما الأجواء التي أردت بثّها، والموسيقى التي أردت أن ابتكرها بكلماتي. إنه لأمر سحري عندما تشعر أن شخصًا ما يفهم عملك ويقدره كثيرًا. عندما أقرأ كتابي باللغة الإنجليزية كثيرًا ما أردد: هذه بالضبط  الكلمة الدقيقة التي كنت سأختارها".
كان تايلور يعلم أن Gender "النوع من ناحية الذكورة والأنوثة" مشكلة محتملة؛ كما يقول: "لم تذكرها ليلى ولا أي كاتبة من قبل. في اللغة الفرنسية الأصلية كل الأعضاء التناسلية، سواء للذكر أو الأنثى، تسمى ببساطة sexe "جنس"؛ وهي كلمة محايدة جدًا. وفي اللغة الإنجليزية لا توجد كلمات محايدة للأعضاء التناسلية فهي إما تميل إلى أن تكون علمية أو إباحية أو كوميدية - لذلك حرصتُ على استخدام الكلمة التي تبدو ملائمة للسياق في كل حالة. لكن لم أشأ أن أكون رجلاً يفرض وجهة نظره أو إحساسه على بطلة الرواية الأنثى والمؤلفة، لذلك حددت معظم خياراتي للكلمات الواردة في النص، وسألت ليلى والمحررين عما إذا كانوا يرون أن هذه هي الكلمة الصحيحة. لا أظن أن أيًا من تلك الخيارات قد تغيّر أو اُستنكر، لكن كان من المهم أن أطرحها للمناقشة". 
دخل تايلور عالم الترجمة بعد ترك مهنته في الصحافة لكتابة الكتب في فرنسا، وبصفته روائيًا ومترجمًا فهو لا يقبل كل ما يعرض عليه. "لقد رفضت ترجمة رواية "استسلام[8]" للمؤلف ميشال ويلبيك بسبب الهجوم على صحيفة شارلي الذي حدث بعد يومين من تلقي العرض".
 ويقول: "لا أشعر بتاتًا بأني نادم على ذلك". (ترجمها لورين ستاين، المحرر السابق لمجلة باريس ريفيو، والذي ترجم بعدها روايتين للمؤلف الفرنسي الرهيب، الشاب إدوارد لويس).
قد يختلف الأدب باللغة الفرنسية عن اللغة الإنجليزية، ولكن كما يوضح تايلور: "تستند معظم اللغات الأوروبية (والفرنسية بالتأكيد) إلى مجموعة متكافئة تقريبًا من القيم الفلسفية والتاريخ المشترك".

ماذا عن تلك اللغات الناتجة عن ثقافات لا تجمعها سوى أرضية مشتركة صغيرة؟ الإجابة التقليدية عن هذا السؤال هي أنها نادرًا ما تُترجم، مع أن الأبحاث المكلفة بها جائزة مان بوكر الدولية كشفت أن الوضع يتحسن ببطء، مع تزايد الطلب على اللغات الصينية والعربية والآيسلندية والبولندية.
تقول درو: "اللغة الصينية والإنجليزية أبعد ما تكونان عن بعضهما بقدر ما يمكن أن يكون بين أي لغتين. يمكنني قراءة كتاب باللغة الفرنسية بسهولة، لكنني لا أزال أجاهد مع اللغة الصينية، رغم مرور كل هذه السنوات- هناك العديد من الرموز التي لا أعرفها أو أنساها، والإشارات الكلاسيكية التي تفوتني. لا يوجد في اللغة الصينية أزمنة، وهي أكثر إيجازًا من الإنجليزية، لذلك غالبًا ما يستنتج المعنى من السياق. ومع أني أشعر أحيانًا أن الصينية عالم مختلف، إلا أنني دائمًا ما أتفاجأ بالمقدار الكبير الذي يمكن ترجمته، وكيف يمكن للصور والاستعارات أن تصاغ عبر الثقافات".

حميد إسماعيلوف والمترجم دونالد رايفيلد. 

من بين المبادرات التي تشجع الترجمة على نطاق واسع جائزة البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير الجديدة، إذ تمنح عشرين ألف يورو لكتاب من الأراضي المثيرة للاهتمام التي يرعاها البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير (والتي تمتد من دول البلطيق إلى آسيا الوسطى ودول البحر الأبيض المتوسط من أفريقيا). كانت الجائزة الافتتاحية في العام الماضي من نصيب الكاتب الكردي التركي برهان سونميز والمترجمة أوميد حسين. أما جائزة هذا العام فقد فازت بها أول رواية أوزبكية مترجمة إلى الإنجليزية (رقصة الشياطين [9]).
كتبها حميد إسماعيلوف وهو صحفي يبلغ من العمر أربعة وستين عامًا، جاء إلى لندن بعد مدة وجيزة من إجباره على الفرار من أوزبكستان في عام 1992، وعمِلَ في بي بي سي منذئذ. اجتمع بالمترجم دونالد رايفيلد وهو أستاذ فخري في اللغة الروسية والجورجية عن طريق دار نشر جديدة Tilted Axis تديرها مترجمة، وقد أنشئت في عام 2015 لدعم اللغات المهملة .
عندما التقيت بهم في مقر بي بي سي في لندن، كانت علاقتهما لافتة للنظر.
قال رايفيلد ضاحكًا: "كنت آخر شخص وقع عليه الاختيار، كما يقول الرُوس: إذا لم تكن هناك سمكة، فسيفي السرطان بالغرض".
لم يكن على رايفيلد أن يتعلم الأوزبكية فقط لترجمة الرواية، بل كان عليه أن يدرس التترية والفارسية والطاجيكية والقيرغيزية أيضًا.
كم لغة يتكلم إسماعيلوف؟ يشرح لنا بهدوء قائلًا: "عندما تتحدث الأوزبكية، تفهم العديد من اللغات الأتراكية، وتخوّلك الروسية لفهم الكثير من اللغات السلافية." هو أيضًا مترجم ويعمل في الاتجاهين بين ترجمة الروسية والأوزبكية واللغات الأوروبية المختلفة. تُرجمت كثير من رواياته من الروسية إلى الإنجليزية، بيد أنه كان من الصعب أن تضع رواية أوزبكية لكاتب محظور في متناول القراء بلغته الأم، مما حال دون ذيوع صيته إلى أن حل الإنترنت المشكلة. نشر روايته رقصة الشياطين في فصول على الفيس بوك، وانتشرت في "ستانس" -الدول السوفيتية الخمس السابقة في آسيا الوسطى- كان بطل الرواية وشخصيتها المركزية عبد الله قديري كاتب في الحياة الواقعية في أوائل القرن العشرين، أُعدم في عام 1938.
 كان الاثنان أقل دراية بشأن الاسم الثالث (جون فارندون) الذي ظهر في غلاف الرواية، وينسب إليه الفضل في ترجمة النصوص الشعرية الواردة في الرواية. يذكر رايفيلد: "لم يخبرني أحد. لقد فوجئت إلى حد ما بالتغييرات التي أدخلت على ترجماتي الأصلية".
إن الولادة المتعسرة لرقصة الشياطين باللغة الإنجليزية تؤكد أن الترجمة ليست علاقة ثنائية الاتجاه بل ثلاثية، باعتبار الناشر -الشخص الذي يتحمل المخاطر المالية- شريك ثالث.
أسست ديبورا سميث مؤسسةَ النشر "Tilted Axis" بجزء من الجائزة المالية التي فازت بها عندما استحقت جائزة مان بوكر الدولية لعام 2016 عن ترجمتها لرواية النباتية [10] للمؤلفة الكورية هان كانغ. أجرت سميث اقتطاعات كبيرة من رقصة الشياطين (على الرغم من التحقق منها في أكثر من أربعمائة صفحة). كان قرارها بإحضار مترجم شعر يتماشى مع تقليد عريق يعمل فيه الشاعر المذكور على الترجمة الحرفية بدلاً من الأصل.

هان كانغ والمترجمة ديبورا سميث.

تُعدُّ سميث في مكان أفضل من غيرها لفهم مطالب التغيير الثقافي: بصفتها مترجمة لثلاث روايات لهان، كان عليها أن تبحث في المنظومة الكورية من ناحية المعتقد الديني والعلاقات الأسرية والممارسات اللغوية. لقد تعلمتْ اللغة خصيصًا لترجمة الروايات، ووجدت نفسها في قلب العاصفة عندما شُكك في ترجمتها لـ النباتية من ناحية الدقة.
تقول:" أثار أحد الأكاديميين الكوريين المشهد الذي جعلت فيه الشخصية الرئيسة تغلق الباب بقدمها بدلاً من ذراعها. كان هناك سبعة وستين خطأ بالمناسبة. أود أن أقولها على العلن لئلا يفترض أحد عن طريق الخطأ أنه شيء أريد أن أخفيه".
لقد صُححت الأخطاء في الإصدارات اللاحقة، ولم تتزعزع ثقة هان كانغ في سميث.  
تعيش سميث حاليًا في كوريا الجنوبية، وتعمل على ترجمة رواية لمؤلفة كورية أخرى هي باي سواه، والتي من المقرر أن تنشرها مؤسسة جوناثان كيب العام المقبل. لا تخطط سميث بعد للتنوع بالخوض في لغات أخرى. "أحاول إيجاد طرق مختلفة لنشر عقيدة الترجمة متمثلة في: النشر والتدريس والمراقبة. والكتابة عن جميع جوانب الترجمة: الانسيابية بين اللغات، والمناقشات المحيطة بها، وجميع الأشخاص الذين يجعلون منها واقعًا".
دائمًا ما تكون الثقة على عكس الدقة مشكلة صعبة، كما يقول الروائي تيم باركس: "أظن يوجد عادة خطأ ضئيل في كل صفحة من كل كتاب، وفي بعض الأحيان يكون فاضح جدا".
وبصفته مؤلف ومترجم لديه خبرة في كلا الاتجاهين، يؤكد أن المترجمين غالبًا أفضل القراء. "لدي مترجمة هولندية تكتب لي باستمرار، وتخبرني عن الأخطاء التي ارتكبتُها في كتبي. يمكن أن يكون خطأ إملائيا أو عن الاستمرارية في النص، ودائما ما تكون على حق. يكون الأمر بين الفينة والأخرى محرجًا جدًا، لكن مثل هؤلاء الأشخاص يمنحونك الفرصة لتصحيح الطبعة التالية".
وكتب باركس ما يلي: "يجب أن يقوم المترجم بعمله ثم يختفي. يريد الكاتب العظيم المبتكر ذو الشخصية الجذابة أن يكون قلب الحدث في جميع أنحاء العالم. وآخر ما يمكن أن يتقبله أن غالبية قرائه لا يقرأون له حقًا. ويشعر قراؤه بالشيء نفسه. يريدون أن يكونوا على اتصال حميم بالعظمة الحقيقية. لا يريدون أن يعرفوا أن هذا النص النثري كُتب في منزل صغير في بريمن، أو في شقة شاهقة في ضواحي أوساكا".
يندرج المترجمون في مجموعتين مختلفتين، وصفهما الناقد جيمس وود من مجلة نيويوركر بـ "الأصليين" و "النشطاء": "المجموعة الأولى تهتم بجوهر النص الأصلي، وتسعى إلى نقله إلى اللغة المترجمة بأكبر قدر ممكن من الدقة؛ أما المجموعة الثانية أقل اهتمامًا بالدقة الحرفية، وأكثر اهتماما بالجرس الموسيقي المنقول للعمل الجديد. ويجب على كل مترجم أن يتبوأ مقعده في منطقة الوسط بينهما".
أو كما قالت الناقدة مارينا وارنر: "أينبغي للمترجم أن يستجيب مثل قيثارة هوائية، ويهتز في انسجام مع 
النص الأصلي لنقل الموسيقى الأصلية؟ أو ينبغي قراءة الترجمة كما لو كانت مكتوبة بلغة جديدة؟".

دي كيرانجال والمترجمة جيسيكا مور. 

يقول تايلور الذي وضعه أسلوبه في خلاف مع الكاتبة الفرنسية مايليز دي كيرانجال: "من الواضح أن هذا تبسيط، لكني أتصور أنني سأكون أقربَ إلى الجانب النشط".
كان عنوان روايتها الفرنسية Réparer les Vivants، وعَنْوَنَ تايلور ترجمته بالقلب The Heart، في حين اختارت الشاعرة والمترجمة الكندية جيسيكا مور عنوانًا أكثر حرفية لهذه القصة
 "Mend the Living". تدور القصة عن يوم في حياة قلب متبرع به يُنقل من شخص لآخر. انتدب المحررون الترجمتين في وقت واحد في بريطانيا والولايات المتحدة، وفازت كلتاهما بجائزة. حصدت (Mend the Living) جائزة Wellcome، وفازت The Heart بجائزة المؤسسة الفرنسية الأمريكية. ولكن دي كيرانجال قررت أن مور أكثر إخلاصًا لكتابتها، ولذا ستعهد إليها بترجمة كل رواياتها المستقبلية.
تقول مور: "إنه لأمر مدهش أن ترى الخيارات التي اُتخذت في كل قالب. على سبيل المثال الجملة الافتتاحية بدت لي مختلفة تمامًا في النسختين".
 حتى لقب الفتى الميت كان مختلفًا، والأمر المثير للاهتمام أن تايلور أبقاه ليمبر كما في نص دي كيرانجال، في حين اختارت مور أن تسميه ليمبو.

كلود لانزمان والمترجم فرانك وين.

وفقًا للمترجم المشغول فرانك وين، غالبًا ما تنشأ المشاكل عندما يظن المؤلف أنه يتقن اللغة الإنجليزية (لغة المترجم) بشكل أفضل مما هو عليه في الواقع. كانت أحد أسوأ تجاربه مع المخرج السينمائي الفرنسي كلود لانزمان الذي "تدخّل بشكل هائل" في ترجمة فرانك لمذكراته الأرنب الباتوغوني[11] 2012.
يقول فرانك: "لقد استبعد الترجمة الإيطالية الأصلية، وأعاد العمل عليها سطرًا بسطر. وأصر على استخدام عبارة "عقد أسدي" ليعني العقد الذي يحصل فيه شخص على نصيب الأسد. لم ألتق به في النهاية، وقد كان سيكون من المفيد لو أنني فعلت، لعل ذلك كان سيعطيه شعورًا أكبر بالثقة".
وين مترجم من اللغتين الفرنسية والإسبانية، كان لديه روايات باللغتين على القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر الدولية العام الماضي ويقيم حاليًا في المكسيك. تميل علاقته مع المؤلفين لأن تكون عملية. "البعض لا يرد على الإطلاق. المشكلة هي أنه كلما كان الكاتب أكثر نجاحًا، زاد عدد اللغات المتاحة". أحد المؤلفين الأكثر مبيعًا الذين ترجم لهم، روائي الجريمة الفرنسي بيير لوميتر، يتعامل مع المشكلة من خلال 
جمع الأسئلة من جميع المترجمين الذين يتراوح عددهم بين 35 و 40 في ورقة مستديرة مشتركة.

هاروكي موراكامي والمترجم جاي روبن.

يقول جاي روبن، أحد المترجمين الأربعة الذين حولوا رواية يوميات طائر الزنبرك[12] للروائي الياباني هاروكي موراكامي إلى نجمة في سماء اللغة الإنجليزية أنه تعلّم في وقت مبكر أن يراسل بحذر: "أسوأ ما فعلته مع رواية طائر الزنبرك عندما التقيت بهاروكي في طوكيو، أنني كدتُ أفقده صوابه يومًا كاملًا، وأنا أطرح عليه الأسئلة واحدًا تلو الآخر. ليس من اللطيف فعل ذلك مع مؤلف".
شارك روبن في ترجمة كتاب ذكريات طائر الزنبرك مع فيليب غابرييل، لأن الكتاب امتد إلى ثلاثة أجزاء، وهزمه هذا الحجم الكبير. هل تعاونا؟ "كان أكبر خلاف بيننا بشأن استخدام كلمة الحمّام Bathroom أو غرفة المرحاض Lavatory". (وحسم موراكامي الأمر باختيار كلمة الحمّام).
 لكنه يقول: "كنا جميعًا ملتزمين بنبرة وأسلوب موراكامي، ويعود الفضل في ذلك إلى بساطة أسلوبه وصوته الثابت جدًا. لا تتعدد الطرق عندما تريد أن تقول ببساطة "كان يوم الأحد يومًا صافيًا وجميلًا".
إذا كان هذا يبدو ذمًا مغلفًا بمدح، فقد أعاد موراكامي المجاملة عندما كتب مقدمة لمجموعة مختارات جديدة من القصص اليابانية القصيرة التي لاقت استحسانًا، والتي حررها روبن ثم ترجمها بنفسه.
كتب الروائي عنها: "يمكن وصف بعض [القصص] بأنها أعمال "تمثيلية"، ولكن بصراحة القصص التي ليست كذلك قد فاقتها عددًا". كيف شعر روبن حيال ذلك؟ يقول: "ضحكت عندما قرأت كلمة "بصراحة"، 
لكن هذه وجهة نظر موراكامي الصريحة للكتاب".

إيلينا فيرانتي والمترجمة آن غولدستاين.

أما فيما يتعلق بالمترجمة آن غولدستاين؛ مترجمة أعمال النجمة الأكثر حداثة إيلينا فيرانتي، فلم يكن هناك مجال للأخذ والرد. لم تكن على اتصال مباشر بالمؤلفة التي تظل هويتها الحقيقية سرًا في طي الكتمان. اختيرت آن لتقديم عينة من ترجمة لرواية فيرانتي السابقة، وتراسلت معها عن طريق البريد الإلكتروني عبر المؤسسة الناشرة لها. ومع أن الروايات لم تكن مكتوبة باللهجة النابولية، إلا إن سيناريو الحوار في الإذاعة المرئية لتلفزيون HBO -الذي كتبته فيرانتي جزئيًا- كان بالنابولية.
تقول غولدستاين: "لقد كان عملي أن أترجمها حتى تتمكن قناة HBO من قراءتها". 

دومينيكو ستارنون والمترجمة جومبا لاهيري.

ما أصعب النابولية حتى وإن كان الشخص غارقًا في اللغة الإيطالية. هذا ما اتضح للمؤلفة جومبا لاهيري عندما أخذت روايتين لمؤلف من كتّاب جنوب إيطاليا (دومينيكو ستارنون).
 انتقلت لاهيري من الولايات المتحدة إلى روما، وكرست نفسها للكتابة بلغة البلد المضيف. وقد أحرزت في ذلك تقدمًا في كتابها الرائع، ثنائي اللغة "بعبارة أخرى[13]".
لم يؤهلها الانغماس في اللغة الإيطالية النموذجية لفهم بعض من لغة ستارنون.
"كنت أخمّن معنى بعض لهجته. أما بعض المصطلحات الأخرى المرتبطة بالعنف والفحش، فقد ترجمها إلى الإيطالية بأدب ستارنون نفسه".
علاقة العمل بين لاهيري وستارنون علاقة حوار ثقافي عميق عابر للحدود، وقد حمل تعاونهما الأخير في كتاب الخدعة [14] ​​شيئًا من تأثير كافكا وهنري جيمس. في حفل تدشين الكتاب في لندن العام الماضي، سأل أحد المعجبين وهو يشعر بالرهبة عما إذا كان من الضروري معرفة المزيد.
أجابت لاهيري: "لا على الإطلاق، سيرى معظم القراء أنها مجرد قصة لجدٍ تقع على عاتقه مسؤولية الاهتمام بحفيده البالغ من العمر أربع سنوات".

سيترجم ستارنون الآن مقدمة لاهيري الإنجليزية للنسخة الإيطالية من كتابها الجديد Penguin Book of Italian Short Story. لكنها تخوض التحدي الأكبر بنفسها لتترجم روايتها الأولى المكتوبة باللغة الإيطالية إلى الإنجليزية.
الجدير بالذكر أن روايتها الإيطالية Dove mi trovo قد نُشرت بعدة لغات أخرى.
وتقول: "إن فكرة ابتكار العمل باللغة الإيطالية، دون الإنجليزية مثيرة للاهتمام. المشكلة هي: كيف أعيد نفسي إلى نفسي؟ ذهنيًا يجب أن أذهب إلى مكان أكون فيه شخصين معًا".
هل ترجمة المؤلف الذاتية لعمله تخلق علاقة أكثر حميمية بين المؤلف والمترجم؟ ربما تكون الإجابة لا. إذ يقول ما جيان: "في اللغة الصينية  توصف رفيقة الروح بـ zhiyin، ومعناها شخص يفهم موسيقاك، وهذا ما تعنيه لي فلورا".

  • كلير أرميستيد: محررة مساعدة، في عمود الثقافة لصحيفة الغارديان. تطرح موضوعات كتب الغارديان الأسبوعية وتعمل معلقة في الإذاعة، وفي الأحداث المباشرة في جميع أنحاء المملكة المتحدة وعالميًا.
  • ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.


[1]  Flights
[3]  الأنجلوسفير: مجموعة من الدول الناطقة باللغة الإنجليزية والمتشابهة في تراثها الثقافي.
[4]  China Dream
[5]  Four Soldiers
[6]  Lullaby
[7]  Adèle
[8]  Soumission
[9]  The Devils’ Dance
[10]   The Vegetarian
[11]  The Patagonian Hare
[12]   The Wind-Up Bird Chronicle
[13]  In Other Words
[14]  Trick

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب