المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 2 يونيو 2020

يوليسيس - جيمس جويس. (المقال الأول)

سنتحدث عن رواية يوليسيس لجيمس جويس في سلسلة مقالات مسافرين في رحلة مع هذا العمل الكبير.


مؤمن الوزان.


 

لم يكن تيار الوعي مجرد علامة بارزة لتيار أدب الحداثة بل وفاتحته الرسمية أيضًا الذي تُوجته رواية يوليسيس للروائي الأيرلندي جيمس جويس. تعود أولى سمات تيار الوعي إلى الرواية الرسائلية "باميلا (1740)" لريتشاردصون إلا أن هذه التسمية لم تكن متعارفة حتى سنوات متأخرة من القرن التاسع عشر رغم ظهور أهم سماته المولونوج الداخلي لاحقا في روايات متعددة منها الرواية القصيرة "اقتطاع إكليل الغار (1887)" لإدوارد دوجاردن، التي قال عنها جويس وقال جويس إنه اكتشف هذه التقنية في أول رحلة له إلى باريس في عام 1903 عندما كان يقرأها.


ظهرت أول تسمية رسمية له "تيار الوعي The Stream of Consciousness" في كتاب "مبادى علم النفس (1890)" للفيلسوف وعالم النفس الأمريكي وليام جيمس، الأخ الأكبر للروائي الأمريكي هنري جيمس (يعد الكثيرون أن أدب الحداثة ابتدأ مع هنري جيمس). عمل هنري جيمس على تصوير عوالم شخصياته وتدوين أفكارها وعرضها للقارئ دون تدخل منه. لينتقل بعدها تيار الوعي نقلة كبيرة مع مارسيل بروست وروايته الأولى البحث عن منازل سوان 1913 "البحث عن الزمن المفقود" التي اعتمد فيها على تداعي الذاكرة الحر المتقافز والتعامل الجديد مع الزمن الروائي واللغة السردية، لتتشكل سمات واضحة لتيار الوعي. 


إن تيار الوعي هو تقنية تتمحور في تصوير العوالم الداخلية للشخصيات وأفكارها وحالتها الذهنية وذاكرتها وخيالاتها وإدراكها العقلي لمكانها وزمانها، ونقل كل هذا إلى الرواية لتكون الشخصية عارية تمامًا أمام القارئ ولا يتبقى لديها أيَّ شيء تخفيه عنه. وتتلخص أهم تقنيات تيار الوعي في: 


- المونولوج (الحوار) الداخلي المباشر للشخصية وهو سرد لحديث الشخصية مع نفسها وعرض أفكارها وذكرياتها ووعيها بذاتها بشكل مباشر دون تدخل، قد يتدخل فيه الكاتب أحيانا ليتحول إلى غير المباشر. 


- استخدام الحواس (الرؤية، والسمع) والذاكرة والخيال في خلق الحدث عبر التصوير الحر لتدفق الوعي والأفكار والمعلومات والأحداث المتسردَّة. 


- تداعي الذاكرة. إن التداعي الحر غير المنضبط بحدود أو شروط للذاكرة ينقل العالم الداخلي للإنسان إلى الرواية، وعملية تصوير ماضي الشخصية تُدخل القارئ في متاهات وتماس مباشر مع فكر وذات الشخصية لا يفصل بينهما شيء. 


- السرد السمعي والبصري. يرتكز السرد في تيار الوعي إضافة لتدفق الأفكار وتداعي الذاكرة على مدارك الحواس البصرية والسمعية حيث تعد الأذن والعين مدخلا مباشرًا للتواصل ما بين العالم الخارجي والعالم الداخلي، ويعمل الكاتب على تدوين كل ما تسمعه أو تراه الشخصية وربطها مع وعيه وأفكاره من أجل نسج مادة نص تيار الوعي. 


- وجود اللغة المفككة وغير القواعدية، وعدم ترابط الأفكار والتنقل غير المنطقي، والتداخل بين الأحداث، والنص المتصل، والكلام غير المفهوم، ليوحي بماهية لغة الوعي.


- المونتاج الزماني والمكاني (ثبوت الزمن وتغيّر المكان. ثبوت المكان وتغيّر الزمن).


- الاستخدام الدقيق لعلامات الترقيم في كتابة  نص "تيار الوعي" إذ يكون للفارزة والنقطة الدور المؤثر في تغير معنى النص سلبيًا أو المحافظة عليه مثلما أراد الكاتب. 


نجد كل هذه التقنيات في "يوليسيس" ممثلة الذروة التي وصلت لها رواية تيار الوعي عبر تنوعها الثري والغني سواء بالمونولوج الداخلي المباشر أو تدخلات السارد الضمني في المونولوج أو الاعتماد على السمع في السرد أو تداعي الذاكرة أو اللغة المستخدمة التي قد تكون أقوى وأبرز سمة في هذا العمل الذي يعده الكثيرون ملحمة القرن العشرين، وكما يصفها أحد مترجمي العمل إلى العربية الدكتور طه محمود بأنها فصلت الرواية ما بين عوليس وما بعد عوليس، وقال أيضا إن جويس ظلم الرواة الذين أتوا من بعده لأنه لم يترك لهم شيئا. استمر استخدام تيار الوعي في أعمال روائيين حداثيين لاحقا مثل فرجينيا وولف في رواية "إلى الفنار" ووليم فوكنر في رواية "الصخب والعنف".

جدير بالذكر أن هذا النوع الروائي واحد من أصعب الأنواع إن لم يكن أصعبها وبذا يزيل اللبس الذي قد يتولد حول الجدل الدائر حول أهمية يوليسيس والاحتفاء الصاخب أو الهجوم اللاذع عليها ما بين محبيها وكارهيها.  


(غلاف الطبعة الأولى من دار وشركة شيكسبير الفرنسية في عام 1922، حيث كتب العنوان فقط دون ذكر رواية).



"إن رواية يوليسيس لجيمس جويس، وقصيدة الأرض اليباب لـ ت. س. إليوت طويتا صفحة عصر أدبي، وأعلنتا عن بداية عصر جديد "أدب الحداثة"، إنها السنة (1922) التي غّيرت كل شيء" إزرا باوند. 


لم يكن النشر المُعدَّل والمحرَّر (بسبب فحشه) والمتسلسل ليوليسيس ما بين 1918-1920 في مجلة Little Review مانعًا للناشرة الفرنسية سليفيا بيتش والمديرة لمتجر كتب وشركة شيكسبير من قبول نشرها في عام 1922 في طبعة أولى من ألف نسخة تمثل ثروة كل طبعة منها ثروة معنوية لمقتنيها ومادية لبائعها التي قد تصل لأكثر من ربع مليون دولار أمريكي، مشرعةً الباب لأهم أعمال القرن العشرين في أدب الرواية، الرواية التي أشاد بها أدباء متعددون ولا سيما إليوت وإزرا وهيمنغواي لابتكاراتها وإبداعها وأساليبها السردية المتنوعة ولغتها الفريدة، لكنها لم تظهر في أمريكا إلا عام 1934، وبعدها بسنتين ظهرت الطبعة البريطانية من الرواية.


**



جيمس جويس (1882-1941)*


يعد جُويْس واحدا من أهم الروائيين المؤثرين في حقبته، ورائد تقنية "تيار الوعي" في إيصال أفكار شخصياته، وطوّرها باستخدام أساليب متعددة من أجل ضبط مادة موضوعه المتنوعة. 

ولد جيمس جويس في دبلن عام 1882. كانت عائلته من الطبقة الوسطى لكنها فقيرة بسبب والده السكِّير وسوء إدارته المالية. درس جويس في المدارس اليسوعية، التجربة التي كانت الجزء المفتاح في علاقته المتصارعة مع الإيمان الكاثوليكي، ثم لاحقا في جامعة دبلن (التي كانت وقتها تُدار من قبل المؤسسة اليسوعية). قرأ جويس بنهم وأتقن عدة لغات، وبحلول عام 1901 تعلّم بنفسه ما يكفي من اللغة النرويجية ليكتب رسالة تقديرية للمسرحي هنريك إبسن. ولرفضه للتعصب الديني والأفق العقلي الضيق الذي خبره في أيرلندا؛ انتقل إلى باريس في السنة اللاحقة، وشرع في دراسة الطب. 

تُوفيت والدته في عام 1903، وعاد إلى دبلن حيث قابل في عام 1904 نورا برانكل، شابة كانت تعمل خادمة غرف، وغادر الاثنان معًا إلى أوروبا. استقرّا في بادئ الأمر في تريستي - إيطاليا، وأنجبا جورجيو ولوسيا. بدأ بعدها جويس تدريس الإنجليزية وكتابة الكتب التي ستجعله مشهورًا. كتب المجموعة القصصية "أهل دبلن"، ورواية السيرة الذاتية "صورة الفنان في شبابه" التي لاقى صعوبة في نشرها حتى ظهرت متسلسلة في مجلة The Egoist ما بين سني 1914-1915. انتقل جويس ونورا إلى زيورخ في عام 1915، وقضيا سنوات الحرب العالمية الأولى يستمتعان بأجواء المدينة العصرية. واجه جويس صعوبات مالية خلال هذه الأوقات، واستلم مساعدات مادية من هاريت شاو ويفر -مؤسس مجلة The Egoist- تحت اسم مجهول. وحظي بمساعدة الشاعرين ييتس (وهو صديق قديم لجويس) وإزرا باوند، اللذين كتبا مراجعات مادحة لأعماله مع دعمهم المادي.  عادا بعد نهاية الحرب إلى تريستي وزارا بعدها باريس في عام 1920 حيث قررا الاستقرار في العاصمة الفرنسية. وضع جويس بعد وصوله إلى باريس اللمسات الأخيرة على تحفته الأدبية "يوليسيس" التي نشرها على دفعات في مجلة The Little Review الأمريكية ما بين سني 1918-1920، وطُبعت لأول مرة كاملة في فرنسا عام 1922 من قبل سليفيا بيتش التي كانت تدير شركة ومحل كتب شيكسبير. وعلى الرغم من الاعتراف بجويس من قبل أقرانه بأنه كاتب عظيم فإنه لم يجنِ إلا مردودًا ماديًا ضئيلًا خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. إضافة إلى ذلك فقد حُوصرَ بمشاكل صحية وعائلية فقد أصيب بالزرق في عينه الأمر الذي أدّى إلى تدهور بصره، وخضع لتسع عمليات في عقد العشرينات ليعالج عينه، وشُخصت ابنته لوسيا بالفصام (سكيزوفرينيا) في منتصف الثلاثينات وقضت الكثير من حياتها في المصح. استمر جويس في هذه المرحلة العصيبة من حياته منشغلًا في عمله الأخير "يقظة آل فينيغان" التي نُشرت في طبعة واحدة عام 1939. خضع بعدها بعامين لعملية جراحية بسبب القرحة، لتوافيه المنيّة بُعيدها، ودُفن في زيورخ، التي عاد إليها بعد بداية الحرب العالمية الثانية، إذ رفضت السلطات الأيرلندية السماح لنورا بنقل رفاته إلى دبلن لدفنها. 


*Writers their lives and works.




**

الراوية التي كانت كفيلة بتثبيت عرش جيمس جويس واحدًا من أعظم الروائيين في العصر الحديث ومن أهم أدباء النثر في التاريخ الإنساني. هذه المكانة التي حازتها يوليسيس لم تأتِ من فراغ إذ العمل قائم على تقنيات سابقة لعصرها، وذو بُنيوية معقدة التشييد، وتشكل حلقاته الثمانية عشرة تحديًا كبيرًا لأي قارئ وبأي لغة يتحدث سواء الإنجليزية، لغة الرواية الأصلية، أو اللغات المترجمة، والقارئ العربي محظوظ في كون العمل تُرجم من قبل أكثر من مترجم لكن الترجمة الأخيرة لصلاح نيازي هي الترجمة الأفضل للعمل والمتوزعة في أربعة كتب (النسخة الأصلية من 764 صفحة من القطع الطويل بقرابة ربع مليون كلمة) والمزودة بالهوامش الكثيرة التي تجاوزت الآلاف ساعدت على شرح وتيسير فهم العمل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب