المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 21 يوليو 2020

يوليسيس - جيمس جويس (المقال الخامس)

مؤمن الوزان.




يتوزع هذا العمل المبتكر والإبداعي في بنيته وسرديته ولغته في ثمانية عشر حلقة، ولكل حلقة أسلوبها السردي الخاص بها ولغتها المتزامنة مع موضوعها. تبدأ يوليسيس بحلقات ستيفن الثلاثة إذ يكون داخل القلعة (برج مطل على البحر) في الثامنة صباحا رفقة ميلكن لتناول الإفطار وهينز ليخرجوا بعدها إلى الشاطئ، ويذهب ستيفن إلى المدرسة حيث يعطي درسًا في التاريخ ويستلم راتبه ويأخذ مقالا من ناظر المدرسة ثم يخرج من المدرسة متمشيًا على الشاطئ غارقا في أفكاره. يتنوع السرد هنا ما بين سارد خارجي، ومونولوج داخلي يغيب فيه السارد وتأخذ الشخصية دورها في السرد ليبدو الأمر أنه سرد للوعي الذاتي بشكل مباشر، أو يتدخل السارد الخارجي في تنظيم سرد الحلقة الخارجي الخاص بتصرفات وحركات ستيفن.

أما لغة النص فهي لغة مرمزة وكثيرة الإحالات والإشارات تجعل من النصِّ "نصَّ النصوص" فهو نصٌّ مُثقل بفكر جويس وفكر شخصياته ووعيها تجعل من القراءة مهمة شائقة تحبس الأنفاس وبحاجة إلى تركيز كبير وحضور ذهني دائم أثناء القراء. وحين تندمج هذه اللغة بأسلوب السرد المتنوع والمتباين والحدث فإن هذا المزيج يصبح كتلة كاملة من الإبداع والتعقيد والصعوبة كما في الحلقة الثالثة التي تتشكل مادة النص فيها من ثلاثة أجزاء: في الجزء الأول من مادة السرد يسجل جويس وعي ستيفن دون تدخل سردي في مونولوج داخلي؛ وفي الجزء الثاني من مادة النص يتذكر ستيفن بعض الأحداث التي وقعت له بتداعٍ حر للذاكرة؛ وفي الجزء الثالث من مادة النص يتدخل السارد الخارجي ببعض اللمسات السردية الخارجية الواصفة لوضع الشخصية الخارجي أو محيطها. تتداخل أجزاء مادة النص بعضها مع بعض في خلق بنية النص كاملة، مما يوحي بعدم الترابط، وهي بالفعل غير مترابطة لأن المادة المسرودة هي مركبة من 



عناوين حلقات يوليسيس بالتقابل مع الأوديسة (لم يذكر هذه العناوين جويس في الرواية بل هي خارجية) والمكان والساعة. المصدر: عوليس بترجمة د. طه محمود). 



عدة أجزاء، شبيهة بأن يسير أحدنا في طريق ويبدأ بتذكر أمور معينة وأن يتناهى إلى مسامعه عشرات الأصوات ومئات الكلمات والجمل، التي يفهم بعضها ويتجاوز أخرى، جمل كاملة، كلمات، صراخ، نعيق، نقاش، مفاوضة بائع ومشترٍ، نهاية جملة، بداية أخرى، ويتشكل لنا مادة سمعية كبيرة ليس لها أي فائدة أو مغزى لكنها تتناهى إلينا وقد نندمج معها لثوانٍ، ونحن بهذه الحال نسمع أثناء المشي، نتذكر حادثًا ما أو حديث مع صديق أو قريب، أو تخطر فكرة لنا، ماذا سأشتري؟ طماطم؟ أتغدى في المطعم؟ هناك مباراة الليلة. هذا العمل لا يجني كثيرا. سأكون بعد ساعة هناك. وهكذا يأخذنا جويس في رحلة في وعي ستيفن. 

إن شخصية ستيفن هي الشخصية الرئيسة الوحيدة التي لها تاريخًا خاصًا يسبق نص يوليسيس في رواية السيرة الذاتية لجويس "صورة الفنان في شبابه" وهي الرواية التي تقص الصراع العقائدي لستيفن مع الكنيسة الكاثوليكية، وتحرر موهبته الفنية، الذي هو جويس نفسه، وما تسبب به إلحاده من موقف مع أمه وهي على فراش الموت مما يدعوه إلى الظن أنه قد يكون سبب موتها، وسنرى تأثيرات هذه الفكرة في الحلقة الخامسة عشرة. تمتاز هذه الشخصية الحائرة فكريا والتي تعيش صراعا نفسيًا، والمهتمة بهامليت وشيكسبير الذي تعده هامليت نفسه كما يرد في الحلقة التاسعة، إضافة إلى دفاعها المستميت عن شيكسبير. وهي على النقيض تماما من بلوم (الذي مثّل الجسد) فهي تمثل العقل، ويمكن ملاحظة الأمر في أول مونولوج لكل منهما إذ ستيفن في حيرة فكرية، هذا المونولوج الذي سرده جويس بأسلوب عبقري وسيطرة على تصوير الوعي باحترافية كاملة، وبلوم في تفكير بطعامه.

 أما الحلقات الثلاث اللاحقة فتبدأ مع بلوم (الذي يُعرَّف أول الأمر بحبه لأحشاء الطيور والحيوانات، وأكلات أخرى) في بيته ثم يخرج لشراء السجق للإفطار الذي يعدّه لزوجته موللي، وتنتهي الحلقة الرابعة بمشهد تغوط بلوم. يخرج بعدها بلوم في الحلقة الخامسة إلى مكتب البريد ثم الكنيسة وينتهي بالحمام التركي بعد أن اشترى صابونة من الصيدلية. يحضر لاحقا بلوم رفقة أشخاصٍ آخرين جنازة بادي ديغنام بعد أن أخذوا العربة في طريقهم إلى هناك. 



حاز بلوم على الواجهة في هذه الحلقات الثلاث، وهو أحد الشخصيات الرئيسة الثلاثة في الرواية وأهمها. بلوم شخصية عادية يعمل بائع إعلانات جوّال في المدينة، وله علاقة بامرأة أخرى دون علم زوجته موللي المغنية -التي لديها علاقة برجل آخر "بويلان"، وبلوم يعلم هذا- التي تشك بعلاقته بامرأة أخرى. هذه الشخصية العادية التي صوَّرها جويس وابتدأها بالحديث عن شهوته للطعام وأنهى عرضه لها بمشهد التغوط ثم سيظهر في لحقات أخرى وهو يأكل ويشرب ويثمل فهو تصوير للجسد المنافي للعقل كما في حال ستيفن، وهذا التوصيف كله يؤدي إلى خلق شخصية عادية ومن حياتنا اليومية لا يوجد في حياتها الكثير من الاهتمامات عدا بيع الإعلانات والمراهنات حول سباق الخيول ومحاولة التلصص على النساء وإقامة علاقات إلا إن جويس ينقل هذه العادية إلى مستوى اللا عادية كما تميزت بها رواية الحداثة، فهو لا يبحث عن أبطالٍ خارقين والآلهة كما في بواكير الأدب الإنساني، لكنه يركز على الإنسان العادي، الذي يشكل الحياة الواقعية، فهو يجلب الأدب إلى ميدان المتعارف عليه، ثم يمنحه قوته والنظرة المبتكرة عبر الكشف عن عالمه الداخلي بل وإعطاء الشخصيات الحرية الكاملة للتفكير والتذكر واتخاذ القرار وكل ما يقوم به هو تسليط الضوء على النزاع الشخصي الذاتي والفرداني، وجعل العالم الداخلي للشخصيات قبالة القارئ بكل ما يمكن ومتاح، فيبرز وعيها شاخصًا وله مكانته في السرد واللغة كأن الوعي هو ما يشكل مادة النص تلقائيا ودون تدخل جويس. 

فلسنا بحاجة إلى شخصيات مميزة بفكرها وعلاقتها وذكائها وجاذبيتها والهالة الإلهية المحيطة بها حتى يكون لها تأثيرها أو أي تأثير سيكون، فجويس يريد من الإنسان العادي أن يكشف عن نفسه ومنح المهمَّش صوته. لم يعد الأدب محتكرًا على نوعيات محددة من الطبقات الاجتماعية والأفراد المميزين بل نحن في مواجهة الإنسان بكل سلبياته وإيجابياته بل بكل سلوكياته العادية جدا حتى في الأكل والشرب والتغوط. يبحث جويس عن رفع العادية إلى مستوى أرقى من التطلعات والرؤية التي يمكن أن تُوجد فيها. 

تنتقل الحلقة السابعة إلى مبنى الصحيفة حيث يذهب بلوم للمفاوضة حول إعلان، وهو المكان الذي يتوجه إليه ستيفن بعد أن طلب منه مدير المدرسة أن يأخذ معه مقاله لنشره في الصحيفة. في هذه الحلقة فصاعدا يصبح التشابه بين موضوع الحلقة ومكانها وبين لغتها وسردها أكثر وضوحًا، فالحلقة تميزت بتقسيمها داخل عناوين ثانوية كما القالب الصحفي، وأسلوبها يتناسب مع الأسلوب الصحفي.

يذهب بلوم في الحلقة الثامنة بعد الخروج من مبنى الصحيفة إلى البار حيث يتناول غداءه، ويلتقي في طريقه بالسيدة برين الذي تخبره أن السيدة بيرفوي تعاني من آلام الولادة. 

تدور أحداث الحلقة التاسعة في المكتبة حيث يحتدم النقاش في الأدب يتجاذب أطرافه ستيفن مع أمناء المكتبة حول شيكسبير وهاملت ومكانة الأديب وعبقريته والعلاقة بين الشخصيات ومؤلفها، وهذه الحلقة من أكثر الحلقات التي لمست فيها موضوعًا نقاشيًا موجهًا إلى مهتم وقارئ لشيكسبير وهاملت، بل وحتى ما يخص مواضيع أدبية أخرى أكثر من أي قارئ آخر، وفي المكتبة يلتقي بلوم بستيفن بشكل عابر. 

أما الحلقة العاشرة فقد كانت عن أهل دبلن وتوزعت في تسعة عشر جزءًا في بنية تشابه يوليسيس. في الحلقة الحادية عشرة يقضي بلوم بعض الوقت في 

حانة فندق أورموند، وتمتاز هذه الحلقة بأن السرد فيها "سرد سمعي" يُدون فيه ما يتناهى إلى مسامع بلوم وفي ذات الوقت فإن مادة النص تتركب من وعي بلوم (ذاكرة وتفكير). ومع ذكر مقاطع من أغاني ومعزوفات يبدو وكأن السرد فيه يأخذ جانبًا موسيقيا في تدرجاته وصعوده وهبوطه. 

ثم يخرج بعدها بلوم في الحلقة الثانية عشرة لملاقاة كننغهام من أجل تقديم مساعدة مالية لعائلة دنغام وهناك في حانة بارني تدور رحى حوار عنيف ونقاشات سياسية ومعاداة للسامية من قبل المواطن الذي أخذ دور السيكلوب ذي العين الواحدة، فالمواطن الشوفيني والمتعصب لأيرلندا يضايق بلوم ويتهكم عليه ويجد بلوم نفسه في وضع الدفاع. امتاز السرد في هذه الحلقة بأنه سرد الشخص الأول بضمير المتكلم، وهو شخص مجهول، لا توجد إشارة إلى اسمه أو هُويته، إضافة إليه فهناك تدخلات سردية من سارد خارجي (مجهول أيضا هل هو جويس أو ساردٍ ضمني). وكان استخدام تقنية اللوائح والقوائم في هذه 

الحلقة بارزًا كذلك وتكرر لأكثر من أربع أو خمس مرات في نصوص سردية طويلة. 

نجد في هذه الحلقات (7-12) التنوع في السرد وأساليبه ولغته وحواراته، وسنشهده أيضا في الحلقات التالية، فنحن لا نقرأ عملًا نثريًا عاديًا بل هو دروس في فن الرواية والسرد واللغة الروائية، وتنوعها تنوعًا فريدًا ثم تركيبها جميعا في يوليسيس، حيث يبدو أن جويس يخلق يوليسيس خلقًا كاملًا فكل حلقة تمثل عضوًا كما تشير الملاحظات الخارجية لجويس هذه الأعضاء كالقلب والأذن والمريء والمخ والأعصاب والهيكل العظمي والعين والأنف والعضلات، إلخ (ومادة الحلقة تشير إلى هذه الأعضاء كما في الحلقة السادسة حول القلب أو الحلقة الحادية عشرة باعتمادها على السمع (عضوها الأذن) أو الحلقة الثانية عشرة إذ النقاش الحامي يشير إلى القوة والعضلات)- تعمل على جعل العمل مخلوقًا وكل حلقة هي عضو مؤسس في هذا المخلوق، لذا فينتقل العمل من السردية التخيلية إلى المادية المحسوسة.  يذهب بعدها بلوم في الحلقة الثالثة عشرة إلى الشاطئ حيث يصادف هناك ثلاثة نساء ويبقى يراقبهن ولا سيما الصبية غيردي التي يستمني عليها. ثم يتوجه بعدها إلى مستشفى الولادة حيث يقابل ستيفن وأصدقاءه. واعتمد جويس في لغته السردية في هذه الحلقة على تقنية تطور اللغة من خلال محاكاة تطور النثر الإنجليزي هذه المحاكاة التي تقابل نمو الجنين. 

ينضم بلوم إلى ستيفن ورفاقه السكرى ويذهبون إلى ماخور بيلا كوهين في الحلقة الخامسة عشرة، وهي أطول الحلقات وأعقدها بل هي الحلقة التي جعلت من يوليسيس عملًا شائكًا وشائقا في الآن نفسه. اعتمد جويس في هذه الحلقة على أسلوب مسرحي في المحاورات، لتبقى الحلقة متنقلة ما بين شخصية إلى أخرى، التي تغرق في هلوساتها الجنونية في عالم من السوريالية والفانتازيا والغرائبيات حيث تتكلم حتى الجمادات والحشرات والأشجار والأفكار، وينهار الزمان والمكان. يواجه بلوم نفسه وأفكاره وذكرياته ومخاوفه في محاكمة ذهنية هي استحضار لأفعال بلوم بحضور شخصيات قديمة، فيرى بلوم نفسه متهمًا ومقبوضا عليه من قبل حارسين ثم يتحول إلى ملك ليثور شعبه عليه، ثم يدعون أنه خنثي، وهي تهيؤات نفسية وخيالات نتيجة لأخلاقيات بلوم الذي يُنجب بعد أن 

يُقال إنه حامل ثم يتحول إلى عاهرة وقواد. كل هذا وأكثر في حلقة خرافية ومليئة باللا معقول تنتهي بهلوسات ستيفن حين يرى أمه ويظن سائلا إياها أنه سبب موتها ليهرب من الماخور ويقع في مشاجرة شارع يلحق بلوم به وينقذه. يتمشيان بعدها في الحلقة السادسة عشرة إلى كشك بحارة يتناولان القهوة ويثرثران مع بحارة. يأخذ بلومُ ستيفنَ معه بعدها إلى منزله في الحلقة السابعة عشرة ويشربان الكاكاو في المطبخ ثم يطلب بلوم من ستيفن أن يبات معه لأنه يعرف سوء علاقة ستيفن بمليغان في القلعة لكن الأخير يرفض ويخرج، ثم يصعد بلوم إلى غرفته حيث كانت زوجته موللي تنتظره. أما أسلوب السرد في هذه الحلقة فكان قائمًا على أسلوب الأسئلة والأجوبة وتظهر بوضوح جانب هامليتي في شخص بلوم إذ يبدو في كثير من أفكاره وأقواله معتمدًا على صيغ تحاكي قول هامليت الشهير "أكون أو لا أكون". 

يخص جويس الحلقة الثامنة عشرة لموللي في مونولوج طويل هو الأهم والأبرز في يوليسيس ويأتي في المرتبة الثانية في الصعوبة بعد حلقة الماخور الخامسة عشرة. يتوزع نص المونولوج على 8 أجزاء وهذا الرقم يشير إلى: 8 سبتمبر 1870 تاريخ ميلاد موللي في جبل طارق، و8-10-1888 تاريخ زواج موللي وبلوم. 

كل جزء من مونولوج موللي يخص موضوعًا ما ويبتدئ بجملة وينتهي بنقطة، في حين تنتفي علامات الترقيم في مادة نص كل جزء باستثناء نقطة النهاية، مما يعطي انطباعًا بتدفق الوعي المتواصل دون أن يفصله أو يقف قاطعًا إياه شيءٌ.  

يتمحور الجزء الأول من المونولوج الذي يبدأ بجملة "لأنه لم يقم بشيء كهذا من قبل أبدا…" حول شك موللي ببلوم أنه مارس الجنس مع غيرها بسبب طلبه أن تجلب طعام الفطور إلى السرير الذي لم يحدث إلا في مرة سابقة قبل زواجهما، وحول تذكرها من مارست معهم الجنس في حياتها الماضية.

وفي الجزء الثاني الذي يبدأ بجملة "كلهم مختلفون جدا" فكان عن بويلان الذي كان معجب بقدمها، وتسرد أحاديث عن ماضيها وعلاقتها ببلوم.  

والجزء الثالث الذي يبدأ بجملة "نعم أظن أنه جعلها أصلب قليلا ماصًا إياها" فهو نص إيروتيكي يتضمن حديثها عن صدرها ومعاشرة بلوم لها. وهو في كثير 

من طرق المعاشرة وأساليبها يبرز فيها الشبه بين ما يحدث "بين بلوم وموللي" وبين ما تذكره رسائل جويس إلى زوجته نورا.  

تتداعى في الجزء الرابع الذي يبدأ بجملة "هـ هـ هـ د ي ر القطار في مكان ما" ذكريات موللي فيما يخص حياتها سابقا في جبل طارق حيث ولدت. 

الجزء الخامس الذي يبدأ بجملة "رسالة ملفي كانت الأولى هذا الصباح" هو استمرار لتداعي ذكريات موللي وأيام حبها. 

الجزء السادس الذي يبدأ بجملة "إنها لارتياح حيثما كنت أطلق ريحك بحرية" هو تداعٍ حول ابنتها ميلي مرورا بعلاقاتها الاجتماعية انتهاءً بحياتها الجنسية  مع بلوم واعتدادها بجسدها ومفاتنها كما في كل الأجزاء السابقة واللاحقة. 

الجزء السابع الذي يبدأ بجملة "من يدري هل هناك مشكلة في أحشائي" هو تداعٍ لأحداث في حياتها ثم ينتهي بالتفكير ببلوم وضيفه.

الجزء الثامن الذي يبدأ بجملة "لا ليس هذا أسلوبه" هو تداعٍ وتفكير في بلوم وتصرفاته، وسرد إيروتيكي عن أفعالها وماضيها وانتهاء بطلب بلوم الزواج منها وموافقتها، لكنها نهاية سردية شاعرية مترفة الشعرية كتبها جويس بحس عالٍ من الفنية والأدبية وتجتمع فيها متعة قراءة العمل كليًا.  



البحث عن الزمن المفقود (الكتاب الثاني)




في ظلال ربيع الفتيات  - مارسيل بروست.


يكمل بروست في ظلال ربيع الفتيات مسيرة بطله (سواء كان بروست نفسه أو شخصية نظيرة له) في روايته التكوينية التي تمثل بواكير مرحلة شباب السارد -الذي يقصها بنفسه متذكرا أيام صباه- موزعًا إياها في قسمين: الأول حول عائلة سوان (سوان وزوجته أوديت)، وعلاقة السارد مع جيلبيرت ابنتهما التي تعلَّقها وشُغف بها حبًا ويمرُّ ببدايات ثم نشوء يبلغ قمته يعقبها أفول ومحاولة التخلص منه ثم النسيان والشروع في حياة جديدة تمثلت في القسم الثاني من الرواية في مدينة بالبيك التي سافر إليها السارد مع جدته ويعقبها تعرفه على عدة شخصيات من بينها الفتيات (أندريه وألبرتين ودوزموند وجيزيل) اللائي قضى في ظلالهن مرحلة الشفاء وتجاوزها إلى حالة ضياع من يحب وأيهن تجذبه فيغرق ويغرق القارئ معه في حيرته هذا التي صوّرت التعرف على عالم الأنثى، العالم الذي ابتدأه في حب صباه جيلبيرت. 


ثيمة الحب واكتشاف عالم الأنثى؟ 


ثيمة الكتاب الثاني من الرواية هي الحب بكل مرفقاته وعواقبه وعقباته، إذ تتشكل العاطفة البرعمية في ذات "سارد بروست" الصبي تجاه جيلبيرت لتنمو شيئًا فشيئًا ويصبح هذا البرعم الصغير نبتة اشتدَّت ساقها ثم شجرة يكبر معها السارد، ويعود بالزمن إليها بعد مرور سنوات عليها يحللها ويصورها وينقدها كيف بدأت وكيف عالجها وانتهت. لكنها نهاية انتقلت به إلى مرحلة من تفرع شجرة العاطفة إلى فروع عُلِّقت في كل منها صورة من صور الإناث التي عرفهن، وعايشهن، هذا النهم والشوق إلى عالم الأنثى الذي كان يدفعه للتقرب ثم الوصول إليهن ليجد فيه السلوى بعد خيبة جيلبيرت أو حتى ليبني ذات حبٍ جديدة. ينقل بروست هذا العالم من التضارب والتخالط في نقل وتصوير هذه الحالة الداخلية والخارجية لذاته أو نظيره يتعقب فيها الروح الذكورية وهي تتسلق جاهدة من أجل الوصول إلى غرفة عالية تمكث فيها الأنثى ليأتي هذا التصوير والنقل -رغم ما به من تحليلات واستغراقات- مثاليا لأي ذكر مرَّ بهذه المرحلة السنية. المرحلة التي يبغي القرب من الأنثى  ويَحب ويُحب، ويحير أيَّ فتاة يريد. إنها كشف لعالم الذكور، آلة تكوين يلجُها أيٌّ منا، لكن كلًّا منا يلجها بطريقته الخاصة، ويخرج منها بتجارب وخبرات وذكريات، هذه الخبرات التي يترتب عليها أحداثًا مستقبلية والذكريات التي نعود إليها وقت النضوج لتحليلها أو قرائتها واستعراضها لأجل المتعة التي تُمنح لنا في السفر إلى الماضي الذي لا يتغير، إلى البعيد الذي لن يتكرر، بنشوة الرؤية الأولى لمشهد الأنثى التي تشكّل هاجسنا الوحيد في سنٍّ ما، على تذكر ملمس الوجنات، والشفاه التي نستشعر في أحلام يقظتنا ومنامنا طعهما اللذيذ، كل هذا يختلط في روح السارد ما بين ما خلا وما أتى ليعرفنا في قالب استغراقي ما مرّ به. 

لكن هذه الثيمة في حبه الأول لجيلبيرت تتشابه وتكرار لثيمة الحب الذي مر به سوان مع أوديت، التكرار الذي لم يحمل في طياته فيما يخص الحب أيَّ جديد أكثر مما هو نظرة قراءة وتفحص للحب الذي يبدو كما يوحي بروست أنه يتشابه في هيكليته بغض النظر عن سن المحبين، إلى درجة أن هناك تشابهًا في الأقوال كالتي كانت تقولها السيدة فيردوران إلى سوان حين تقول له إن أوديت تحبه حبًا جمًا أكثر من غيره، ونرى أن السيدة سوان "أوديت" تقول لـ"سارد بروست" تعلم أنها "تقصد جيلبيرت (ابنتها)" تحبك إلى ما لا حدود.

ويختلف في ذاته التي تميزّت عن حب سوان الذي كان حبًا ناضجا حكمته ظروف خاصة، في حين كان حب السارد "بروست" مع جيلبيرت حبًا برعميًا بكرًا سرعان ما يزول تاركًا في قلب المحب الصادق نكتة لا تزول مهما تعاقب الزمن. 

أما الفتيات اللائي عقبن جيلبيرت وتمشّى في وارف ظلهن يبدو وهو في هذه المرحلة -مرحلة عامة هي الأخرى لما بعد فشل الحب الأول- في تخبط وعدم المعرفة أين سيحط بقراره وأين سيرسو قاربه الصغير في خضم بحر لجي يُتقاذف فيه من موجة إلى أخرى، في منظر يوحي بالعبثية واللا قصدية، وهو فعلا كذلك، لكنها عبثية ولا قصدية تفوق قدرته على التحكم أو السيطرة، لينتقل من واحدة إلى أخرى "شعوريا" لا "فعليًا" إلا أنه رغم كل هذه الفوضى يبدو لذيذَ المذاق شهيًّا. لا يسعى فيه بروست إلى التمسك بوضع دون آخر أو حتى أن ينقد نفسه بل يتركها حرة طليقة في هواها كفراشة تبحث عن ارتشاف الرحيق من زهرة إلى أخرى في حديقة الإناث البهيّة، ذات المنظر البهيج، والبهو الفسيح. 


تمزيق الزمن 


يتمزّق الزمن مع بروست وهو يسعى خلفه ليصطاده بعودته إلى الوراء عبر الذاكرة، هذا التمزيق الذي يستخدم بروست كل ما يملك من خيال وحرفة في إتمام عمله وإخراجه بأحسن وجه ممكن. يلاحق الزمن ثم يوقفه ليشرَّح اللحظة والأشخاص ويرسم بدقة متناهية ويصفهم كأنهم قبالة عينيه. 

هذا التعامل في الزمن لا يتم إلا إكمالًا لقبض بورست عليه قبضًا يتجسد فيه الزمن من ماهية "غير مادية" إلى "مادية" يتعامل معه كيفما يشاء. فتضحي مسألة إيقاف الزمن المستذْكَر والمتسرَّد من الماضي والفاقد للسيطرة على استمراريته- رهينة بروست الذي يسترده ويعالجه كيفما يشاء،  هذه المعالجة التي من خلالها يحوله بروست كأنه زمن جديد، فيستخدم تقنية الاستباقية والاسترجاعية مع هذا الزمن أو تذكر الماضي أثناء سرد الحدث المتذَكَّر أو ما أسميته "ذاكرة الذاكرة". 

إن تمزيق الزمن هو إعادة خلق للزمن وكل ما يضمه من أحداث وأشخاص ومواقف ومكان، ويزيد عليه بروست أن الرواي المتكلم هو الراوي المتكلم العليم (الذي تكلمت عنه في المراجعة الأولى).

هذا النسج المتشعب في بنية العمل لا يبدو بالسهولة التي قد تُفهم فهو يبني عالمًا يمارس فيها كل تقنيات السرد الروائية التي يعرفها ويتقنها بناءً على زمنٍ خالٍ وذاكرة، والتداخل بين الزمن والذاكرة هو تداخلٌ متشابك وملتفٍ بعضه حول بعض، يُلتهم فيه السارد فيقذفه إلى الوراء، فيكون هناك زمن للزمن وذاكرة للذاكرة، طبقات متعددة لبنية النص التي يقتحهما بروست بسارد يعرف متى يبدأ الحدث ومتى ينتهي، عليم بتحركاته، ومآلات أفعاله، ومصائر شخصياته، التي كانت يومًا أشخاصًا حقيقيين يعيش معهم ويعرفهم وربما ما زالوا، لكنهم في عالم لولبي دائر بالزمن والذاكرة حول نفسه إلى الماضي الذي لا يبدو أن له خط بداية أو نهاية هو الآخر، ليأتينا نصًا متواصلًا غير منقطع: بدايته قبل النص الأول ونهايته بعد النص الأخير.


النص المتصل   


إن من مميزات هذه الرواية هو النص المتصل، حيث يكون أي حدث متصلٍ بحدث سابق ولاحق حتى دون أن تكون الصلة مترابطةً أو التنقل منطقيًا، لكن بروست في فعلته هذا يخلق نسيجًا سرديًا للذاكرة. الذاكرة لا تملك خط انطلاق أو خط وصول، لذا كان نص الذاكرة السردي يتمتع بكل مرونة الذاكرة التي لا نقدر على التحكم في تدفق أحداثها ولا جريان زمانها، حيث السرعة اللا متناهية أو البطء القاتل في آلية الاسترجاع والتذكر التي تمنحه لنا. هذا التذكر للماضي وأحداثه يصاحبه استغراقات وعي سردية واستطرادات ذاكرة وصفية، يطلق فيها بروست العِنان لوعيه وذاكرته في التحرك في كل اتجاه ويتخذ وظيفة الكتابة لكل ما أوحى له به وعيه في الماضي مخلوطًا بوعيه في الحاضر، وسرد ما كان يتذكره وقتها ممزوجًا بما يتذكره الآن، في تأملات تصل إلى درجة الهذيان التي استشعرتها وأنا أقرأ، والتيهان الذي يبدو أن بروست كان يدخله في سعيه الحثيث في خلق الذاكرة في قالب السرد. يعقب هذا أو يتداخل به غوص إلى الذات غوصًا يبدو أنه خارج الزمن والذاكرة، منفيًا بفضل بروست من كل السُبل التي سلكها في بناء عمله، فيبدو هذا الغوص سردًا فوق سرد، وتبصّرات ذاتية في حياته كليًا يوم كان يفعل كذا ويوم يجلس يتذكر ويكتب، فلا يتضح الزمن الذي يُتكلم عنه هل هو زمن الماضي أو زمن الحاضر، وهل يُخصُّ هذا الحدث أو ذاك، كل هذا في نص متصل يبدو شبيها لاعتراضات أو إضافات الذاكرة التي تتدخل في بنية الحدث التي تعرضه في شاشة عقولنا ولا نعرف كيف جاء أو هل يخصنا أو التقطته مدارك وعينا في لحظة ما، أو حتى قُذف إلينا من العدم أو وعي أكبر من وعينا؛ وعي وعقل خارجيان. ويطرح سؤال في وسط كل هذا من السارد؟


هُوية السارد وحقيقته 


إن معرفة هوية السارد السؤال الذي قد يشغل أي قارئ، فهل "سارد بروست" يمثل بروست الحقيقي أو بروست المتخيّل أو نظيرا له؟ تبدو الاحتمالات مفتوحة لا سيما وأن سارد بروست يذكر أحداثا وقعت له ووقعت فعلا لبروست الحقيقي مثل إصابته بالربو، وكذلك ذكره لقضية دريفوس في نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا. 

لا يتوقف الأمر عند هذا لكن هذا السارد أيضا يمتاز يمتاز بقدرات السارد العليم في عدة مقاطع ويندمج فيه مع السارد المتكلم كما في المثالين أدناه:

*

  - ولعل ذلك التبدل لم يكن خارقا بمقدار ما كان يرى السيد "دو نوربوا". ذلك أن "أوديت" ما اعتقدت أن "سوان" سوف يتزوجها في النهاية. وفي كل مرة كانت تنقل إليه على نحو مغرض أن رجلًا محترمًا أقدم على الزواج من عشيقته تراه يلوذ بصمت القبور، وأكثر ما يفعل، إن هي وجهت إليه نداءً مباشرًا تسأله: "قل، ألست ترى أن ذلك حسن جدًا"، أن يجيبها ببرود: "ولكني لا أقول إن ذلك سيئ، فكلٌّ يفعل ما يحلو له." ولم يعد هناك ما يمنعها من الاعتقاد بأنه ربما هجرها تماما مثلما كان يصرح في لحظات الغضب،…

 

- كانت تعلن في داخلها فساد "ذوق سوان" الذي كان يبدد دفعة واحدة، في سبيل تحقيق غرابة جمالية حقيرة، كامل الرماد الذي ذرته في عيون عائلة "كوتار" يوم حدثتهم عن دوقة "فاندوم" وكيف ستحالفها حتى الجرأة في نقل الخبر إلى زوجها بأن الأستاذ وزوجته سوف يأخذان هما أيضا قسطهما من تلك المتعة التي سبق أن فاخرت أمامه بأنها فريدة؟… 


*

نحن لا نعرف من يتكلم هنا؟ هل هو بروست الروائي أو سارده أو راوٍ عليمٍ يتدخل في توجيه العمل والإضافة السردية، لكنه سارد لا إشارة له حتى الآن (الكتاب الثاني) إلا ما ورد في قسم من حب لسوان، إلا أن ذاك أيضا اختلط فيه سارد بروست الضمني بساردٍ عليم (لأسباب ذُكرت سلفا). 

هذه التفسيرات لا توصلنا إلى الهوية والحقيقة المقنعتين أكثر مما هي توضح مزيجًا من عدة أطراف ما بين بروست وسارده في العمل الذي يروي قصته وراوٍ ضمني آخر يستخدمه بروست في عمله، وهذا لا يمنحنا فسحة للراحة لأن هوية السارد لا بد أن تعرف حتى نفهم ما يملكه من قدرات وإكراهات سردية لا يمكنه تجاوزها، وهل ستصبُّ في صالح العمل أو ستكون ضده؟ إلى الآن ما زالت الاضطرابات في هوية السارد والتداخلات بين قدرات كل سارد لا تصبُّ في صالح بروست، ولعلنا نهتدي في قادم الأجزاء إلى إجابة أو توضيحات تفسر لنا هوية السارد وحقيقته.


مؤمن الوزان.


فنُّ الترجمة العسير


عن محاضرة الشاعر الصربي - الأمريكي تشارلز سيميك Charles Simic


دونا أورشيل. 

ترجمة: مؤمن الوزان.





أبدى روبرت فروست ملاحظة مرة حين قال "الشعرُ ما يضيع في الترجمة" وثمة العديد من الأنواع الأدبية تجد الترجمة فيها مهمة أقرب إلى المستحيل. أما في نظر الحائز على جائزة الشاعر الأمريكي، تشارلز سيميك، فإنَّ ترجمةَ الشعر من لغة إلى أخرى -في الغالب اللغات الأوروبية الشرقية- نشاطٌ مليئٌ بالشغف والتفاني. قدَّم سيميك في حضوره الأخير بكونه الحائز على جائزة الشاعر الأمريكي والمستشار الشعري- محاضرةً بعنوان "فن ترجمة الشعر العسير" في قاعة Montpelier في مكتبة الكونغرس في الثامن من شهر أيار/ مايو عام 2008. 

"أود الحديث عن الترجمة لأنها شيء مارسته في خمسين عامًا تقريبًا، ولديَّ بعض الأفكار عن الترجمة وصعوباتها. قال الناس إن الترجمة هي ’كدح الحب‘، وهي كذلك، فلا يجني أيُّ أحد الكثير من ترجمة أيّ شيء".

وضَّحَ سيميك- الذي كتب عشرين ديوانًا بالإنجليزية وترجم ثلاثة عشرَ آخر- مجادلة الرافضين لترجمة الشعر. 

"قِيلت العديد من الأشياء ضد الترجمة: الترجمة مستحيلة. كيف يمكن للمرء ترجمة الشعر؟". 

ثم قال بعدها، لمن الصحيح أنَّ العبقرية وشخصية الناس مُحتواةٌ في اللغة التي يتحدثونها، والتخيُّلَ متجذرٌ فيها، إضافة إلى جغرافية وثقافة بلد ما، وما من لغتين يشتركان بمحتوًى متطابق. 

"هل بإمكان المرء أن يترجم ثقافةً، ونظرتها للحياة، وعالمها الما ورائي؟ لا يقتصر الأمر على وجود لغة اصطلاحية وتخيُّل اصطلاحي فحسب بل والتراكم التأثيري للاستخدام الاصطلاحي. كيف يُمكن أن يُترجم؟ هل بإمكان الواحد أن يُوصل بلغة أخرى ما له قيمة فورية للقارئ المحلي؟"

هذا الخط الفكري، كما يقول سيميك، هو الجدال المعتاد ضد الترجمة الشعرية. والجدال الدفاعي عن ترجمته يُسمي ’وجهة النظر الطوباوية‘.

"تُثرى كلُّ ثقافة في العالم بأدب البلاد الأخرى. وكان المترجمون السبَّاقين في التعددية الثقافية، ينظرون إلى اللغات الأخرى والتقاليد ليجدوا شيئًا ما يرغبون بترجمته ومشاركته". 

ويضيف سيميك "حتى وفقًا لهذا الادعاء فإن ترجمة الشعر مستحيلة، إلا أنني أجد حالًا مثاليًا. الشعر في ذاته حول المستحيل، وكل الفنون حول فعل المستحيل. وهنا تكمن جاذبيتها. كيف بإمكان شاعر أن يلخصَ تجربة ما، صغيرة أو كبيرة، ويوصلها في أربعة عشر سطرًا شعريًا؟ لكنه يفعلها". 


بدأ سيميك بالترجمة بالعمل أستاذًا أعلى في مدرسة ثانوية، ليهاجر بعد مدة يسيرة من يوغسلافيا إلى أمريكا في عام 1954. قطع الحدود آخذًا معه قصائد باللغة الصربية أراد مشاركتها مع أصدقائه. أما أول قصيدة ترجمها فهي "رسالة الملك ساكيس وأسطورة الأحلام الاثني العشر التي حلمها في ليلة واحدة The Message of King Sakis and the Legend of the 12 Dreams He Had in One Night".

ابتدأ نشاطه الترجمي في عام 1960 حين انتقل إلى مدينة نيويورك وقضى وقتًا كثيرًا في مكتبة نيويورك العامة حيث اكتشف كما قال "القطاع السلافي". إن ترجمة الشعر "هي فعل الحب، وفعل عاطفة سامية. كلما تعمَّقتُ في الترجمة؛ أُذهلُ. الطريقة التي بإمكاني تفكيك قصيدة إلى أجزاء دقيقة لم أفعلها قط عند العمل معلّم أدب. أحبُّ القربَ، والقراءة المتفحِّصة جدًا. الترجمة شبيهة بأن تكون وسَطًا، وتقف في محلِّ الآخر الذي تترجمه؛ يصبحُ الآخر أنت. إنها القراءة المحتملة الأقرب للنص الأدبي". 

وفقًا لسيميك، فإن الشعر الموزون والمقفّى (الغنائي) هو الأشقُّ والأصعب على الترجمة. 

"إنه موجزٌ في عمومه ولا يحتوي الكثير من المادة الموضوعية. في القصيدة الغنائية فإن ما يُقال قليلٌ وما يُعنى كثيرٌ. وما تجربه في قصيدة غنائية هو محدد كليًّا في اللغة". 

  قرأ سيميك بعضًا من ترجماته المحببّة، قصائد من كتاب سيميك (مختارات من الشعر الصربي):

 “The Horse Has Six Legs: An Anthology of Serbian Poetry” (1992). وهذا مقتطف من قصيدة "الصُنيديق  The Little Box”:


يُذكِّرها الصنُيديق بطفولتها...

وبتوقٍ عظيم تُصبحُ صُنيديقًا مرة أخرى

الآن، في الصُنيديق

تملكُ العالم بأكمله في مُنمنمة 

تضعه بجيبك بسهولة 

تخسره أو تُضيعه بسهولة

انتبه جيدًا على الصُنيديق


أخبرَ سيميك الحضور في بداية المحاضرة بأنه استمتعَ كليًا في سنة فوز بشاعر أمريكا "كَبُرتُ على حبِّ هذا المعهد، وهذه المكتبة، مكتبة الكونغرس. قضيتُ حياتي بأكملها -الحياة الحقيقية، الحياة التي أُثمِّنها- في المكتبات. بدأت حينما كنت طفلًا، واستمررت عندما أصبحتُ شابًا وما زلت أذهب إلى المكتبات. أن آتي إلى المكتبة الأخيرة، مكتبة العالم العظمى، وأعملَ مع المثاليين الذين تفانوا في المحافظة على هذا المعهد الراقي، إنه لشرف عظيم عظيم!" 

أنهى محاضرته التي تجدونها هنا: www.loc.gov/webcasts/ بقراءة قصائده، ومن ضمنها مقتطف من قصيدة "في المكتبة In the Library" من ديوانه "الصوت عند الثالثة فجرًا The Voice at 3 A.M. (2003)": 


تُشرقُ الشمس الآن

عبر النوافذ الطويلة

المكتبة مكان هادئ 

والآلهة والملائكة مجتمعون 

في الكتب المظلمة والمغلقة

يكمن السرُّ العظيم 

في رف ما فوق الآنسة جونز 

مديدة القوام؛ تُبقي رأسها منحنية

كما لو تستمع ما تهمس به الكتبُ

لا أسمع شيئًا، لكنها تسمعُ! 





الاثنين، 20 يوليو 2020

في يوم الصلب



الكاتب: ليونيد أندرييف.

ترجمة: عبير بخش.


في الصباح الباكر لذلك اليوم السيئ حين أُرتكب الظلم الكبير وصُلب المسيح في جلجثة بين اللصوص. عانى بن توفيت تاجر القدس من ألمٍ شديد في أسنانه، إذ بدأ الألم في مساء اليوم السابق في فكه الأيمن بسبب ارتفاع أحد الأسنان الواقعة بجانب ضرس العقل، فكان يشعر بألم عندما يتحسس سنه بلسانه. ولكن سرعان ما انقضى ألمه بعد العشاء ونساه بسبب بهجته لإبرام صفقة مربحة اليوم وهي مقايضة حمارٍ عجوزٍ بحمارٍ شاب، وتجاهل أيَّ علامات تنذر بالسوء مستقبلاً. وخلدَ إلى نومٍ عميق، ولكن قبيل الفجر بدأ شيئا يزعجه وكأن شخصا ما ينادينه لمسألة بالغة الأهمية، وعندها استيقظ بن توفيت غاضبا من ألم اسنانه، كان الألم ألما واضحا خبيثا، كان ألما شديدا وكأن أحدهم يحفر داخل فمه. لم يعد بن بخيت قادرا على التحديد ما إذا كان مصدر الألم هو السن ذاته الذي كان يؤلمه في الأمس، أو أن الألم انتقل إلى أحد أسنانه الأخرى، فكان بن توفيت يعاني من ألم شديد في فمه ورأسه، ألما أشبه بالمضغ الإجباري لألاف المسامير الحادة والتي أضحت حمراء من شدة الحرارة. فأخذ بعضا من الماء الموجود في الإبريق الفخاري ووضعه بفمه مدة دقيقة حتى خف الألم، وصرَّ أسنانه وأخذ يتمايل كموجة، وبالمقابلة بين الإحساسين كان إحساسه في تلك اللحظة إحساسا ساحرا. استلقى بن توفيت للنوم مرة أخرى وتذكر حماره وفكر بمدى سعادته لولا ألم أسنانه، ولكن بدأ الماء يدفئ وبعد خمس دقائق بدأت تشتد حدة ألمه أكثر من أي وقت مضى وجلس بن توفيت في فراشة يتمايل ذهابا وإيابا كنواس، وأصبح وجهه متجعدا ووضحت معالم الألم عليه، وعلى أنفه الذي شحب من معاناته قطرةً من العرق البارد. وهكذا أخذ يتمايل مجددا ويئن من شدة الألم وحينها رأى شروق الشمس المُقدر لها أن ترى جلجثة والصلبان الثلاثة والتي خَبت من الرعب والأسى.

كان بن توفيت رجلا صالحا وطيبا ويكره الظلم ولكن عندما استيقظت زوجته أسمعها الكثير من الكلام السيئ وفتح فمه بصعوبة ولامها على تركه بمفردة كابن الآوى يئن ويتلوى ألما. قابلت زوجته لومه غير المستحق بالصبر لأنها تدرك أنه لامها بسبب غضبه وأحضرت له العديد من العلاجات الجيدة كفضلات الجرذان ليضعها على خده، وبعضا من السائل القوي الذي يُحفظ به العقرب، ورقائق من اللوحات الخشبية التي كسرها النبي موسى وعندها بدأ يشعر بتحسن مدة يسيرة بسبب فضلات الجرذان، وأيضا بسبب السائل والحجر ولكن سرعان ما كان يعود الألم بكل مرة وبقوة جديدة. واسى بن توفيت نفسه خلال لحظات راحته بتفكير بحماره الصغير حتى إنه قد حلم به. ولكن شعر بألم مره أخرى، فشتكى لزوجته ووبخها وهددها بقطع رأسه بالحجارة إذ لم يهدأ الألم. ظل يسير ذهابا وإيابا على سطح منزله ومن زاوية إلى أخرى، وشعر بالخجل من الاقتراب للجانب المواجه للشارع بسبب ربط رأسه بالمنديل، كالنساء. جاء الأطفال عدة مرات يركضون نحو بن نحيت ليخبروه على عجل عن يسوع الناصرة، توقف واستمع إليهم لفترة وكشر، ولكن بعد مدة ضرب الأرض برجله غاضبا وطردهم. كان بن نحيت رجلا طيبا ومحبا للأطفال ولكنه غصب منهم الأن بسبب إزعاجه بالتفاهات. وانزعج بن توفيت أيضا من تجمع الناس في الشارع والأسطح المجاورة دون فعل أي شيء سوى النظر إليه وهو رابط رأسه بمنديل كنساء بفضول، وهمَّ بنزول ولكن قال له زوجته: 

  • "انظر، إنهم يقيدون اللصوص هناك. ربما سيحولك ذلك".
  • أجاب بن توفيت غاضبا: "دعيني وحدي. ألا ترينني أعاني؟.

  احتوت كلمات زوجته على وعدٍ مبهمٍ بأن قد يكون هذا سببا لتخفيف ألم أسنانه، لذلك طاوعها بن توفيت وثني رأسه على جانب واحد وأسدل جفن عينه وسند خده بيده، وكانت تعابير وجهه تحكي الكثير وهو يبكي ناظراً إلى الشارع. 

كان هناك في الشارع الضيق المرتفع حشدٌ هائلٌ يهتفون متجهين إلى الأمام بخطوات تملأها الفوضوية متبوعة بالغبار. وفي وسط هذا الحشد يوجد المجرمون منحنيين من شدة ثقل صلبانهم، وتتلوى فوقهم سوط الجنود الرومان مثل الثعابين السوداء، وتعثر أحد الرجال بحجارة ألقيت تحت موطئ رجله وسقط، كان رجلا ذا شعرٍ طويل وخفيف ومرتديا عباءة ممزقة وملطخة بالدماء. ارتفعت الهتافات وأطبق الحشد عليه كمياه البحر. وفجأة ارتعش بن توفيت من الألم، شَعَرَ كما لو أن شخصاً ما قد غرز إبرة محمرة من شدة الحرارة في سنه وتركها هناك. أخذ بن توفيت يئن ويبتعد عن الحاجز بغصب وعدم مبالاة. 

قال بن توفيت بحسد: "كيف يصرخون!" مصورا لنفسه أفواههم الواسعة والمفتوحة بأسنان قوية وصحية، وكيف كان سيصرخ إذا كان بصحة جيدة مما أدى إلى زيادة ألم أسنانه وأخذ يهز رأسه المعصوب مرددا مرارا وتكرارا "ممم ممم...".

قالت زوجته وهي واقفه على الحاجز وترمي الحصاة بالقرب من المكان الذي رُفع به يسوع من السياط وهو يمشي ببطيء: "يقولون إنه أعاد بصر المكفوفين". 

أجابها بن توفيت بسخرية: "بالطبع، كان يجب أن يشفيني من ألم أسناني". 

وأضاف ببرود وسخرية: "ما كمية الغبار الذي خلفوه! وكأنهم قطيع من الماشية! يجب أن يطردوا جميعاً بالعصا! أنزليني يا سارة!".

أثبتت الزوجة صحة كلامها، فاستطاع المشهد تخفيف ألم أسنان بن توفيت قليلاًـ وربما كان هذا بفضل مساعدة فضلات الجرذان- واستطاع بن توفيت أن يخلد إلى النوم. 

وعندما استيقظ من النوم كان الألم تقريبا قد زال كليا باستثناء القليل من الالتهاب في فكة الأيمين. 

أخبرته زوجته بأنه فاته الكثير ولكن ابتسم بن توفيت بمكر، لأنه يعرف طبية قلب زوجته وكيف كانت مولعة في إخباره بأشياء الممتعة. وفي حينها جاء الدباغ صموئيل وهو جار بن توفيت، وأراه بن توفيت حماره الصغير الجديد وأخذ يمدح نفسه وحماره بفخر. ثم وبناء على طلب سارة الفضولية ذهبَ ثلاثتهم إلى الجلجثة لرؤية الأشخاص المصلوبين.

وفي الطريق أخبر بن توفيت صموئيل بالتفصيل عن ألم فكه الأيمن في يوم البارحة، وكيف استيقظ ليلا بسبب ألم فضيع في أسنانه، ولتوضيح ذلك قلد تعابير وجوه المساكين وأغلق عينيه وهز رأسه ويئن، في حين هز صموئيل ذو اللحية البيضاء رأسه برأفة وقال:"أوه، هذا مؤلم جدا". 

سعد بن توفيت برد صموئيل وأخذ يكرر له القصة، وعاد إلى الماضي عندما أُفسد أول سن له في الجانب الأيسر، وانغمسوا في الثرثرة إلى أن وصلا إلى جلجثة. كان منظر الشمس المُقرر لها أن تشرق على العالم في ذلك اليوم السيئ ساطع متجاوزة التلال البعيدة، وثمة غربًا خط نحيف متمازج بين اللونين الأحمر والأرجواني مشع وكأنه بقعةَ دم. 

كانت الصلبان معتمة لكنها غامضة مع هذا المنظر خلفها، كما شوهدت أشكال الركوع البيضاء غير الواضحة عند سفح التقاطع الأوسط.

تفرق الحشد وازداد الجو برودة. وبعدما شاهدوا الرجال المصلوبين، سحب بن توفيت صموئيل من ذراعه واستدار بعناية نحو منزله، شعر وكأنه أحد البلغاء في تلك اللحظات وكان يريد إنهاء قصة ألم أسنانه. سارا وبدأ بن توفيت بتقليد تعابير وجوه المساكين وهز رأسه ويئن بمهارة، في حين هز صموئيل رأسه برأفة وردَّ عليه بعبارات بين آن وآخر. حلَّ سواد الليل الدامس من السهول العميقة الضيقة ومن السهول البعيدة المُشتعلة، بدا الأمر كما لو أن الليل يرغب في إخفاء الجريمة التي عدتها السماء جريمة الأرض الكبرى. 



 


  





الاثنين، 6 يوليو 2020

يوليسيس - جيمس جويس (المقال الرابع)



مؤمن الوزان.


مدينة دبلن


يقول جويس: أود أن أعطي صورة كاملة لدبلن حتى إذا اختفت المدينة فجأة من سطح المعمورة يكون بالإمكان إعادة تشييدها من كتابي. 


تحوز مدينة دبلن على المكان في يوليسيس، فالعمل الذي كتبه جويس قد أُشيد به لتذكره المدينة رغم بعده عنها وقت كتابته العمل، لكن هذا الوصف لدبلن لم يرق للبعض وعدَّه غير صحيح في كثير من جوانبه المذكورة. لكن ما يهمنا نحن هو في تشييده مدينة دبلن من جديد في كتابه بشوارعها وأبنيتها وطبيعتها وبحرها وتاريخها وسياستها لكنه زاد عليها بأن خلق مع المدينة أهلها بكل صنوفهم، وهذا بالضبط ما حدث مع الحلقة العاشرة من يوليسيس التي أفردها جويس لدبلن وأهلها، وعمل على جعلها يوليسيس داخل يوليسيس. فهذه الحلقة تحمل في بُنيتها عاملين رئيسين: 


- إن الحلقة موزعة على تسعة عشر جزءًا، لشخصيات مختلفة من أهالي دبلن في الوقت نفسه، ينتقل السارد الخارجي من حدث إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر لتشكلَ الحلقة دبلن بجغرافيتها وأناسها، فينطبق عليها تماما قول جويس الوارد. وما يحسب لجويس أيضا أنه كتبها وهو في المنفى بعيدا عن دبلن بعد أن هجرها مع نورا. 


- إن هذه الحلقة هي نسخة مصغرة من يوليسيس، حيث التنقل بين أحداث وشخصيات مختلفة، وكونه عمل داخل عمل موازٍ له وفي داخله. فيوليسيس تولد يوليسيس آخر، هذه الحلقة رغم زيادتها على يوليسيس (19 جزءًا مقابل 18 حلقة) فإنها تؤكد ما ذهبتُ إليه في كون يوليسيس مخلوق أكثر مما هو مجرد عمل تخيلي، فالتوليد الحاصل في هذه الحلقة من بين الحلقات الثماني عشر هو توليد مخلوق آخر، وهذه الأجزاء التسعة العشر في الحلقة العاشرة هي أيضا قائمة بذاتها كباقي الحلقة الرئيسة في العمل، قائمة ببنيتها الخاصة وقصتها التي هي قصة سكان من دبلن، أناس مختلفون، متباينون، يجمعهم جويس في الجزء الأخير منها، إنه الالتقاء الذي تبقى عناصره محتفظة بكينونتها تلتقي في لحظة ثم تعود إلى عالمها الخاص، هذا العالم الذي هو الآخر يمثل يوليسيس جديد وهكذا تواليا، يتكاثر يوليسيس إلى ما لا نهاية، لأنه مرتبط بالإنسان ونهايته مرتبطة بهم.  


إن الشوق إلى المدينة التي يولد أو يعيش فيها الإنسان هو الدافع الذي يجعله حبيسًا فيها رغم خروجه عنها. إنها الرغبة بالعودة إلى الانتماء بعد النفي والابتعاد، إنها إيثاكا أوديسيوس التي بقيت تشغل باله وتحتل كيانه، فالعودة إلى إيثاكا توازي العودة إلى دبلن. يوازي جويسُ هنا أوديسيوسَ في رحلة عودته إلى إيثاكا، لكن جويس يعود عودًا مجازيا، يجعل من دبلن أرضية أحداث ومكانًا يضم فوق روحه وفكره وخياله وماضيه الآفل، يعود في يوليسيس إليها روحًا لكنه يبقى بعيدًا عنها جسدًا، إنها عودة تعارض عودة أوديسيوس. فكما يضيع أوديسيوس في البحار يضيع جويس في مدينته التي يعرفها ويبنيها في نصه ويُسكن فيها أهلها، جاعلا من عمله مخلوقًا ومدينة، لتستحوذ دبلن على العمل كأنه كُتب إليها وفيها، لم تكرس لشيء سوى دبلن، إنها ذروة الجوع إلى المكان، إن جويس هو كل شخصياته الدبلنيّة، لم يمنعه البعد عن العيش فيها مجددا، عيشًا لا يعترف بالماهيات والماديات والزمان والمكان، عيش دائم، يحياه جويس مع كل قراءة. 

إن دبلن الحاضرة وبقوة في العمل، وبحلقة خاصة لأهلها، قد يكمن فيها جوهر العمل، ولمَ لا؟ كلنا نقرأ العمل ونبحث فيه عن شخصيات وأساليب سردية وفن 

الحداثة في الرواية، ودراسة بنيتها المشابهة للأوديسة، لكن هل أراد جويس كل هذا؟ ألا يمكن أن عمله كتب لأجل دبلن وحدها؟ إنه التوق والظمأ إليها، إنه المكان الذي يسكن ذات جويس، المكان الذي لا يستطيع العيش فيه مجددًا إلا في كتابته، وها قد كتبه وها قد عاش فيه عبر نظائره ومخلوقاته التخييلية.  


(صورة لمدينة دبلن 1904)


حوار مع سارة باتكي


حاورها: سيث فرايد*

فازت Better Times -المجموعة الأولى لسارة باتكي- بجائزة برايري شونر للكتابة القصصية، عندما قرأت القصص التسع في هذه المجموعة، أدهشني كيف تحتوي أعمال باتكي على الكثير من التناقضات الممتعة، فهي قاسية لكنها جميلة، ومُسيَّرة لكنها رنانة، وملحمية لكنها حميمية، وصريحة لكنها محددة بشكل رائع.

وتركز القصص في Better Times على النساء عبر مختلف المراحل في التاريخ وتمكنك من الشعور بالوقت لكل زمان، وبعيداً عن النضال تحت وطأة هذه التناقضات، فإن المجموعة الناتجة تمثل أول كتاب سلس ومثير.

 

سيث فرايد: إليك السطر الأول من قصتك "Lookaftering": "لم تدرك لويزا أنها كانت حاملاً عندما أنجبت البيض"، وفي قصص أخرى من Better Times، يعاني مجتمع بأكمله من نوع من فقدان الذاكرة غير المتجانس أو تسعة من سكان ألاسكا تقطعت بهم السبل عندما غرقت نهاية مدينتهم في المحيط وطفت بعيدًا!، إن عوالم قصصك مبنية على أسس لا تصدق، ويشعر العديد منها بملاحظات لا تتزعزع للعالم كما هي، ولكن في جميع أنحاء العالم توجد أيضًا هذه المقاطع المنمقة الرائعة والمزخرفة، هل يمكنك التحدث عما تعنيه هذه العناصر لك وكيف تستخدميها في أعمالك؟

سارة باتكي: أعتقد أنه ربما ينبع من اعتقادي مدى الحياة أن الغرابة تتغلغل دائمًا في الأمور الدنيوية، ولكن بالنسبة لكثيرين منا، يسهل النظر إلى هذه الأشياء، ويمكن أن نعزو ذلك إما لموجة الرفض أو لتسويغ شيء لا نفهمه، في حين أجد أن ما لا يمكن تفسيره يظهر للخيال على أنه أرض غنية بشكل لا يصدق، فهو مكان لوضع الأشياء التي نخاف مواجهتها في الحياة، لذا أحب استكشاف هذه الأنواع من المواقف المحيرة، لكني لست مهتمة بأسبابها بشكل خاص، ربما هذا كسل من جانبي، لكني أحب أن أفكر فيه هديةً للجمهور، فعلى سبيل المثال، لا أقدم أي تفسير لسبب ولادة لويزا للبيض، وتنتهي القصة قبل أن يفقس ذلك البيض، وكل ما قد يتخيله القارئ حول الأمر أراه أكثر إثارة من أي شيء ملموس قد أكتبه، كنت أشعر بالفضول أكثر لاكتشاف كيف ستواجه امرأة شابة هذه المعضلة غير العادية، ولكي يعمل الخيال -بالنسبة لي في الأقل- كان يجب التعليق بطريقة ما على العالم البشري الذي سيدخله البيض عنوة، وهنا تكمن الجاذبية بالنسبة لي، قارئةً وكاتبةً.

سيث فرايد: نُظمت القصص في هذه المجموعة حسب العصور: الماضي القريب، العصر الحديث، والعالم الآتي، أيضًا -كما يوحي العنوان- يعد الزمن بشكل عام عنصرًا موضوعيًا هامًا يجمع هذه القصص معًا، ويبدو هذا ملائمًا بشكل خاص، نظرًا لأن الأحداث الحالية جعلت الأمر يبدو أن الكثير منا قد بدأ يفكر في حياته من حيث التاريخ والعصر الذي نعيش فيه، عندما كنتِ تكتبين تلك القصص، هل كان الوقت نقطة دخولك؟ هل فكرتِ في زمن معين وتركتِ قصتك تنبثق منه؟

سارة باتكي: ليس دائما، في الواقع، نادرًا ما أفكر في الزمن حينما أبدأ كتابة قصة، لكن هناك استثناءات بالطبع، مثلًا، عندما تلهمني شخصية تاريخية حقيقية أو شخص حي كما في قصة "عندما كان والدها جزيرة When Her Father Was an Island"، لكنني عادةً ما أبدأ بشخصية أو موقف ثم أحدد العصر الزمني الأكثر منطقية لها بعد أن أمضيت بعض الوقت في سرد الأحداث، وأكثر من عنصر الزمن، لنفترض أنني مهتمة بمراجعة التاريخ، وهذا يشمل عصرنا الحالي وما قد ينتظرنا (وهو أمر مرعب لأن نتأمل هذه الأيام)، أو أنني أريد أن أروي قصص النساء اللواتي تُجوهلنَ أو رُفضنَ، أينما كنّ عبر القرون، فأنا أعتقد أن لديهن بعض الأشياء المدهشة ليخبرننا بها.

 

سيث فرايد: يبدو المنظر الكلاسيكي للمأساة هو أنه إذا حدث شيء سيئ لشخصيتك، فيجب أن يكون ذلك لأنه معيب، هل تعتقدين أن مفهوم المأساة لا يزال ذا صلة؟

سارة باتكي: لست متأكدة من كونه ذا صلة بأي منا بخلاف الإغريق، ولكن بصفتي شخصًا يتمتع بمستوى معين من الامتياز- شخصًا أبيضَ مستقيمًا ولكنه يعاني أيضًا من الكراهية كونه امرأة، أرى أنه جزء لا يتجزأ من وظيفتي فنانة أن أتناول هذه الأنواع من الظلم بطريقة حقيقية للشخصيات التي ابتكرها، فسوء الحظ شيء نتعرض له جميعنا في مراحل مختلفة من حياتنا، بغض النظر عن امتيازاتنا الشخصية، وكلنا نملك عيوبًا بطريقة ما، فالمآسي لا تحدث بسبب عيوبنا بل غالبًا تحدث على الرغم منها، وهنا تكمن الإمكانات الكبرى للقصة بالنسبة لي في الأقل.

سيث فرايد: هل يمكن أن تكون هناك طريقة أخرى للنظر إلى النظرة الكلاسيكية للمأساة تكمن في أن عالم القصة يحتاج فقط إلى "التحدث" إلى داخل شخصيتك بطريقة ما؟ بمعنى آخر، هل جوانب العالم التي تبرزينها في نص معين يحددها التكوين الداخلي لشخصيتك؟ على سبيل المثال، لنفترض أنك تكتبين عن شخصية لديها مشكلة مع السلطة، ثم ربما يصبح عالم القصة محددًا بعلاقات القوة، أم أن طبيعة العالم محدد سلفًا في قصصك وتتعرفين على شخصياتك من خلال كيفية تفاعلها معه؟

سارة باتكي: شخصياً، غالبًا ما أبدأ بالشخصية أولاً وأطور المحيط بناءً على كيفية إدراكها له، لأنني أعتقد أننا جميعًا نتفاعل مع العالم ونفسره بناءً على تجاربنا الخاصة معه، وكما أوضح "راشومون" بخبرة عالية أن القصة يمكن أن تتغير بشكل كبير اعتمادًا على من يقوم بروايتها، هناك بالطبع استثناءات كما ذكرت من قبل في "عندما كان والدها جزيرة"، والتي كان يبدو أنها حدثت في اليابان على الرغم من عدم ذكر الدولة بالاسم في القصة، ونظرًا لأنني لم أزرها من قبل، فإن الحصول على فكرة حول ثقافة البلد في ذلك الوقت وسلوك الأشخاص الذين عاشوا هناك ساعدني في تطوير شخصيتي الأب والابنة، لكن ذلك ساعد فقط مع الخطوط العريضة للقصة، لذا حينما تعرفت على الشخصيات على حدة استطعت انتزاع تفاصيل معينة من رأسي ووضعها على الصفحة، مثل مزرعة أشجار الكمثرى التي يتخيلها الأب كونها المكان الذي رأى زوجته فيه لأول مرة، لذا فهي التجربة والخطأ بالطبع، فإذا ما كنت إلهَ شخصياتي، فإنني آمل أن أكون إلهًا مرنًا.

 

سيث فرايد: في نظري، تميل أفضل المجموعات إلى احتواء مجموعة واسعة من العوالم في لا تزال تشعر بكونها بيان متماسك، وتعتبر Better Times مثال مثالي على ذلك بالنسبة لي، هل يمكنك أن تقدمي لنا أية إضاءات حول عملية تشكيل المجموعة القصصية؟ هل الاستعارات المطولة مرحب بها؟ هل يشبه الأمر صنع شريط ذو مزيج مختلف من الأغاني؟ فن تلصيقي (كولاج)؟ تخطيط لصيد نابش فضلات؟

سارة باتكي: سأنطلق مع استعارة شريط مزيج الأغاني كونني أملك الكثير من الخبرة في صنع هذا النوع، فبذات الطريقة التي تفكر بها حين صنعه؛ في الحالة المزاجية التي تريد إنتاجها والشخص الذي تصنع له الشريط، كنت أحاول أن أضع في الاعتبار أثناء اختيار القصص التي أريد وضعها في المجموعة بعض المواضيع المتشابهة والشعور العام الذي كنت أرغب في تركه لدى القارئ، والذي كان في حالة Better Times نوعًا من الحنين إلى الماضي الحلو والمر في الآن نفسه، وهذا يشمل حتى الأشياء التي ربما لم تحدث بعد، لقد بدأت مع القصص الستة التي تم نشرها سابقًا، ثم كانت مسألة تحديد الأجزاء المتبقية في مجلد "القصص" على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي معتمدة علة القصص التي شعرت بأنها مصقولة أكثر وجاهزة للانطلاق، ثم بعد نقطة معينة، لاحظت أن هناك العديد من القصص التي حدثت في وقت سابق من القرن العشرين، ثم عدة قصص حدثت في العصر الحديث، ثم قصة واحدة عن المستقبل القريب، لذلك قررت جمعها في الأقسام الثلاثة، من هناك، تمامًا مثلما يجب عليك الانتباه حين ترتب الشريطَ ذا مزيج الأغاني وتنتقل بسلاسة من الإيقاع السريع إلى البطيء لتعود إلى السريع مرة أخرى، نظرت من كثب في أصوات القصص، وكنت حريصة على عدم وضع قصتين ذات طريقة روائية متماثلة قريبتين من بعضٍ، كنت أرغب في الحفاظ على الشعور بالزخم والمفاجأة والتطلع إلى لأمام، ولكن أيضًا جمعت شيئًا سيُقرأ ولن يُتخطى، تمامًا كما يجب أن يُستمتعُ بالشريط، وآمل أن أكون قد نجحت.

سيث فرايد: حسنًا، والآن هل ستكونين لطيفةً جدًا بحيث تصنعي لنا شريطًا ممزوجًا حقيقيًا يمكننا الاستماع إليه أثناء قراءة Better Times؟

سارة باتكي: بكل سرور، يمكن اعتبار الأغنية الأولى والأخيرة كمنظفات ذائقة، في التسع التي في الوسط تتصل كل واحدة منهن بالقصة المشابهة لذات الرقم في المجموعة:

1.     Something On Your Mind – Karen Dalton

2.     Love Vigilantes – New Order

3.     Teenage Spaceship – Smog

4.     The Ballad of Lucy Jordan – Marianne Faithfull

5.     What Are You Doing the Rest of Your Life? – Dusty Springfield

6.     Deathly – Aimee Mann

7.     New World Coming – Nina Simone

8.     Acrobat – Angel Olsen

9.     More Adventurous – Rilo Kiley

10. Baby Won’t You Please Come Home – Bessie Smith

11.  Better Times – Beach House. 

 

سيث فرايد: في مقابلات أخرى، رأيت أنك تذكرين الفنانين التاليين بعدِّهم مؤثرين في أعمالك: ليونارد كوهين، نينا سيمون، جين كامبيون، روبرت ألتمان، أنا مفتون بكيفية دمج كُتّاب الخيال لتأثير وسائل الإعلام الأخرى في كتاباتهم، هل يمكنك التحدث إلينا عن كيفية حدوث هذا النوع من التأثير بالنسبة لك؟

سارة باتكي: أود أن أقول إن الأمر يتعلق بالانفتاح والفضول والتقدير لما يريد الفنانون الذين يعملون في أوساط أخرى توصيله ومعرفة ما إذا كان ذلك يثير أي شيء تريد أن تقوله لهم في عملك الخاص، في الموسيقى، أحيانًا أعتمد عليها لتهيئة حالتي المزاجية، على الرغم من أنني نادرًا ما أستمع إلى أي شيء بكلمات عندما أكتب، فهو أمر مشتت جدًا، حتى الموسيقى الكلاسيكية يمكن أن تكون مشتتة لي إذا ما لم أكن في وضع مُهيًّئ للكتابة، وعلى الرغم من ذلك أعدُّ كوهين وسيمون شاعرين غنائيين مستبطنين ومبدعين، وغالبًا سياسيين جدًا، لذا في بعض الأحيان يكون مجرد الاستماع إلى أحد تسجيلاتهم مساعدًا لي في أن أكون أكثر وعياً باللغة وقوتها، كما أنني أعتقد أن الأفلام مفيدة للكتّاب لأنها تمنحهم طرقًا جديدة لرؤية العالم والناس الموجودين فيه، ويملك صانعي الأفلام الرائعين مثل Campion و Altman عيونًا في منتهى التميُّز، لذلك حتى لو لم أتمكن أبدًا من تقليدهم بنثري، إلا أنني أقدِّر ما يفكرون به بصريًا لخلق هذا الجمال وما يثير اهتمامهم، ويذكرونني باستمرار في أن أنظر إلى ما وراء الشيء الماثل قُبالتي.

 

سيث فرايد: لنفترض أن الكتابة الخيالية ليست خيارًا لكِ لسبب ما، في أي نوع آخر من الفن يمكن أن تجدي نفسك؟

سارة باتكي: لا أملك لكثير من المهارات لكتابة الأغاني، لكنني لطالما كنت مغنية قوية جدًا وما زلت أستمتع بحفلات الغناء الارتجالي في بعض الأحيان، لذا ربما أكون المطرب الرئيس لفرقة ما.

 

سيث فرايد: كوني كاتبًا، هذا هو السؤال الذي دائمًا ما أتجاوزه في المقابلات: هل لديك أية نصائح مفضلة عن الكتابة يمكنك مشاركتها معنا؟

سارة باتكي: إليك الأمر، وقد أبدو وكأنني غبية تمامًا، لكن عندما كنت في بداياتي الكتابية، كنت دائمًا أبحث عن النصائح الكتابية كونني أردت أن أطمئن على أن ما أفعله "صحيحًا"، لأنني اضطررت دائمًا إلى العمل بدوام كامل، فكنت لا أحصل دائمًا على وقت للجلوس في نهاية اليوم والعودة إلى جهاز الكمبيوتر ومحاولة تجميع الكلمات بشكل جيد بعد أن كنت أمام جهاز آخر مدة ثماني ساعات، وسمعت مدةً طويلة من الكثير من الرجال الأكبر سناً، أن الكتَّاب يجب أن يكون لديهم "ممارسة مخصصة" وأنه من المهم أن تكتب كل يوم وإلا فلن تنجح أبدًا، لذا فإن نصيحتي الحرفية المفضلة أن ما قالوه حماقة، ولا تستمع إلى أي شخص يخبرك بما "يجب" عليك القيام به، اكتشف ما يناسبك وافعل ذلك، لكن ها أنا هنا أخبرك أيضًا بما يجب عليك فعله، لذا من يدري!

______

*سيث فرايد كاتب خيالي ومرح، وهو مؤلف رواية The Municipalists ومجموعة القصص القصيرة الإحباط العظيم The Great Frustration، وهو مساهم دوري في عمود "Shouts and Murmurs" في مجلة The New Yorker وعمود "Selected Shorts" في مجلة NPR، نشر قصصه في Tin House و One Story و McSweeney’s Quarterly Concern و The Kenyon Review و Vice وغيرها الكثير، وقد فاز بجائزتي Pushcart وجائزة William Peden.

 

ترجمة: عبير علاو.

تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.


افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب