المشاركات الشائعة

الأربعاء، 18 نوفمبر 2020

مسيرتي المالية - ستيفن ليكوك

                                                             




عندما أذهب إلى المصرف يصيبني الإرباك، إنَّ الموظفين والبوابات يسسببان لي القلق، فقد كان مشهد المال يهزني، لقد كان يهزني كلُّ شيء هناك. ففي اللحظة التي دخلت فيها عتبة المصرف وحاولت أن أبرم صفقات تجارية؛ أصبحت أحمقَ غير مسؤول. علمت بذلك سلفًا، ولكنَّ مُرتَّبي ارتفع ليصل إلى خمسين دولارًا شهرياً وأدركت حينها أنَّ المصرف هو المكان الوحيد لذلك، فدخلت متثاقلاً ونظرت بخجلٍ إلى الموظفين وراودتني فكرة بأن الشخص الذي يريد أن يفتح حساباً لا بد وأن يستشير المدير بذلك، فتوجهت إلى محاسبٍ بارزٍ وكان المحاسب ذو قامةٍ طويلةٍ؛ شيطان لطيفٌ. هزتني نظراته. وكان صوته كئيباً، فقلت له: "هل بإمكاني التحدث مع المدير؟" وأضفتُ بعدها بجديةٍ "على انفراد". 

لم أعلم لمَ أضفت على انفراد حينها.

أجابني المحاسب: "بكل تأكيد". ثم استدعاه. 

 لقد كان المدير رجلاً رزيناً وهادئاً، حينها أمسكت ستَّة وخمسين دولاراً على هيئة كرة مكومة من محفظتي وخاطبته قائلاً: "هل أنت المسؤول؟".

 فأجابني: "نعم".

فقلت له: "هل بإمكاني التكلم معك على انفراد".

 لم أشأ أن أقول على انفرادٍ مرة أخرى ولكن بدونها بدا الأمر بديهيًّا، نظر إليَّ المدير ببعض القلق وشعر بأنَّ لديّ سرًّا خِطرًا أودُّ الكشف عنه فقال لي: "تفضل من هنا".

 قادني إلى غرفة خاصة وأدار المفتاح في القفل وخاطبني قائلاً "نحن في أمان هنا من المقاطعة تفضل بالقعود".

 جلسنا معاً ونظر بعضنا إلى بعض، لم أملك القدرة على النطق، فقال لي: "أعتقد أنك واحد من رجال بينكرتون".

 لقد أدرك بأنني تحرِّي من طريقة غموضي وعلمتُ بمَ كان يفكر وهذا ما جعلني أشعر بالسوء.

 أجبته "لا أنا لستُ من رجال بينكرتون". 

لأوحي له بأنني جئت من جهة منافسة "أصدقك القول" شرعتُ وكأن كل شيء قد حثني لكي أكذب، "لست تحرِّيا على الإطلاق. جئت إلى هنا لأفتح حساباً، وعازمٌ على إبقاء جميع أموالي في هذا المصرف".

 بدا على المدير الشعور بالارتياح وقد استنتتج الآن بأنني ابن البارون روتشيلد أو غوولد الشاب، وخاطبني قائلاً: "أفترض أنه حساب كبير".

 فهمست له: "كبير إلى حدٍ ما، إذ إنه من المفترض أن أودع ست وخمسين دولاراً شهرياً دوريًا". 

نهض المدير وفتح الباب واستدعى المحاسب وقال بصوت مرتفع وغاضب: "سيد مونتغمري إنَّ هذا الرجل يريد أن يفتح حساباً وسوف يودع ستةً وخمسين دولاراً. طاب يومك".

 نهضت.

 فُتح بابٌ حديديٌّ كبيرٌ أمامي في الغرفة الجانبيّة.

 "طاب يومك" قلت، وخطوتُ داخل الخزينة. 

"اخرج من هنا" قالها لي المدير ببرود وأراني الطريق الآخر.

 فذهبت إلى موظف الحسابات والتقطت كرة المال وأعطيته إياها في لحظة سريعة ومتشنجة كما لو أنني كنت أقوم بخدعة سحرية وكان وجهي شاحباً بوضوح.

 قلت له: "ها قد أودعته". بدت نبرة الكلمات قاسية، "دعنا نفعل هذا الشيء المؤلم ونحن ننسجم متماشين معه". 

 أخذ المال وأعطاه لموظف آخر، وجعلني أكتب المجموع على قصاصة ودوّن إسمي في كتاب. لم أعلم ماذا كنت أفعل وقد تلاشى المصرف حينها أمام ناظري.

 سألت بصوت مرتجف أجوف: "هل أُدعت؟ إذًا أريد أن أحرر شيكاً". 

كانت تدور فكرتي حول سحب حوالي ستة دولارات منه للاستخدام الحالي. وقد أعطاني الموظف دفتر شيكات. وبدأ موظف آخر بالتوضيح لي عن كيفية تحرير الشيك وتكوّن لدى الأشخاص في المصرف انطباعاً عني بأنني مليونيرٌ فاسدٌ. 

كتبت على الشك وتوجهت به نحو الموظف فنظر إليه وسألني باستغراب: "ماذا! هل تحرره بأكمله مرة أخرى؟".

 وعندها أدركت بأنني كتبت ستة وخمسين دولاراً بدلاً من ستة وراودني شعور بأن مافعلته كان يصعب شرحه كثيراً وقد توقف جميع الموظفين عن الكتابة لينظروا إليّ؛ اندفعت بتهور وطيش. 

"نعم كل شيء".

"هل ستسحب أموالك من المصرف؟".

 أجبته: "كل سنتٍ منه".

 سألني الموظف مندهشاً: "لن تودع بعد الآن؟". 

 أجبته: "على الإطلاق" 

فاجأني أملٌ أحمقُ حينها بأنهم ربما اعتقدوا بأن شيئاً ما جعلني أشعر بالإهانة وأنا أحرر الشيك وغيرت رأيي حيال الأمر وقمت بمحاولة تعيسة لأبدو مثل رجل ذي مزاج حاد وعصبي. أخذ الموظف يستعد لتسديد المال وقال: "كيف تريد أن تأخذه؟". 

"ماذا؟".

 قال: "كيف تريد أن تسترد أموالك؟".

 "آه" فهمت مقصده وأجبته بدون تفكير "بفئة الخمسينات". 

 وأعطاني فاتورة قيمتها خمسين دولاراً وسألني بجفاف "والستّةُ المتبقية؟".

 أجبته: "بفئة الستات".

 فأعطاني إياها وأسرعت بالخروج كما لو أن الباب الكبير قد تأرجح أمامي وأصبت صدى الضحك الذي اخترق سقف المصرف. ومنذ ذلك الحين لم أودع شيئاً بعدها وأحتفظ بنقودي نقداً في جيبة بنطالي ومدّخراتي أيضاً على هيئة دولاراتٍ فضية بداخل جورب.


ترجمة : آلاء عبدالغني قبش.


                         

الاثنين، 9 نوفمبر 2020

البحث عن الزمن المفقود - (الكتاب السادس)

 

الشاردة - مارسيل بروست.



يحط بروست في الكتاب السادس "الشاردة" رحالَ سباعيته المسافرة في زمنه الماضي محددًا الخطوط التي ستنطلق فيها النهاية في الجزء الأخير "الزمن المستعاد". يُتمم بروست في كتابه السادس مرحلة ما بعد ألبرتين و"الشاردة" أو "ألبرتين الهاربة" مشيرًا إليها في العنوان، وكذلك يكشف المستور الذي بقي طويلًا يسعى إلى معرفته والمتمثل في حقيقة ألبرتين وميولها الجنسية وهو الشق الثاني من الرواية والمتمم للكتاب الرابع "سادوم وعامورة". يشابه هذا النص في الشاردة النص السابق في السجينة، فهو عرض تحليلي نفسي لذات السارد الذي يضع نفسه تحت مجهر الفحص والتدقيق ثم المعالجة لذاته في هذه العلاقة التي ربطته مع ألبرتين وقراءة هذه الألبرتين بما تتكشَّف له كل الأسرار التي استطاع أن يصل إلى ما يختفي وراءها من أسباب وحقائق. ولا يني السارد عن إثبات نفسيته المضطربة والمشوشة وعالمه الداخلي الذي ما فتئ يتزعزع ويتخلخل إلى درجة إثارة الشكوك حول سلامته النفسية والعقلية في نفس القارئ الذي يخاطبه في هذه الراوية. ونبقى في حلقة تساؤل ما الذي أراده سارد بروست من ألبرتين: هل كان في حالة حب أو رغبة التملك أو الغيرة على شخص أحبه ذات يوم ولم يرد خسارته؟ ولماذا السعي في الزمن الماضي خلف ألبرتين السجينة والشاردة ثم الميتة التي أثارت وشغلت صفحات طويلة من رحلته إلى/ في الماضي؟ 

لا تمثل ألبرتين كما أقرأها شخصَها بذاتها وما ارتبطت به مع سارد بروست سواء من وقائع وأحداث وحب وعلاقة غرامية لكنها تمثل جانب من جوانب سارد بروست أو "مارسيل الشخصية الخيالية"، فهي مرآة سعى سارد بروست إلى التقاط صورته أو ما تبقى من صورة من ذاكرة المرآة- ألبرتين. إن ألبرتين هي الذات الثانية الخارجية التي قرأنا في قراءة السارد لها نَفْس السارد عينه في قراءة معاكسة وذاتية في الآن نفسه، فما تفعله ألبرتين تجاه السارد هو ردة فعل معاكسة لتصرفات سارد بروست فالشاردة نتيجة للسجينة، والتقلّب العاطفي في كثير من قراراتها هي سلوكيات تعكس التقلبات لسارد بروست، بل وقد أسمح لنفسي بالقول إن حتى الشذوذ الجنسي ما هو إلا إسقاط من إسقاطات بروست الحقيقية في شخصياته، فهي تمثل جزءًا من بروست الحقيقي والخيالي

تبقى شخصية ألبرتين للقارئ شخصية معروفة خارجيًا فقط، وتُعرَّف وفقًا لما يسرده الرواي من مشاهدات أو احتكاكات وتعايش معها أو ما يسمعه عنها من الآخرين، فهي رغم أنها شغلت الكثير من الصفحات في هذا العمل منذ الكتاب الثاني- تبقى مجهولةً بالكامل لنا، فالسارد (الراوي) لم يمنحها الفرصة في روايته عن أن تعبر عن نفسها، فنُظر إليها وسلط الضوء عليها حسبما تراه وتعرفه الشخصيات المحيطة بها، وهذا يحفر خندقًا بين الجميع وبين ألبرتين، مخلفًا عالم ألبرتين المجهول، والذي لن نعرف عنه شيئًا للأسف، فألبرتين الحقيقية ليست ألبرتين الرواي ولا شخصياته، ألبرتين الشخصية اللغز في هذا العمل، فهي شخصية محورية ورئيسة لكنها شخصية لم تبرح من منطقة الظل التي حددت لها، وما برحنا طوال العمل ونحن ننتظر دورها الحقيقي في أخذ مكانها للتعبير عن نفسها، لتقول لنا من هي ألبرتين وهل صحيح كل ما يُشاع عنها


ألبرتين المظلومة 


ربما لو طال العمر ببروست لكتبَ كتابًا ثالثا عن ألبرتين وعنونه بـ "المظلومة" فالسجينة الهاربة قد تكون ظُلمت بكل ما رويَ عنها من شذوذ جنسي وعلاقات سحاقية مع النساء لأسباب بيّن السارد شكوكيته حول بعضها في حالة إيميه لكنه خضع مصدقًا لاعترافات أندريه بشأنها. لكن السؤال ما الذي يُثبت صدق أندريه ألا يحتمل أن تكون تكذب هي الأخرى لغايات في نفسها لم يحسب لها سارد بروست حسابه، وما يزيد المسألة غموضًا ويدفعنا إلى الشك في أن تكون ألبرتين مظلومة هو موتها؟ فالموت هنا يغلق الباب ويضع الشمع الأحمر على شخصية ألبرتين وما قيل عنها ويضع قُبالتنا خيار التصديق فحسب لكن هذا لا يعني الحقيقة المطلقة ولا الصحيحة حول ألبرتين التي ربما خلّفت يومياتٍ تكشف فيها عن حقائق ما دار حولها وتوضح ما التبس من حقائق وما انتشر من شائعات وتميط اللثام عن الأسرار التي بقيت معذبةً لسارد بروست. ومن مكاني كوني متلقيًا لهذا العمل وقارئًا له، وبناءً على ما حواه العمل من حقائق كانت في وقتها جليةً ولا يقرب منها شك أو لبس أبدى الزمن سوءتها وأظهر حقيقتها التي هي عليه كما في حالة "سان لو" أو التغيرات التي تحصل كما في آل غيرمانت تجاه زوجة سوان "أوديت" وابنته "جيلبيرت"، فنحن في خِضمِّ زمن متغير ومغربل وكاشف لحقائق الأمور وجواهرها إلا إنَّ سارد بروست قد أمات شخصيته متعمدًا ليُبقي جزءًا من القصة مجهولًا، ليبقى فصلًا من حياة ألبرتين الحقيقية غامضًا. والسؤال الذي يطرح لماذا فعل هذا بشخصيته وما الدوافع، أهو الانتقام؟ أميل إلى أن موت ألبرتين هو انتقام منها لأنها لم تبذل جهدًا للخروج من منطقة الظل ولم تثُر على الراوي وبقيت محاولة لعب الدور الذي أنيط بها دون محاولة الخروج، فعملية الخلق الذاتي للشخصية الرواية تفرض نفسها أحيانًا على مُبدِعها ومغيّرة قدرها لكن في حالة ألبرتين فقد حافظت على المظهر الذي كساه بها الراوي، ولم تغيره مع استمرارها بلعب الدور الذي تشاءه في العالم المغيّب عن سارد بروست -إن صدقنا بحقيقة هذا العالم ذي الجانب العاموري- الذي آمن به سارد بروست اللاعب لدورين (دور الراوي للرواية، ودور شخصية في الرواية). يتعامل سارد بروست مع ألبرتين وفقًا لحالة وإمكانية الشخصية الروائية ذات الإمكانيات المحدودة معرفيًا لكن الحُكم عليها هو حكم الراوي المُبدع لشخصيته، هذا التمازج ما بين الدورين الذي لعبه سارد بروست، يجعل كل ما ظهرت به ألبرتين وقامت به وما ذُكر عنها محل شك ولا يحتمل التصديق التام، فالراوي في حالة امتعاض من شخصيته التي لم تخطُ مبادرةً في عمله، والراوي الشخصية (السارد) صدّق في نطاق إمكانياته في هذا الدور ما قيل عن ألبرتين، لتحاصرَ ألبرتين ما بين الاثنين وتضيع في تمازج عقلين منفصلين عن بعض ولعب كل منها دوره في الحكم على ألبرتين دون التأثير في الآخر


المدن في الزمن المفقود


منذ الصفحات الأولى في هذه الرواية العملاقة يتضح دور المكان (المدن) التي عاش فيها سارد بروست وسافر إليها وتعلّق بها، سواء ما ظهر في عناوين الفصول الداخلية مثل كامبريه، وبالبيك (اسم متخيّل لمدينة حقيقية)، أو أسماء البلدان، إلخ من مدن ذكرها في سفره هذا. يظهر لنا سارد بروست في الوصف المكاني في روايته وكأنه أشبه برحّالة يسافر من مدينة إلى أخرى، وحين يحط في مدينة فهو يصورها بطبيعتها ومعالمها وفنَّها إن وجد ويجسدها كاملةً في ذاته وفكره وما أجاشت في نفسه من مشاعرَ وأحاسيسَ وأفكارٍ، لتظهر علاقةٌ مع المكان هي أقرب إلى الاتحاد ما بين النفس البشرية والمدينة، يتجمع فيها الحب والتوق إلى هذا المكان أو ذاك، ويبقى حاضرًا في عمله كون المدينة هي المكان الروائي، وشاخصًا في ذاكرته ووعيه، وما يجتاح هذه المدينة من تغيرات مع مرور الزمن. إن العلاقة ما بين الوعي الشخصي الفردي والزمن لم يكن هو الوحيد محور هذا العمل، لكن العلاقة ما بين الزمن والمدينة (المكان) هي الأخرى محورٌ في هذا المخاض الطويل الذي تمر به حياة الأحياء والجمادات. لم تكن مدن سارد بروست في منأى عن التغيير والتطور الذي مرَّ به هو الآخر، فالزمن هنا يقوى على كل شيء، وكل ما في الحياة خاضع لآفاته ونوائبه، هذه العلاقة التأثيرية ما بين الزمن والمكان تجعل من المكان (المدينة) كائنًا هو الآخر تجري عليه ما تجري على الكائنات الحية الأخرى، إلا إن ما يجري عليه يبقى في بوابة الوعي المدرِك والمراقب والناظر (لا الوعي العام لأننا نجهله)، وهو تغيّر يحمل في طياته انعكاساتٍ تأثيرية سواء انعكاس مرور الزمن الذي يغيّر رؤيتنا للمكان الذي لم يتغير أو انعكاسات تغير المكان في تجديد رؤيتنا له ويبقى محتفظًا بتاريخه الخاص، الذي لا يمكن العودة إليه إلا عبر وعينا الشخصي له



مؤمن الوزان.

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب