المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

تواضع في غير موضعه – ديفيد دالغليش.


عن رواية "المُتَرْجِمة" لمؤلفها جون كراولي الصادرة عام 2002 عن مؤسسة مورو- 304 صفحة.
شبّه جون كراولي أسلوبه بأسلوب فلوبير وديكنز وتولستوي في مقابلة حول روايته الأخيرة (The Translator)، غير أنه ضمّن ملاحظة "أنا لا أضع نفسي في منزلتهم". تواضعه محبب إلى النفس لكنه في غير موضعه. هو بالطبع ليس بشهرة عمالقة الأدب هؤلاء، لكن ذلك لا يعزى إلى قلة عبقريته. إنما لم يُتِح سجل إصداراته الزمني لأعماله أن يتلقى هذا النوع من الاهتمام النقدي الذي يؤدي إلى تمييزه والتعريف به.
كانت براعة كراولي جلية في رواياته الأولى، لكنها سُوِّقت ضمن فئة الخيال العلمي، ونُشرت في شكل كتاب ورقي في سوق جماهيري. وهكذا ظلت كتاباته نائية عن حدود الأدب "ذائع الصيت" -بطريقة حتمية ومجحفة-، على الرغم من الثناء الذي ناله في مجال الخيال التأملي [1] لروايته الثالثة "Engine Summer"، وروايته الرابعة رفيعة المستوى "Little, Big".
لكراولي قراء مخلصون وشغوفون، لكنه لا يزال مؤلفًا ضمن الكتّاب المفضلين عوضًا عن أن يكون من مشاهير الأدب - ولعل هذا هو الأفضل.
نُشرت رواية "Little, Big" في عام 1981، وهي واحدة من أعظم روايات الفانتازيا، ومنذ ذلك الحين كتب كراولي بعض القصص والروايات القصيرة (أبرزها وأروعها  Great Work of Time) وركز معظم اهتمامه على مجموعته الروائية الهائلة "إيجيبت" والمتسلسلة في أربع روايات، والتي من المقرر أن يصدر جزؤها الختامي العام المقبل [2].
رواية "المترجمة" هي النقطة التي نزح فيها كراولي عن ايجيبت والفانتازيا على حد سواء. وهي أول عمل طويل كتبه كراولي لا ينتمي للخيال التأملي بشكل صريح. يحكي عن تاريخ سري للعالم ويقدم تفسيرات خارقة للطبيعة للأحداث الحقيقية -دون تأكيد-.
في الواقع تعد رواية "المترجِمة" أول عمل مكتوب بطول رواية مستقلة، أكمله كراولي خلال 21 عامًا. ثم يقع على عاتقه عبء التوقعات الكبيرة المنوطة به. ربما خيّبها -لمجرد أنه لم يكن صورة أخرى لرواية Little, Big  -وكيف يمكن أن يكون كذلك؟- ذاك العمل ذو التوازن المثالي والصدى غير المنتهي. ومع ذلك فإن المترجمة –هذا العمل الأنيق والسوداوي المدروس- هو عمل لمؤلف بارع وحكيم في أشياء كثيرة تتمثل في: الحب، والتاريخ، والشِّعر.
تدور أحداث رواية (المترجِمة) –تحديدًا الجزء الأكبر منها- في زمن أزمة الصواريخ الكوبية، ويركز على العلاقة بين امرأة شابة أمريكية، هي كريستا مالون (كيت)، ورجل روسي في منتصف العمر يدعى إينوكينتي إيساييفيتش فالين.
فالين شاعر في المنفى، يعمل مدرسًا في كلية في الغرب الأوسط لم يُذكر اسمها. وكيت طالبة في الكلية وهي بطلة الرواية التي تدور حول قصة تأثير فالين على حياتها إلى جانب أشياء أخرى. تحدث أجزاء من الرواية خلال مرحلة مراهقة كيت وسنواتها اللاحقة، لكن هذه المشاهد مسرّبة خلال وجودها في الكلية، ومع فالين، والتي تميزها بعمق.
توعز الرواية إلى أن حياة كيت بأكملها في سن الرشد ما هي إلا امتداد لعلاقتها بفالين. نعرف أنها مضت قدمًا في حياتها وتزوجت وأنجبت أطفالًا، لكننا لا نرى تعاملها مع أسرتها؛ حتى أننا لا نعرف أسماءهم.
تلتقي كيت فالين عندما تذهب للتسجيل في فصولها في بداية الفصل الدراسي، وتقودها المصادفة أو القدر -بعد محادثة قصيرة معه- لأن تقرر التسجيل في فصله، مع أنه ممتلئ. يلعب الشِّعر دورًا في بدء العلاقة بينهما وتطورها -والتي تصبح في نهاية المطاف علاقة حب- تعطي كيت فالين واحدة من قصائدها، تقرأ أعماله وتتحدث معه عن الكتابة والترجمة، وتقرر أن تتعلم الروسية وتصبح في النهاية مترجِمة. أثناء عملهما معا في ترجمة كلماته إلى اللغة الإنجليزية، يقعان في حب بعضهما بطريقة تتسم بالحذر والغموض.
بغض النظر عن اسم فالين، فإن كيت هي الطرف البريء في هذه العلاقة. هذا لا يعني أنها لا تعرف المعاناة. بالتأكيد تعرفها؛ فقد ترعرعت في أمريكا المزدهرة ما بعد الحرب، ولكن على الرغم من نشأتها المتحفظة، فقد عانت من خسائر مدمرة أثناء صباها. ومع أنها لم تكن تشعر ببرد الحرب الباردة ينخر عظامها في بداية الرواية، إلا أنها سرعان ما ستشعر بذلك. لكنها لا تزال بسيطة، بريئة مقارنة بفالين الذي كان لمعاناته رتبة أخرى في سُلّم القياس التقديري. 
في طفولته نشأ فالين في روسيا الستالينية دون عائلة، كان ينتمي إلى عالم البيسبريزورن [3] من الأطفال اليتامى الذين يعيشون غير مرئيين تحت الأرض وفي الخفاء، في صورة ديكنزية [4] مظلمة للمجتمع الروسي (يبدون كمخلوق خيالي). في سن الرشد فقد فالين زوجته وابنته، ثم هجر وطنه. كانت محنته تمثل معاناة أمّة خلافًا لكيت التي كانت خسائرها فردية مهما كانت صادمة. كان الشِّعر لكليهما وسيلة للتعبير عن الآلام، وترياق لليأس. كان عزاء وسلوان لهما لأنه قادهما بشكل غير مباشر إلى بعضهما.
يميل أسلوب كراولي عادة إلى كتابة روايات بسرد صعب وتعقيد معرفي. لكن هذا لا ينطبق على رواية المترجمة. لا يعني أنه كتابٌ سهلٌ ألبتة -فهو مبني على المفارقات والغموض والألغاز- لكنه في جوهره قصة حب تتسم بالوضوح والشفافية. قد يكون هناك شيء ممقوت في العلاقة الرومانسية بين أستاذ في منتصف العمر وطالبته المعجبة به، لكن كراولي ليس فيليب روث أو جون أبدايك. يقنعنا بذكاء بأن شعور فالين وكيت حقيقي. روحان متشابهتان تجمعهما احتياجات مشتركة ليس لها أي علاقة بالشهوة. المشاهد التي ستبقى في ذاكرتي مدة أطول من غيرها تلك التي بين كيت وفالين: وهي تلقي أبيات بودلير في فصله الأول؛ وحوارهما في وقت متأخر من الليل في المطعم حيث تبدأ كيت تستوعب كل ما مرّ به فالين؛ ومناقشة كيفية ترجمة التورية باللغة الروسية دون أي مكافئ في اللغة الإنجليزية. ظاهريًا كل هذه المشاهد شديدة البساطة، إلا أن الخيمياء المكونة لنثر كراولي تملؤها بمشاعر متعددة القيم والمعاني.
تعرف كيت الكثير عن فالين إذ يقضيان وقتًا طويلًا معًا، لكنه لا يرخي دفاعاته أبدًا. كان يعرف ما لا تعرفه، بأنه ليس ثمة توافق بينهما. يقول فالين عن الشِّعر: "لا يوجد سوى عالم واحد، في داخله عوالم عديدة، لأنه موجود بأكثر من طريقة في الوقت ذاته؛ ولا يمكن ترجمة هذه الطرق المختلفة بعضها إلى بعض". ربما كان يقصد أيضًا علاقته بكيت. هما ينتميان إلى عوالم مختلفة داخل عالم واحد، ولا يمكن سد الفجوة بينهما، ناهيك عن إمكانية التقاط الفروق الدقيقة في قصيدة مترجمة عن الأصل. ومع هذا ما زلنا نقرأ القصائد المترجمة، تنسجم حياتهما -للحظة وجيزة- بشكل ممتع كقافية، مثل تورية موجودة في لغتين. 
إلى جانب علاقة كيت وفالين يوجد ما هو أكثر من ذلك بكثير في هذه الرواية، ولكن ليس بذات القوة. ينتقل السارد إلى الوراء وإلى الأمام في تزامن متسق، دائمًا بدقة واضحة، مع إدخال العناصر التي تعقد القصة وتضعها في السياق الأوسع للحرب الباردة، مسار تصادم التاريخ الأمريكي والروسي. ويظهر عميل حكومي أمريكي ذكي يتجسس على فالين ويحاول تحريض كيت عليه. وهناك صديقها الحميم المتورط في مجموعات طلابية راديكالية. وهناك سارد خفي يشير تدريجيًا إلى أن فالين قد يكون ملاكًا حارسًا للأمة الروسية وأن شِّعره يمكن أن ينقذ العالم.
هذا العنصر الأخير ضروري لسرد الرواية وتأثيرها، ولكنه يبدو أيضًا إلى حد ما كفكرة طارئة. لا يحاول كراولي بذل أي جهد ليكشف لنا عما إذا كان يجدر بنا فهم المقصود حرفيًا أو مجازيًا. 
تتأرجح الرواية بين الواقعية والخيال، وتحمل القليل من الغموض. وتفتقر إلى الجوانب الرمزية لحياة وموت فالين إلى الوزن والترابط مع عناصر الرواية الأكثر دنيوية والتي تُقدم بشكل رائع. لذا من الصعب إلى حد ما الاعتماد على فكرة أن الشِّعر يمكن أن ينقذ العالم، ولكن من السهل تصديق أنه يمكن أن يعيد لكيت حياتها. 
  • ديفيد دالغليش: كاتب في مونتريال. يكتب مراجعات عن الأفلام على الإنترنت.
  • ترجمة: بلقيس الكثيري.
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.



[1]  Speculative Fiction: أدب الخيال التأملي يجمع بين الخيال العلمي والفانتازيا والرعب.
[2] صدر جزؤها الختامي عام 2007.
[3]  Besprizornye: فئة الأطفال المنبوذين من اليتامى والمهجرين زمن الاتحاد السوفيتي.
[4]  Dickensian :صفة مشتقة من اسم الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز، ترمز للفقر وعدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية والحياة المظلمة للمحرومين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب