المشاركات الشائعة

السبت، 18 أبريل 2020

سيرة آن برونتي - ترجمة مؤمن الوزان.


آن برونتي، الأخت الصغرى والأقل شهرة بين الأخوات برونتي. 
‏سيرة موجزة من كتاب سيرتها الذاتية للكاتبة الإنجليزية "وينفريد جيرن" الصادر في عام 1959، وهي السيرة الثانية عن آن بعد الكتاب الأول لـ إيستيل ترست الصادر في عام 1954. 






‏للتحميل:

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

المرأة التي نقلت أعمال دوستويفسكي وتشيخوف إلى القراء الإنجليز.

سارة ويلر تكتب عن كونستانس غارنيت وعقبة ترجمات حقبة معينة.

كانت بداياتي في النشر مع الترجمة وليس شيئا كتبته بنفسي. أول ترجمة كنت قد عملت عليها كانت مقالة يونانية تتحدث عن الشاعر قسطنطين كفافيس، مختارات أدبية وأشياء من هذا القبيل. قبل توجهي لبحث اللغة اليونانية الحديثة كنت قد أمضيت آلاف الساعات وأنا أترجم هوميروس لأغراض دراسية، كان حري بي فعل أشياء أخرى بذلك الوقت. لست بارعة كفاية في الترجمة النصية، إلا أنني أكن أحتراما كبيرا لمن يمتهنها. اللغة الروسية على نحوٍ خاص تدخل المترجم بدوامة صراع مستمر مع الفروق الدقيقة، وذلك لأن لها قاموسا أصغر من قاموس اللغة الانجليزية. على سبيل المثال Dusha  تعني بالروسية "الروح" وبالمعنى المجازي "القلب". تظهر الكلمة أكثر من مائة مرة في رواية الحرب والسلام.

الشخص الذي أعده عزيزا على روحي، بصفتي امرأةً ومترجمةً، هي المترجمة كونستانس غارنيت. ولدت غارنيت في برايتون عام 1861، وترجمت زهاء سبعون مجلدًا من اللغة الروسية، بما في ذلك كل أعمال دوستويفسكي الضخمة العظيمة. كانت لا تبالي بالتعب تعمل دون هوادة، وبأوقاتٍ مضطربة تنقلت بين الأوساط السياسية والأدبية وظهرت حينئذ بمظهر البطلة، تساند الفقراء والمظلومين دائما، تقاتل في عالم الرجل. كانت مصرة على رؤية الأمور من وجهة نظر دولية على عكس المنظور الأنجليزي ضيق الأفق.

كانت ذات شعر أشقر، تعاني ضعفاً في النظر، ولم تكن بصحة جيدة طوال حياتها. حين ذهبت إلى كلية نيوهام،  كامبريدج، طالبة في سن السابعة عشرة، لم تكن قد غادرت ساسكس من قبل. تعرفت على كلاسيكيات الأدب، والرياضيات، حيث تلقت تدريبا صارما في فن الترجمة، وفن التعبير عن المعاني الدقيقة. بدأت بتعلم اللغة الروسية قبل أن تبلغ الثلاثين من عمرها عندما انضمت إلى جماعة المنفيين المتحمسة. درّست، وحاضرت قليلاً، ثم انتقلت إلى لندن، انتسبت إلى الجمعية الفابية، وغادرتها لاحقا. جمعتها علاقة صداقة مع جورج برنارد شو، والذي أدّعى أنه كان ليتزوجها لو أنها كانت أكثر ثراءً.

عملت غارنيت في قاعة قصر الشعب، كان الغرض من إنشائها هو تحسين التعليم لدى العاملين في الطرف الشرقي من لندن. تزوجت من إدوارد جارنيت، قارئ، وناشر وروائي الذي كان سينشئ صحيفة للقطط بعنوان "حذارِ من الكلب" والتي تتضمن عمود لوصفات الطعام. تعاطفت عائلته مع اللاجئين السياسيين طوال الوقت، لذا بدأ الزوجان حياتهم وشعورٌ من الإيثار يتملكهما. صادقت مارغريت بدورها العديد من الروس، الذين فرّوا من الاضطهاد بعد اغتيال ألكسندر الثاني. استقر الزوجان في مقاطعة سري بكوخٍ ريفي حيث التقطت كونستانس ذات مرة 27 عنقود عليق بيومٍ واحد ووجدت كذلك فأر محفوظ في برطمان دبس.

انتقلت كونستانس إلى شقة في هامبستيد عام 1905. حيث كان والد زوجها يقطن قريبا منها في شارع تانزا، وكي تصل إليه كان عليها فقط تجاوز محل الجزار، والذي هو الآن منزلي، ربما ابتاعت قطع لحم الضأن بذات المكان الذي أكتب فيه هذه الصفحات.

بدأت كونستانس مشوار الترجمة مع أعمال الكاتب الروسي إيفان تورغينيف، والذي شعرت بألفة عميقة نحوه. كان معدل عملها مذهلا ولافتا للنظر. وصف صديقها  ديفد هربرت لورانس جلستها في الحديقة بهذه الكلمات تجلس وهي تكدّس بجانبها عمود مترنح من الأوراق. كما قال جوزيف كونراد وهو صديق آخر لها "في ذلك العمل تألقت كموسيقار يعزف أعذب الألحان، بل هو أكثر من ذلك، وأعظم منه. كانت كما لو أنها تغلغلت داخل عقل المؤلف وشاركته الإلهام". أصبح زوجها في تلك الأثناء محررا مرموقا يشار إليه بالبنان. حيث رعى أعمال مؤلفين عمالقة كجوزيف كونراد وغيره، ونتيجةً لذلك كان له أثرٌ لا يستهان به. كما أنه تكلّف بالأدب الروسي، ودعم الكتّاب الروس طوال حياته، معلناً ذات مرة "لقد وسّع الروس نطاق الرواية وأهدافها".



جعلت غارنيت اسم دوستويفسكي مألوفًا لدى القارئ الأنجليزي، ومن اسمها كذلك. زارت روسيا مرتين. كانت زيارتها الأولى في فصل الشتاء، وصفتها قائلة "المهور ذات الشعر الأشعث سُرجت بشكل جميل، وفي كل مكان يتناهى إلى مسامعنا الصوت الممتع للحديد وهو يقرع الثلج كقعقعة الزلاجات". يرتدي الناس هناك ملابس ثقيلة جدا للحد الذي جعلها تكاد لا تميز المرأة من الرجل. شهدت بؤس وعوز الكثيرين هناك -"وجوه بيضاء شاحبة"- كتبت لاحقاً لصحيفة التايمز تسأل عما يمكن فعله لمساعدة المنكوبين هناك. كانت قد قرأت من الروسية أكثر من التحدث بها بكثير، لم يكن بوسعها سوى إجراء محادثة أساسية فقط.

عندما أخذت على عاتقها ترجمة أعمال تشيخوف، لم يكن اسمه ذائع الصيت في بلده فضلاً عن خارجها. رغم مسعيها لنشر أعماله باللغة الأنجليزية فقد باءت بالفشل- تخيل أن النص المترجم لمسرحية تشيخوف "بستان الكرز" قبع في درجها ليذبل سنوات عدة. لحسن الحظ احتفظت به على وجه الخصوص إلى أن حققت النجاح. خلال سنوات الحرب عملت على ترجمة سبعة مجلدات لديستويفسكي. كان قد مضى على وفاته ربع قرن، إذ عده ثلة من المفكرين الروس أعظم روائيي روسيا، لكنني أكرر لا أحد سمع باسمه تقريبا في العالم الناطق بالإنجليزية آنذاك.

جعلت غارنيت اسم ديستوفيسكي مألوفاً لدى القراء، مما جعل اسمها مألوفا أيضا. كان أرنست همنغواي من المعجبين بترجماتها لمؤلفات ديستويفسكي وتولستوي. قال لأحد أصدقاءه "كم من المرات حاولت جاهدا قراءة الحرب والسلام، إلى أن حصلت على ترجمة كونستانس غارنيت لها"، لكن لا يشاركه الجميع الرأي ذاته. فقد شبّه أحد النقاد ترجماتها لتشيخوف بالنشاز وبحشرجة الموت بالعصر الفيكتوري. تدخل فلاديمير نابوكوف وانتقص من ترجمتها أيضا. لكن لنقابل ترجمته لصوت الأجراس في رواية الأنفس الميتة لنيقولاي غوغول، بترجمة غارنيت. الكلمة أتت في منتصف الجملة التالية (Chudnym zvonom zalivayetsya kolokolchik)
غارنيت "يستحيل صوت رنين الأجراس إلى نغمٍ"
نابوكوف "ردد الجرس الأوسط في حلمٍ مناجاته المائعة"
من الذي لديه حس مرهف ومن الذي لديه أذنُ من الصفيح، برأيك؟

غارنيت وكباقي الأطفال الذي يولدون بصحةٍ معلولة، استمرت في العمل لعقودا من الزمن، حتى بلغت الخامسة والثمانون، برفقة أشقاءها وافري الصحة. صمد عملها أمام اختبار الزمن. أحبها وأحبُّ أعمالها. تربت على يد أعظم روائيي العصر الفيكتوري، وأخذت منهم الحس اللغوي الساحر.في منزلها بدا وكأنها تحسن دائما عزف النغمة الصحيحة مازحةً كانت أو جادة. بدأت بترجمتها لقصة تشيخوف ( المتاع الحي)* "طوّق غروليسكي ليزا بذراعيه وبدأ بتقبيل أصابع يدها الصغيرة مع أظافرها الوردية، ووضعها على أريكة يكسوها المخمل الرخيص". من المؤكد أنها عملت بسرعة كبيرة وأخطأت في بعض المواضع، إلا أن الروح المعطاءة هي ما يهم.

عندما أقرأ ترجمات غارنيت أشعر وكأنني أستجيب لمواد صاغها تولستوي وتورجينيف بأنفسهما. يظل صوت غارنيت يطوف حولنا حتما، فهي مثل جميع الكتاب تتحدث من وراء القبر. ظهرت في أوائل سبعينيات القرن المنصرم، شخصيةً رئيسة في مسرحية ساخرة "المعاتيه كارامازوف"، والتي عُرضت لأول مرة في مسرح ييل للفنون. لعبت ممثلة شابة تدعى ميريل ستريب دور غارنيت. تمحور الدور حول مثالب وتعقيدات الترجمة: ترجمة "اللوطي الهستيري" إلى الروسية كانت وفقاً لغارنيت الممثلة تعني "تشايكوفسكي".


ما طبيعة الترجمة؟ هل هي الإخلاص للكلمات على الورقة، أو الإخلاص للنغمة؟ كلاهما، لكن يتحتم على المترجم وضع القارئ نصب عينيه قبل كل شيء، فضلاً عن العمل كعبد للكاتب. يقال أحيانا إنه ومن أجل تهيئة الجو للترجمة فأنه يجب إعادة ترجمة الترجمات مع كل جيل. لكنني أحب ترجمات لويس وأيلمر مود لأعمال تولستوي في الثلاثينيات، حيث إنها تعدُّ قطعا فنية بحدّ ذاتها. لنأخذ على سبيل المثال هذا المقطع "موت إيفان إيليتش":


تقف عند المدخل عربة وعجلتا حصان. وفي ردهة الطابق السفلي يستند غطاء تابوت على الحائط بجانب شماعة الملابس، مغطًى بقماش ذهبي مزين بخيوط ذهبية وشُرّابات طُليت بمسحوقٍ معدني. وثمة سيدتان متشحتان بالسواد تخلعان عباءتهما الفَرويتين. 

لنقابل هذه بترجمة أخرى حديثة للنص:


عند مدخل شقق إيفان إليتش، كانت هناك عربة وعجلتا حصان. في الطابق السفلي، في القاعة الأمامية بالقرب من رف المعاطف، كان هناك غطاء تابوت موشّى بالحرير وتزينه شرَّابات وضفيرة ذهبية طُليت حديثًا. وثمة سيدتان متشحتان بالسواد تخلعان معطفيهما الفَرويين.

تسبتدل هذه النسخة الحديثة معطف الفرو بـ عباءة الفرو، ورف المعاطف بـ شماعة الملابس، وقماش ذهبي بـ موشّى بالحرير، ويختفي "مسحوق معدني" كليًا. بالطبع لا أحد يعرف ما هو مسحوق المعادن هذه الأيام. ، لكن ذكره يستدعي عالمًا مفقودًا، عالمًا تعكف فيه الخدم لساعات لتلميع أغطية النعوش. في حين نعرف معاطف الفراء، فإن عباءات الفراء تنقلنا بشكل أفضل إلى روسيا لتولستوي.

الترجمة الحديثة للنص هي جهد تعاوني كما هو حال ترجمات لويس وأيلمر مود، عمل عليها الزوجان ريتشارد بيفير ولاريسا فولوكونسكي. كان و ما زال هذان الزوجان رمزَ الترجمة الروسية الإنجليزية العظيمة في عصرنا هذا. كان ريتشارد  كاتبا وشاعرا ومترجما أمريكيا من مختلف اللغات الأوربية، يعيش في مانهاتن مع زوجته لاريسا، المهاجرة روسية الأصل. بدأ ريتشارد بقراءة ترجمة الأخوة كارامازوف، استرقت لاريسا النظر للكتاب الذي يقرأه زوجها وانتقدت ما رأت من أخطاء بالترجمة. لذا شرعا بترجمة نسخة من العمل تحمل أسميهما. وبدأ التعاون بينهما وأنشآ حينها صناعة منزلية. ربحا الجوائز، وظهرا في "أوبرا" بعدما اختارت نجمتها ترجمتهما لآنا كارنينا من أجل نادي الكتاب. ارتفعت المبيعات أيضا وتعالى الضجيج حينها.
وقد احتدمت المراسلات في صفحات المجلات الأدبية بين الأكاديميين وغيرهم من المتشككين الذين اتهموا ريتشارد ولاريسا بالعودة البائسة إلى الترجمات القديمة التي اعتمدت تماما على النص ( بمعنى آخر- "اعتماد فرض ترجمات كلمة لكلمة من التعابير الإنجليزية على النثر الروسي") والألفاظ القادحة لم تكن غائبةً بالطبع.  نُشرت مقالة في مجلة Commentary كان عنوانها "تحوير الأدب الروسي". من هذا نستشف إلى أي مستوى قد ينحدر النقد. لنقارن ترجمات هذه السطور من آنا كارنينا:

غارنيت: "كل جهوده لجرّها إلى نقاش مفتوح واجهها حاجز لم يستطعْ اختراقَهُ، حاجز مصنوع من ارتباك ساحر".

لاريسا وريتشارد: "جميع محاولاته بجرها على تفسير، اعترضها حاجز مبهم بشيء من ارتباك لطيف".

ترجمت فرجينيا وولف أيضاً ترجمة تعاونية مع مترجم كانت الروسية لغته الأم هو صموئيل سولومونوفيتش كوتيليانسكي، مترجم بريطاني روسي المولد. حيث ظهر أسماها جنبا إلى جنب على صفحات الكتب المترجمة. صموئيل كان معروفا باسم كوت، تقاطعت خطوطهما بملتقى مجموعة بلومزبري الرهيب والتي أُنشئت في عام 1917 . نشرت فرجينيا وولف روايتها الثالثة (غرفة يعقوب) بعد خمسة أعوام من ذلك، الرواية تعد نقطة تحول بمسيرتها الأدبية. لكن قبل ذلك بأسابيع نشرت ترجمة تعاونية مع كوت لرواية الشياطين لدوستويفسكي وترجمات أخرى أيضا له. كانت الأولى من بين ثلاث ترجمات روسية نشرتها وولف. كانت معرفتها ضئيلة باللغة الروسية، حتى إنها أسرّت لطالبة تنوي الكتابة عن أعمالها "نادرا ما أحب قول بأنني "ترجمت" الكتب الروسية التي تُنسب ترجماتها إليّ، أنا راجعت فقط النسخة الإنجليزية التي عمل عليها صموئيل". وصف ليونارد وولف في نعيه لكوت والذي اشترك معه أيضا في ترجماته، كيف أن كوت كان "يترجم بإنجليزيته الغريبة  ثم يترك مسافة كبيرة بين السطور حيث كنت أحول فيها إنجليزيته الغريبة إلى إنجليزيتي المألوفة".


ترجمة: شوق العنزي.
مراجعة: مؤمن الوزان.

السبت، 11 أبريل 2020

مسرحية "ذو العقل يشقى" - غريبايدوف. (مُترجمة)

مقدمة المترجم مؤمن الوزان.


تعد مسرحية "ذو العقل يشقى" واحدة من الكلاسيكيات الأدبية المهمة في الأدب الروسي، وأفضل أعمال ألكسندر غريبايدوف، وتأثر بها أدباء مثل دوستويفسكي وأنطون تشيخوف. لم تُنشر المسرحية الشعرية الكوميدية والهجائية للمجتمع الروسي لمرحلة ما بعد حملة نابليون إلا في عام 1833 بعد موت الكاتب بأربع سنوات، إذ منعت الرقابة نشرها لما وجدته فيها من سخرية وتهكم من المجتمع الموسكوفي وطبقة عليّة القوم والانتقاد لسلوكياتها الزائفة والعلاقات القائمة على المصلحة والنفعية.

ولد الشاعر والمسرحي والدبلوماسي الروسي غريبايدوف في موسكو ما بين (1790-1795)، درس في جامعة موسكو ونال درجة الماجستير في الفيلولوجي، وانخرط بعدها في برنامج الدكتوراة إلا أنه تركه ولم يكمله. 
كانت حياة غريبايدوف، التي جمعته بصداقة مع شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين، حافلة بالأحداث رغم قصرها فقد انضمَّ إلى الجندية المقاومة لحملة نابليون على روسيا في عام 1812، وخدم في روسيا البيضاء قبل استقالته عام 1816، ليشترك بعدها في ثورة ديسمبر عام 1825 ضد القيصر نيكولاس الأول، واعتقل في سنة اللاحقة لكن أطلق سراحه بعدها بمدة. 
عُيّن غريبايدوف سفير روسيا في طهران عام 1828 إثر زواجه بستة أشهر من نينا ذات الستة عشر ربيعا، وبعد الحرب الروسية - الإيرانية ومعاهدة تركمانجي المهينة والتي تخلت فيها إيران عن عدة مناطق في جنوب القوقاز ومناطق أخرى لصالح الإمبراطورية الروسية. 
كانت تلك المدة مليئة بشعور العداء تجاه الروس في إيران، ولم تكن بالأجواء الطيبة بتاتا وزاد من حدتها هرب أرمينيتين من جواري حريم الشاه وسبقهما هرب مخصي أرميني وطلبوا اللجوء في السفارة الروسية، وعلى الرغم من طلب الشاه إعادتهم فقد رفض السفير هذا، وكانت المعاهدة تجيز للجورجيين والأرمينيين العودة إلى جورجيا وأراضي أرمينيا الشرقية، لتزداد حدة غضب الدهماء ويطوقوا السفارة الروسية في طهران ويتحول الأمر إلى غوغائية، الأمر الذي اضطر غريبايدوف على الموافقة بإعادة الهاربات لكن بعد فوات الأوان، إذ اقتحمت الدهماء السفارة وقتلت موظفي السفارة وألكسندر الذي قطع رأسه، ورميت جثته من النافذة وسُحلت في الشوارع، وعرض رأسه في كشك كباب في الحادي عشر من شهر شباط/ فبراير 1829.
بعد أربعة أشهر في حزيران/ يونيو سافر بوشكين إلى جنوب القوقاز والتقى بعدد من الرجال الإيرانيين الذي ساعدوه للحصول على بقايا جثة غريبايدوف، ودفنها في تيلفس - جورجيا. 

تدور أحداث المسرحية في روسيا داخل منزل بافيل أفاناسيفتش فاموسوف، رئيس مكتب حكومي، الذي يُحبُّ ابنته صوفيا بافلوفنا الشابُ الألمعي الذكي ألكسندر تشاتسكي، وكان قد ترعرع معها في منزل فاموسوف بعد موت والده، إلا أنه يتركها ويسافر ليعود بعد ثلاث سنوات ويجد أن الوضع لم يكن كما كان، وأن رغبته بالزواج منها تواجهها عقبات كثيرة أبرزها مولتشاين مساعد فاموسوف، والذي كان يسكن معهم في المنزل أيضا. 
تقع صوفيا في غرام مولتشالن بعد سفر تشاتسكي، لكن طبيعة مولتشالن الوغدة والنفعية التي تجعله يخادع ويفعل كل شيء ليحافظ على عمله والسكن في منزل فاموسوف تخلق الحدث في المسرحية، وفي ظل هذه الأحداث الدرامية ذات الطابع الهزلي والساخر والتهكمي الناقد للمجتمع الروسي تتداخل الأحداث وتظهر شخصية الكولونيل سكالوزب سيرجي سيرجفيتش، الذي كان  فاموسوف يرغب بتزويجهِ ابنته، وسكالوزب هذا، رجل لا يهمه شيء سوى المناصب والترفيعات والمكانة الاجتماعية العالية التي يسعى ليترقيها (كانت فئات المجتمع الروسي مقسمة إلى طبقات ورتب اجتماعية) ثم تظهر الشخصيات الأخرى فوق خشبة المسرح تباعًا صانعة الحدث في المسرحية.
تدفع طبيعة تشاتسكي المرحة والذكية والتهكمية إلى رفض العادات الكثيرة للمجتمع الروسي وكيفية تعاملهم المزيف والمجوف اعتمادا على المظاهر، وينفر من الولع الروسي بكل ما له علاقة بفرنسا والفرنسيين واللغة الفرنسية، وتبرز قيمة المسرحية في هذه النقطة ذات النقد الذاتي اللاذع للمجتمع الروسي وقتئذ. ويبقى تشاتسكي رغم كل ألمعيته يلاحق صوفيا لمعرفة مشاعرها التي تنفر منه بشدة، ليقع تشاتسكي ضحية ذكائه ورفضه للمظاهر الاجتماعية المنافقة والتقليد الخاوي لكل ما هو آتٍ من خارج البلاد. 
تتوزع المسرحية في أربعة فصول، انكشفت في نهايتها الحقائق في مأساة هزلية (تراجيكوميديا)، التي تعد من أبرز سمات العمل التي خصص لها جاستين وليام بحثًا بعنوان "توقُّعُ تشيخوف: العناصر التراجيكوميديّة في مسرحية غريبايدوف (ذو العقل يشقى)" لجامعة أوهايو، ويذكر في مقدمة بحثه:
"غلبت القراءة الأيديولوجية على دراسات مسرحية غريبايدوف "ذو العقل يشقى" في القرنين الماضيين. ففي السنوات الأولى بعد نشرها، أطلقت المسرحية شرارة الجدل ما بين النقّاد المحافظين والكتّاب الرومانسيين-الديسمبريين بشأن وصف المجتمع الموسكوفي. أما النقّاد المتقدمون في أواخر منتصف القرن التاسع عشر، أمثال فيسارين بيلنسكي ونيكولاي دوبروليوبوف، فقد أشادوا بالعمل على أنه أول الأوصاف الحكيمة للواقعية الروسية، العُرف الذي استمرَّ، حسبما رأيا، مع بوشكين وغوغول. وسيمجِّد النقّاد السوفييت قراءة "ذو العقل يشقى" في القرن العشرين.  
كانت القراءة السياسية للعمل مُسيطرة، فاستعرض العديد من النقّاد العمل على أنه بيان الحركة الديسمبريّة، وأن تشاتسكي هو بطلها وخطيب الحركة المفوّه. حتى الشكلانيون لم يكونوا في منأى عن هذا، فقد ركّز يوري تينيانوف على النماذج التاريخية لشخصيات المسرحية أكثر من جوانب الإبداعية الشكلانية. أما الدراسات الغربية للمسرحية فهي محدودة نسبيًا، وتضمَّنت إعادة تقييم لبعض شخصيات المسرحية وتحليلات لوزنها الشعري ولغتها".

لهذه المسرحية أثر واضح في الأدب الروسي فقد ذكرها دوستويفسكي في رواية المراهق وكذلك في رسائله، وذكرها أنطون تشيخوف في قصة العازف الأجير ورواية حكاية مملة حين يقول: 
إن مسرحية ذو العقل يشقى ليست مسرحية مملة فإنها تهب عليَّ من خشبة المسرح ذات رائحة الروتين التي كانت تثير فيَّ الملل منذ أربعين عاما مضت، عندما كانوا يضيفونني عواءً كلاسيكيا ودقا على الصدر، وبعد كل زيارة للمسرح أخرج أكثر محافظة عما كنت عليه عند دخولي.   
ويقول في موضع آخر من ذات العمل: 
لماذا يجب على الممثلين أن يحاولوا إقناعي بكل الوسائل بأن تشاتسكي، الذي قضى وقتا طويلا يحدث الحمقى والمُحب لفتاة حمقاء، كان رجلًا ألمعيًا...
ويقول عنها الممثل المسرحي كونستاتين ستانسلافسكي (الذي أحدث ثورة في عالم التمثيل المسرحي الروسي وأدّى وشارك في أداء مسرحيات لتشيخوف من أبرزها مسرحية "النورس" الشهيرة): تُعد مسرحية "ذو العقل يشقى" من النوع الهزلي. وتبرر مشاهد كثيرة بأكلمها هذا الأسلوب المسرحي، لكن ثمة كثير من أسى الكاتب المر بحق وطنه وشعبه في هذه المسرحية العظيمة... لقد أظهر المسرحيون الكلاسيكون حبًا عميقًا لشعبهم ووطنهم عبر إنزال دموع الجمهور المخفية وسط ضحكهم- وهي سمة معبّرة في العديد من الأعمال الفنية الروسية. 

وذكرها أيضا بولغاكوف في مسرحية الجزيرة القرمزية. 

وعلى الرغم من كل هذه الشهرة فإن المسرحية لم تترجم إلى العربية حتى  اليوم عن الروسية، وها أنا أضع بين يد القارئ النص الكامل المترجم نثرًا لهذه المسرحية الشعرية عن اللغة الإنجليزية بترجمة A.K.Vagapov، آملًا أن تكون ترجمتي قد حافظت على روح النص وأن تكون حافزًا للمترجمين عن اللغة الروسية الالتفات إلى هذا العمل ونقله بشكل أدق وأفضل عن اللغة الروسية مباشرة دون الحاجة إلى لغة وسيطة كما فعلتُ أنا. وأما العنوان "ذو العقل يشقى" المقتبس من بيت المتنبي: 
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله 
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم  

فلا أعرف أول من اختاره أو اقترحه على الرغم من وجوده بهذه الصياغة في الأعمال المترجمة لدوستويفسكي وتشيخوف وبولغاكوف، وغيرهم.






للتحميل: 

الأربعاء، 8 أبريل 2020

الوَحْدة في شخصيات هاروكي موراكامي.


(حين لا نخشى الظلمة)
أبو بكر إسماعيل.


ربما كانت ثيمة الوحدة بتنويعاتها المتعددة من أكثر المناطق التي استهوت خيال الروائيين فيعصرنا الحديث، مع قليل من التعميم المخل، يمكننا أن القول إنه قلما توجد رواية تخلو صفحاتها من شخصيات تصارع الوحدة وتكابد وحشتها وهي تشق طريقها نحو الخلاص والسلام الداخلي في مدة من ما -بغض النظر عن طول هذه المدة- على امتداد خط سير الأحداث. هذه المقالة هي سباحة في عوالم الوحدة التي نقرأها في شخوص الروائي الياباني هاروكي موراكامي.
إن ثيمة الوحدة في الحبكة الروائية هي محاكاة فنية لمعضلة اجتماعية قديمة ومتجددة خبرها الإنسان منذ وعى وجوده ذاتًا منفصلة ومدركة لما حولها، ثمة عدة مداخل نفسية وفلسفية يمكن التوسل بها لفهم طبيعة التفاعلات الاجتماعية التي يختبرها الفرد في وحدته متأثرا بها ومؤثرا، لكننا لن نلجأ إلى هذه الأدوات الأكاديمية والنقدية -رغم أهميتها- لندرس بها هذه الموضوعة، بل سنقف ونتجول لنرمي بعدة نظرات نلقي الضوء من خلالها على طبيعة هذه الوحدة لدى موراكامي من خلال شخوصه التي تمر بهذه التجربة بصورة فريدة في نظرنا، نحاول أن نفهمها ونستنطقها ونستمع إليها في ذات الوقت، وبالتحديد سنركز على روايته الماتعة التي حملت عنوان "تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجّه"، ثم نعرج بعد ذلك على مجموعته القصصية المعنونة بـ(Men without women).
وكما عودنا هاروكي في كثير من أعماله،  فإن المونولوج الذي تنخرط فيه الشخصيات سواء كان حوار ذاتي مع نفسها أم جاء على لسان السارد، يتخذ موقعه -المونولوج- قطعةً فنية أصيلة ومكون فريد في كتابات هاروكي، لا يقل أهمية عن بقية عناصر السرد، مثل حبكة الرواية وأحداثها الشائقة لديهوفي رحلتنا لفهم ملامح الوحدة الهاروكية نجد أن أهم سماتها هي تلك الحتمية التي تكتنفها وتجعلها قدرا لا جدوى من الفرار منه، بل ينبغي أن نتعايش معه في ليس في عزلتنا فقط، بل حتى في تفاعلنا مع أقرب الناس الينا سواء من أسرة أو زملاء أو حتى أحبة نقاسمهم رحلة الحياة نحو المجهول، الوحدة هاهنا ليست دربا موحشا بالضرورة، لكنها إعادةاكتشاف للذات وإبحار نحو أفق يتعذر على الرفقة أن توصلنا إليه. هذا ما يتضح لنا حينما يخبرنا السارد في طيات الرواية عن الصدمة التي تعرض لها تسوكورو بعد أن قررت مجموعته المفضلة أن تقطع معه كل الروابط دفعة واحدة وبدون تدريج، وهذه المجموعة -حتى نفهم عمق الصدمة التي تعرض لها البطل- لم تكن زمالة عابرة محكومة بتقاطع دروب الحياة، ربما كان ذلك سببا في تسهيل التئام شملها في البدء، لكنها لاحقا تطورت وتشكلت وخلقت رابطا عميقا بين أفراد المجموعة  حىن غدت ملاذا وملجأ لكل فرد منهم في تلك المرحلة من حيواتهم، بل لعلها كانت أعمق تجربة في العلاقات الإنسانية على الإطلاق، يتاح لأفراد المجموعة أن يختبروها.
وعلى ما توحي لنا به المشقة العظيمة والمعاناة القاسية التي يكابدها عديم اللون -لقب تسوكورو- في وحدته كي يتعافى من هذه الصدمة، فسير الأحداث يكشف أن بطل الرواية المنكوب -رغم كل شيء- تمكن من شق طريقه في الحياة وتحقيق حلمه واكتشاف ذاته في شوارع طوكيو المزدحمة وبين محطات قطاراتها التي طالما هام بها وأغرم بروعة تصاميمها منذ الصغر، رغم الوحدة العميقة والعزلة الضاربة بجذورها في روح تسوكورو فقد تمكن من أن يصير مهندسا بارعا -كما أراد- ووجد عملا قريبا مما كان يطمح إليهونرى سنرى لاحقا، وحينما يفتح جرح الماضي ويقرر أن يفهم ما حدث -من قطيعة تعسفية- بعد انقضاء ستِّة عشر عاما على ما حدث، استجابة إلىإصرار محبوبته بأنه يحتاج إلى (closure "إغلاق") حتى يمضيا قدما في علاقتهما، يقرر بطلنا الوحيد أن يلتقي بهم، ليخوض حوارات مواجهة مليئة بالمفاجئات ومشحونة بالعواطف المكبوتة، يلاحظ فيها الجميع كل حدة أن عديم اللون هو الوحيد (الوحدة هنا مضاعفة) الذي حقق حلمه بينهم وعاش الحياة التي كان يطمح إليها منذ أن كان على أعتاب التخرج في الثانوية، في الأقل على المستوى المهني (Career).
وبطلنا -مثل كثير من شخوص هاروكي في أعماله المتعدد - عاشق للموسيقى الكلاسيكية وله ذائقة رفيعة تتكشف في طيات الرواية أثناء حوارتها، لكننا سنفتقد وله وهيام هاروكي بالقطط (سواء التي كانت صامتة أو متحدثة) في هذه العمل، وكذلك شغف شخصياته بالقراءة والاطلاع على منتوج الأدب كما في رائعته ( كافكا على الشاطئ) وعمله المعنون بي (the wind up bird chronicle)، فهذه العناصر هي زاد الوحدة في عوالم هاروكي.
ربما نجادل أن عديم اللون كان سيعيش حياة اجتماعية أفضل لولا انفصاله عن مجموعته، لكن أحداث الرواية توضح أن وحدة الرحلة وخلوها من الرفقة كانت قدرا محتوما على كل المجموعة كما سيتضح لاحقا، خصوصا حينما يخبرنا (أو) بصورة مفاجئة وغريبة أنه لم يجد مثيلا لتلك الرابطة العميقة والمحبة الصادقة التي تتخلل الروح ويعتبق بها الوجدان بعد تشتت مجموعته، حتى بين زوجته وأبنائه.
ورغم أن تسوزوكي فارق مراتع صباه في مدينة ناغويا قاصدا المدينة الأكبر طوكيو، فناغويا هي الأخرى مدينة حديثة، بها ما بالمدن من اشكاليات عميقة مثل الاغتراب عن الذات، واضطراب التواصل الاجتماعي الذي يلقي بظلاله على إدراك الفرد المتمدن لهويته في هذا العالم المزدحم وذي الإيقاع السريع.
ومن هنا نعود لرؤية هاروكي للوحدة بصفتها قدرا حتميا في حياة المدن يتعذر على الأفراد الإفلات من براثنه، لكنه كذلك وفي ذات الوقت ضرورة للذات حتى تدرك نفسها وتصير واعية بفرادتها وتميزها، مثلما يحدث كذلك حينما نتصل بالآخرين فنحن ندرك أنفسنا وننظر لي أرواحنا من خلال أعين الرفاق، وهذه الرحلة التي تسلكها الذات بين وحشة الوحدة وأنس الرفقة في المدن الحديثة، تذكرنا بمفهوم العزلة ومقاماتها في ميراث المتصوفة محطةً في طريق الترقي، إذ رغم قسوة وطأتها على السالك فإنها تسهم في نضجه وتطهيره من أدران النفاق وتعينه على تهذيب سلوك النفس صعودا إلى مراتب الصالحين، هاهنا لا تعود الوحدة مرادفة في وعينا للاستيحاش بل ينقلب الأمر إلى نقيضه لتحمل الوحدة في طياتها أنسا مختلفا عما ألفناه، ربما كانت بعض مقاطع أغنية (the spectre) هي أنسب تعبير عما نحاول توضيحه في بإسهاب في هذه السطور:

Is this a place that I call home
To find what I've become
Walk along the path unknown
We live, we love, we lie
Deep in the dark I don't need the light
There's a ghost inside me
It all belongs to the other side
We live, we love, we lie

وأختم حديثي عن حتمية الوحدة لدى هاروكي بهذا الاقتباس على لسان السارد "فكّر تسوكورو في أن حياتنا مثل معزوفة موسيقية معقدة، مليئة بجميع أنواع الكتابة المشفرة، والألحان الستة عشر والنوتات الاثنتين والثلاثين والعلامات الغريبة غيرها، ولهو من ضروب المستحيل أن تُفسَّر ذلك وعزفه بشكل صحيح، وحتى لو استطاع أحد ما ذلك، ثم حوّل ما فك شفرته وعزفه بالأصوات الصحيحة، فليس هناك ما يضمن أن الناس سيفهمونه بشكل صحيح، أو سيقدرون المعنى الكامن فيه".
**
أما المجموعة القصصية التي حملت عنوان (Men without women) فتتكون من سبع قصص قصيرة تدور حول فقدان المحبوبة، تتنوع طبيعة العلاقات التي تربط كل محب
بمحبوبته في هذه القصص، لكننا سنلقي نظرة مقتضبة على ماهية الوحدة التي تختبرها هذه الشخصيات في قصتين، وبأقل قدر ممكن من التفاصيل حتى لا نحرق الأحداث لمن يرغب في قراءة المجموعة.
تدور أحداث القصة الأولى بين ممثل يستأجر سائقة خاصة لقيادة سيارته وإنجاز مهمة إيصاله إلى مواقع عمله، يسود الصمت بين الممثل والسائقة عدة أسابيع، نظرا لانشغال الممثل بمراجعة نصوصه التي سيؤديها أثناء القيادة، إضافة إلى ضمور رغبته وانغلاق شهيته منذ سنوات في التعرف على الناس وخصوصا النساء بعد وفاة زوجتهلكن طول الملازمة الذي يجمع بين ممثلنا وسائقته يساهم بدفع العلاقة بينهم ليبدأ حوار عميق يفتح فيه الممثل قلبه بشكل عفوي وهو يجاوب على سؤال تطرحه عليه السائقة الشابة في إحدى المرات، في حين يسهب الممثل في إجابة السؤال يتضح لنا عمق الوحدة التي يعيشها بعد فقدان زوجته، فقد كانت حبيبة وصديقة وشريكة له في ذات المهنة كما ذات المسكن على امتداد سنوات زواجهما العامر بالمحبة والحنان، لكن تتبدى المعضلة حينما يعجز عن مواجهتها بحقيقة خياناتها المتعددة التي يكتشفها أثناء صراعها مع مرض السرطان، لتفارق حياته دون حدوث مكاشفة بخصوص هذا الأمريعيش بعد ذلك الممثل ليحمل حزنه وشكوكه وألمه لعدة سنوات، يكابد هذه المشاعر المتناقضة والمتنازعة، ونظرا لقوة العلاقة التي ربطتهما، فهو لا يعجز عن أن يغفر لها ما اقترفته في حقه، فالمحبة الصادقة تعيننا على الصفح و الغفران، لكنه في المقابل يفشل في إدراك السبب الذي دفعها نحو الانغماس في هذا النوع الخَطِر من العلاقات، كونها متزوجة ومحبة لزوجها، أو في الأقل هذا ما كان يظنه. وعلى امتداد هذه الحوارية بكل تفاصيلها يتجلى لنا أَلَفُ الوحدة التي يعيشها الزوج بعد موت زوجته، فهو لا يشعر أبدا بحاجة ماسة إلى شريك عاطفي يقاسمه حزنه وشكوكه بخصوص ماضيه، وخوفه وقلقه بخصوص مستقبله كما هو متوقع لمن يمر بهذا النوع من التجارب، بل يسير بتؤدة و تمهل دون أن ينتكس في مواجهة روتين حياته اليومي. لكن -كما في كل حوارية ماتعة- فإننا ندرك ذاتنا ونكتشف أنفسنا ونحن نستمع لما يقوله محدثنا، وهذا ما يتضح لنا حين تعلق السائقة التي تلعب دور المستمع المنصت في هذه القصة على بعض تساؤلات الممثل المنثورة في ثنايا قصته التي يرويها على لسانه، خصوصا حينما تشتد أحداث القصة غرابة وهو يحكي لها عما فعله في سبيل الحصول على إجابات شافية عن الأسئلة التي رحلت برحيل زوجته، الشخص الوحيد الذي يحمل هذه الإجابات! حيث يقرر الزوج بكل غرابة أن يصادق آخر عشاق زوجته قبل رحيلها، ثم يلتقيان عدة شهور ويخوضان عدة حوارات هادئة وعميقة يحاول فيها الزوجالذي يتظاهر بعدم معرفته بالعلاقة أمام العشيق ويبتلع حنقه وغصته- أن يستخرج بعض الإجابات للتساؤلات التي أرقته، من خلال أريحية الصداقة التي أبدع الممثل في مد بساطه لغريمه العشيق، إضافة إلى استغلال الطمأنينة التي يتركها الشراب على مزاج العشيق القلق والحزين. ينهي الزوج هذه الصداقة الزائفة بعد أن يدرك أنه لن يصل إلى الإجابات التي يسعى إليها، لكن في تلك الحوارات الهادئة تظهر مرة أخرى لمحة بارزة لفلسفة هاروكي حول الوحدة وأهميتها في التصالح مع الآخر، هذا التصالح هو خطوة أخرى نحو الذات سويلةً للوصول إلى السلام الداخلي، هذا التصالح الذي لا يمكن تحقيقه من إلا من خلال نظرة عميقة وصادقة إلى أنفسنا، وهذه نظرة -وفقا لقرائتنا لهاروكي- لا تتأتى للفرد إلا حينما يختلي بذاته بعيدا عن جلبة التواصل الاجتماعي وثقل العلاقات التي تشكلنا ونشكلها بذات القدر، بكلمة أخرى فهذه هي خلاصة العزلة الصوفية التي تعبر عن نفسها في المدينة وَحْدةً أليفة لابد للفرد أن يختبرها حتى يدرك ذاته ويوسع أفق هذا الإدراك ويتصالح معها ومع الآخرين في نهاية المآل، ونورد هاهنا اقتباسا على لسان العشيق تتضح من خلاله المقاربة التي تحدثنا عنها.

“proposition that we can look into another person's heart with
perfect clarity strikes me as a fool's game. I don't care how well we
think we should understand the or how much we love them. All
it can do is cause us pain. Examining your own heart, however, is
another matter. I think it's pos- sible to see what's in there if you
work hard enough at it. So in the end maybe that's the challenge:
to look inside your own heart as perceptively and seriously as you
can, and to make peace with what you find there. If we hope to
truly see another person, we have to start by looking within
ourselves".

أما القصة الأخيرة التي مقالناوالأخيرة كذلك في المجموعة القصصية- فهي التي كان لها شرف استخدام الكاتب لعنوانها عنوانًا لكامل المجموعة (Men without women).
تبدأ القصة بصورة مباغتة من خلال مكالمة في عمق الليل البهيم، يستيقظ على إثرها الراوي من فراشه الزوجي ليرد على تلك المكالمة، فيتفاجأ بصوت رجل جامد وحزين وجاف في ذات الوقت، يخبره المتصل أن زوجتهزوجة المتصلقد قتلت نفسها الأربعاء الماضي وقد رأى أن يخبره بذلك على أي حال.

هكذا تنتهي المكالمة بدون شرح أو توضيح لطبيعة العلاقة التي تربط الراوي بتلك المرأة، ليعود في حيرة عظيمة من أمره في منتصف الليل، معظم أحداث القصة على خلاف الأولى تتحرك خلال مونولوج داخلي يستكشف فيه الراوي الأحداث ليفهم فحوى المكالمة وعلاقته بتلك المرأة التي أخبره زوجها بانتحارها، من خلال الحوار الذاتي تتضح لنا -وللراوي- أن هذه المرأة كان حبيبته قبل أمد طويل يصعب حتى على صاحبنا استذكار أحداثه بدقة، لذلك يقرر بناء الأحداث وفقا لما يحمله تجاهها من أحاسيس ما زالت محفورة في وجدانه حتى اليوممن هنا نفهم جانبا مهما من طبيعة العلاقة التي جمعتهما وكنه العاطفة الملتهبة التي اشتعلت في وجدان الراوي تجاه تلك الفتاة فيما مضى، فرغم قصر سندالمراهقة التي ضمتهما معا، فإن عمق العاطفة التي تبادلاها في ذلك الوقت شكلت جزء من هويتهما ووسَّعت إدراكهما لذواتهما من خلال الأفق التي الذي ينفتح علينا من جراء ذلك النوع من العلاقات.
كان فراقهما قدرا مثلما كان لقاؤهما قدرا، قرر الراوي في ذلك الوقت أن يبحث عن محبوبته التي اختفت بغتة ومن غير إنذار-مثل مكالمة زوجهافقضى زمنا يتقصى ملامحها في وجوه العابرين حيثما ما ساقت خطاه، يدرك بعد ذلك أنها سافرت فينطلق نحو المنطقة التي اتجهت إليها ليكتشف أنها رحلت مرة أخرى، وهكذا يستمر في رحلة بحث مضنٍ عن تلك الحاضرة الغائبة التي لا تفارق بسمتها خياله أينما حل، بعدها بمدة يدرك أن لقاءهما مرهون بإرادة القدر وحده، ذلك القدر الذي جمعمها وفرقهما دون أن يكون لهما أدنى رأي في سير الأحداث.
يتحرك المونولوج في ذهن الراوي الذي لا ينفك متسائلا عن الدافع الذي جعل الزوج يتكلف عناء هذه المكالمة ليخبره بموتها رغم انقطاع علاقته وأخبارها عنه منذ أمد طويل يسبق حتى زواجها من هذا الرجل، ثم نقرأ بعض الذكريات الحميمية التي يحتفظ بها الراوي لتلك الفتاة التي يقرر أن يطلق عليها اسم M، وبعد أن تكتمل الصورة والأحداث المحيطة بالأحجية التي بدأت بتلك المكالمة المقتضبة لرجل مجهول الهوية بعد منتصف الليل، يدرك الراوي مقدار لوعته وحزنه لموت تلك الفتاة، غير أن هذا الحزن يأخذ طابعا أقل حدة بالنسبة للزوج الذي يشعر الراوي بالتعاطف تجاهه، ويعده بصدق أكثر الرجال حزنا في العالم بسبب ما حل به، مما يجعله في المركز الثاني بعده مباشرةيستعيد الراوي لحظة فراقه الأولى وتبعاتها على روحه اليافعة ووجدانه الغض، حينما أدرك ألا سبيل إلى استعادة محبوبته التي اختفت فجأة، فيدرك حينها أنه صار ينتمي إلى عالم (Men Without Women).

هذا الإدراك التي الذي يختبره وهو في عمق حزنه ووحدته وعزلته يعود بنا إلى حتمية الوحدة لدى شخوص هاروكي، فالرواي يدرك أن فقده ليس حظا عاثرا وقع بفعل فاعل، بل هو محطة وتجربة وجودية يختبرها كل رجل عشق وأحب امرأة بكل ما تحمله كلمة الحب من مضامين التضحية والتفاني والاستعداد اللامنتاهي للحصول المحبوب والفناء به وفيه ومن أجله، في الأقل في لحظة من اللحظات. لذلك فإن كل ما يتطلبه الأمر لدخول عالم (Men without women) هو أن تختبر هذا الحب الصادق ثم تفقد بعد ذلك محبوبتك، وبغض النظر عن الكيفية والظروف فيجب عليك أن تدرك أنك لن تعود كما كنت، بل يجب عليك أن تتقبل ما فقدته، وتمضي قدما حياتكوهذا ما فعله الرواي كما يتضح لنا منذ بداية القصة، حيث نهض من فراشه الذي يتشاركه مع زوجته، لكنها لن لكون بديلا لما فقد، ولا ينبغي -وفقا لهذه الفلسفةلها أن تكون، بل هي كذلك محطة أخرى في حياة زوجها مثلما قد يكون هو أيضا محطة في حياته، فكل من في آخر المطاف سيحمل عبء وحدته معه منذ البداية وحتى النهاية.

That's what it's like to lose a woman. And at a certain time, losing one woman means losing all women. That's how we become Men Without Women.


افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب