المشاركات الشائعة

السبت، 31 أغسطس 2019

اسأل الغبار - جون فانتي.



(ملحمة آرتورو بانديني) 

الرواية الثالثة من رباعية الكاتب الأمريكي-الإيطالي جون فانتي، والتي نُشرت سنة ١٩٣٩، هذه الرواية التي أعادها إلى الأضواء الكاتب تشارلز بوكوفسكي، بعد أن وجدها في رفوف إحدى المكتبات التي كان يرتادها، وتعتبر رواية اسأل الغبار، أشهر روايات جون فانتي، وواحدة من روايات الأدب الكلاسيكي الأمريكي. 

قصة الرواية: 
هذه الرواية هي سيرة كاتب، بكل انتصاراتها وهزائمها، بإيجابيتها وسلبياتها، وبظفر الكاتب لما يريد وخيبته، بفشله ونجاحه.
 - وهي إكمال لما بدأه فانتي في روايتيه السابقتين ومكمّلة بصورة أكبر لحياة آرتورو بانديني الذي كان يحلم أن يُصبح كاتبا مشهورًا، آرتورو بانديني بعد أن يصل إلى لوس أنجلوس وفي أحيائها يعيش -بنكبر هيل- وينشر أولى قصصه، ويبقى مستمرًا في حلمه أن يُزاحم اسمه أسماء الروائيين الكبار، ويقع آرتورو في شراك حب النادلة ذات الأصول المكسيكية كاميلا، وتبدأ حياته على المستويين الداخلي والخارجي بالدخول بمطبّات متنوعة تعود بالإيجاب والسلب عليه. 

المستوى الداخلي لآرتورو بانديني:

لم تختلف شخصية آرتورو كثيرا عن ما صوّره جون فانتي في الرواية السابقة (الطريق إلى لوس أنجلوس)، لكن يبدو آرتورو الآن أكثر استقرارا دينيا، فهو يؤدي بين الحين والآخر صلاته ويدعو من أجل نجاح أعماله. ولا يزال بشخصيته الحالمة، وتتطور أكثر بعد أن ينشر قصته الأخرى ويجني منها بعض المال الذي يُساعده على تكاليف الحياة، يبقى هاجس الكتابة يرافقه، يكتب أحيانا ليمزق ما كتب، ويقتنع أحيانا بما يُنتج، يستمر هذا الصراع الداخلي، أما من ناحية المشاعر والحب، فحظ آرتورو يقوده إلى كاميلا، لكنه ليس حظًا جيدًا بالمرة، فكاميلا هذه، لم تُبادله بإي مشاعرٍ للحب أو العاطفة، لكنه يستمر في مطبّات التقدم والتراجع معها، يُساعدها بالمال ويخرج معها، لكن لا يصل إلى ما يزرع في روحه وقلبه الثبات العاطفي، فتسخر وتنتقص منه، لكنه يبقى مستمرًا في سعيه من أجلها حتى النهاية، تبدو في شخصية آرتورو بعض الشيء سذاجة ناجمة من طيبة قلب، ومشاعر الخير، فهو بعيد كل البعد عن صفات الشر، إنسان يُحسن للآخرين حتى يبدو أنه لا يفهم ذاته. 

المستوى الخارجي لحياة آرتورو بانديني: 

على الرغم من كونه في أول الطريق ولم ينشر إلا قصة واحدة، فهو لم يتخلَ عن الشخصية والدور الذي حلم به منذ أن كان قارئًا يافعا معجبا بالفلسفة الإلمانية، فهو كاتب وما يربطه بالآخر هو رابط (كاتب - قارئ) يعيش في ظل الكاتب الذي أصبحه أو ما يعتقد أنه أصبحه، في الفندق أو المقهى أو في حديثه إلى الغرباء، يسعى دائما لإبراز هويته الروائية  لتكون أساس تحديد مقامه وقاعدة الإنطلاق التي يُعرّف بها نفسه الكاتب آرتورو بانديني، تبقى قصته الأولى -ضحك الجرو- التي نشرها ذات تأثير فيه، فهو لا يتنازل عن دورها الأساسي في حياته الأدبية. أما عاطفته، فقد سيّطرت عليه في كثير من المواقف، فينقاد لها بخضوع تام في علاقته مع كاميلا فيتصرف بحماقة، لكنه سُرعان ما يثب إلى رشده، مُصححا ما اقترفه من أخطاء.

مؤمن الوزان.

جولة على زلاجة الجليد – بقلم ليو تولستوي.


قصة قصيرة مقتطعة من رواية الحرب والسلم ترجمها إلى الإنجليزية لويس وأليمر.

-هل سبق أن حدث لك هذا؟
سألت ناتاشا أخاها عندما استقر بهما المقام في غرفة الجلوس.
-هل سبق أن شعرت كما لو أنه ليس ثمة شيء مُقبل... لا شيء؛ وأن كل ما هو جيد كان ماضيا وانقضى؟ أن تشعر بأنك لست ضجِرًا، ولكنك في الوقت نفسه حزين؟
أجاب: أعتقد ذلك! شعرت بذلك عندما كان كل شيء على ما يرام، وكان الجميع مبتهجين. لقد جالت بذهني فكرة أنني سئمت من كل هذا، وأنه يجب علينا أن نموت جميعًا. عندما انضممتُ للجيش، لم أكن ألهو حين تصدح الموسيقى. . . كان ينتابني فجأة شعور بالاكتئاب الشديد...
قاطعته ناتاشا: آهـ نعم، أعرف هذا، أعرف، أعرف! عندما كنت صغيرة، كان يحدث معي ذلك.
ثم قالت: هل تذكر عندما عوقبتُ مرة بسبب الخوخ، كنتم ترقصون جميعًا، وكنت في الفصل وحيدة أبكي؟ لن أنسى ذلك أبدًا؛ شعرتُ بالحزن والأسى على الجميع، كنت أرثيكم وأرثي نفسي. لم أكن مذنبة وكان هذا مربط الفرس، هل تذكر؟
أجاب نيقولا: أذكر، وأتذكر أنني أتيتُ إليكِ بعد ذلك وأردت أن أخفف عنكِ، كنت أشعر بالخجل. كنا سخيفين بشكل فظيع. كان لدي دمية مضحكة وأردت أن أقدمها لكِ. هل تذكرين؟
بابتسامة غارقة في التأمل سألت ناتاشا: هل تذكر مرة -منذ زمن بعيد- عندما كنا صغارًا، نادانا العم إلى مكتبه -في المنزل القديم وكان حالك الظلام- وعندما دخلنا، فجأة ظهر هناك...
-زنجي.
 رن صوت نيقولا وهو يبتسم بسرور: بالطبع أتذكر. ولا أعرف حتى الآن ما إذا كان زنجيًا حقًا، أو أننا كنا نحلم أو أن أحدهم حدّثنا عنه.
-كان أشهبَ، تذكر؟... أسنانه بيضاء، وقف ونظر إلينا...
سأل نيقولا: صونيا، هل تذكرين؟
أجابت صونيا بخجل: نعم، نعم أتذكر شيئًا من هذا...
قالت ناتاشا: أتعلم لقد سألت أبي وأمي عن ذلك الزنجي، وقالا إنه لم يكن هناك أي زنجي على الإطلاق. ولكن أنت تتذكر!
- بالطبع أذكر، أتذكر أسنانه كما لو أنني قد رأيتها للتو.
- يا للغرابة! كما لو أنه كان حلمًا! لكن يروقني ذلك.
-وهل تذكرين كيف دحرجنا البيض المسلوق في قاعة الرقص، وفجأة تعرقلت امرأتان كبيرتان وبدأتا الدوران على السجاد؟ أكان ذلك واقعًا؟ هل تذكرين كم كان ذلك مسليًا؟
-أجل ، وأنت أتتذكر كيف أطلق بابا النار وهو في معطفه الأزرق من بندقية في الشرفة؟
وهكذا كانوا يسترجعون ذكرياتهم، مبتسمين بسرور، ليست تلك الذكريات القديمة الحزينة، بل تلك الذكريات الشاعرية النضرة -انطباعاتهم عن الماضي البعيد الذي تختلط فيه الأحلام بالحقائق– كانوا يضحكون في جو من الألفة والسعادة.
أما صونيا -كما جرت العادة- لم تكن تجاريهما تمامًا مع أنها تشاركهما الذكريات نفسها. نسيت الكثير مما ذكراه، وما تذكره لم يثر في نفسها ذات الإحساس الشاعري الذي يشعران به. كانت تستمتع بحماسهما وابتهاجهما محاولةً الانسجام معهما.
 لم تشارك في الحديث إلا عندما ذكرا وصولها أول مرة إلى المنزل. أخبرتهما عن مدى خوفها من نيقولا حينئذ، لأنه كان يرتدي سترة مشدودة بخيوط الخرج، وقد روّعتها وصيفتها عندما قالت لها أنهم سيشدون وثاقها بالخيوط هكذا.
قالت ناتاشا: أتذكر أنهم أخبروني أنك قد ولدتِ تحت نبتة ملفوف، وأتذكر أنني لم أجرؤ على عدم تصديق ذلك، لكنني كنتُ أعرف أن هذا غير صحيح، شعرتُ بعدم الارتياح حياله.
بينما كانوا يتحدثون، دسّت الخادمة رأسها من الباب الآخر لغرفة الجلوس، وقالت في همس: لقد أَحْضَرُوا الديك، آنستي.
ردت ناتاشا: غير مرغوب فيه… بيتيا، أخبرهم أن يأخذوه بعيدًا.
أثناء حديثهم في غرفة الجلوس دخل ديملر واتجه إلى مكان الهارب [1] الموضوع في الزاوية. أزال عنه غطاءه القماشي فصدر عنه صوت نافر.
جاء صوت الكونتيسة من صالة الاستقبال: سيد ديملر. اعزف رجاء مقطوعتي الموسيقية المفضلة لجون فيلد[2].
ضرب ديملر على الوتر مستديرًا باتجاه ناتاشا ونيقولا وصونيا، وقال: ما أشد هدوءكم يا شباب.
- نعم، نحن نفكر على طريقة الفلاسفة.
علّقت ناتاشا بعد أن ألقت عليه نظرة عابرة للحظة، ثم تابعت الحوار الذي أصبح يدور عن الأحلام الآن.
بدأ ديملر العزف، ومشت ناتاشا على رؤوس أصابعها بلا ضجة إلى الطاولة لتأخذ شمعة. حملتها وعادت لتجلس بهدوء في مكان جلوسها السابق. كان الظلام سائدًا في الغرفة لاسيما حيث كانوا يجلسون على الأريكة، ولكن الضوء الفضي للبدر المكتمل في الخارج  كان يتسلل من خلال النوافذ الكبيرة ساقطًا على الأرض. انتهى ديملر من عزف المقطوعة لكنه ظل يداعب الأوتار بأصابعه بخفة، بدا مترددًا حول ما إذا كان يجب أن يتوقف أو يعزف شيئًا آخر.
اقتربت ناتاشا من نيقولا وصونيا وقالت في همس: هل تعلمان عندما يستمر المرء في استرجاع الذكريات بهذه الطريقة، يبدأ في نهاية المطاف بالتفكير فيما حدث قبل وجوده في العالم...
قالت صونيا التي تتعلم جيدًا وتتذكر ما تتعلمه: هذا ما يسمى بتناسخ الأرواح، اعتقد المصريون القدماء أن أرواحنا كانت تسكن الحيوانات، وسوف تعود إليها مرة أخرى.
-لا ، لا أعتقد أننا سكنّا أجساد الحيوانات في الماضي. قالت ناتاشا هامسة مع أن الموسيقى قد توقفت. وتابعت: لكنني على يقين بأننا كنا ملائكة في مكان ما، وكان لنا وجود هنا، ولهذا السبب نذكر...
استأذن ديملر الذي دنا منهم بهدوء، وجلس إلى جوارهم: هل لي أن أنضم إليكم؟
قال نيقولا: إذا كنا ملائكة ، فلماذا هبطنا لأسفل؟... لا ، هذا غير ممكن!
 استأنفت ناتاشا بقناعة: لأسفل؟ من قال أننا هبطنا لأسفل؟ الروح سرمدية، إذن إذا كنتُ أعيش دائمًا، ينبغي أن أكون موجودة من قبل، أي أنني عشتُ منذ الأزل.
-نعم ، ولكن من الصعب أن نتخيل الحياة السرمدية. هذا ما قاله ديملر الذي انضم إلى الشباب بابتسامة متعالية رقيقة ولكنه كان يتحدث مصطنعًا الهدوء والجد مثلهم.
سألت ناتاشا: لماذا يصعب تخيل الأبدية؟ آن أوان اليوم، وبعد اليوم هناك غد؛ وقبله هناك أمس وما قبل أمس وهكذا دواليك...
سمعوا صوت الكونتيسة:  ناتاشا! حان دوركِ الآن لتغنّي لنا شيئًا... لماذا تجلسون هناك كأنكم تتآمرون؟
أجابت ناتاشا: ماما، لا رغبة لدي للغناء.
 ومع ذلك وقفت. لم يرغب أي منهم -ولا حتى ديملر الرجل الكهل - في قطع حوارهم والابتعاد عن هذا الركن من غرفة الجلوس، ولكن ناتاشا نهضت، وجلس نيقولا في مقعده على البيانو.
وقفت ناتاشا كالمعتاد في وسط القاعة وقد اختارت أفضل بقعة للصدى، ثم بدأت تغني أغنية والدتها المفضلة. قالت إنها لا تريد الغناء، لكن مر وقت طويل مذ غنّت آخر مرة، ولم تكن لتغني أفضل من تلك الأمسيّة. كان الكونت في مكتبه يتحدث إلى ميتنكا عندما سمعها، ومثل تلميذ في عجلة من أمره يريد أن يفر للّعب، تخبط في حديثه أثناء إعطاء أوامره إلى المشرف على أعماله، وفي النهاية صمت منصتًا، في حين كان ميتنكا واقفًا أمامه يصغي ويبتسم.
لم يرفع نيقولا بصره عن أخته؛ كان يأخذ أنفاسه متماشيًا معها. كانت صونيا تفكر أثناء استماعها في الاختلاف الهائل الذي بينها وبين صديقتها، واستحالة أن تتمتع بشيء من سحر ابنة عمها. جلست الكونتيسة القديرة بابتسامة يخالطها الفرح والحزن والدموع في عينيها، وهي تهز رأسها بين الفينة والفينة. كانت تفكر في ناتاشا وشبابها، وذاك الشيء غير الطبيعي والمثير للتوجس في زواج ناتاشا الوشيك بالأمير أندرو.
كان ديملر الجالس بجانب الكونتيسة ، يستمع مغمض العينين.
وقال أخيرًا: آ... كونتيسة إنها موهبة أوربية، لا ينقصها ما تتعلمه – أي رقة وحنان وقوة هذه...
-آه كم أخشى عليها، كم أخشى عليها!
 رددت الكونتيسة ذلك دون أن تلقي بالًا مع من تتحدث. أنبأتها غريزة الأم أن لدى ناتاشا الكثير من كل شيء، ولهذا السبب بالذات لن تكون سعيدة. قبل أن تنهي ناتاشا الغناء، هرع بيتيا بحماس فتى يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا وقال مبتهجًا: وصل المتنكرون. 
توقفت ناتاشا عن الغناة على حين غرة، وصرخت في وجه أخيها: أبله.
ثم ألقت بنفسها على كرسي، تبكي ناشجة نشيجًا بلغ من قوته أنها لم تستطع التوقف إلا بعد مدة.
-لا شيء ماما، صدقًا لا شيء.  قالت وهي تحاول أن تبتسم: إنه بيتيا، لقد أخافني.
وما زالت دموعها  تتدفق والعبرات تخنقها.
كان المتنكرون (العاملون في المنزل) يرتدون ملابس الدببة والأتراك والمربيات والسيدات – بهيئة  مضحكة ومخيفة – قد جلبوا برد الخارج وإحساس البهجة معهم. اكتظت بهم الردهة وهم يقفون خجلين في بادئ الأمر، ثم حجب بعضهم بعضًا وهم يدخلون قاعة الرقص بشيء من الخجل، ثم شيئًا فشيئًا اعتراهم الحماس والمرح، بدأوا الغناء والرقص والشروع في ألعاب عيد الميلاد. عندما عرفتهم الكونتيسة،  ضحكت على هيئتهم ثم ذهبت إلى صالة الاستقبال. في حين جلس الكونت في القاعة، مبتسمًا يشع حماسًا وإشادة باللاعبين. أما الشباب فقد اختفوا.
بعد نصف ساعة، ظهر بين المتنكرين الآخرين في قاعة الرقص سيدة مسنة ترتدي تنورة، كان ذلك نيقولا. وفتاة تركية وكان ذلك بيتيا. أما المهرج فديملر. والفارس الخيّال ناتاشا، والشركسي صونيا بشارب وحواجب لاصقة مخصصة للتنكر.
بدهشة مصطنعة استقبلهم غير المتنكرين، وتظاهروا بأنهم لم يعرفوهم  وأثنوا عليهم، وقرر الشباب أن مثل هذه الملابس من الدقة بمكان بحيث تستحق أن يظهروا بها في مكان آخر.
أراد نيقولا أن يأخذهم جميعًا بمركبته (الترويكا)[3] بما أن الطرق في حالة سالكة رائعة، واقترح أن يأخذوا معهم نحو اثني عشر من المتنكرين إلى "بيت العم".
قالت الكونتيسة: لا، لماذا تزعجون الرجل المُسن؟ كما أنكم لن تجدوا مكانًا يسعكم جميعًا للاستدارة هناك. إذا كنتم ولا بد ذاهبون، فاذهبوا إلى آل ميليوكوف.
كانت السيدة ميليوكوف أرملة تعيش مع أبنائها ومعلميهم والمربيات على بعد ثلاثة أميال من آل روستوف.
-معكِ حق يا عزيزتي. تكلم الكونت ونهض: سألبس أيضًا وأذهب معهم. سأعرف كيف أنفس عن باشيت.
لكن الكونتيسة لم توافق على ذهابه؛ لإصابة سيئة في ساقه كان يعاني منها منذ أيام. وتقرر عدم ذهاب الكونت. وسُمح للسيدات الشابات أن يذهبن بشرط أن تذهب لويز إيفانوفنا (مدام شوس) معهم. وبذلك كانت صونيا تترجى لويز إيفانوفنا بشيء من التردد والخجل وبكثير من الإلحاح لئلا ترفض.
كان لباس صونيا أفضلهم على الإطلاق، ولشاربها وحاجبيها المستعارين جاذبية غير عادية. أخبرها الجميع بأنها تبدو في غاية الوسامة، لذا كانت مفعمة بالحيوية والنشاط، في مزاج رائق على غير العادة. ثمة صوت في داخلها يقول إما أن يتحدد مصيرها اليوم وإلا فلا، وقد بدت في ردائها الرجالي شخصية مختلفة تمامًا. وافقت لويزا إيفانوفنا على مرافقتهم. وخلال نصف ساعة انتظمت أربع زلاجات ترويكا ذات أجراس وجلاجل كبيرة وصغيرة أمام المدخل، يصدر عن مزالقها صرير وصفير فوق الجليد.
كانت ناتاشا أول من ترنّم بنغمة عيد الميلاد، التي أخذت تصدح من أحدهم إلى الآخر، ووصلت إلى ذروتها عندما خرجوا جميعًا إلى الصقيع وصعدوا إلى الزلاجات، وهم يتكلمون ينادي بعضهم بعضًا، يضحكون ويهتفون.
كانت اثنتان من زلاجات الترويكا مخصصتين لاستخدامات الأسرة المعتادة، والثالثة تخص الكونت يتوسط جواديها جواد من فصيلة الأورلوف الروسية، والرابعة لنيقولا بجواد قصير، أدهم، أسود اللون.
وقف نيقولا في منتصف الزلاجة بلباس السيدة العجوز الذي يرتديه فوق معطف الفارس المشدود من وسطه بحزام، قابضًا عنان الفرس بيديه.
كان القمر منيرًا جدًا، رأى نيقولا انعكاس ضوئه على صفائح عدة الفرس المعدنية وعيون الخيول، التي كانت تنظر في اتجاهه متأهبة إثر سماعها الحفلة الصاخبة تحت سقف المدخل.

صعدت ناتاشا وصونيا ومدام شوس وخادمتان على زلاجة نيقولا؛ أما ديملر وزوجته وبيتيا فاتخذوا لهم مقاعد في زلاجة الكونت، في حين جلس من تبقى من المتنكرين في الزلاجتين الأخريين.
-امضِ قدمًا يا زاخار. صاح نيقولا بسائس الزلاجة الخاصة بوالده، طامعًا بفرصة لسباقه وتجاوزه.
بدأت ترويكا الكونت التي تحمل ديملر وحزبه تتقدم، ومزالقها تصدر على الجليد صريرًا، وجرسها الجهير يجلجل.
شد الجوادان على الجانبين بدنهما تحت وطأة المقابض المعدن التي تربطهما بالجواد الأوسط، وأخذت الجياد تتوغل في الثلج الجاف البراق كسكر، تثير به نقعًا كالتراب.
انطلق نيقولا خلف الزلاجة الأولى؛ ومن خلفه تحركت الزلاجتان ببطء ، تصدر مزالقها الصخب والصرير. في أول الأمر ساروا بسرعة ثابتة على طول الطريق الضيق. حين كانوا يجتازون الحديقة، كانت ظلال الأشجار العارية تسقط على الطريق حاجبة ضوء القمر الساطع، ولكن بمجرد أن تجاوزوا السور، غمر ضوء القمر البساط الثلجي وانتشر بلا حراك في ألقِ كألماس يرشق الظلال المزرقة. أصدرت الزلاجة الأولى قرقعة إثر عبورها فوق حفرة جليدية في الطريق، وأحدثت الزلاجات الأخرى الجلبة ذاتها، لتكسر بفظاظة هذا السكون الذي أخرسه الصقيع، بدأت عربات الترويكا بالتسارع على طول الطريق، واحدة تلو الأخرى.
علا صوت ناتاشا عبر الهواء البارد: انظروا آثار أرانب...هناك الكثير منها!
جاء صوت صونيا: ما أبهى الضياء يا نيقولا.
ألقى نيقولا نظرة باتجاه صونيا، منحنيًا ليرى وجهها عن كثب. وجهها الفتّان في ضوء القمر بحلته الجديدة ذي الحاجبين الأسودين والشارب المنبثق من فراء السمور؛ على قربها منه كانت جد بعيدة.
’أهذه صونيا التي أعرف؟‘  فكر في نفسه وهو ينظر إليها عن قرب مبتسمًا.
سألته: ماذا هناك يا نيقولا؟
أجابها ملتفتًا إلى الخيل: لا شيء.
عندما خرجوا إلى الطريق العام الذي صقلته مزالق العربات؛ الموسوم بالحوافر الصلبة التي بدت آثارها جلية تحت ضوء القمر - أخذت الخيول تشد أعنّتها وتزيد من سرعتها من تلقاء نفسها. ثبّت الحصان الجانبي رأسه وشرع يخب خببًا يسيرًا. تلفت الحصان الأوسط من جانب إلى آخر محركًا أذنيه كما لو أنه يتساءل: ’ألم يحن الوقت للبدء الآن؟‘.
 في الصدارة أمامهم كان جرس الزلاجة المجلجل يرن مبتعدًا، ويمكن رؤية الخيول السوداء التي يقودها زاخار على الثلج الأبيض. من تلك الزلاجة كانت تعلو صيحات المتنكرين وضحكاتهم وأصواتهم.
هتف نيقولا وهو يشد أعنة الفرس إلى جانب بإحدى يديه ويرفع السوط بالأخرى: هيا انطلقوا يا أعزائي!
الناظر لصفعات الريح الهائلة التي انهالت عليهم، والهزات الصادرة عن الخيول -التي باتت تجر الزلاجة بسرعة أكبر، وتزيد من عدوها أكثر- سيظن أن تلك الزلاجة صارت تحلّق. نظر نيقولا إلى الوراء. بشيء من الصراخ  والصرير والتلويح بالسياط باتت الزلاجات الأخرى تتبعهم الآن. وما زال جواده يعدو بلا هوادة دون تراخٍ وكله استعداد لزيادة سرعته أكثر إن تطلب الأمر.
لحق نيقولا بالزلاجة الأولى؛ كانوا يهبطون على منحدر، سالكين مسارًا واسعًا عبر المروج بمحاذاة نهر.
تساءل نيقولا في صمت: ’أين نحن؟‘ أعتقد أنها مروج كوسوي. لكن لا، هذا مكان جديد لم أره من قبل. هذه ليست مروج كوسوي ولا هذا نهر داميان، الرب وحده يعلم! إنه مكان جديد واقع تحت تأثير سحر ما. حسنا، ليكن ما يكون. حث خيله على الإسراع أكثر، وبدأ في تجاوز الزلاجة الأولى.
كبح زاخار لجام خيله والتفت إلى الوراء، ليظهر وجهه المكسو بالصقيع حتى حاجبيه.
أطلق نيقولا العنان لخيله، ومد زاخار ذراعيه مقرقرًا بلسانه وأطلق خيله، ثم صاح: انتبه يا سيدي.
بسرعة ثابتة كانت الزلاجتان تنطلقان جنباً إلى جنب، وتسارع قرع حوافر الخيول التي تعفر الثلج تحتها. اندفع نيقولا إلى الأمام متقدمًا زاخار الذي ما زال يمد ذراعيه، وقد رفع عنان الفرس بإحدى يديه وهو يصيح: لا، لن تهزمني يا مولاي.
زاد نيقولا من سرعة خيله وتجاوز زاخار. عفرت الخيول الثلج الجاف الناعم على وجوه أولئك الموجودين في الزلاجة - وبجانبهم بدت الأجراس تصدر رنينًا سريعًا ولمحوا لمحات للأقدام المتحركة بسرعة وظلال الترويكا التي مروا بها. علا صوت صفير المزالق على الجليد وصرخات الفتيات الحادة تأتي من أنحاء مختلفة.
تأمل نيقولا خيله مرة أخرى، ونظر فيما حوله. ما زالوا محاطين بالأرض السحرية المغمورة بضوء القمر وتلألؤ النجوم.
تساءل نيقولا: كان زاخار يقول أنه ينبغي علي الانعطاف إلى اليسار، لكن لماذا إلى اليسار؟ هل يوصلنا ذلك الطريق إلى آل ميليوكوف؟ هل وصلنا؟ الرب وحده يعلم إلى أين نمضي، وحده يعلم ما حدث لنا – أيًّا يكن إنه لأمر غريب وممتع.
التفت إلى الوراء باتجاه الزلاجة. سمع صوت غريب، وجميل غير مألوف من ذي الحاجبين والشاربين الرفيعين: انظروا، لقد ابيضَّ شارباه ورموشه!
-أعتقد أن هذه ناتاشا.
هكذا حدث نيقولا نفسه: ولعل تلك مدام شوس، أو ربما ليست هي، أما هذا الشركسي ذو الشارب الأسود لم أعرفه، لكني أحبه.
سألهم: ألا تشعرون بالبرد؟
لم يجبن ولكنهن بدأن بالضحك. صاح ديملر من الزلاجة التي في الخلف – ربما قال شيئًا مضحكًا - لكنهم لم يستطيعوا تمييز ما قاله.
-أجل ، أجل! تعالت الأصوات الضاحكة.
هنا غابة مسحورة بها ظلال سوداء تتحرك، وبريق من الألماس وسلم من الدرجات الرخامية وأسقف فضية لمبانٍ خيالية وصيحات حادة تصدر عن بعض الحيوانات.
 حدث نيقولا نفسه: إذا صح أن هذا مكان الميليوكوف حقًا، فعجبًا كيف وصلنا إلى هنا بعد جولتنا تلك التي لم يكن يعلم وجهتها غير الرب!
كانوا قد وصلوا إلى الميليوكوف حقًا، حيث هرع الخدم والخادمات إلى الشرفة بوجوه مبتهجة حاملين الشموع المضاءة.
سأل أحدهم: من هناك؟
ردت أصوات أخرى: إنهم متنكري الكونت إيليا روستوف، عرفتهم من خيولهم.


[1]  القيثارة
[2]  مؤلف موسيقي ايرلندي (1782- 1837).
[3]  مركبة روسية تجرها ثلاثة أحصنة، عادةً ما تكون زلاجة ركوب.

  •  ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

اعتراف تولستوي - إيمان العزوزي.

كتب تولستوي "اعترافه" بما تحمل الكلمة من بعد مسيحي قد يذكرنا باعتراف أوغستين، وهو رجل ناضج أو أكثر من ذلك قليلاً في عمر لم أصل له بعد وهذا ما يمنحني الأمل بأن رحلتي ربما تنتهي يوماً ما كرحلته من حيث القصد والنية طبعاً، إذن كتبها وقد تجاوز الخمسين بقليل.
كتب اعترافه متخففا من همِّ الكاتب بأن يمنح القارئ انطباعا جيدا أو فضولا مثيرا، ما سنقرأه في الاعتراف سيذهب بنا نحو القلق مباشرة مع شيء من المرارة، وهي مرارة نستشعر طعمها في الكتاب فالرجل يعري لنا نفسه وروحه وعقله تماما ويعرفنا على لمحات خافية من حياته حتى نجد أنفسنا نتساءل بعدها هل نعرف الناس فعلا؟
سنتعرف على اكتئابه الطويل الذي في تفاصيله أراه قريباً من ثنائي القطب، وسنقترب بشكل حميمي من أزماته الوجودية والأخلاقية دون مواربة أو خداع، وسنكتشف أن رجلا كتولستوي فكر مرارا في الانتحار بل منحه بعدا مفاهيميا مختلفا عما عهدناه، وفي كثير الأحيان كنت أشعر بسبابته توجه إلي وهو يقول لا تحاولي خداعي أنتِ أيضا، فتأملي... ثم سنبدأ في الاقتراب من رحلته من زاوية أكثر منهجية وأكثر تفصيلاً أو بالأحرى أكثر تربويةً قد تصل إلى البيداغوجية؛ فتولستوي واعٍ جداً بأنه لا يقدم نفسه وتجربته عبثا بل ليكون قدوة نعتمدها متى انطلقنا من الأسباب نفسها وسقطنا في نفس الأزمات وسعينا لنفس الأهداف.

إذن سننطلق في قراءة الكتاب واعين بعلاقة تولستوي، التي تعكس علاقاتنا نحن كذلك، بالحياة، والأخلاق، والآخرين، والوجود، والإيمان في صراعه مع العقل والعلم.

هناك بعض النقاط التي أرى ضرورة لذكرها قبل التطرق إلى موضوع الكتاب.

في اعتراف، كما قلت بما تحمله الكلمة من ثقل أدبيات المسيحية، سنقترب من تولستوي الفيلسوف وليس الروائي فلن نجد هنا جماليات نثرية بقدر ما سنجد أفكاراً تتبع منهجية معينة.
وأظن أن اعتراف يشكل مفتاحاً جوهرياً لقراءة أعمال تولستوي الأدبية، وإن كنت مقصرةً من هذه الناحية إلا أن ما قرأته لتولستوي لحد الساعة أشعر أنني فهمته الآن بشكل أعمق، ولعلي أذكر أمراً آخر بالمناسبة: من يهاجم تولستوي بناء على علاقته بزوجته عليه أن يقرأ هذا الكتاب. وإن لم تخني ذاكرتي فإن توماس مان يؤيد هذه الفرضية ويعتبر أن أعمال تولستوي الأدبية ليست سوى شذرات من يومياته العظيمة التي دأب على كتابتها وهو في سن الخمسين كاعتراف مفصل بلا نهاية.

وبالعودة إلى الكتاب، فأظن أن أكثر ما رافقني أثناء القراءة كان "المواجهة" و"القلق"، حيث رافقاني بصفتهما مفهومين شعرت بهما وأنا أقرأ اعتراف تولستوي الذي اعتمد فيه على ضمير المتكلم في مواجهته مع نفسه ثم مع الآخرين، وهي مواجهة قائمة على القلق كما سنعرف أكثر بعد قليل وكما ستؤكده مواجهته للآخرين.
الاعتراف لدى تولستوي لم ينتج عن حاجة عاطفية، كما لم يكن مؤسساتياً، أي وفاء بالتزام لمؤسسة الكنيسة أو حتى بدافع اعتقاد بتعاليم الكنيسة، كما أنه لم يكن بناء على حاجة ملحة للأجوبة من طرف شخص ما كما نجد مع غوتفريد فيلهلم ليبنتز وابنة دوق هانوفر، بل هو خلاصة لمخاض طويل من التجربة الذهنية والجسدية، أي بمعنى آخر من أزمة "أنا" إلى راحة مؤقتة "أعترف" وهذا ما أعنيه بالقلق، فهو كان بمثابة جسر بين الاثنين. لقد كان القلق محفزاً بصفته سبباً ونتيجة، بصفته سبباً للبحث وبصفته نتيجة لإدامة السبب فلا نعود لنقطة الصفر من جديد. هو قلق تبناه تولستوي في مواجهة العدمية المرفوضة كأسلوب حياة نيتشوي أو عبث كعبث كامو فتولستوي لا يريد لسيزيف أن يحمل صخرة ثقيلة قبل أن يدرك ثقلها.

وهذا القلق لا نجده في مواجهة مع العلم ومع العقل ومع الدين بل يواجه كذلك علاقة الفرد بكل ما سبق وبكل ما حوله، حيث يسعى تولستوي لتوضيح أن قيمة الفرد داخلية وليست خارجية فلا يشكلها دين أو مجتمع أو تاريخ بقدر ما تشكلها تجربته الذاتية في التأمل والتفاعل، ولذلك سندرك من خلال اعتراف تولستوي رغبته في أن يجعل من التفكير الفلسفي أسلوب حياة للفرد، وهذا يقودنا لفكرة أخرى يحاول تولستوي أن يربينا عليها وهي أن معرفة الذات ليست نشاطاً موسمياً بل عملا يوميا مستمرا.

يبدأ تولستوي الاعتراف بفقدان بطيء للإيمان، لقد تربى على ذلك الدين وفي طفولته بدأ القلق تجاه ما يقوله الكبار ويزداد القلق مع تقدمه في السن، لينتقل القلق الى أمر آخر وهو سعيه للشهرة والنجاح وسط كوكبة من الكتّاب يجمعهم النفاق والمجاملة ومحاولة إصلاح الناس، أي من ينتمون لطبقتهم فقط، في إطار من الحرية تميل للإباحية والعنف فيصل القلق هنا الى معضلة الخير والشر.
يترك هذه الجماعة بعد أن يشعر بقرف تجاه نفسه رغم نجاحه في حياته العملية والشخصية. ويزداد القلق توحشاً نحو مواجهة مع العدمية والموت بصفتها مفاهيم تحاول إثبات ذاتها كحقائق، لكن تولستوي سيعلمنا هنا أن الشك طريقه طويلة متى كانت الأسئلة ما تزال قائمة.

الأسئلة ستدفعه نحو العلم لكن المجال لم يستطع إقناعه بالعبث أو كيف يمكنه أن يشكل جزءاً من هذا الكل، لينتقل للفلسفة وكبارها وبدورهم سيذهبون به نحو اليأس واللا معنى.
لينتقل القلق بعدها لمواجهة مباشرة مع اليأس واللا معنى هذا، فيرتب للمواجهة أربعة احتمالات عيش ممكنة:
- الجهل.
-الأبيقورية (تنتهي بالموت وقبله الشيخوخة).
-الشجاعة (الانتحار).
-الضعف (القبول).
يقدم تولستوي في اعترافه قصة شرقية ربما تختصر هذا المشهد الوجودي بكل ما فيه من مواجهة مع اليأس واللا معنى وفوق كل شيء بكل ما فيه من عجز وعدم وجود مفر. يورد تولستوي القصة الشرقية التالية: مسافر لجأ لبئر للهروب من وحش يلحقه ليجد في انتظاره بقاع البئر تنين، فتشبت بغصن شجرة نابتة في شق من شقوق البئر. ‏تعلق المسافر بالغصن ليأتي جرذان أحدهما أبيض والآخر أسود يقرضان الغصن، أدرك المسافر أنه ميت لا محالة ومع ذلك انتبه لنقط عسل تسقط على أوراق الشجرة فنسي الوحش والتنين والجرذين وأخذ يلعقها.
سيتوقف تولستوي قليلاً أمام هذه النتائج، في مرحلة وصف نفسه فيها بأنه كان يرى التنين بوضوح وبأن العسل قد فقد حلاوته.

وهنا سأشعر بأن الاعتراف بلغ ذروته وستنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة أخرى نجد فيها بعض الانفتاحات لكنها الأصعب عند مقابلة المرحلتين.

سيتحول القلق هنا لما هو أبعد من العقل وإلى ما هو أبعد من المحدود، سيواجه العقل بانتفائه وسنواجه المحدود بغير المحدود وفي هذه المواجهة تكمن قوة إدراك معنى الحياة وهنا سينتهي مخاض تولستوي بانعتاق من طبقته وانغماس تام مع الطبقات الدنيا حيث وجد القوة ومعنى الحياة، وسيفهم أن المشكلة لم تكن في حياة بلا معنى بل في حياته  التي كانت بلا معنى.

هل سيقف تولستوي هنا بعد أن وجد خلاصه الذاتي؟ لا، لأن الاعتراف جعله ينسلخ أيضا من أنانيته، سيكمل لنا الاعتراف وسيعود إلى الكنيسة من جديد كمنبع للإيمان لكنه سرعان ما سيدرك أن هناك حاجزٌ ما بين الدين وبين الكنيسة كممارسة لهذا الدين فسينفصل تماماً عنها مؤكداً أن ما لا يستطيع التناغم مع أطيافه لن يستطيع هو كفرد أن يتناغم معه وهو في هذا كان يبحث عن دين كوني يجمع البشرية قاطبة، وهذا شهدناه في لجؤه السابق لبوذا والنبي سليمان، وهو هنا يذكرني برحلة أخرى لكاتب آخر في مرحلة لاحقة وهو كزانتزاكس. لا أعرف إن كنت سأبالغ إن وجدت تولستوي يظهر هنا كمجدد للمسيحية (وأظنه تأثر باعتراف سان أوغستين قليلاً) أو مطهراً لها بجعل تفكيره مثالاً على ذلك، وقصدي أن هذه المسيحية هي التي شكلته بدايةً ولكي يطهرها طهر نفسه أولاً ثم اتجه إليها خالياً من أثرها قارئاً لها من الخارج فرأي فيها إيماناً كونياً أكثر منه خاصاً بشعب أو قوم أو جغرافية.

سينتهي الكتاب بزخم فكري كبير في مواجهة مع المسيحية والكنيسة، لكن تولستوي سيرفق بحالنا ربما وسيترك هذا الأمر لكتب أخرى تستمر فيها رحلته الفكرية.

هنالك الكثير من التفاصيل في رحلة تولستوي هذه ومنهجيته بالرغم من أنها في كتاب فكري وفلسفي فإن لها تأثيرات عاطفية قوية تكاد تكون درامية تشدك وتدفعك على التفكير، وربما هذا يعود لطبيعة الاعتراف نفسه وما فيه من خصوصية. لقد كانت صراحة اعتراف تولستوي بكل ما فيها من مواجهات مع نفسه ومع العالم صراحة تستحق الصمت، صمت من يسمع ويتعلم ويقرر أن يتأمل هو كذلك. إن هذا يذكرني بمسألة طالما ناقشتها بيني وبين نفسي: ما الذي يجعل تولستوي متميزاً ضمن كوكبة الكتاب الروس الذين ظهروا في تلك الحقبة أو لعلي أوضحها أكثر بقول عصر الرواية الروسية، ما الذي يجعله متميزاً عن دستويفسكي مثلاً الذي أحبه روائيا وأكرهه شخصا، ما الذي يجعله مميزاً لنشعر بذلك الصمت الذي عم غرفة والديَّ نابوكوف حين علما باحتضار تولستوي وكأن مأساة وطنية مست الأمة الروسية كاملة، الأمر يذكرني بما قاله جورج ستاينر في محاضرة ألقاها بندوة خصصت لأعمال تولستوي حيث ذكر فيها قرية أجداده الصغيرة وكيف أن أهلها خرجوا بصمت حين بلغهم خبر وفاة تولستوي، ثم سأل ستاينر الحاضرين: "هل تعرفون الآن أحداً من الممكن أن نخرج من أجله صامتين؟"
فهل تعرفون أنتم؟

الجمعة، 23 أغسطس 2019

العراق في رسائل المس بيل.




هذا الكتاب هو ترجمة لرسائل المس بيل، التي أرسلتها إلى والدها وزوجه، والتي كانت في الحقيقة عبارة عن يومياتها ومشاهداتها اليومية ونقلها للأحداث التي وقعت في العراق سياسيا وعسكريا، وكانت شاهدة عليها، إضافة إلى اعتبارها شاهد عصر على مرحلة مهمة من تاريخ العراق حيث ابتدأت الرسائل بتاريخ ٢٦ كانون الثاني سنة ١٩١٧ إلى السابع من تموز سنة ١٩٢٦ قبل وفاتها بخمسة أيام، إذ توفت في بيتها في بغداد في الثاني عشر من شهر تموز سنة ١٩٢٦بعد أن نامت ولم تستيقظ، ودفنت في المقربة الموجودة في ساحة الطيران في الباب الشرقي ببغداد. 
ولدت غيرترويد بيل سنة ١٨٦٨ في مقاطعة يوركاشير في بريطانيا، وبعد أن أنهت دراستها ولحبها للغة العربية والشرق، تعلمت شيئا منها وقواعدها، وانتقلت إلى إيران لتقيم عند خالها لعدة سنوات، وفي سنة ١٨٩٩ وابتدأت رحلتها في البلاد العربية كسوريا والجزيرة العربية في نجد وحائل والعراق وفلسطين، لتدون في رحلاتها مشبوهة الأهداف وتلتقط الصور وتسجل المعلومات عن السكان والقبائل والطرق وتنقب عن الآثار ودونت المشاهدات وكان مما كتبته كتاب سوريا: البادية والمعمورة، وفي سنك ١٩٠٩ بدأت رحلة مشبوهة في العراق وهي تمسحه شمالا وجنوبا، وبلا شك أنها كانت بمهمة استطلاعية تمهيدا للاحتلال الإنجليزي وقد التقت بيل مع بيرسي كوكس الذي سيكون المندوب السامي على العراق فيما بعد في بغداد في هذه السنة. وفي عام ١٩١٥ كانت في القاهرة تعمل موظفة في إدارة المخابرات البريطانية السرية في مصر (المكتب العربي). ونظرا لخبراتها وما تملكه من معلومات عن العراق تم إرسالها مع الحملة العسكرية البريطانية التي دخلت العراق في عام ١٩١٦، وعينت لأول مرة في ٢٦ حزيران، في المكتب العربي فرع البصرة. وبعد احتلال بريطانيا بغداد في ١٩١٧ انتقلت بيل إلى بغداد لتبدأ رسميا عملها الذي توزع ما بين التجسس وجمع المعلومات وإرسالها إلى بلدها الأم، وتواصلها مع القيادات العراقية وشيوخ العشائر ورجال الدين وأصبحت فيما بعد مقربة من الملك فيصل، وقد ساهمت في وضع مسودة الانتداب البريطاني عام ١٩١٩. يقسم المؤرخ العراقي عبد الحميد العلوجي رسائلها التي امتدت إلى عقد من الزمن تقريبا إلى ثلاث مراحل هي:


الأولى (١٩١٧- ١٩ أيلول ١٩١٨) وتمتاز بنشاط الآنسة بيل في جمع المعلومات والتجسس والرحلات والفعاليات الخارقة، وعليها اعتماد سلطات الاحتلال، لقلة الموظفين الأجانب في العراق.


الثانية (تشرين الثاني ١٩١٨ - نهاية ١٩٢٣) وتمتاز بفعالياتها السياسية في مواجهة تأسيس ما عرف بالحكم الوطني والبلاط


الثالثة: (١٩٢٤-١٩٢٦) وتمتاز بحياتها التافهة، والخمول الذي أصابها نتيجة حرماننا من التدخل في الشؤون الإدارية التي كانت تصاغ بالتعاون بين الوزارات المختصة في بغداد ودار الاعتماد البريطانية.


ونقرأ في رسائلها معلومات مهمة تارة وعادية غير مهمة (أحداث يومية عابرة) تارة أخرى، تخص بيل وأخرى تخص العراق دولة ومجتمعا وثقافة وعادات، ونجد لدى بيل الكثير من التخبط فتارة تشتم وتارة تمدح لذات الشخص، وفي الوقت التي تقول عن نفسها عربية وشرقية تراها تزدري الشرق والعرب، إضافة إلى غرورها منقطع النظير إلى حد وصف نفسها بالإله الذي يدير شؤون البلاد، وأنها أخذت على عاتقها النهوض بالعراق وتأسيس دولته، والمشاركة في إنشاء دولة، فيا له من عمل عظيم كما تقول، وبغض النظر عن كل ما تقوله فدورها كجاسوسة لا يخفى على القارئ من خلال تغلغلها في أروقة المجتمع العراقي واستغلال النساء وزوجات الشخصيات العراقية المرموقة السياسية أو الاجتماعية لمعرفة الأخبار والآراء وتدوينها ومن ثم إرساله في تقارير دورية ترسل إلى المسؤولين، وفي الوقت الذي تصف نفسها بأنها صاحبة شأن وذات قرار تظهر في أحيان أخرى كقطعة وديعة لبيرسي كوكس تردد أقواله وتصف نفسها أنها مجرد خادمة له، ولا تخرج عن رأيه، بل تتحدث بصوت أنثوي أحيانا أخرى المهزوم حين يحرمه الرجل ما يريد، خاصة في رحلات كانت تود مرافقة كوكس لكنها تتدارك الأمر بأنه سيرفض طلبها، وتماهيها مع شخصيتها البريطانية الجاسوسة أو الموظفة وشخصيتها العربية العراقية (التي تدعيها) تجعلنا نقف على شخصية مضطربة فلا هي بريطانية نقية ولا هي مشرقية نقية، هذه الازدواجية التي لم تسيطر عليها نتيجة لحياتها بوجهين جعل من رسائلها تطفح بالتناقض والكذب والادعاءات المزيفة التي يبدو أنها كانت تصدق نفسها بأنها المنقذة لهذا الشعب المسكين، هذه النرجسية البريطانية المقيتة والغرور المقرف، اللذان نفذا إلى شخصيتها، جعلها تعيش دور البطلة، لكن أي بطلة! 
عاشت مس بيل حياة العزوبية حتى وفاتها، الأمر الذي يثير كثير من الأسئلة إذ لا تجد أي إشارة عن حياة مس بيل المتعلقة بالجسد، إذ لم تذكر أنها أحبت أو أعجبت برجل ومالت إليه غريزيا أو تشهّته، الأمر الذي يدفع إلى السؤال عن حياتها الشخصية مع من  كانت تعاشر أو تود أن تفعل هذا وعلى مدى عقد! قد يكون من المستغرب أن تقول أمرا كهذا لوالدها، لكن أن تفني حياتها في العمل أمر لا يصدق كما أن أمر بقائها بدون علاقة لا يصدق هو الآخر، خاصة وهي تصف نفسها بالتعيسة وأنها تود لو تنام ولا تستيقظ، لأنها حين ينتهي اليوم تكون أشبه بالميتة بسبب أتعاب العمل. وتقول زوجة أبيها التي حررت رسائلها أن سبب تعاستها بقائها عزباء، فبعيدا عن دورها السياسي، فإن الجانب العاطفي والغريزي الأنثوي لبيل في العراق يبقى مجهولا أو ربما متكتمّا عليه من قبلها أو من قبل من حرر رسائلها. وتبدو بيل محبة لحفلات الشاي والسهرات والنقاشات ونظرا لإتقانها العربية فقدت ساعدها هذا من التقرب من الكثير من الشخصيات العراقية وزيارتهم والخروج بسفرات معهم أو زيارتهم، وتشيد بالأطعمة وما يصنع لها من طعام، إذ تصف برتقال بعقوبة بأنه ألذ شيء يمكنك تناوله، وتقول عن المسكوف (السمك المشوي) بأنه ألذ أكلة في العالم. المس بيل تُظهر حبها للشرق وأرض العراق كما يظهر في حوادث كثيرة، لكنها في المقابل تعمل على تنفيذ الإرادة البريطانية، وفي رسائل كثيرة تؤكد بصورة أو بأخرى سعيها إلى بث الدعاية حول تمزق المجتمع العراقي من خلال التفرقة ما بين السنة والشيعة، واستغلال الحوادث للتعريض لتمزيق النسيج الاجتماعي العراقي، إذ تبدو السيطرة على البلد عبر تمزيقه طائفيا وتشتيته دينيا من مخططات الإنجليز التي سعوا من خلالها للسيطرة على العراق، الطريف أن بيل تعتبر نفسها من أهل السنة! في مفارقة واضحة مضحكة إذ تصبح هذه المدعية الكاذبة التي تستغل الفرص للتجسس أو محاولة الإساءة لكل من يقف تجاه المشروع الاستعماري البريطاني، وبالعودة لتبجحها وغرورها بنفسها وثقتها الزائدة بمعرفتها العراق وعادات أهله ودينهم وتاريخهم أنها تجهل من قتل الحسين (رضي الله عنه) إذ تكتب في مشاهداتها لطقوس شهر المحرم، وتذكر في أكثر من مرة (تقريبا أربع أو خمس مرات) أن من قتل الحسين هو معاوية! لندرك أنه باعتدادها بذاتها فهي مدعيّة كبيرة، ولا يمكن التسليم بصحة ما كتبته بالكامل. وتنقل هذه الرسائل أخبارا وحوادث عن شخصيات كثيرة في داخل العراق كأفراد العائلة المالكة (فيصل وغازي) ونوري السعيد وجعفر العسكري وغيرهم الكثير وشخصيات خارجية كـ عبد العزيز آل سعود. يخرج القارئ لهذه الرسائل بجعبة مملوءة بالأخبار والقصص والأحداث التي تعتبر وثيقة تاريخية مهمة في تاريخ العراق المعاصر. 

مؤمن الوزان.

موسوعة السرد العربي - د. عبد الله إبراهيم.


مؤمن الوزان.
الكتاب السابع.

الكتاب السابع من موسوعة السرد العربي، تم تخصصيه لمواضيع مهمة ومتشعبة، كالسيرة والأوطان والمنافي والهُوية وصورة الآخر والسيرة الذاتية والسيرة الروائية والرحلات والتحولات الدينية داخل الأعمال الأدبية. وتناول الفصل الأول من الكتاب صورة الوطن في المنفى والعلاقة مع الأوطان التي جاء الإنسان منها، هذه العلاقة التي تتأرجح ما بين الحنين إلى الوطن والماضي "نوستالجيا" والتأقلم مع كل شيء جديد في الوطن الجديد من الحياة واللغة والثقافة والبشر والتاريخ، وهذا ما تمثل في إنتاج إدوارد سعيد، والذي عرض د. عبد الله في الفصل الأول من الكتاب دراسة تحليلية لبعض أعمال إدوارد سعيد كالاستشراق وسيرة إدوارد سعيد الذاتية، وهي السيرة التي كتبها إدوارد بعد إصابته بالسرطان، والذي تحدث فيها عن سنينه الأولى وعلاقته مع والده ووالدته، وما حملته هذه السيرة الذاتية من العوامل والمؤثرات التي كان لها الأثر الكبير في حياة إدوارد وتكوين شخصيته. وتناولت الفصول اللاحقة تتابعا مواضيع المدن المستعادة والهوية السردية، من خلال دراسة العديد من السير الذاتية، وهي السير التي تناولت مدنا عاش فيها الكُتّاب ومحاولة استعادتها عبر الذاكرة والتخيّل كما في سيرة مدينة لعبد الرحمن منيف، وغيرها، التي حاول فيها الكتاب بناء المدينة عبر الذاكرة وملء الفراغات بالتخيل أو ما حاولوا رسمه حسب ما تمليه عليه تصوراتهم، وتكشف هذه السير تمزقا جوانيا يعيشه هؤلاء فهم لم يستطيعوا البقاء في مدنهم وبلدانهم لأسباب قهرية مختلفة، ورغم عيشهم في مدن جديدة إلا أن ولاءهم بقي لتلك المدن التي نشأوا وجاءوا منها، ليفتحوا باب السؤال عن معنى الانتماء وقيمة وحقيقة الأواصر التي تربطهم بالأرض الجديدة، والتي تتضح صورتها وحقيقتها الواهية، وأن الزمن مهما تقدم بهم فيها إلا أنها تبقى غير كافية لأن ينتموا إليها. ومن المواضيع المهمة التي تم طرحها في هذا الكتاب هو أدب الاعتراف وبمجموعة من الشواهد مثل كلمة أورهان باموق بعد نيله النوبل وكتاب عراقي في باريس لشمعون صموئيل، ناقش فيها د. عبد الله موضوع الاعتراف ومدى حقيقة الاعتراف ومن يملك الجرأة على الاعتراف، وتتداخل هذه المواضيع مع المرجع الحقيقي والواقعي الذي يمنح الكاتب كل الأدوات التي يحتاجها من أجل الإفصاح عن خبايا تخص العائلة والدافع للكتابة كما في حالة أورهان، وشهد كتاب عراقي في باريس، عرض العديد من المواضيع الخاصة بالهوية والعلاقة مع الآخر، شمعون العراقي الآشوري المسيحي وحلم السفر إلى أمريكا ليقع بعدها بيد القدر راميا إياه في شوارع باريس في وجهة جديدة، لكنه يُفصح في كتابه عن الكثير من الحوادث والمواضيع المتعلقة بالذات والروابط الدينية والنزاعات الهُوياتية ذات الطابع الديني، لتكون محركا لمادة نقاش وتحليل لمواد تطرحها مادة كتاب شمعون. وموضوع الهُوية من أبرز المواضيع التي تم تناولها ومناقشة الكتب التي احتوت هذا الموضوع سواء كانت روايات أو سير روائية أو سير ذاتية أو حتى روايات رحلات، ومثلت مواضيع الهويات المتحولة والثابتة والهوية الدينية والعلاقة مع الآخر سواء في حالة الانسجام أو التنافر مادة دسمة، وهي بقدر ما تجيب على الأسئلة  فإنها تطرح أضعافها وكلما حاول الدكتور أن يقف ويلملم أطراف المادة تبدو أكبر من أن تلمها شروح أو تستعرض أُفقها وأفكارها سطور. موضوع الهوية اليهودية وما كتبته الأقلام اليهودية سواء في اليمن أو العراق، من المواضيع التي طرحت عدة إشكاليات حول مفهوم الهوية الوطنية والدينية وتحديد الانتماءات وما تتعرض له الأقليات، وبذات الوقت تكشف مدى قصور بعض الإنتاجات الأدبية والكتابية عن تبيان الحقيقة الكاملة كما لدى اليهود العراقيين ومحاولاتهم تصوير العداء تجاههم دون نقد الذات أو تبيان العلاقة بين ما تعرض لها اليهود في العراق وإقامة الكيان الصهيوني دولته على أرض فلسطين، أرض مغتصبة طرد أهلها وهجّرهم وقتلهم مما أدى لنقمة عامة الناس على اليهود. وعلى الرغم من كل هذا ومن الهجرة من العراق إلا أن هؤلاء الكتاب العراقيون اليهود بقوا في حالة حنين إلى بلدهم، من خلال محاولة تصوير ما تعرضوا له وما كتبوه من أجل أرشفة حياتهم السابقة، واعتبار أنفسهم في منافي وليسوا في بلدانهم الأصلية. هذه المواضيع التي وضعها الدكتور في عنوان الهوية الملوثة، هو عنوان يوحي بعدم النقاء التام لهذه الهوية، من خلال النظرة الدونية إليها من قبل المكون الأكبر الذي تعيش فيه، فهم ينظرون إليها بنظرة الريبة وعدم التصديق الكامل، وكذلك مدى رغبة هؤلاء اليهود في الامتزاج مع المجتمع والخروج من تقوقعهم على ذواتهم وعيشهم في مجتمعات مغلقة. وفتح الباب أيضا على باب اللغة المكتوبة، وتساءل هل يُعتبر ما كتبوه أدبيا عربيا أو تراه أدبا يهوديا، وهل العرق أو اللغة هي التي تحدد أحقية ضم ما كتبوه بالأدب العربي، ويكشف في متن الفصول عن قيام الكثير منهم بالكتابة بالعربية ورفض اللغة العبرية والكتابة عن الحياة في العراق وارتباطهم بهذه الأرض والحياة فيها، الأمر الذي يجعل د. عبد الله إبراهيم يقول بأن محاولة فصلهم عن هذه الأرض أمر مستحيل وبذلك يضم ما كتبوه للأدب العربي. ويعد موضوع السيرة الروائية والكتب التي نهجت نهج هذا النوع الأدبي الجديد، والذي يوضح د. عبد الله أن كثيرين كتبوا اسم رواية على كُتبهم ذات طابع السيرة الروائية، ولم يدركوا هذا النوع، ويضيف هذا من طبيعة الأنواع الأدبية الجديدة التي يتم الكتابة فيها وبعد أن تشيع يتم دراسة عناصرها وإطلاق أسماء لها، وهو الحال مع السيرة الروائية. التي يكشف اسمها معناها، مكونة من شقين رئيسين هما السيرة والرواية، فيعتمد الكاتب على سيرته الذاتية الحياتية تمثل الجانب الحقيقي الواقعي السيري ويضم إليها أفكارا وخيالات وكتابات غير حقيقية تمثل الجانب الروائي منها، فهي بهذا يتمزج فيها الحقيقي مع الخيالي، في إنتاج فن أدبي وعمل كتابي يستغله الكاتب في جعل سيرته منبعا لكتاباته. تتنوع المواضيع التي يتم الكتابة عنها عبر هذا النوع الأدبي ما بين التوثيقي والتصويري والكشف والدخول إلى عوالم مُغيّبة واستثمار التجربة الذاتية في مد التجربة الكتابية الخيالية بكل ما تحتاج إليه من روافد تقوي من موقفها وتشد من أزرها. ليتناول بعدها عديد السير الروائية لكُتّاب مختلفين، يُمثل إنتاج كل منهم مادة الموضوع الذي حاول د. عبد الله أن يقف فيه على الجوانب الممكنة التي قامت عليها السيرة الروائية. مثلت الهُويات الدينية والتحول، مادة دسمة في دراسة الأديان وتوثيقها والمقاربة والمقابلة فيما بينها مما يفتح الباب أمام التداخل والتعايش بين أتباع هذه الأديان، وتعتبر الهوية الدينية من المواضيع الشائكة التي تقتحم الحياة داخل المجتمعات ومدى تظافرها في خلق هُوية واحدة تجمع الناس وتصهرهم في بوتقة واحدة بعيدا عن أي تمايزات أو اختلافات، ونجد في هذا الفصل ثلاثة نماذج يدرسها ويحللها في متن بحثه الموسوعي لدعم ما يريد إيصاله إلى القارئ، ولكن الغريب في هذه النماذج أنها مترجمة، على غرار اسم الوردة وشفرة دافنشي، وهي روايات توثيقية وبحثية دينية، ومنها ما أرّخ مرحلة مهمة من صراع الكنيسة والإمبراطور في القرن الرابع عشر في أوربا. السؤال الذي يطرح نفسه، ما علاقة هذه الروايات بالسرد العربي؟ قد يُفهم كما في الكتاب السادس الاستشهاد بكتب الفكر النسوي الغربي باعتبارها الأسس والمراجع التي استمدت منها النسويات الأفكار عبر العالم ومثلت الانطلاقة الرئيسة وأصبح الترابط حتميا بين الحركات النسوية، لكن موضوع التحولات الدينية والبحوث التوثيقية أو البحثية في أصول الأديان لأقلام غربية يجعل هذه النماذج في الكتاب تمثل اضطرابا في الموسوعة، فهل هو يبحث ويدرس ويحلل مواضيع من كل الآداب أو هو يبحث فيما أنتجته الأقلام العربية حصرا، كما هو الحال مع العنوان العريض للموسوعة والتتبع التاريخي للسرد العربي كما في الكتب الخمسة الأولى، وكثيرا ما استطرد الكاتب في ذكر نماذج من الآداب الغربية يدعم بها تارة كمصدر ثانوي المواضيع التي تناولتها الكتابات السردية العربية  ويمكن تفهم هذا كنوع من التطعيم في النماذج المعروضة، لكن أن يتم اتخاذ النماذج الغربية كموضوع رئيس يُناقش هذا ما لم أفهم سببه وما دخله بالسرد العربي! لا يعني الانتقاص مما تم تقديمه لكنه يدفعنا إلى التساؤل عن المنهجية التي اتبعها الباحث الدكتور عبد الله التي لم تكن واضحة في بعض فصول كتابه أو لم يلتزم بما ابتدأ به بنحو أكثر دقة في التشخيص. ختم الكتاب السابع من الموسوعة مع موضوع الترجمة والمترجمين وانتحال شخصية المترجم، ونسبة العمل إلى مصدر مجهول وكان دور الكاتب فيه دور الناقل فقط، وهذا الأسلوب الذي يلجأ له الكثير لأسباب متعددة منها، عرض أفكار والتبرؤ منها في حالة لقيت استهجانا ورفضا، أو إضافة الإثارة للقارئ ومده بنوع من الحماس، ومنها ما يكون أسلوب عرض يستخدمه الكاتب بما يلائم متن روايته. يتفرع الموضوع في الفصل الختامي إلى فروع مختلفة منها ما يمت لمتن الرواية بصلة كحال المترجم كما في رواية ليون الأفريقي ومنها ما له دلالة إطارية تضع العمل في حدودها، إضافة إلى التملص من المسؤولية كما في رواية عزازيل.

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب