المشاركات الشائعة

الاثنين، 9 مارس 2020

فرجينيا وولف: لماذا نقرأ؟ وما أوجه الشبه بين أعظم الأعمال الأدبية؟

بقلم: ماريا بوبوفا. 
 
"تترابط عقولنا، نحن البشر، بعضها ببعض. فكل عقل متقد اليوم يحاكي عقولاً عظيمة كانت موجودة فيما مضى، أمثال "أفلاطون" و "يوربيديس"، إذ يمثل  تطوراً واستمرارية للشيء ذاته. إنه ذلك الفكر المشترك الذي يربط العالم بأسره. فالعالم -في جوهره- ليس سوى فكر".
لقد أدرجت  "باتي سميث"(1) ضمن قائمة المعايير التي وضعتها لتصنيف الروائع الأدبية، قدرة هذه الأعمال على سحر قارئها إلى الحد الذي يشعره بضرورة إعادة قراءتها مرة أخرى. في حين عدَّت "سوزان سونتاغ"(2) أن عملية إعادة القراءة تلك هي بمثابة ولادة جديدة للنص. وأظنني  أُوافقهما الرأي في ذلك، عن طيب خاطر، لأنني أواظب على قراءة رواية "الأمير الصغير"(3) مرة في كل عام. إذ أجدها تبوح لي، في كل قراءة، بمعانٍ جديدة، ومرمِمات وجودية لكل ما يمكن أن يعكر صفو حياتي في تلك اللحظة.
قد نلجأ، نحن القراء، إلى إعادة قراءة بعض الأعمال المحببة إلينا لأننا ندرك عدم استمرارية  التجارب الإنسانية، بالإضافة إلى آنية تلاقي الحالات والظروف التي تكوّن الذات البشرية في أية لحظة من الزمن. ناهيك عن إدراكنا  لتطور شخصياتنا في العام المقبل، إذا ما قُوبلت بها في العام الفائت، لتغدو أكثر نضجاً في مواجهة كل التحديات، والآمال، والأولويات إذ تصبح ذاتاً جديدة مختلفة كلياً عنها فيما مضى.

كانت "فرجينيا وولف " في الحادية والعشرين من عمرها حين سجلت هذا الاعتراف، بصفاء ذهني لا يضاهى، وألقٍ لغوي فريد. ففي صيف عام 1903، انزوت "وولف" بعيداً عن صخب مدينة لندن،  لتذهب في إجازة قضتها بين رحاب وخضرة الريف الإنجليزي، لتستمتع بعزلتها وتقرأ ما يحلو لها. 
 ربما بلغت قراءتي خلال هذه الأسابيع الثمانية في الريف، ما يفوق ما أقرأه في ستة شهور أثناء وجودي في لندن.
في غضون تلك الرحلة الاستجمامية مزدوجة الفائدة والتي حققت فيها مكسب القراءة والتأمل، وصلت "وولف" إلى اكتشاف السبب الحقيقي الذي يجعلنا نقرأ، بالإضافة إلى ما يمكن للكتب أن تقدمه للروح الإنسانية، وكيف لها أن تمهد لما أسمته "إيريس مردوك "(4): ’فرصة للتجرد من الأنانية‘. وكيف يمكن للكتب أن تؤدي براعتها المذهلة في كونها تنشأ عن ذهن شخص معين، لتتمكن من الوصول -بهذه الحميمية-  إلى آلاف أو ربما ملايين الأشخاص عبر الزمان والمكان، في عملية تداخل بين مختلف المشاعر، ضمن تجربة تشاركية واسعة.

في الأول من تموز/ يوليو، كتبت "وولف" في مذكراتها: 
إضافة إلى الكتابة، فإنني أقرأ الكثير. بيد أن الكتب هي أكثر الأشياء التي أستمتع بها. 
في بعض الأحيان، أشعر بأجزاءٍ من دماغي تتسع وتكبر أكثر فاكثر، وكأنها تنبض بدم متجدد، بشكل أسرع من ذي قبل. وليس هنالك شعور أكثر لذة من هذا الشعور. أما حين أقرأ التاريخ، فكل شيء يصبح -على حين غرة- نابضاً بالحياة، ومتفرعاً جيئة وذهاباً، ومرتبطاً بكل أشكال الأشياء التي كانت بعيدة في الماضي. وكأنني أشعر، على سبيل المثال، بتأثير "نابليون" على أمسيتنا الهادئة  في الحديقة. لأرى كيف تترابط عقولنا، نحن البشر، بعضها ببعض. فكل عقل متقد اليوم يحاكي عقولاً عظيمة كانت موجودة فيما مضى، أمثال "أفلاطون" و "يوربيديس"، إذ يمثل تطوراً واستمرارية للشيء ذاته. إنه ذلك الفكر المشترك الذي يربط العالم بأسره. فالعالم -في جوهره- ليس سوى فكر. 

في وقت لاحق من حياتها كتبت "وولف" في وصفها الرائع لإدراك معنى أن تكون مبدعاً:
ثمة مثال يكمن خلف كل حالة ضبابية. هذا العالم عبارة عن عمل إبداعي. لا وجود لـ "شيكسبير"  فنحن الكلمات في أعماله، أو "بيتهوفن" فنحن الألحان في موسيقاه، ولا لإله فنحن الشيء بعينه. 

بعد بلوغها الحادية والعشرين من العمر، تمكنت " فرجينيا " من إدراك آنية هذه اللمحات الجزئية للحقيقة، وكيف يمكن لهذا الشعور بالانتماء الداخلي أو ذاك الشعور بالكينونة أن ينزلقا من بين أيدينا. وتكمل "وولف" تدوين ذات المذكرات التي كتبتها في عام 1903 بلفتة رشيقة من إدراكها أن "العالم بأسره ليس سوى فكر" إلى ذاك الهروب المألوف للمعنى، حينما تجتاحنا تلك الحالة الضبابية لتحيلنا غرباء مرة أخرى:
ثم أقرأ قصيدة تقول: ذات الشيء يتكرر. لأشعر أنني تمكنت من القبض على المعنى الجوهري للعالم، وكأن كلَّ هؤلاء الشعراء والمؤرخين والفلاسفة يتبعون طرقاً تتفرع عن ذاك المركز، حيث أقف ليعتريني بعض الاضطراب بعدها، فيؤول كل شيء إلى الخطأ من جديد. 

وبعد أكثر من عقد من الزمن، كررت "وولف" وجهة النظر ذاتها في واحدة من مقالاتها الاستثنائية التي كتبتها في غضون عملها ناقدةً في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز البريطانية، والتي جُمعت مؤخراً في كتاب بعنوان "نبوغ وحبر (مقالات  للكاتبة فرجينيا وولف عن كيفية القراءة)" هذا الكتاب الذي كنت سأدرجه -بكل شغف- ضمن قائمة كتبي المفضلة لهذا العام (2019) لو كنت من أولئك الذين يفضلون إعادة قراءة الروائع الأدبية المحببة لقلوبهم.

كما هو حال الشاعرة البولندية الحائزة على جائزة نوبل للأدب "فيسوافا شيمبورسكا" التي اتسم نقدها التأملي بكونه يوظف الكتب نقطةَ انطلاقٍ لتأملات سامية حول الفن والحياة أكثر من كونها نماذج للمراجعة أو النقد. تعامل "وولف"  كل كتاب تراجعه كحجارة سقطت من جيب معطفها في نهر الحياة(5). إذ ترصد الصيغة الأساسية للعمل ثم تراقب حلقات الإدراك التي تتنامى وتترقرق في نهر الوعي. في أولى مقالاتها من تلك السلسلة التي تناولت فيها روايات الكاتبة "تشارلوت برونتي" تبنت "وولف" وجهة نظر عميقة حول نشأة الروائع الأدبية، والذي نعاود الرجوع إليه مراراً وتكراراً: 
ثمة ميزة تتشارك بامتلاكها الأعمال الأدبية الحقيقية كافة، ففي كل قراءة لها يلاحظ القارئ تغييرات طفيفة. كما لو أن نسغ الحياة يجري في أوراقها. أو أنها تمتلك -كما هو حال السماء والنباتات- القدرة على تغيير شكلها ولونها بين فصل وآخر. إن تدوين انطباع القارئ حول مسرحية "هاملت"  بعد قراءتها في كل عام من شأنه أن يصبح أشبه بسيرة افتراضية لكاتبها. فكلما ازدادت معرفتنا للحياة؛ كان لدى "شيكسبير" تعقيبٌ على ما عرفناه.
 
_____
1. باتي سميث: كاتبة ومغنية أمريكية.
2. سوزان سونتاغ: ناقدة و مخرجة وروائية أمريكية (16 يناير 1933 - 28 ديسمبر 2004).
3. الأمير الصغير:  رواية للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري. 
4. إيريس مردوك: فيلسوفة وناقدة إيرلندية.
5. يقصد بها الإشارة إلى حادثة انتحار فرجينيا وولف، حيث ملأت جيوب معطفها بالحجارة وألقت بنفسها في نهر أوز.

ترجمة: دلال الرمضان. 
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب