المشاركات الشائعة

الأربعاء، 16 أكتوبر 2019

رواية النساء في القلعة بقلم جيسيكا شاتوك - كاري كالاهان.


في هذه القصة الجريئة تحاول ثلاث أرامل ألمانيات مع أطفالهن إعادة الإعمار وتجاوز مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كتب نيكولو ماكيافيلّي: "قد يخوض المرء حربًا عندما يستعد لها، لكنه لا يستطيع الانسحاب منها وقتما يشاء". هذه حقيقة مأساوية قد تضيف إليها جيسيكا شاتوك إنه حتى عندما تنتهي الحرب، فإن المشاركين فيها يعجزون عن الانسحاب منها. الحرب تطاردهم!
 كانت الحرب -بلا ريب- تطارد أبطال رواية شاتوك الثالثة  "نساء في القلعة". فبعد أن حاك متآمرون مؤامرة فاشلة ضد هتلر، تتعثر حياة ذويهم (أراملهم وأبنائهم اليتامى) على حُطام ما خلفوه وراءهم . وعندما تتوقف الأعمال العدائية المسلحة، يواجهون مهمة بالغة الجسامة والمشقة؛ تتمثل في البدء من جديد في ألمانيا، وهم لا يزالون يشعرون بمرارة الصراع. 
تبذل (ماريان فون لينغفيلز) جهود إعادة البناء لتلك النسوة. فقد أطلق عليها صديقها الحميم (مارتن كوني فليدرمان) لقب القائد للزوجات وأطفالهم عندما قرر الرجال مقاومة هتلر في البداية. كانت تفكر في هذا اللقب كصفعة، ولكن بعد فشل المؤامرة وإعدام جميع الرجال، أدركت ماريان مهمتها بشكل مختلف.
قررت في نهاية المطاف السعي إلى البحث عن الناجيات من الأرامل، واستضافتهن في القلعة الضخمة المنبوذة التي تملكها عائلة زوجها الأرستقراطي ألبريشت.
ابتدأت خطة عملها أولًا بتقفي أثر (بينيتا) زوجة مارتن كوني الشابة وابنها مارتن. وأنقذت ماريان كليهما: بينيتا التي كانت تنتقل من جندي إلى آخر، وأصبحت في نهاية الأمر امرأة مفرّغة بلا قيمة، منعزلة لدى قائد روسي في برلين، في حين أُويَ ابنها مارتن في منزل نازي يجمع أطفال الخونة الذين لا ذنب لهم. 
كانت ماريان تكره النازيين باشمئزاز أخلاقي واضح جابهتهم به منذ البداية. لكن ليس بمقدور كل شخص أن يرسم خطًا فاصلًا بين الأبرياء والمذنبين. وكانت بينيتا عضوًا -وإن كانت عضوًا محايدًا- في واحدة من مجموعات شباب هتلر عندما قابلت الشاب الجسور (مارتن كوني فليدرمان) لأول مرة، وظلت غير مكترثة بالسياسة حتى بعد أن قدّم زوجها كوني حياته فداءً للمقاومة.
لذا لم يكن من المستغرب أن تكون بينيتا وماريان ثنائي مضطرب. فماريان تشعر بواجب الالتزام بتعهدها بحماية زوجة كوني وابنه، في حين يغمر بينيتا شعور الامتنان لماريان التي جمعتها بابنها مارتن بعد أن سرقه النازيون منها عقابًا لها على خيانة زوجها كوني.
 ومن حسن حظ المرأتين سرعان ما يتلقينَ خبرًا من القوات الأمريكية المحلية بأنهم عثروا على أرملة ثالثة -بناءً على القائمة التي قدمتها ماريان-. آنيا امرأة هادئة لكنها حازمة وعملية بطريقة لا تشبه ماريان ولا بينيتا. وتستسيغ كلتا المرأتين فكرة الحصى [1] التي تزوّد به آنيا أسرتهما على التل.
لكن حياتهن في جنة العدْن تلك لم تدم طويلا. فلكل منهن أسرار وجراح، مثل ألمانيا بأسرها، وما من أحد اهتدى لسبيل الشفاء. تفضّل بينيتا التأقلم مع ما تبقى من العالم ونسيان الأهوال. أما ماريان تصر على استجداء كفارة من الآخرين. وتحاول آنيا المضي قدمًا بمستقبل عملي لابنيها المصابين بصدمة نفسية، لكن الماضي يتربص بهم وينقضُّ عليهم. 
في غضون ذلك ومثل جوقة مأساة يونانية، كان القرويون المحليون -الذين كان معظمهم ممن وعدهم النازيون بالحصول على وظائف أفضل، ويظنون أن مزاعم تلك الفظائع ملفقة- يُبدون استياءهم في الخفاء. هذا التأثير التراكمي لهؤلاء البشر المتفائلين والغاضبين والمضللَّين والمذنبين مذهل.
 في سردٍ يرجع بالزمن إلى الوراء ويتقدم به إلى الأمام، تخلق شاتوك تفاوتًا في الفظائع غير المفهومة التي ارتكبها الألمان (أو تجاهلوها بشكل شبه متعمد) بدافع الرحمة والغفران.
استرداد ألمانيا عافيتها على أرض الخراب بعد الحرب أشبه بمعجزة؛ وتهمة لنا جميعًا نحن القائلين بأن ألمانيا سقطت في زمن الحرب وإن فعلت. 
في أول عيد ميلاد بعد انتهاء الحرب، اجتمع النساء والأطفال في القلعة بالقرويين الناقمين في قداس مفتوح في الكنيسة الكاثوليكية المحلية. ولكن لم يكن ثمة أحد لإحياء الشعائر - لقد حضروا جميعًا لأجل فرقة إرينهايم الموسيقية، الذين قدموا أول أداء لهم بعد سنوات. وعندما تصدح سمفونية بيتهوفن التاسعة من الآلات، يبتعد الألمان الجياع والمتجمدين. يبكي بعضهم، وعندما تنتهي السمفونية، لا يتحدث أحد.
يتهيّب الشاب مارتن في إجلال. 
"حجّرت الموسيقى الرواسب الصلبة في ذاكرتهم، احتكت بطبقات من الرعب والعار، وقدمت عزاءً غير مسبوق عن غضبهم وحزنهم وشعورهم بالذنب. بعد ذلك بسنوات، يحاول مارتن –الذي يصبح أستاذًا- إيجاد الكلمات المناسبة لتوضيح قوة الاتحاد والعمل الجماعي في عالم دمّر الاتحاد - واستكشاف تأثير الموسيقى، والمقامات المدهشة التي كان الناس يذهبون لسماعها وتشغيلها، ليبرهن على أن الموسيقى والفن بشكل عام متطلبات أساسية للروح البشرية. ليس ترفا بل إلزامًا".
رواية "نساء في القلعة" تدافع عن قضية الإنسانية باعتبارها تتصف بالجمال والرهبة على حد سواء. يمكننا أن ننفذ الأوامر بأخذ أم شابة وطفليها إلى غابة وإطلاق النار عليهما، لكن على النقيض يمكننا أيضًا التضحية بحياتنا في السعي لتحقيق العدالة. كيف يمكن لنا نحن بني الإنسان أن نحمل مثل هذا الرعب والجمال والغفران في قلوبنا… لغز محيّر! هذه القصة ثاقبة الفكر بما فيها من رؤى كبيرة وصغيرة؛ أدّت عملًا راقيًا لاستكشاف كيف وجدت هؤلاء النساء الجريحات الإجابة.
  •  كاري كالاهان: تعيش في ماريلاند مع أسرتها وقطّيها. ظهرت أعمالها الروائية في كل من: Silk Road, Floodwall, the MacGuffin, the Mulberry Fork Review وأماكن أخرى. لمتابعتها على تويتر: @carriecallaghan
  • ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.


[1]  Ballast: الحصى المستخدم لرصف الطرق.

الأحد، 13 أكتوبر 2019

رواية رودين - إيفان تورغنيف.



"أيها المعلم إننا جميعا لا نملك إلا أن نسعى إليك لندرس في مدرستك".
 الروائية الفرنسية جورج ساند- في رسالة لتورغنيف. 

ولد الروائي الروسي سنة ١٨١٨ والذي تميز عصره المضطرب بالحركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في زمن نيقولا الأول. وكان تأثير هذا العصر كبيرا في تورغنيف الذي كتب في الشعر والمسرح والرواية، ومن أهم أعماله الحب الأول، ورودين، وآباء وأبناء، والتربة العذراء. 
وواحد من أعلام الأدب الروسي في القرن التاسع عشر الذين تركوا الأثر الكبير في الأدب الروسي خاصة والأدب الإنساني العالمي عامة. 

رواية رودين، من الرواية الاجتماعية التي تدور أحداثها في إحدى القرى الروسية بصورة أكبر من باقي الأماكن رغم تنوعها. وهي رواية من الأدب الواقعي، ذات طابع اجتماعي وسيكولوجي وتصويري وفلسفي، الرواية ذات نسق شبه ثابت حتى الأحداث التي تزعزع هذا الانتظام الخطي لأحداث الرواية تبقى ضمن الإطار العام الذي استطاع تورغنيف السيطرة عليه، بحيث تبقى الرواية كالبحر الواسع الذي يتوقع القارئ أن تهيج أمواجه في كل لحظة، لكنه يبقى ساكنا وحين يهيج فهو هيجان لحظي ومحصور بحدث وشخصيات محددة. 

امتاز أسلوب تورغنيف بوصف الشخصيات شكلا وصفاتٍ وآراءٍ، ولكل شخصية مميزاتها الخاصة التي تجعلها في تصادم مع الآخر أو لها نظرتها الخاصة للأمور الحياتية والاجتماعية والدنيوية. 

رودين البطل الحاذق الألمعي ذو اللسان الفصيح والمنطق الرشيد، الذي يُؤثّر في كل من يحاوره ويحدثه ويترك في نفسه أثره وتكون لكلماته وقعها الخاص في ذهن السامع وفكره  فيقع في حبه، عمل تورغنيف على بناء وإظهار شخصيته بصورة الذكي الفاهم، ويرفعه حتى يجعله يسقط أمام ناتاليا الفتاة الشابة -ويقال عن تورغنيف أنه أستاذ في تصوير النساء وشخصية ناتاليا أول إلهام شعري لحقيقة تسترعي النظر في تاريخ روسيا الحديث- ذات العقل الراجح رغم صُغر سنها والتي تقع في حب رودين ويبادلها الحب، لكنه يفشل في تحويل حبه إلى دافع ومحفّز لمواجهة الحياة والظروف المانعة، وهنا سقطة رودين التي أوقعه بها تورغنيف أمام ناتاليا. 
وللرواية الجانب السيكولوجي، الذي يسعى تورغنيف من خلال الحوار أو المونولوج الداخلي أن يُفسّر أسباب الأفعال، أو الأقوال، وله لمسته الأدبية والنفسية التي يلج بالقارئ إلى أعماق النفس البشرية لشخصياته، بأسلوب أقل ما يُوصف بالسلاسة والوضوح والدقة. 

الرواية لم تكن عميقة ولم تكن سطحية، ولم تأتِ بالشيء الكثير، لكنها واقعية ومُصوّرة لمرحلة زمنية مرّت بها روسيا، لذلك كان أسلوبها سهلًا رصينا، حاول تورغنيف فيها طرح الكثير من المسائل والأفكار والأحداث  التي تدور في المجتمع الروسي وقتئذ. 

على الرغم من وجود شخصيات رئيسة كرودين وناتاليا وأخرى أقل درجة كلزنيف وبيجاسوف، وأخرى ثانوية كـلاسونسكايا وليبينا فقد تمكن تورغنيف من جعل لكل شخصية دورها الذي يجعلها تبرز وقتًا وتخبو في آخر، وحين يكون الحدث يدور حول الشخصيات الرئيسية فإنه لا يلغي دور الشخصيات الثانوية، لتكون المحصلة أن العمل شمولي تحضر جميع الشخصيات في الحدث وتكون الأولوية لأصحاب المنطق واللسان الفصيح، الذين ملأوا الرواية بأقوالهم وحكمهم، التي تُظهر فكر تورغنيف الحاذق والفهم الواسع للحياة وخبرته فيها. 

مؤمن الوزان.

لماذا العمل الإضافي يقتل إنتاجيتك وعيشك؟



كلير ويك

"العمل لأكثر من 40 ساعة في الأسبوع يمكن أن يكون له تأثير سلبي خطير على إنتاجيتك في العمل، تعرف على كيفية إجراء بعض التغييرات التفويضية اليوم!".

كم ساعة عملت في الأسبوع الماضي؟ أربعون؟ خمسون؟ هل فقدت العد؟!
زيادة ساعات العمل يكاد يكون أمرا تنافسيا، فهو طريقة لإثبات مدى نجاحك وإنتاجك لشركتك وعملائك، لكن الاستمرار على هذا المنوال المرهق قد يعمل ضدك.
 
العمل لأكثر من 40 ساعة في الأسبوع يضر بك وبشركتك.
أظهرت الدراسات أن العمل لأكثر من 40 ساعة في الأسبوع يؤدي إلى انخفاض إنتاجيتك ويجعلك عرضة لأخطاء سخيفة -أو حتى خطيرة-.
وليس فقط عملك الذي يتضرر فرفاهيتك أيضًا تأخذ منحى منخفضًا فقد كشفت دراسة أجراها المعهد الفنلندي للصحة المهنية عام 2012 أن العمل 11 ساعة في اليوم يضاعف من خطر الإصابة بالاكتئاب، إضافة إلى ذلك، فإن الأشخاص الذين يعملون أكثر من 55 ساعة في الأسبوع ليس لديهم ردود فعل أبطأ فحسب بل تبدأ لديهم أمارات الضعف في حل المشاكل والقدرات اللغوية مع تقدمهم في السن.
لذلك إذا كنت تعمل باستمرار لأكثر من 40 ساعة، فاعرف ما إذا كان يمكنك إنهاء هذا الأسبوع بشكل أسرع وساعات عمل أقل مما سيجعلك أكثر إنتاجية ووضوحًا وسعادة.

يعمل العمل لمدة 11 ساعة في اليوم على مضاعفة خطر الإصابة بالاكتئاب.

ولإجراء الكثير من التغيرات التفويضية المؤثرة إيجابيا على عملك -بما في ذلك الخطوة الكبيرة المتعلقة بإعطاء شخص آخر بعض المهام- فإن كتاب Beyond Measure لمارغريت هفرنان سيقدم لك أفضل الحلول حول هذا الأمر!

لذا نقدم لك الكتاب هنا لتحسن من إنتاجيتك وعملك وسبل حياتك كافة!



ترجمة: عبير علاو.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

لذة النص - رولان بارت.



عنوان شاعري لكتاب أحد أعلام النقد الفرنسي في القرن العشرين رولان بارت، فما الذي توحيه لنا كلمة لذة أي شعور تبعثه فينا، أي أحساس تثيره؟ اللذة هل بإمكاننا أن حدها بحدود تعريفية ممكنة؟ أهي لذة الطعام أم لذة الحياة الهانئة؟ وكيف يمكن أن نشعر بهذه اللذة ونحن نتعامل مع النص؟ ما هو النص وما شكله؟ أهو نص رواية أم قصيدة شعر؟ أسئلة كثيرة نكون بحضرتها ونحن نهرول خلف اللذة، هذه الكلمة التي تُداعب غرائزنا الجسدية، وكأن للنص تأثيره السحري الجسدي فينا، ما دام أن النص بحضرة كل منا؛ فمحال علينا أن نفوت فرصة الاستمتاع به وترك اللذة تهرب من بين يدينا بكل يسر. 

الكتاب مقسم إلى قسمين الأول قصير بعنوان هسهسة اللغة، يتحدث فيه رولان بارت موجزا عن هسهسة الأصوات التي تصدرها الأشياء حولنا كالطبيعة والكائنات ومن مصادر هذه الهسهسة الآلة وما تصدره من صوت يبعث الارتياح في نفس العامل، لأنها تقوم بعملها، فالهسهسة هي الصوت الدال على حسن سير الشيء. لكنه سرعان ما يتساءل هل تستطيع اللغة أن تهسهس؟ وكيف تهسهس اللغة؟ يجيب أن هسهسة اللغة تشكل اليوتوبيا، أي يوتوبيا؟ إنها يوتوبيا موسيقى المعنى. إذًا، فصوت اللغة هو الأثر الذي تتركه معاني الكلمات فينا، الكلمات المكونة للنص، النص الذي هو حقل متعتنا ومصدر لذتنا. 

القسم الآخر، لذة النص، وهو الذي ينال النصيب الأعظم من حجم الكتاب الصغير، الكبير الفائدة واللذة. 
يسترسل في هذا القسم كاتبا إياه باستمرارية غير متقطعة إلى فصول بل فقرات متداخلة، مما يعطي رسالةً بتدفق النص المولد للمتعة واللذة من خلال كونه جسدا واحدا، فعلى الرغم من أن ما كتبه مقسم إلى مواضيع متعددة لكنها متماهية ومتصلة مع بعضها البعض دون أي محطات يقف معها القارئ الذي عليه أن يجاري نسق الكاتب ولا يطيل التوقف عند نهاية كل مقطع. 
وأولى الخطوات التي يصل بها القارئ إلى اللذة مع النص هي القراءة الثانية إذ يقول: "(يعتقد الرأي العام أنه يكفي المرء أن يمضي سريعا لكي لا يصاب بالملل) أن هذه القراءة الثانية الدقيقة (بكل معنى الكلمة) هي التي تناسب النص المعاصر، نص - النهاية اقرأوا ببطء، اقرأوا كل شيء في روايات زولا، حينها سيقع الكتاب بين أيديكم. اقرأوا بسرعة، اقرأوا مقتطفات من النص المعاصر، فإن هذا النص سوف يغدو مظلما، وسيحرمه حقه في إعطائكم اللذة، أنتم تريدون أن يحدث أمر ما، ولكن لا شيء يحدث، لأن ما يحدث في اللغة لا يحدث في الخطاب: إن الذي يحدث هو الذي "يمضي"". 
ويضيف: "يجب على المرء أن يقوم به لقراءة كتاب اليوم، ليس الالتهام ولا الابتلاع، ولكن الرعي بدقة والجز بعناية: يجب أن يكون المرء أرستقراطيا". 

يبدو ما يقوله جليَّا للقارئ، اللذة التي نبحث عنها في النص تبدأ من القراءة البطيئة المتأنية، وكما يقول كن بقراءتك أرستقراطيا. 

لكن كيف نميّز نص اللذة؟ يعرّفه فيقول هو النص الذي يرضي، فيملأ، فيهب الغبطة. إنه النص الذي ينحدر من الثقافة فلا يحدث قطيعة معها ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة. لكن ما الذي يختلف فيه نص اللذة عن نص المتعة؟ نص المتعة كما يعرّفه بارت هو الذي يجعل من الضياع حالة، وهو الذي يحيل الراحة إرهاقا (ولعله يكون مبعثا لنوع من الملل) فينسف بذلك الأسس التاريخية والثقافية والنفسية للقارئ نسفا، ثم يأتي إلى قوة أذواقه، وقيمه، وذكرياته، فيجعلها هباء منثورا، إنه ليظل به كذلك، حتى تصبح علاقته باللغة أزمة. 
النص اللذيذ هو النص الذي تفهمه ويكون نابعا منك، وتجد أنه قريب عليك قربا حميميا لا يثير أي نزاع معك، ويتميز أيضا باستقلاليته التامة فيقول: "إن لذة النص، هي تلك اللحظة التي يتبع فيها جسدي أفكاره الخاصة؛ ذلك لأن أفكار جسدي ليست أفكاري". 

يتفرع الحديث عن لذة النص، ليشمل طرق القراءة والتأثيرات الفكرية والأدلجة التي يمارسها كاتب النص على نصه، فإلى أي مدى يمكنه أن يتحكم بلذة نصه، وما مدى تأثير السلطات على لذة النص، فهذا اللسان المحبر كما يسمي اللسان (الذي ينتج نفسه تحت حماية السلطة) إنما هو لسان مكرر دستوريا، فإن كل مؤسسات اللسان الرسمية، إنما هي آلات لتكرار القول مرارا، تعيد القول البنية نفسها والمعنى نفسه. التشابه والتكرار وأن يكون كاتب النص خاضعا لسلطة عليا، ومجردا النص من حريته واستقلاليته، هي عملية تهجين النص وخلقه في خلقة لا تليق به، وكما يقول بارت إن بعضهم يريد نصا (فنا، لوحة) بلا ظل، ومقطوعا عن "الأيديولوجية المهيمنة" ولكن هذا يدل على أنهم يريدون نصا لا خصوبة فيه، ولا إنتاجية، إنهم يريدون نصا عقيما. 

ويؤكد أن لا توجد أطروحة عن "لذة النص" بإمكانها أن تكشفه كشفا كاملا، وكل ما يدور حول لذة النص لا يتعدى أن يكون تفتيشا "استبطانا" وهو يدوم طويلا. فيالها من غبطة نقية! 
ومن النصوص التي يجد فيها بارت اللذة في القراءة هو نص قصة صرّازين لبلزاك والتي كتب فيها دراسة نقدية وأدبية وفكرية وسيميائية ونشرت في كتاب س/ ز. 

ويضيف: "إنني في كل مرة، أحاول فيها أن "أحلل" نصا منحني اللذة، فإن ما أجده ليس "ذاتيتي" إن ما أجده "فرديتي" ذلك المعطى الذي يجعل من جسدي منفصلا عن الأجساد الأخرى. فيملِّكه ألمه، أو يملِّكه ذاته: إن ما أجده هو جسد المتعة. وإن جسد المتعة هذا، هو أيضا ذاتي التاريخية. 

وأما عن دور نظرية النص في التعامل مع لذة النص، فيقول إن مكان اللذة في نظرية النص ليس مؤكدا، ولكن سيأتي يوم، نشعر فيه بضرورة الإسراع بفتح النظرية قليلا، وبنقل الخطاب، واللهجة التي تتكرر وتتقوى لنعطيها هزة السؤال، ألا أن اللذة هي السؤال. 

لذة النص لا تعتمد على النص وحده، فالقارئ (كلما ازدادت ثقافته؛ تعاظمت اللذة وتنوعت)، فلذة النص يمكن أن تعرف نفسها عبر الممارسة (من غير أن تتعرض لأي خطر من أخطار القمع). أطلق حرية النص، حرر نفسك من أي قيود قد تحرمك من اللذة، واهنأ بلذة نص لا تنتهي. 

مؤمن الوزان.

تواضع في غير موضعه – ديفيد دالغليش.


عن رواية "المُتَرْجِمة" لمؤلفها جون كراولي الصادرة عام 2002 عن مؤسسة مورو- 304 صفحة.
شبّه جون كراولي أسلوبه بأسلوب فلوبير وديكنز وتولستوي في مقابلة حول روايته الأخيرة (The Translator)، غير أنه ضمّن ملاحظة "أنا لا أضع نفسي في منزلتهم". تواضعه محبب إلى النفس لكنه في غير موضعه. هو بالطبع ليس بشهرة عمالقة الأدب هؤلاء، لكن ذلك لا يعزى إلى قلة عبقريته. إنما لم يُتِح سجل إصداراته الزمني لأعماله أن يتلقى هذا النوع من الاهتمام النقدي الذي يؤدي إلى تمييزه والتعريف به.
كانت براعة كراولي جلية في رواياته الأولى، لكنها سُوِّقت ضمن فئة الخيال العلمي، ونُشرت في شكل كتاب ورقي في سوق جماهيري. وهكذا ظلت كتاباته نائية عن حدود الأدب "ذائع الصيت" -بطريقة حتمية ومجحفة-، على الرغم من الثناء الذي ناله في مجال الخيال التأملي [1] لروايته الثالثة "Engine Summer"، وروايته الرابعة رفيعة المستوى "Little, Big".
لكراولي قراء مخلصون وشغوفون، لكنه لا يزال مؤلفًا ضمن الكتّاب المفضلين عوضًا عن أن يكون من مشاهير الأدب - ولعل هذا هو الأفضل.
نُشرت رواية "Little, Big" في عام 1981، وهي واحدة من أعظم روايات الفانتازيا، ومنذ ذلك الحين كتب كراولي بعض القصص والروايات القصيرة (أبرزها وأروعها  Great Work of Time) وركز معظم اهتمامه على مجموعته الروائية الهائلة "إيجيبت" والمتسلسلة في أربع روايات، والتي من المقرر أن يصدر جزؤها الختامي العام المقبل [2].
رواية "المترجمة" هي النقطة التي نزح فيها كراولي عن ايجيبت والفانتازيا على حد سواء. وهي أول عمل طويل كتبه كراولي لا ينتمي للخيال التأملي بشكل صريح. يحكي عن تاريخ سري للعالم ويقدم تفسيرات خارقة للطبيعة للأحداث الحقيقية -دون تأكيد-.
في الواقع تعد رواية "المترجِمة" أول عمل مكتوب بطول رواية مستقلة، أكمله كراولي خلال 21 عامًا. ثم يقع على عاتقه عبء التوقعات الكبيرة المنوطة به. ربما خيّبها -لمجرد أنه لم يكن صورة أخرى لرواية Little, Big  -وكيف يمكن أن يكون كذلك؟- ذاك العمل ذو التوازن المثالي والصدى غير المنتهي. ومع ذلك فإن المترجمة –هذا العمل الأنيق والسوداوي المدروس- هو عمل لمؤلف بارع وحكيم في أشياء كثيرة تتمثل في: الحب، والتاريخ، والشِّعر.
تدور أحداث رواية (المترجِمة) –تحديدًا الجزء الأكبر منها- في زمن أزمة الصواريخ الكوبية، ويركز على العلاقة بين امرأة شابة أمريكية، هي كريستا مالون (كيت)، ورجل روسي في منتصف العمر يدعى إينوكينتي إيساييفيتش فالين.
فالين شاعر في المنفى، يعمل مدرسًا في كلية في الغرب الأوسط لم يُذكر اسمها. وكيت طالبة في الكلية وهي بطلة الرواية التي تدور حول قصة تأثير فالين على حياتها إلى جانب أشياء أخرى. تحدث أجزاء من الرواية خلال مرحلة مراهقة كيت وسنواتها اللاحقة، لكن هذه المشاهد مسرّبة خلال وجودها في الكلية، ومع فالين، والتي تميزها بعمق.
توعز الرواية إلى أن حياة كيت بأكملها في سن الرشد ما هي إلا امتداد لعلاقتها بفالين. نعرف أنها مضت قدمًا في حياتها وتزوجت وأنجبت أطفالًا، لكننا لا نرى تعاملها مع أسرتها؛ حتى أننا لا نعرف أسماءهم.
تلتقي كيت فالين عندما تذهب للتسجيل في فصولها في بداية الفصل الدراسي، وتقودها المصادفة أو القدر -بعد محادثة قصيرة معه- لأن تقرر التسجيل في فصله، مع أنه ممتلئ. يلعب الشِّعر دورًا في بدء العلاقة بينهما وتطورها -والتي تصبح في نهاية المطاف علاقة حب- تعطي كيت فالين واحدة من قصائدها، تقرأ أعماله وتتحدث معه عن الكتابة والترجمة، وتقرر أن تتعلم الروسية وتصبح في النهاية مترجِمة. أثناء عملهما معا في ترجمة كلماته إلى اللغة الإنجليزية، يقعان في حب بعضهما بطريقة تتسم بالحذر والغموض.
بغض النظر عن اسم فالين، فإن كيت هي الطرف البريء في هذه العلاقة. هذا لا يعني أنها لا تعرف المعاناة. بالتأكيد تعرفها؛ فقد ترعرعت في أمريكا المزدهرة ما بعد الحرب، ولكن على الرغم من نشأتها المتحفظة، فقد عانت من خسائر مدمرة أثناء صباها. ومع أنها لم تكن تشعر ببرد الحرب الباردة ينخر عظامها في بداية الرواية، إلا أنها سرعان ما ستشعر بذلك. لكنها لا تزال بسيطة، بريئة مقارنة بفالين الذي كان لمعاناته رتبة أخرى في سُلّم القياس التقديري. 
في طفولته نشأ فالين في روسيا الستالينية دون عائلة، كان ينتمي إلى عالم البيسبريزورن [3] من الأطفال اليتامى الذين يعيشون غير مرئيين تحت الأرض وفي الخفاء، في صورة ديكنزية [4] مظلمة للمجتمع الروسي (يبدون كمخلوق خيالي). في سن الرشد فقد فالين زوجته وابنته، ثم هجر وطنه. كانت محنته تمثل معاناة أمّة خلافًا لكيت التي كانت خسائرها فردية مهما كانت صادمة. كان الشِّعر لكليهما وسيلة للتعبير عن الآلام، وترياق لليأس. كان عزاء وسلوان لهما لأنه قادهما بشكل غير مباشر إلى بعضهما.
يميل أسلوب كراولي عادة إلى كتابة روايات بسرد صعب وتعقيد معرفي. لكن هذا لا ينطبق على رواية المترجمة. لا يعني أنه كتابٌ سهلٌ ألبتة -فهو مبني على المفارقات والغموض والألغاز- لكنه في جوهره قصة حب تتسم بالوضوح والشفافية. قد يكون هناك شيء ممقوت في العلاقة الرومانسية بين أستاذ في منتصف العمر وطالبته المعجبة به، لكن كراولي ليس فيليب روث أو جون أبدايك. يقنعنا بذكاء بأن شعور فالين وكيت حقيقي. روحان متشابهتان تجمعهما احتياجات مشتركة ليس لها أي علاقة بالشهوة. المشاهد التي ستبقى في ذاكرتي مدة أطول من غيرها تلك التي بين كيت وفالين: وهي تلقي أبيات بودلير في فصله الأول؛ وحوارهما في وقت متأخر من الليل في المطعم حيث تبدأ كيت تستوعب كل ما مرّ به فالين؛ ومناقشة كيفية ترجمة التورية باللغة الروسية دون أي مكافئ في اللغة الإنجليزية. ظاهريًا كل هذه المشاهد شديدة البساطة، إلا أن الخيمياء المكونة لنثر كراولي تملؤها بمشاعر متعددة القيم والمعاني.
تعرف كيت الكثير عن فالين إذ يقضيان وقتًا طويلًا معًا، لكنه لا يرخي دفاعاته أبدًا. كان يعرف ما لا تعرفه، بأنه ليس ثمة توافق بينهما. يقول فالين عن الشِّعر: "لا يوجد سوى عالم واحد، في داخله عوالم عديدة، لأنه موجود بأكثر من طريقة في الوقت ذاته؛ ولا يمكن ترجمة هذه الطرق المختلفة بعضها إلى بعض". ربما كان يقصد أيضًا علاقته بكيت. هما ينتميان إلى عوالم مختلفة داخل عالم واحد، ولا يمكن سد الفجوة بينهما، ناهيك عن إمكانية التقاط الفروق الدقيقة في قصيدة مترجمة عن الأصل. ومع هذا ما زلنا نقرأ القصائد المترجمة، تنسجم حياتهما -للحظة وجيزة- بشكل ممتع كقافية، مثل تورية موجودة في لغتين. 
إلى جانب علاقة كيت وفالين يوجد ما هو أكثر من ذلك بكثير في هذه الرواية، ولكن ليس بذات القوة. ينتقل السارد إلى الوراء وإلى الأمام في تزامن متسق، دائمًا بدقة واضحة، مع إدخال العناصر التي تعقد القصة وتضعها في السياق الأوسع للحرب الباردة، مسار تصادم التاريخ الأمريكي والروسي. ويظهر عميل حكومي أمريكي ذكي يتجسس على فالين ويحاول تحريض كيت عليه. وهناك صديقها الحميم المتورط في مجموعات طلابية راديكالية. وهناك سارد خفي يشير تدريجيًا إلى أن فالين قد يكون ملاكًا حارسًا للأمة الروسية وأن شِّعره يمكن أن ينقذ العالم.
هذا العنصر الأخير ضروري لسرد الرواية وتأثيرها، ولكنه يبدو أيضًا إلى حد ما كفكرة طارئة. لا يحاول كراولي بذل أي جهد ليكشف لنا عما إذا كان يجدر بنا فهم المقصود حرفيًا أو مجازيًا. 
تتأرجح الرواية بين الواقعية والخيال، وتحمل القليل من الغموض. وتفتقر إلى الجوانب الرمزية لحياة وموت فالين إلى الوزن والترابط مع عناصر الرواية الأكثر دنيوية والتي تُقدم بشكل رائع. لذا من الصعب إلى حد ما الاعتماد على فكرة أن الشِّعر يمكن أن ينقذ العالم، ولكن من السهل تصديق أنه يمكن أن يعيد لكيت حياتها. 
  • ديفيد دالغليش: كاتب في مونتريال. يكتب مراجعات عن الأفلام على الإنترنت.
  • ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.



[1]  Speculative Fiction: أدب الخيال التأملي يجمع بين الخيال العلمي والفانتازيا والرعب.
[2] صدر جزؤها الختامي عام 2007.
[3]  Besprizornye: فئة الأطفال المنبوذين من اليتامى والمهجرين زمن الاتحاد السوفيتي.
[4]  Dickensian :صفة مشتقة من اسم الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز، ترمز للفقر وعدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية والحياة المظلمة للمحرومين.

رينيا شبيغل ما قبل آن فرانك: الرسالة المشؤومة من مذكرات الحرب العالمية الثانية والمنسية منذ أمد طويل- ريك نواك.




برلين ـ حين أحكم النازيون قبضتهم على أوروبا في عام 1939، جلست رينيا شبيغل -فتاة يهودية تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا في بولندا- برفقة صديقة جديدة [مذكراتها].
كتبت في 31 يناير من ذاك العام: "عزيزتي يومياتي؛ اليوم تبدأ صداقتنا العميقة".
كانت رينيا توثق أحداث حياتها لأكثر من ثلاث سنوات، في أكثر من ستمائة وخمسين صفحة مكتوبة بخط يدها على نحو مكثف.
كتبتْ: "لن تخونيني".
لكن شخصًا آخر خانَها.

في 30 يوليو 1942 أعدم النازيون رينيا، وهي تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، بعد اكتشافهم مخبأها في مدينة برزيميسل جنوب شرق بولندا.
بعد أكثر من نصف قرن من الزمان، أُعلن عن نشر مذكراتها المترجمة - الشبيهة بشكل لافت بمذكرات آن فرانك في بعض النواحي- ولكنها ظلت لمدة طويلة مخبأة في قبو في الولايات المتحدة.
سيكون الإصدار المقرر لـ "يوميات رينيا: يوميات المحرقة" في وقت حرج يوم الثلاثاء (صادف تاريخ 24-9-2019)، إذ تقوم القومية والشعبية اليمينية بعقد مقارنات في الثلاثينات، بما في ذلك في الولايات المتحدة؛ المكان الذي هاجرت إليه إليزابيث بيلاك (شقيقة رينيا) مع والدتها بعد الحرب العالمية الثانية.

تقول بيلاك البالغة من العمر ثمانية وثمانين عامًا، وهي تتحدث من فندق في وارسو هذا الأسبوع، حيث كان من المقرر أن تحضر عرض فيلم وثائقي بعنوان "الأحلام المكسورة" للمخرج الأمريكي البولندي توماس ماجيرسكي: "أنا قلقة مجددًا". وأعربت عن أملها في أن تساعد قصة أختها على "تذكير الصغار والكبار" بأهوال ذاك الزمان.

لم تجد بيلاك القوة اللازمة لقراءة كامل اليوميات التي كتبتها أختها حتى أيامها الأخيرة.
وقد قالت: "إنها مؤثرة جدًا، ومؤلمة جدًا بالنسبة لي".

رينيا بصفتها الأخت الكبرى: "كانت مثل الأم البديلة لي" و "شخص رائع، في منتهى الروعة".
قالت بيلاك: "كلما كُسر قلبها، كتبت قصيدة".

تشير مذكرات رينيا إلى مدى اهتمامها بأختها، النجمة السينمائية الصغيرة في بولندا في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، على الرغم من شعورها بالاستياء من حين لآخر وهي ترى قدرة أختها الصغرى على خطف الأنظار.

ثلاث سنوات، وزهاء ستمئة وخمسين صفحة.

ترصد المذكرات مسار رينيا من مُراهقةٍ تشعر بالقلق من تهديد النازية الوشيك، إلى ضحية لاحتلال النازيين لبولندا، ومهمتهم المعلنة لإبادة الشعب اليهودي.

قبل أسابيع من غزو بولندا، بدت رينيا تشعر بالخطر المتزايد. كتبت في مارس 1939: "ماما قلقة جدًا عليّ. أواه! أنا تعيسة جدًا". وأمضت والدتها مدة طويلة في العاصمة وارسو في عام 1939 وفي الأعوام التي تليه، على أمل الترويج لابنتها الصغرى لتصبح ممثلة أفلام.

بقيت رينيا وشقيقتها في جنوب شرق بولندا، حيث واصلت رينيا توثيق قلقها المتزايد. وكتبت أيضًا عن وقوعها في الحب ومحاولتها ممارسة الحياة الطبيعية. في وقت لاحق من ذاك العام - وهي لا تزال بعيدة عن والدتها - كتبت رينيا بشعور شديد بالضرورة الملحة: "لقد هوجمتْ برزيميسل. كان علينا الفرار. هربنا نحن الثلاثة: أنا و[إليزابيث] وجدي... بقيت جدتي وراءنا".

بعد أسابيع كتبت: "يا إلهي القدوس، أرجوك دعني أموت ميتة سهلة".

خلال السنوات الثلاث التالية، وفي مئات التدوينات المفصلة وثّقت رينيا انتقال أسرتها إلى الغيت حي اليهود، مع الآلاف من اليهود الآخرين الذين تلقوا مهلة إخلاء في غضون أربع وعشرين ساعة فقط. كان النازيون يستعدون للمراحل الأخيرة من الهولوكوست، وكانت قبضتهم على البلاد تشتد.

حينما كان النازيون يستعدون لنقل آلاف اليهود إلى معسكر الموت، قام  زيجموند شوارزر صديق رينيا، بترتيب محاولة يائسة لإنقاذ الأختين - افترقت الأختان عن بعضهما وعن الجد والجدة.

كتبت بيلاك في خاتمة الكتاب عن ذكرياتها المفقودة عند توديعها لرينيا."سأدفع أي شيء لأتذكر آخر كلمات قالها بعضنا إلى بعض. سأدفع أي شيء لأتذكر أني قلتُ لها ما أكثر حبي لها!".

افتراقها عن جدتها كان مؤلمًا أيضًا. إذ تذكر بيلاك: "جدتي التي أحببتها كثيرًا، ابتعدت وهي ترفع يديها على وجهها".

بعد وقت قصير من افتراقهم، اكتشف النازيون مخبأ رينيا وأعدموها. ظل مصير الجد والجدة غير معروف، وتقول بيلاك أنها تظن أنهما قُتلا ودُفنا في مقبرة جماعية.

استطاعت بيلاك الفرار مع والدتها إلى النمسا بمساعدة ضابط ألماني يتحدث الألمانية بطلاقة، كان قد وقع في حب الأم. وبعد انتهاء الحرب هاجرت كلتاهما إلى الولايات المتحدة، ثم انضم إليهما لاحقًا صديق رينيا.
تذكر بيلاك قول شوارزر لها: "لدي شيء لكِ".
 "لقد كانت مذكرات رينيا، جميعها سبعمائة صفحة. انفجرتُ أنا وأمي باكيتين."هذا ما كتبته وهي تذكر اللقاء في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. طوال مدة وجودهم معًا، لم تكن بيلاك تعلم أن أختها تكتب مذكرات.

بعد موت رينيا ووالدي شوارزر -اللذين كانا مختبئين في المكان نفسه- ختم صديقها مذكراتها بهذه الكلمات: "قرر القدر أن يأخذ أعز أحبائي بعيدًا عني. انتهت حياتي. كل ما يمكنني سماعه الآن طلقات الرصاص، طلقات تلو طلقات".

لكن على الرغم من التفاصيل المؤلمة -أو ربما بسببها- ظلت مذكرات رينيا في قبو في مدينة نيويورك لأكثر من نصف قرن، لم تمسها يد.
كتبت بيلاك في ختام مذكرات شقيقتها: "لا أستطيع أن أشرح لماذا سُمح لي بالعيش، ولهذا السبب حاولت منذ وقت طويل أن أبعد عقلي عن التفكير في هذا".
في نيويورك، التحقت بيلاك بجامعة كولومبيا وتزوجت لاحقًا.

طريق المذكرات الطويل نحو الاعتراف العالمي.

عندما بدأ أطفالها يسألون عن قصة العائلة، بدأت بيلاك تفضي بمكنوناتها تدريجيًا. 
تذكر سؤال ابنتها المتكرر: ماذا كان في هذا الكتاب عن خالتي؟
"هكذا بدأ الأمر".
لعبت ألكسندرا بيلاك (ابنة ماجيرسكي وبيلاك) دورًا مهمًا في إصدار اليوميات، بداية باللغة البولندية والآن بلغات أخرى.

وقالت ابنتها لصحيفة واشنطن بوست: "كانت أمي مترددة في الحديث عنها لأنها تميط اللثام عن ذكريات مؤلمة. لذا فكرت في هذه اليوميات المواربة والقابعة في القبو".
كلما تُرجمت صفحات، زادت قيمتها الأدبية وأهميتها التاريخية وضوحًا.
قالت ألكسندرا بيلاك عن رينيا: "لقد منحتها الكتابة الحرية لتعبّر عن نفسها، حتى مع وجود الشر والكراهية في كل مكان حولها". 
وقالت: "إن من المفارقات نشر المذكرات الآن... لأن نفس العلامات بدأت تظهر رؤوسها القبيحة مجددًا. إن أهميتها الآن أكثر من أي وقت مضى".

عادت إليزابيث بيلاك هذا الأسبوع إلى فندق يوروبجسكي في وارسو، حيث طلبت هي ووالدتها اللجوء قبل فرارهم أخيرًا إلى الخارج. 
قالت بيلاك عبر الهاتف من الفندق هذا الأسبوع: "لقد نجوت من الحرب، كابدتُ الحياة، وها أنا هنا مرة أخرى بعد خمسة وسبعين عامًا" هذه المرة لتجذب الانتباه إلى قصة عائلتها ورسالتها المعاصرة. "يجب على أولئك الذين قرأوا قصة رينيا أن يحاولوا مساعدة العالم لئلا يصبح ما كان عليه آنذاك".

  • ريك نواك: يغطي حاليا الأخبار الدولية من مكتب واشنطن بوست في برلين. عمل سابقًا في "واشنطن بوست" في واشنطن وفي بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا.
  • ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب