المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 28 يناير 2020

ذو العقل يشقى - ألكسندر غريبايدوف.



تعد مسرحية "ذو العقل يشقى" واحدة من الكلاسيكيات الأدبية المهمة في الأدب الروسي، وأفضل أعمال ألكسندر غريبايدوف، وتأثر بها أدباء مثل دوستويفسكي وأنطون تشيخوف. لم تُنشر المسرحية الشعرية الكوميدية والهجائية للمجتمع الروسي لمرحلة ما بعد حملة نابليون إلا في عام 1833 بعد موت الكاتب بأربع سنوات، إذ منعت الرقابة نشرها لما وجدته فيها من سخرية وتهكم من المجتمع الموسكوفي وطبقة عليّة القوم والانتقاد لسلوكياتها الزائفة والعلاقات القائمة على المصلحة والنفعية.


ولد الشاعر والمسرحي والدبلوماسي الروسي غريبايدوف في موسكو ما بين (1790-1795)، درس في جامعة موسكو ونال درجة الماجستير في الفيلولوجي، وانخرط بعدها في برنامج الدكتوراة إلا أنه تركه ولم يكمله. 

كانت حياة غريبايدوف، التي جمعته بصداقة مع شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين، حافلة بالأحداث رغم قصرها فقد انضمَّ إلى الجندية المقاومة لحملة نابليون على روسيا في عام 1812، وخدم في روسيا البيضاء قبل استقالته عام 1816، ليشترك بعدها في ثورة ديسمبر عام 1825 ضد القيصر نيكولاس الأول، واعتقل في سنة اللاحقة لكن أطلق سراحه بعدها بمدة. 

عُيّن غريبايدوف سفير روسيا في طهران عام 1828 إثر زواجه بستة أشهر من نينا ذات الستة عشر ربيعا، وبعد الحرب الروسية - الإيرانية ومعاهدة تركمانجي المهينة والتي تخلت فيها إيران عن عدة مناطق في جنوب القوقاز ومناطق أخرى لصالح الإمبراطورية الروسية. 

كانت تلك المدة مليئة بشعور العداء تجاه الروس في إيران، ولم تكن بالأجواء الطيبة بتاتا وزاد من حدتها هرب أرمينيتين من جواري حريم الشاه وسبقهما هرب مخصي أرميني وطلبوا اللجوء في السفارة الروسية، وعلى الرغم من طلب الشاه إعادتهم فقد رفض السفير هذا، وكانت المعاهدة تجيز للجورجيين والأرمينيين العودة إلى جورجيا وأراضي أرمينيا الشرقية، لتزداد حدة غضب الدهماء ويطوقوا السفارة الروسية في طهران ويتحول الأمر إلى غوغائية، الأمر الذي اضطر غريبايدوف على الموافقة بإعادة الهاربات لكن بعد فوات الأوان، إذ اقتحمت الدهماء السفارة وقتلت موظفي السفارة وألكسندر الذي قطع رأسه، ورميت جثته من النافذة وسُحلت في الشوارع، وعرض رأسه في كشك كباب في الحادي عشر من شهر شباط/ فبراير 1829.

بعد أربعة أشهر في حزيران/ يونيو سافر بوشكين إلى جنوب القوقاز والتقى بعدد من الرجال الإيرانيين الذي ساعدوه للحصول على بقايا جثة غريبايدوف، ودفنها في تيلفس - جورجيا. 


تدور أحداث المسرحية في روسيا داخل منزل بافيل أفاناسيفتش فاموسوف، رئيس مكتب حكومي، الذي يُحبُّ ابنته صوفيا بافلوفنا الشابُ الألمعي الذكي ألكسندر تشاتسكي، وكان قد ترعرع معها في منزل فاموسوف بعد موت والده، إلا أنه يتركها ويسافر ليعود بعد ثلاث سنوات ويجد أن الوضع لم يكن كما كان، وأن رغبته بالزواج منها تواجهها عقبات كثيرة أبرزها مولتشاين مساعد فاموسوف، والذي كان يسكن معهم في المنزل أيضا. 

تقع صوفيا في غرام مولتشالن بعد سفر تشاتسكي، لكن طبيعة مولتشالن الوغدة والنفعية التي تجعله يخادع ويفعل كل شيء ليحافظ على عمله والسكن في منزل فاموسوف تخلق الحدث في المسرحية، وفي ظل هذه الأحداث الدرامية ذات الطابع الهزلي والساخر والتهكمي الناقد للمجتمع الروسي تتداخل الأحداث وتظهر شخصية الكولونيل سكالوزب سيرجي سيرجفيتش، الذي كان  فاموسوف يرغب بتزويجهِ ابنته، وسكالوزب هذا، رجل لا يهمه شيء سوى المناصب والترفيعات والمكانة الاجتماعية العالية التي يسعى ليترقيها (كانت فئات المجتمع الروسي مقسمة إلى طبقات ورتب اجتماعية) ثم تظهر الشخصيات الأخرى فوق خشبة المسرح تباعًا صانعة الحدث في المسرحية.

تدفع طبيعة تشاتسكي المرحة والذكية والتهكمية إلى رفض العادات الكثيرة للمجتمع الروسي وكيفية تعاملهم المزيف والمجوف اعتمادا على المظاهر، وينفر من الولع الروسي بكل ما له علاقة بفرنسا والفرنسيين واللغة الفرنسية، وتبرز قيمة المسرحية في هذه النقطة ذات النقد الذاتي اللاذع للمجتمع الروسي وقتئذ. ويبقى تشاتسكي رغم كل ألمعيته يلاحق صوفيا لمعرفة مشاعرها التي تنفر منه بشدة، ليقع تشاتسكي ضحية ذكائه ورفضه للمظاهر الاجتماعية المنافقة والتقليد الخاوي لكل ما هو آتٍ من خارج البلاد. 

تتوزع المسرحية في أربعة فصول، انكشفت في نهايتها الحقائق في مأساة هزلية (تراجيكوميديا)، التي تعد من أبرز سمات العمل التي خصص لها جاستين وليام بحثًا بعنوان "توقُّعُ تشيخوف: العناصر التراجيكوميديّة في مسرحية غريبايدوف (ذو العقل يشقى)" لجامعة أوهايو، ويذكر في مقدمة بحثه:

"غلبت القراءة الأيديولوجية على دراسات مسرحية غريبايدوف "ذو العقل يشقى" في القرنين الماضيين. ففي السنوات الأولى بعد نشرها، أطلقت المسرحية شرارة الجدل ما بين النقّاد المحافظين والكتّاب الرومانسيين-الديسمبريين بشأن وصف المجتمع الموسكوفي. أما النقّاد المتقدمون في أواخر منتصف القرن التاسع عشر، أمثال فيسارين بيلنسكي ونيكولاي دوبروليوبوف، فقد أشادوا بالعمل على أنه أول الأوصاف الحكيمة للواقعية الروسية، العُرف الذي استمرَّ، حسبما رأيا، مع بوشكين وغوغول. وسيمجِّد النقّاد السوفييت قراءة "ذو العقل يشقى" في القرن العشرين.  

كانت القراءة السياسية للعمل مُسيطرة، فاستعرض العديد من النقّاد العمل على أنه بيان الحركة الديسمبريّة، وأن تشاتسكي هو بطلها وخطيب الحركة المفوّه. حتى الشكلانيون لم يكونوا في منأى عن هذا، فقد ركّز يوري تينيانوف على النماذج التاريخية لشخصيات المسرحية أكثر من جوانب الإبداعية الشكلانية. أما الدراسات الغربية للمسرحية فهي محدودة نسبيًا، وتضمَّنت إعادة تقييم لبعض شخصيات المسرحية وتحليلات لوزنها الشعري ولغتها".


لهذه المسرحية أثر واضح في الأدب الروسي فقد ذكرها دوستويفسكي في رواية المراهق وكذلك في رسائله، وذكرها أنطون تشيخوف في قصة العازف الأجير ورواية حكاية مملة حين يقول: 

إن مسرحية ذو العقل يشقى ليست مسرحية مملة فإنها تهب عليَّ من خشبة المسرح ذات رائحة الروتين التي كانت تثير فيَّ الملل منذ أربعين عاما مضت، عندما كانوا يضيفونني عواءً كلاسيكيا ودقا على الصدر، وبعد كل زيارة للمسرح أخرج أكثر محافظة عما كنت عليه عند دخولي.   

ويقول في موضع آخر من ذات العمل: 

لماذا يجب على الممثلين أن يحاولوا إقناعي بكل الوسائل بأن تشاتسكي، الذي قضى وقتا طويلا يحدث الحمقى والمُحب لفتاة حمقاء، كان رجلًا ألمعيًا...

ويقول عنها الممثل المسرحي كونستاتين ستانسلافسكي (الذي أحدث ثورة في عالم التمثيل المسرحي الروسي وأدّى وشارك في أداء مسرحيات لتشيخوف من أبرزها مسرحية "النورس" الشهيرة): تُعد مسرحية "ذو العقل يشقى" من النوع الهزلي. وتبرر مشاهد كثيرة بأكلمها هذا الأسلوب المسرحي، لكن ثمة كثير من أسى الكاتب المر بحق وطنه وشعبه في هذه المسرحية العظيمة... لقد أظهر المسرحيون الكلاسيكون حبًا عميقًا لشعبهم ووطنهم عبر إنزال دموع الجمهور المخفية وسط ضحكهم- وهي سمة معبّرة في العديد من الأعمال الفنية الروسية. 


وذكرها أيضا بولغاكوف في مسرحية الجزيرة القرمزية. 


وعلى الرغم من كل هذه الشهرة فإن المسرحية لم تترجم إلى العربية حتى اليوم، وأما العنوان "ذو العقل يشقى" المقتبس من شعر المتنبي: 

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله 

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم  


فلا أعرف من صاحبه على الرغم من وجوده بهذه الصياغة في أعمال دوستويفسكي وتشيخوف وبولغاكوف. 


لقراءة المسرحية باللغة الإنجليزية: Woe from wit.



https://spintongues.vladivostok.com/griboyedov.htm


رواية الرجل في المعقل العالي - فيليب ك. ديك. (مُترجمة)

ترجمات قرطاس.
ترجمة: عوليس.

رواية
الرجل في المَعقِل العالي.


تعرض هذه الرواية- من روايات التاريخ البديل والخيال العلمي- حقيقة مغايرة عما عرفناها، إذ تدور أحداثها في عام 1962، بعد هزيمة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وسيطرة النازيين واليابانيين على معظم العالم، ليبدأ عصر جديد من الديستوبيا والتطور العلمي وغزو الفضاء. ما بين شخصيات متعددة تتوزع أحداث الرواية بصورة شبه متساوية لتؤدي دورها على حدة تارة ومع بعضٍ في أخرى. بسرد راوٍ عليم ومستعينا بشخصياته أحيانا، يقدم فيليب ديك عملًا روائيا ذا طابع سينمائي في جو من الطاوية والتشويق والمؤامرات والمفاجآت. المترجم.


وُلِد فيليب في شيكاغو عام 1928، وقضى معظم حياته في كاليفورنيا. قصد لمدة وجيزة جامعة كاليفورنيا في بيركيلي عام 1947. يعد فيليب واحدا من أكثر روائيي الخيال العلمي غرابة وأسيلهم إنتاجًا، ومزجت أعماله الفكر الفلسفي بعناصر سوريالية. فازت روايته "الرجل في المعقل العالي" بجائزة هوغو لأفضل رواية خيال علمي لعام 1963. إريك براون.


للتحميل:

مقدمة تاريخ كتاب الجمال - أمبرتو إيكو.


ترجمات قرطاس.
ترجمة: سارة محسن.
تحميل مقدمة كتاب تاريخ الجمال. 

الجمعة، 17 يناير 2020

عام من القراءة.

أنيتا فيليسيلي.
 
عندما كنت صغيرة، كان لدي نمطي قراءة؛ القراءة العامة والقراءة الخاصة، القراءة العامة هي القراءات التي أقرؤها لأتحدث عن أفكارها مع الأطفال في المدرسة، والقراءة الخاصة تكون لنفسي فقط، ظل هذان النمطان للقراءة يسيران باتجاهين متعاكسين، لماذا أقرأ شيئًا لأتحدث عنه، ولأكون جزءًا من المجتمع، في حين أقرأ شيئًا آخر لتغذيتي الذاتية؟ السبب غير معروف ولكن يبقى كما كتب مود كيسي في كتابه "فن الغموض": "إن خصوصية العقل الفردي، وخصوصية الوعي، هي واحدة من هدايا الخيال الاستثنائية لنا"، لذا ظلت القراءة الخاصة دائمًا النمط الأقرب لي والرابط الفردي العميق الذي يربطني بعقول المؤلفين.
قرأت هذا العام بعض الكتب لأبقى مرتبطة بالعالم، ككتاب شوشانا زوبوف "عصر الرأسمالية المراقبة" وكتاب إبرام إكس. كيندي "كيف تكون مضادًا للعداء" وكتاب "دمج اليسار: الانصهار بين العرق والطبقة، الفوز بالانتخابات، وإنقاذ أمريكا" لِـ "إيان هاني لوبيز"، لكنني كرست نفسي بقوة أكبر للكتب التي قرأتها لأتمكن من الحفاظ على حياتي الداخلية.
في شهر آذار/ مارس المنصرم، أعطتني صديقة نسخة من كتاب والدها المفضل، وهو كتاب "الرجل الذي بكى.. أنا! The Man Who Cried I Am" لجون ويليامز، جزءًا من عملية تبادل كتب جرت بيننا، وكان هذا الكتاب أحد أفضل ما اكتشفته على مدار العام، فـ "الرجل الذي بكى.. أنا!" هو رواية استفزازية تعود إلى عصر الحقوق المدنية، وقد كان من أكثر الكتب مبيعًا في عام 1967، وهي تروي قصة صحفي أمريكي من أصل أسود -ماكس ريديك- الذي تزوج من امرأة هولندية، وكان ذلك الزواج بمثابة خطة من الملك ألفريد، تقف وراءها وكالة المخابرات المركزية التي تدبر المؤامرات للمتدربين بهدف القضاء على السكان السود في أمريكا، في طيات تلك الرواية تجد ألم وحشي وتعقيد وموضوعية تشعرك بصدق الحكاية التي لا يمكن هضمها أبدًا والتي لا تسعى أبدًا إلى استرضاء القارئ، لذا أحببتها!
بعد وفاة توني موريسون خلال فصل الصيف، قمت بقراءات متكررة لبعض رواياتها، لقد دهشت عندما وجدت أن رواية الجاز التي قرأتها الآن وأنا في الأربعينيات أحدثت بداخلي تأثيرًا أكبر من قراءتي الأولى لها عندما كنت طالبة جامعية، لم أكن أدرك وأنا في أوائل العشرينات من عمري خيانة جو لزوجته مع امرأة أصغر سناً، أو الطرق التي تستجيب بها النساء الأصغر سناً للظروف، وأحدث ذلك الكثير من الصراعات الداخلية، هذه المرة، أجد أنني أقدّر عبقرية تزامن موريسون مع العديد من الشخصيات، وجرأة الرؤية التي تجعلك تدرك أنها جديرة بالمتابعة، والطريقة التي تكشف لنا بها عن الطرق التي تسيء فيها الشخصيات فهم بعضه لبعض، تماما كما نسيء فهم بعضنا لبعض في الحياة الحقيقية.
لقد كنت من محبي الروائي يوكو أوغاوا لسنوات، حتى إنني لا أعرف ما إذا كانت ستكتب كتابًا لن يعجبني، لقد كنت متحمسة لقراءة قصتها الرائعة The Memory Police، التي تدور أحداثها على جزيرة ديكتاتورية يختفي فيها كل شيء وتؤكد شرطة الذاكرة أن ما اختفى ظل منسيًا، كان الكتاب جديرًا بترقبي له، إذ لا ينبع صداه من أهمية ما رواه عن زمن الفاشية، بل من خلود اعتبارية الذاكرة وكيفية تكوين الذات من خلال ذاكرة الأشياء، والسؤال الذي يبرز على السطح "ما الذي سيتبقى فينا إذا فقدنا جميعًا هذه الأشياء".
عدت هذا العام أيضًا إلى الرائعة بيرسيفال إيفرت، إذ كانت لها رواية "Erasure"، وهي رواية تجريبية قاتمة وهدامة تتفاعل مع حمائم الكتاب الأسود والتجارب "الحضرية"، في كتاب بيرسيفال إيفريت "من فيرجيل راسل"، يزور رجل والده المسن في دار رعاية المسنين ويرويان قصصهما بعضهما لبعض، حيث يختلط الأب والابن كلا منهما مع الآخر.
تعد رواية ايفريت So Much Blue الرواية المفضلة لدي من بين ما كتبت، فهي رواية جميلة مصنوعة من ثلاثة خيوط متشابكة من الزمن، وكما هو الحال مع روايات ايفيريت الأخرى، فإن ملاحظات الراوي في رواية So Much Blue ذكية جدا، وغالبًا ما تكون حادة لدرجة تشعرك أنه مطلع على ما فيك.
لقد أسعدني الغموض والشك في مجموعة القصص القصيرة Grand Union للروائية زادي سميث، إذ يمكن لكل كاتبة أن تتعلم منها استعدادها الدائم للنظر في أنها مخطئة فيما تتخيله أو تعتقده، وعن كل شيء تعتقد أنها تعرفه -المتمثل في موهبتها في الاستجواب- إذ إن توتر عدم المعرفة هذا هو ما أبرز تميز هذه المجموعة.
أحببت أيضًا رواية "The Atlas of Reds and Blues"، وهي رواية قوية وتعد الأولى لكاتبها ديفي لاسكار -الذي قرأت له من قبل قصائد مشروع توبيلو 30/30-، تميزت هذه الرواية في فصولها وكثافتها اللغوية، إذ تُعد أفضل رواية قد يكتبها شاعر -مع إيلاء اهتمام متساوٍ للغة والقصة-.
من النادر جدًا رؤية آثار سنوات العنصرية وكره الأجانب الأميركيين ذوي الأصول الجنوب آسيوية موضحة بعبارات قوية وغنائية كهذه، تفرض أطلس نفسها بجدارة على رفوف الرواية الأمريكية، مما يفتح الباب أمام روايات أخرى صادقة وحادة تروي حقائق حياة الأمريكيين ذوي الأصول الجنوب آسيوية.
لقد أحببت أيضًا رواية ماتانجى سوبرامانيان الحساسة والوجدانية A People’s History of Heaven، فهي قصة تروي حكاية مجموعة من الفتيات في أحد الأحياء الفقيرة في بنغالور في الهند، وروابطهن بعضهن مع بعض ومقاومتهن لحقائق مروعة، فهناك الكثير من الحقيقة التي يتردد صداها من خلال هذه الرواية: "شيء من كتابة القصص يكون لإنقاذ الآخرين، وشيء آخر لإنقاذ نفسك".
كما اكتشفت لأول مرة العديد من المؤلفين الرائعين الذين سكنت نصوصهم مخيلتي لبعض الوقت، من بينهم رواية Cantoras لكارولينا دي روبرتس، وهي رواية جميلة عن خمس نساء يقمن برحلة جريئة إلى الشاطئ معًا في ظل ديكتاتورية أوروغواي، العطاء الذي يتحرك بعلاقة حميمة بين هؤلاء النساء المختلفات، والعزم القوي في حياتهن الخاصة، يوفر سحرًا قويًا للرواية.
راجعتُ أيضًا عددًا من أكثر الكتب إبداعًا التي قرأتها هذا العام، وكنت محظوظة بالعدد الهائل من النسخ التي لا تنسى، في رواية The Unpassing، كتب تشيا شيا لين عن عائلة تايوانية مهاجرة في ألاسكا تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة بعد فقدان ابنتها، تعبر الرواية عن نوع معين من المعضلات بطريقة رائعة، ولقد أبهرت بذلك أثناء قراءتها: "لقد نَقَلَنا إلى مكان لا ننتمي إليه، وأخذنا من مكان صنعناه بأنفسنا، الآن، نجد أننا نتوق إلى كل الأماكن ونجد السلام في لا شيء".
في مجموعة القصص القصيرة المجردة من الخوف لكالي فاجاردو أنستين "سابرينا وكورينا"، تنجو نساء الطبقة العاملة في لاتينا من الفقر والخسارة، حيث أجد بين طياتها أوصاف عيش صحيحة حد الألم، مما يدفعني لئلا أطيق صبرًا عما ستكتبه بعد ذلك كـ: "هذا عندما عرفت أنها قد انجرفت إلى الأبد تحت التيار، وهي ترتد من انتفاخ عميق إلى آخر، فهي لن ترفعني أبدًا من هذا البحر".
في مجموعة القصص القصيرة الأنيقة "Last of Her Name" لميمي لوك، تحاول الشخصيات التواصل مع بعضها  بطرق غريبة عبر مجموعة من الأوضاع، ففي قصة "The Wrong Dave"، يتلقى المهندس المعماري الذي سيتزوج قريبًا بريدًا إلكترونيًا، ويصطدم بوضع لا يعرف فيه ما إذا كانت زوجته تعرف هوية المرسل أم لا، وتنتهي المجموعة بقصة "The Woman in the Closet" والتي تتحدث عن امرأة تعيش بلا مأوى.
وقد استمتعت أيضًا بعدة إصدارات كـ "A Memoir of My Brain" لسارة فالانس، و "Like Water" لأولغا زيلبيرج، و"As a River" لسيون دايزون، و"Shine of the Ever" لكلير فوستر رودي.
كما كانت مجموعة مقالات ليديا ديفيس واحدة من أكثر الكتب التي احتجت لقراءتها هذا الخريف، إذ ركزت على الملاحظات الدقيقة من زوايا مختلفة للتفكير الأيديولوجي البطيء وغير الصارم الموجود في العديد من الأماكن، ووجدتها تحوي مقالًا حول ما علينا قراءته، مما دعاني لأن أفكر في نصيحته لقائمة قراءتي للعام المقبل إذ يقول: "اقرأ لأفضل الكتاب من جميع المدد الزمنية المختلفة، واجعل قراءتك للكتاب المعاصرين متوازنة، فأنت لا تحتاج إلى جرعة ثابتة من الأدب المعاصر، لكونك تنتمي فعليًا إلى هذا العصر".
أتوقع أن نظامي القرائي لعام 2020 سيُبنى على هذه النصيحة، على الرغم من عشرات الكتب نصف المقروءة المتواجدة على منضدتي الليلية والتي لم أنته من قراءتها دون سبب واضح، إذ أرى أن قراءة الأخبار ضرورية جدًا لتطوير الذات من الناحية العامة، ولتوجيهك بصفتك مواطنًا، ولكن الكتب بالنسبة لي حصن ضروري وعاجل، فهي متراس إغناء للنفس بشكل خاص وعميق.


ترجمة: عبير علاو.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

أكبر سنًا وأكثر حكمة؟ - داريل ديلاميد.


أن تصبح مولعًا بالأبطال "كبار السن".
للتقدّم في العُمر أطوار شتى، كل طور منها يثير القلق أكثر من سابقه. في مقدمة ذلك تلقي دعوة من  رابطة الجمعية الأمريكية للمتقاعدين. الأمر ليس سيئًا جدًا لأن الجمعية الأمريكية للمتقاعدين تدعو الأشخاص في سن الخمسين. يلي ذلك طور الحصول على تذاكر كبار السن في السينما. يمكن أن يحدث هذا في سن الثانية والستين، أو الخامسة والستين، لكنه يحدث في وقت أقرب مما تظن.
ومؤخرًا واجهتُ مشكلة غير متوقعة بتاتًا؛ توجد الكثير من الروايات -أو في الأقل كثير من الروايات التي تجذبني شخصيًا- يكون بطلها رجلًا يقترب من السبعين، أو في عقد السبعين من العمر. وأدركت مع بعض التوجس أنني أتعلق بهذه الشخصيات، والذين غالبًا ما يصورون على أنهم منبوذون، إن لم يكونوا رُجعيين، يطاردهم الندم ونذير الموت.
وهذا لا يعني غير أنها مثيرةٌ للإعجاب.
قرأت رواية هينينغ مانكل  "ما بعد الحريق[1]" لأني كنت أحب بطل رواياته كورت  فالندر[2]. في الرواية يعيش فريدريك ويلين في معزل على جزيرة صغيرة مقتربًا من سن السبعين بعيدًا عن ابنته بعد تقاعده الذي تلا إخفاقه في إجراء عملية جراحية.
يستيقظ في إحدى الليالي ليجد النيران تشتعل في منزله، وبالكاد يتمكن من الخروج. ومع وجود اشتباه في أنه قد يكون من أشعل النار بنفسه، يلتقي بصَحَفيةٍ تحقق في الحادث، ورويدًا رويدًا يقع في حبها. تعود ابنته أيضًا إلى المنزل، ويكون على وفاق معها.
أجاد مانكل بامتياز وصف السويد بما فيها من حياة بين القوارب، وملذات الحياة الغامضة في البلدة الصغيرة. وبسبب رؤاه وأفكاره كان لدي شعور بأن مانكل نفسه يتقدم في العمر. وعرفتُ لاحقًا أن هذا كان كتابه الأخير، وقد نُشر بعد وفاته عام 2017. شُخصت إصابته بمرض السرطان في عام 2014، وتوفي عام 2015 عن عمر يناهز السابعة والستين عامًا.
هيلين سيمونسون كاتبة رواية "الموقف الأخير للرائد بيتيجرو[3] " ليست برجل ولا مسنة، وقد نُشرت روايتها الأولى في 2010. القصة غنية بالأوصاف الرائعة لمقاطعة شرق ساسكس والملاحظات الساخرة حول الفجوة بين الأجيال بين بيتيجرو وابنه، بالإضافة إلى قصة حب مؤثرة تجمع بين رائد الجيش المتقاعد (بيتيجرو) وصاحبة المتجر الباكستانية، أرملة السيد علي.
فيما تطرقت هاتان الروايتان لقصة الحب المتأخر، فإن الروايتين التاليتين ربطتا الأبطال الكبار بالطفولة، بوجود طفل ذي صلة بالأحداث.
كانت رواية مايكل كرومي الصادرة عام 2014 (سويتلاند[4]) والتي تأهلت للفوز بجائزة Audie، كتابًا مسموعًا أخّاذًا. يصور الراوي جون لي الحائز على الجائزة بطل الرواية موسى سويتلاند حاد الطباع الذي يعارض خطة الحكومة لإجلاء سكان جزيرة كندية ساحلية أثناء تعليم ابن أخيه المصاب بالتوحد. وبالتالي يتوجب عليه أن يتأقلم مع فقدان أصدقائه، وجزيرته، وقرب موته.
في رواية آكين التي نُشرت مؤخرًا للكاتبة إيما دونوغيو -مؤلفة رواية "غرفة[5]" -التي كانت من الكتب الأكثر مبيعًا عام 2010- يبلغ بطل الرواية وأستاذ الكيمياء المتقاعد نوح سيلفاغيو، سن الثمانين، فيقوم برحلة إلى نيس، المدينة التي وُلد فيها ونزح منها هربًا من النازيين. تجبره الظروف على أن يأخذ معه حفيده مايكل البالغ من العمر أحد عشر عامًا. ويكشف الكتاب (الذي بدأته للتو) تطوّر علاقتهما أثناء قيامهما باكتشافات في تلك الرحلة.
ربما يكون من المتوقع أنه مع دخول جيل الخمسينات سن التقاعد، فينبغي أن تكفل لنا الروايات الثقافة الشعبية نفسها. وبحسب علمي لم يكن يوجد سوق رائج لأبطال جيل السبعينات قبل الآن. (قد تضع الانتخابات الرئاسية في العام المقبل مرشحين في السبعين من العمر ضد بعضهم مما يلمح إلى بعض الحقائق عن زماننا).
وبكل الأحوال يمنح العمر الطويل للمؤلفين الموهوبين فرصة لتصوير الشخصيات بعمق وتقديم مراوغات غير متوقعة، ومنظور للحياة مثير للارتياح بالتسليم الهادئ بحقيقة أن المستقبل قد ولى، وعلينا أن نتصالح مع الماضي.

  •  داريل ديلاميد: كاتب وصحفي يقيم في واشنطن. وهو مؤلف لكتابين غير روائيين، "صدمة الديون" و "كبرى الأقاليم الجديدة في أوروبا"، بالإضافة إلى رواية "الذهب". متخصص في الاقتصاد والأعمال إلى جانب مهنة الصحافة. وُلد ديلاميد في كنساس ونشأ وترعرع في سانت لويس بولاية ميزوري، حصل على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا. وقضى عدة سنوات مراسلًا أجنبيًا في باريس وغيرها من المدن الأوروبية.
  •   ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

[1]  After the Fire
[2]  كورت فالندر: شخصية خيالية من ابتكار المؤلف السويدي هينينغ مانكل.
[3]  Major Pettigrew's Last Stand
[4]  Sweetland

[5]  Room 

السبت، 11 يناير 2020

فيليب ك. ديك الروائي الذي اشتهر بعد وفاته.

بقلم: إريك براون. 
ترجمة: عوليس.

عدَّ القرّاء المتكرّسون والكتّاب والنقّاد جزءا كبيرا من حياة فيليب ك. ديك الأدبية بأنها عبقرية غير معروفة، فهو صاحب خيال قدمت رواياته الجنونية لحقائق مجزأة مستقبلا -كما في روايات الخيال العلمي الجيدة- أكثر وصفا للحاضر من وصف ما هو قادم. 
كان فيليب سارد حكايات تحذيرية، ومتشائما -لكنَّه مشتائم ذو معتقد راسخ بالإنسانوية الفردانية- وكانت أعماله تمضي عكس تيار روايات الخيال العلمي الأمريكية المتفائلة في وقته. حظي بالتقدير في أوروبا لكنه رُفِضَ على نطاق واسع في بلده الأم حيث كانت أغلب نسخ كتبه الأصلية تُطبع بغلاف ورقي؛ ذات مردود مالي ضئيل. أشاد كاتب الخيال العلمي الإنجليزي جون بورتر في عام 1966 بفيليب بأنه "كاتب الخيال العلمي ذو التألق الأكثر استمرارية في العالم"، ووصفه المؤلف البولندي ستاينسلاو ليم بأنه "ذو الخيال بين المشعوذين".
أنتج فيليب ديك في مسيرته التي امتدت لثلاثين سنة: خمس وثلاثين رواية خيال علمي وأكثر من مئة قصة قصيرة. من بين إنتاجه الغزير لروايات الخيال العلمي، فقد كتب اثنتي عشرة رواية ذات معايير رائجة، باع منها رواية واحدة فقط خلال حياته. كتب فيليب في الخيال العلمي في مرحلة كان هذا النوع الأدبي ينمو ببطء لكن بتحولٍ عميق. وكانت روايات الخيال العلمي في أمريكا خلال مرحلة الخمسينات تتخلص من المجلات الرديئة الأولى الذي بزغ منها هذا النوع في حين كان الوضع مختلفا في أوروبا التي كان يفتخر فيها سليلو الخيال العلمي بأسلافهم أمثال ويلز، وهكسلي، وستابليدون، وفيرني. مُلئت المجلات الأمريكية وقتها بكتابات الفضاء الرديئة التي تتميز بالعلماء المجانين والوحوش الفضائية المُخرِّبة، وقصص التقنية المستقبلية الخرقاء. كانت مجلات مثل Super-science Fiction، و Thrilling Stories، تدفع سنتا للكلمة إلى كتّاب رديئين يكتبون أعمال خيال علمي مبتذلة ورائجة (في عام 1953 كان هناك أكثر من ثلاثين مجلة تنشر هذه الأعمال شهريا). وكان هناك في المقابل خامة من الكتّاب الموهوبين ذوي معتقد غير متحرر من الخيال المتخصص في حقل الخيال العلمي. شهدت خمسينات وستينات القرن العشرين بروز مؤلفين سيعلمون على زيادة الأدب الراقي، وتقدير الأعمال ذات العمق النفساني، والنهوض بالوعي الاجتماعي لهذا النوع الروائي. وكان ديك واحدا من بين أفضل هؤلاء الكتّاب إلا إن الاعتراف به جاء بشقِّ الأنفس وبعد طول انتظار. 
ولِدَ فيليب كندريد ديك في شيكاغو عام 1928، وكان مستقلا وعصاميا ومفكرا مناهضا للمؤسساتية، بشهية للمعرفة وقابلية مخيفة في استيعاب المعلومات. امتلك خلفية شاملة عن الفلسفة، وعلم النفس، والدين. درس يونغ قبل أن يشتهر إلى جانب دراسته لمفكري حركة التنوير الألمانية، والغنوصية، والأديان الشرقية، وامتلك أيضا معرفة شاملة وحبا للخيال العلمي. اشترك فيليب ديك في كتابة روايات رائجة، وروايات الخيال العلمي في أربعينات وخمسينات القرن العشرين داخل بيئة مدينة بيركلي بيت -قصد جامعة كاليفورنيا في بيركلي لدراسة الفلسفة، لكنه تركها قبل التخرج-. غالبا ما عانى ديك من سخرية أقاربه لأجل مسعاه القادم في الكتابة. نشر قصة الخيال العلمي الأولى في عام 1952، وكتب ثماني روايات خيال علمي، وقرابة اثنتي عشرة رواية ذات معايير رائجة في عقد الخمسينات. كان يطبع بسرعة 120 كلمة بالدقيقة وادّعى أنه ينسج الحبكة أثناء الكتابة. 
فشل ديك في إيجاد ناشرين لرواياته البارزة، وأحزنت هذه الظروف الكاتب الشاب الذي كان يتوق للاعتراف به من بين أقرانه المفكرين. بيعت أولى قصصه القصيرة إلى مجلات متنوعة مختصة، ونُشرت رواياته في الخيال العلمي من قبل Ace Double مع روايتين قصيرتين في مجلد واحد ذي غلاف ورقي، الأمر الذي أفسد علاقته مع كلا الطرفين- الدار والمجلات. امتازت كتبه المنشورة بأنها ذات غلاف مثير من الجهتين، وكانت ذات معايير متعارف عليها مثل السفن الفضائية، والفضائيين، وأبطال ذوي سترات فضائية. 
استخدم فيليب في بواكير أعماله الروائية التي قُبِل طبعها: أفكار خيال علمي شائعة مكررة- عالم الفضائيين، والاستبصار، والأسلحة الشعاعية- لكنه وظفها في عالمه الخاص، فقد كانت الكثير من روايات الخيال العلمي تستقرئ العلوم الصعبة، استخدم ديك الخيال العلمي ليستعرض هاجسه بالماورائيات، وطبيعة الحقيقة المنظورة، والخير والشر، وإساءة استخدام القوة. كان فيليب مهووسا بفكرة إن َّ الكون حقيقيٌ ظاهريا فقط، ووهمي في الوراء حيث تكمن الحقيقة. ويرى أبطال رواياته والقرّاء في عمل تلو آخر بأن الحقيقة بصفتها المنظورة محض خدعة، مسرحية ظلالية تُصوّرها قوى شريرة، واستعرضت  أعمالا لاحقة مثل Martian Time-slip، وUbik، وValis، هذه الموضوعة بشمولية. 
من المفاهيم الأخرى لفيليب في أعماله كان السؤال مماذا يتشكل الوجود البشري الحقيقي بصفته معارضا للمزيف- السؤال الذي غاص فيه في رواية Do Androids Dream of Electric Sheep؟ من بين أعمال أخرى أيضا. 
حين كان يستثمر في هذه المواضيع الرئيسة  فقد ملأ رواياته بشخصيات يعرفها تمام المعرفة استخلصها من حياته الحقيقية، مؤلفة سواء من أناس يعرفهم أو نظائر شخصيته. كتب عن أفكاره الكبرى في رواياته، لكن لم يغب عن ذهنه حقيقة بأن الخيال العلمي يدور حول تأثير الأحداث في الأفراد. واحدة من بين العديد من نقاط القوة في أعماله كان التعاطف مع شخصيات أناس عاديين يمرون بظروف استثنائية. 
فيليب من بين الروائيين القلة ولا سيما في ميدان الخيال العلمي الذي رسموا بسهولة الأحداث معتمدين في هذا حيواتهم الخاصة. وعكس فنه إلى حد كبير حياته التي كانت زاخرة بالأحداث والمشاكل والفوضى. 
انتقل ديك مع أمه من شيكاغو إلى كاليفورنيا حين كان بسن الرابعة وعاش هناك حتى نهاية حياته ما عدا ثلاث سنوات قضاها في العاصمة واشنطن دي سي ابتداءً من سن السادسة. 
كانت علاقات العائلية صعبة، فقد اعتقد ديك أن أمه رفضت أخته التوأم، فتاة اسمها جاين التي ماتت بعد خمسة أسابيع من ولادتها. كان متأثرا بعمق لغياب أخته التوأم ولامَ أمه على وفاتها. هجر والده العائلة عندما كان ديك بسن الرابعة، الأمر الذي كان عنصرا رئيسا آخر في تحديد نفسيته المضطربة والمعقدة. عانى ديك خلال حياته من نوبات قلق، وفي مراحل من عدم قدرته أن يكون اجتماعيا، وعانى  من رهاب الأماكن المكشوفة، وكان يأكل بصعوبة في الأماكن العامة. اعتمد في الستينات بعد فشل زواجه الثالث على الأمفيتامينات والعقاقير الموصوفة. كان شكوكيا (يتصور أحيانا بأنه من مراقب من FBI، وCIA) وأُقعد بسبب نوبات متكررة من حالات اليأس الموهنة التي بلغت أوجها في أكثر من مناسبة بمحاولاته سلبَ حياته. 
وبعد فشل زواجه الخامس، وخضوعه لجلسات علاج نفسي فقد استمر ديك في كتابة بعض من أهم أعماله الأصيلة في الخيال العلمي في الستينات والسبعينات. 
*
بعد سنتين قضاها في كتابة ثلاث روايات ذات معايير رائجة (فشل في بيعها جميعا)، رجع ديك إلى كتابة روايات الخيال العلمي في عام 1961 بعمل عدّه النقّاد أجود رواية له: الرجل في المعقل العالي. 
الرواية ذات الطابع الأقل سمة من بين روايات الخيال العلمي التي كتبها قبلَ وبعدَ، وأقل سوريالية، الرواية التي وظَّفت الصوت الواقعي لرواياته اللاحقة وغير المنشورة ذات المعايير الرائجة. تجري أحداث رواية "الرجل في المعقل العالي" في أمريكا المعاصرة (عام 1962) ولم تحوِ أي من زخارفه في روايات الخيال العلمي، إذ لا سيارات طائرة، ولا مراكب صاروخية، ولا محادثة عبر أجهزة اتصال محمولة ولا الاتصال العقلي. وتعد هذه الرواية راقية ومقياسية مقابلة مع أعماله الأولى في الخيال العلمي. وكانت الرواية الأولى التي تُقبل من الناشر الأدبي Putnam's، واستلم عنها جائزة هوغو لأفضل رواية خيال علمي عام 1963. 
تصف رواية الرجل في المعقل العالي أناس قليلي الشأن يعيشون حيوات صغيرة بشرف وقلق، وتدرس الصراع الفكري للشمولية والفلسفة الشرقية- وربما هي أجود أعمال فيليب، وواحدة من أفضل كتب الخيال العلمي المنشورة على الإطلاق.  


**
تُوفي فيليب ك. ديك في آذار عام 1982، بسن الثالثة والخمسين. في ذات السنة التي رأى فيها عرض فيلم Blade Runner المقتبس من روايته Do Androids Dream of Electric Sheep؟ الفيلم الذي حفّز الاهتمام بأعماله عبر العالم، وقاد إلى إعادة نشر رواياته في الخيال العلمي، وأعماله الأخرى. فبعد أن كان مبخوس التقدير في حياته؛ نالت أعمال فيليب ك. ديك في نهاية المطاف الاهتمام الأكاديمي والشعبي الذي تستحقه. 


***

الاثنين، 6 يناير 2020

ما الذي يقدمه الشعر لنا، ويشارك به العلم؟ ولماذا يقاوم بعض الناس قراءة الشعر؟

مهما بدت مشاهد حيواتنا مشوشة، وكنا -نحن الذين نعيشها- منهكين فبإمكاننا مواجهة تلك المشاهد والسير حتى النهاية.

كتبت: ماريا بوبوفا.

في إحدى ظهيرات مدينة نيويورك الحارة، كنت أجلس مع صديقة لي، كانت زميلتي في الدراسة لسنين عدة، في أحد المقاهي. وقد كنت  -في حقيقة الأمر- فتاة لا تخلو من بعض الغرور والسذاجة. ولا تلقي بالًا للشعر على الإطلاق. حتى بدأت صديقتي بقراءة بضعة أبيات للشاعر (إدوارد إستلن كومينجز) في مقهى مانهاتن الصاخب ذاك. 
في تلك اللحظة، تغير كل شيء. كانت تلك الأبيات هي الشرارة التي أوقدت لدي شغفًا حقيقًا بالشعر. بالرغم من وصف الشاعر الروسي (جوزيف برودسكي)  للشعر بأنه أداة لتطوير ذائقتنا الأدبية، كما هو حال الشاعر الأمريكي (جيمس ديكي) الذي وصف بدوره الشعر قائلًا: "يتيح الشعر للفرد أعمق أنواع التملك للعالم"، فأن ردة فعلي، في يوم الثلاثاء الصيفي ذاك، لم تكن مستغربة على الإطلاق. لأن مجتمعنا يضمر نوعًا من المقاومة الغريبة للشعر. الرفض المتعنت لإدراك احتواء الشعر على ما وصفه الشاعر الإنجليزي (ويليام وردزورث) بـ "النَفَس والروح المرهفة لكل المعارف". وهذا ما عرضته الشاعرة الأمريكية (موريل روكيسر) في كتابها المعنون بـ (حياة الشعر) والصادر في عام 1949، حيث قالت:
"إنه رفض يتسم بالخوف".
إن كتاب (موريل) هذا يعد استكشافًا رائعًا، وبالغ الحكمة لكل الأشكال والأساليب التي نُبعد بها أنفسنا عن تلك الهِبة المتمثلة بذلك الفن الأساسي، والمتغلغل في الروح، والملم بالحقيقة، والذي لايمكن الاستغناء عنه. تستهل (روكيسر) كتابها قائلة:
إن الشعر هو الطريقة التي تُشعر البشر بتلاقي ضمائرهم مع العالم. وهو الذي يشعرهم بقيمة معاني مشاعرهم وأفكارهم، وبجدوى علاقاتهم بعضهم مع بعض. هو فرصة للإحساس بعذوبة الأشياء واحتمالاتها المتعددة. فالشعر فن يهبنا كل هذه الأشياء. لكنه  -للأسف- فن منبوذ في مجتمعنا. لقد حاولت جاهدة -في كتابي هذا- تتبع أساليب رفض الشعر. بدءًا من كل أنواع الملل، ونفاد الصبر، ناهيك عن إطلاق صفات كالنخبوية، والغموض، والاضطراب، وإثارة الشبهات حول الشعر.
فهل ثمة ما هو حقيقي من بين تلك الصفات، وهل يمكن أن يفضي ذلك إلى إفساد إدراك الإنسان؟
يمكننا أن نلاحظ أن آراءً كهذه من شأنها أن تؤدي إلى تقييد ملَكة الخيال لدى الشاعر وجمهوره، على حد سواء. 
أما في سعيها للوقوف على أسباب الرفض للشعر، تعرض (روكيسر) أوجه الشبه بين الشعر والعلم قائلة:
تتشابه روابط الشعر، إلى حد كبير، بروابط العلم. و لا أقصد بذلك النتائج العلمية، بل أعني نقطة التلاقي بين أنواع الخيالات كافة، والتي يمكن للشعر أن يمنحها لقرائه. في الوقت الذي تتكون فيه السيمفونية، مثلاً، من مجموعة من النوتات الموسيقية، والنهر من عدد هائل من قطرات الماء، لا يمكن للقصيدة أن تكون مجرد الصور والكلمات الواردة فيها. فالشعر يعتمد في وجوده على تلك الروابط المتحركة بداخله. هو فن يعيش في زمنه. يعبّر ويستحضر تلك الروابط المتحركة بين إدراك الفرد والعالم. إن آلية عمل القصيدة تقوم على نقل الطاقة الإنسانية. وأظن أن بمقدوري تعريف طاقة الإنسان بكونها قدرته على الإدراك، وعلى إحداث تغيير في ظروف وجوده. 
إنَّ تقبّل معاني الشعر من شأنه أن يمهد لاستخدام الشعر كتمرين للاستمتاع بإمكانية التعامل مع المعاني الأخرى في العالم وفي حياة الفرد بطريقة مختلفة. من الطريف أن نلاحظ أن كافة الأسباب التي عرضتها (روكيسر) في زمن نشر كتابها عام 1949 ما زالت موجودة في زمننا الحالي بشكل أكثر وفرة وإلحاحًا عن ذي قبل. 
في اللحظة التي نواجه فيها آفاقًا وتضادات أكثر اتساعًا مما سبق، غالبًا ما نلجأ لمصادرنا الخاصة التي هي مصدر قوتنا. لننظر، مرة أخرى، لأماني الإنسان ومعتقداته. وتلك المصادر هي التي يمكن لخيالنا -من خلالها- أن يقودنا للتفوق على أنفسنا.
إذا حدث وراودنا شعور بفقدان شيء من تلك الوسائل، فربما يكون سبب ذلك الشعور هو 
عدم استخدام إحداها، أو ضرورة إيجاد الكثير منها والبدء باستخدامها هي الأخرى.
لطالما قيل أنه يتوجب علينا استخدام طاقاتنا البشرية، وبأن ثقافتنا هي التي تحثنا على استخدام كل مافيها من ابتكارات وحقائق. ولكن ثمة نوع من أنواع المعرفة الثمينة، والمتمردة، والتي تفوق الأوابد الأثرية في قدرتها على تحدي الزمن، والتي يجب أن تتناقلها الأجيال فيما بينها بأية طريقة تكن، ألا وهي الشعر.
تعود (روكيسر) هنا للحديث عن الدور الفردي للشعر، وعلاقته بالعلم وباقي الفنون، لتقول:
ولأن من الصعب أن نوقف هذا الكم الهائل من الأحداث والمعاني التي تحدث كل يوم، آن الأوان لنستذكر شكلًا آخر من أشكال المعرفة والمحبة. هذا الشكل الذي لطالما كان وسيلة لبلوغ أقصى أنواع المشاعر والعلاقات تعقيدًا. وهذه الوسيلة تشبه غيرها من العلوم والفنون، بيد أنها تمتاز عنها بقدرتها على تأهيل خيالنا للتعامل مع حيواتنا. وأعني بتلك الوسيلة الشعر.
بعد ذلك، تعرض (روكيسر) تعريفا لا غنى عنه لطبيعة ومغزى الشعر في وجهة نظر عرضها الفيلسوف والكاتب البريطاني (آلان دي بوتون) بعد ما يقارب النصف قرن من الزمن  يقول ( بوتون):
"يحمل الفن وعدًا بالكمال الداخلي". وفي هذا الصدد تكمل (روكيسر) حديثها قائلة:
إن الشعر، فوق كل شيء، هو مقاربة لحقيقة أحاسيسنا، ولكن ما جدوى تلك الحقيقة؟
مهما بدت مشاهد حيواتنا مربكة أو مشوشة، ومهما كنا -نحن الذين نعيش تلك المشاهد- منهكين فبإمكاننا مواجهتها والسير لبلوغ الكمال.
تذهب (روكيسر) إلى عدِّ الشعر فنًا يحظى بأقل قبول بين غيره من الفنون. وتعزو ذلك الى ارتباكنا الأبدي أمام عواطفنا. فضلًا عن تشبثنا الخاطئ بفكرة فصل العاطفة عن الفكر.
أما فيما يتعلق بأصل رفضنا للشعر، والمتمثل بذلك الخوف الذي يعبر عن خلل نفسي، تقول (روكيسر):"إن القصيدة الشعرية ليست دعوة فقط، بل هي ضرورة ملحة. فما الذي تدعو إليه القصيدة؟ 
يمكن للقصيدة أن تحرك فينا العواطف، وأكثر من هذا تتطلب منا استجابة، بل والأفضل تتطلب استجابة شاملة. وهذه الاستجابة الشاملة لا نصل إليها إلا عن طريق المشاعر. كما أن القصيدة المكتوبة بعناية غالبًا ما تستحوذ على خيال قارئها فكريًا -عندما تدرك القصيدة، فأنت تدركها فكريًا- لكن الطريق الذي تسلكه عبر العاطفة أو ما يمكننا تسميته بالشعور.

ولفهم ذلك، ينبغي عليك -عزيزي القارئ- أن تلقي نظرة على النسخة الأصلية من رواية (الأمير الصغير) للكاتب الفرنسي (أنطوان دي سانت-إكزوبيري) والصادرة عام 1943، والتي تنتمي للأدب الكلاسيكي للطفل، والمكتوبة بلغة شعرية رقيقة تلامس القلب. إذ يقول كاتبها:
سيشرق الأمير الصغير على الأطفال بذلك النور الطاغي الذي سيلمس فيهم شيئًا آخر سوى عقولهم. حتى يأتي الوقت المناسب ليستوعبوا ما حدث.
وفي العودة إلى أولئك الذين ما زالو يستنكرون الشعر، تمعن (روكيسر) النظر في ما أسمته "جذور التواصل" عبر تعريفها للشعر بمايلي:
ينبع الشعر من أعماق ناظمه، إذ يخيل لقارئ الشعر الحقيقي أن مشاعر الشاعر تخاطب مشاعره.
وبما أننا قد حُرمنا تلك الهبة، ألا وهي الشعر، تعيد الشاعرة  روكيسر) صياغة مقولة الرسام الإسباني (بابلو بيكاسو) الشهيرة "كل طفل فنان" بطريقتها الخاصة. فهي ترى أن كل طفل هو مشروع شاعر، إذ تقول:
إن ذلك الخوف الذي يجعلنا نرفض الشعر هو خوف متعمق في ذواتنا منذ أواخر مرحلة طفولتنا، إذ لم نكن نمتلك ذلك الخوف من قبل. فالطفل الصغير لايعرف هذا الخوف لأنه يثق بمشاعره. بيد أن الحواجز تُبنى على عتبات مرحلة المراهقة. أما في سن الرشد، فغالبًا ما يرمي الناس الشعر وراء ظهورهم. ولا أعني بذلك المعنى الحرفي للكلمة، أي كما يتخلص الأطفال من ألعابهم القديمة، بل أقصد تلك القناعة الصادمة بكون الشعر يقع خارج نطاق اهتماماتهم.
ولا عجب أن يقوموا بازدراء الشعر أثناء جلوسهم في المقاهي. وهذا الازدراء متأصل فينا جميعًا. لأننا لم نتعلم حب الشعر في مدارسنا ألبتة. وهذا ما يجعل (روكيسر) تكرر عبارة الكاتب الأمريكي (ريتشارد بوكمينستر فول) بشكل شبه حرفي. لتعرض، مرة أخرى، أوجه الشبه بين العلم والشعر فتقول:
إن ثقافتنا في التعليم ثقافة تخصصية. فهي تعمل على تزويدنا بمعلومات وخبرات في مجال محدد دون غيره من المجالات. وهذه الخبرة تؤهلنا للتعامل مع مشكلات محددة هي الأخرى. إذ تسمح لنا بمواجهة الواقع العاطفي والواقع الرمزي بشكل خجول. 
يمكن لعالم مبتدئ أو كاتب محترف أن يتساءل قائلًا: كيف يمكنني الحكم على جودة قصيدة بعينها؟ بإمكاني الجزم بجودة الأشياء الواقعة في مجال تخصصي ، بيد أنني أجد نفسي غير قادر على الجزم بكون قصيدة ما جيدة أم لا.
أما في الرد على تساؤل كهذا، فيمكننا القول بأن من قاموا بطرحه هم أناس يفتقرون الثقة بمشاعرهم ورود أفعالهم. 
إن فقدان ثقتنا بمشاعرنا هو نوع من أنواع انعدام الشعور بالأمان. ولن نتمكن من التخلص من شعورنا الداخلي بافتقارنا إلى الكمال، إذا لم نكن قادرين على دمج كل العناصر المكونة لشخصياتنا من أجل تحقيق التكامل الذي تشكل ملكة تذوق الشعر جزءًا منه.

إن هذا الجمع بين العناصر التي تتحرك معًا وفق نظام مرئي أصبح واضحًا في كل العلوم، فلا عجب أن يكون حاضرًا في كتاباتنا أيضًا. و أينما وجد، فبمقدوره أن يعطينا نوعًا من الخيال الذي يمكننا من التلاقي مع العالم. كما يعزز قدرتنا على التعامل مع أية وحدة مكونة من عناصر متعددة تعتمد في وجودها بعضها على بعض.


ترجمة: دلال رمضان.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

الكر أم الفر - داريل ديلاميد.


طرحت روايتان حديثتان سؤالًا: "أيما أكثر شجاعة [الكر أم الفر]؟"
استجابة الكر أو الفر هي رد فعل جسدي يبديه معظم أفراد مملكة الحيوان بما في ذلك الإنسان على إثر تهديد محسوس تنتج عنه سلسلة من الهرمونات التي تؤدي بنا إلى تنفيذ أحد الأمرين.
يمكن القول إن الحياة المعاصرة  بنسيجها المعقد -من الشبكات الرقمية، والتعدد المسعور للمهام، والضوضاء الموجودة في كل مكان (عبر سماعات الأذن)، وفرط الأبوة، والافتقار إلى الخصوصية، وضغط العمل والالتزام- تمثل تهديدًا وجوديًا، وتستثير رد الفعل هذا.
آثر كتابان حديثان خيار الفر في مواجهة هذا التهديد. ففي كتاب ديف إيجرز (أبطال التُّخوم)[1]  يرى أن تُخوم اليوم ملاذ لأولئك الذين يجبنون عن مواجهة الحياة المعاصرة عوضًا عن خوض المغامرة في المجهول الذي كانوا يصبون إليه. إن أولئك الذين يمضون إلى التخوم أبطال -سواء كانوا جبناء أم لا- فهم يفعلون ما يجب فعله من أجل البقاء.
ثم يتضح في الواقع أن التُّخوم ليست ملاذًا، إذ تنطوي على تهديدات مختلفة. هذا ما تكتشفه جوزي أثناء فرارها من أوهايو إلى ألاسكا مع طفليها (بول وآنا) بعد أن جرّدتها مريضة مُسنة من وظيفتها (طبيبة أسنان) بدعوى قضائية، زعمت فيها أن جوزي أخفقت في اكتشاف إصابتها بسرطان الفم.
على طول هذه الرحلة ما بعد الحداثة، تلتقي جوزي وعائلتها عددًا من الشخصيات المهدّدة واللطيفة، والتي في الحالتين لا تخلو من خطر. ويعيدون اكتشاف الملذات البسيطة المتمثلة في لعب لعبة بضوء النار أو المشي حفاة بمحاذاة جدول ماء أو طهي نقانق على نار هادئة.
لكن تجبرهم رائحة الخطر على العودة إلى سيارتهم المستأجَرة (المنزل المتنقل) فرارًا من كل مواجهة جديدة ومن الحياة التي كانوا يعيشونها من قبل، والمتمثلة في زوج جوزي السابق عديم الفائدة والذي كانت واثقة أنه يحاول تعقبهم. قد تكون الفكرة عادية تمامًا أشبه بقولنا "لا يمكنك الفرار من نفسك"، لكنها تُروى بأسلوب حاذق وذكاء يجعل من جوزي بطلة حقيقية.
على صعيد آخر كان الفر مختلفًا لدى ديفيد ويليامز في كتابه (عندما يسقط الإنجليز[2]). لطالما فر أبطال الأميش[3] -منذ القرن التاسع عشر- من الحضارة الحديثة، فهم يعيشون بمنأى عن معظم أشكال التكنولوجيا من أجل الحفاظ على حياة ترتكز على الأسرة والزراعة والكنيسة.
لذلك عندما تضرب عاصفة شمسية بقية العالم وتغمره بالظلام بتدمير كل الكهرباء والآلات، فإن أفراد الأميش يواصلون حياتهم كما كانوا من قبل، يحرثون حقولهم بالخيول، ويحصدون الحبوب ويعلّبونها، ويقرؤون على ضوء الشموع. غير أن الجياع من الناس يفرون من المدن المظلمة تدريجيًا ثم يدركون أن مزارع الأميش ذات مخازن مكدسة بالمؤونة.
الكر أم الفر؟ من المعروف أن الأميش لا يكرون، حتى إن كانوا في حالة دفاع عن النفس، ويبدو أن أمان عزلتهم صارهشًا جدًا. تُروى أحداث الأزمة الناشئة في مذكرات يعقوب، أحد مزارعي الأميش. وعند نقطة ما، تشير ابنته سادي -وهي شخصية ذات بُعد نفسي- إلى ضرورة الذهاب إلى مكان "غير آمن".
"غير آمن" -مثل تُخوم إيجرز سالفة الذكر- أي: ملاذ لا يختاره غير الجبناء الشجعان. يعكس أسلوب ويليامز النثري الهدوء الذي يسعى الأميش إلى المحافظة عليه وسط ضجيج الحضارة المدنية الحديثة، وحتى وسط الانهيار الكارثي لتلك الحضارة. سارت الأمور في هذه الرواية القصيرة على نحو جيد بسبب التشويق الذي يحرّك القصة.
يحتوي كتاب إيجرز على مفرقعات أكثر، إذ يقتحم الشواغل الضحلة للحياة في الضواحي الحديثة بشفافية- الأمهات بشعورهن ذوات ذيل الحصان اللواتي يهرولن في سيارات الدفع الرباعي لحضور جلسة بيلاتس[4] في الوقت المناسب وأخذ الأطفال إلى تدريبات السباحة أو كرة القدم أو اللعب؛ ومريضة الأسنان المُقبلة على الموت والتي ما زال فيها رمق للمناكفة بما يكفي لتدمير حياة شخص آخر؛ والعلاقات العابرة والتي تختفي قبل أن تدرك ذلك.
يمكن أن تقودك قراءة هاتين الروايتين، بما فيهما من شخصيات حزينة ومتشائمة ومع ذلك ما انفكت تستجيب لغريزة البقاء، إلى استنتاج مفاده أن السبيل الوحيد المتبقي للقتال هو الفرار. 
  •  داريل ديلاميد: كاتب وصحفي يقيم في واشنطن. وهو مؤلف لكتابين غير روائيين، "صدمة الديون" و "كبرى الأقاليم الجديدة في أوروبا"،بالإضافة إلى رواية "الذهب". متخصص في الاقتصاد والأعمال إلى جانب مهنة الصحافة. وُلد ديلاميد في كنساس ونشأ وترعرع في سانت لويس بولاية ميزوري، حصل على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا. وقضى عدة سنوات مراسلًا أجنبيًا في باريس وغيرها من المدن الأوروبية.



[1]  Heroes of the Frontier
[2]  When the English Fall
[3]  الأميش: طائفة مسيحية نشأت خلال فترة الإصلاحات الدينية وبروز تيارات دينية مسيحية تجديدية. ويُطلق على هذه الطائفة تجديدية العماد يعيشون في انغلاق وعزلة بعيدًا عن التقنية الحديثة.
[4]  بيلاتس: تمارين لياقة بدنية.


  • ترجمة: بلقيس الكثيري. 
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب