المشاركات الشائعة

الخميس، 20 يونيو 2019

موسوعة السرد العربي - د. عبد الله إبراهيم.



الكتاب الرابع.

يكاد الكتاب الرابع من الموسوعة يكون أهم كتب هذه الموسوعة، نظرًا لكونه يُقدم مرحلة مهمة في تاريخ النثر العربي، ومحطات المخاض الأولى التي كان لها التأثير الأكبر والرئيس في إنجاب الرواية العربية بشكلها الحديث والمتعارف عليه اليوم، لكن هذا الإنجاب مرَّ بفترات متعسرة من تأثر وتفكك وإعادة صياغة، خاصة في عند العرب الذين تعلّق وارتبط الأدباء عندهم بالآداب القديمة، وما كان لهذه الآداب من مكانة أخذت من الموروث الديني كثير الهيبة والمثالية والكمال الذي لا يجب تجاوزه أو الانقلاب عليه. يبدأ هذا الكتاب من الموسوعة في طرح قضية مهمة حول تأثير الحملة الفرنسية التي قادها نابليون إلى مصر في نهاية القرن الثامن عشر في تطور الأدب العربي، وما مدى حقيقة إضافتها إلى الجانب الأدبي والاجتماعي العربي عموما والمصري خصوصا، ويتكشّف لنا من خلال أطروحة وشروحات وتحليلات د. عبد الله إبراهيم كذب هذه الإشاعات التي ربطت مرحلة التحديث العربي الأدبي الجديد بالحملة الفرنسية، التي سرعان ما انتهت بهزيمة الجيش الفرنسي، وفشل مخططات نابليون التوسعية، وكما تشير مذكرات بعض المشاركين في الحملة فإن الحملة عادت بربع عدد الجنود الذين أتوا، إضافة لمقتل الجنرال كيلبر على يد سليمان الحلبي. بل إن الحملة شهدت فضاعات تمثلت بسرقة الآثار الفرعونية والتي توزعت الأسباب بعدم معرفة محمد علي بقيمتها وتوزيعها كهدايا ومِنح إلى الفرنسيين والبريطانيين، وما قام به شامبليون من فك رموز اللغة الهيرغوليفية وتبيّن مدى أهمية وقيمة هذه الكنوز التي بقيت لآلاف السنين تحت أرض مصر، كل هذا مع انعدام أي إضافة ثقافية أو أدبية، أظهرت حقيقة الحملة الفرنسية وأكدت على مدى ضعف وهوان إشاعة التأثير الفرنسي على الأدب العربي.
في القرن التاسع عشر بدأت مرحلة جديدة في تفكك المرويات السردية وتطور اللغة العربية، والابتعاد عن الأساليب اللغوية القديمة المتمثلة بالسجع والبديع وكثرة الاستعارات والزخارف اللفظية والترصيع، مع بدء النفور من هذه الأساليب التي ظهرت بأنها غير مناسبة لهذه الحقبة الجديدة من الحياة، فكانت الحاجة الملحة لظهور أنواع جديدة، انتهى الأمر بالنثر العربي في القرن التاسع عشر بفرز أسلوبين في النثر العربي لكل منه مرجعياته وسياقاته الثقافية وارتباطاته بالموروث الأدبي الأول مثّل نموذج التعبير اللغوي المفتوح الشفوي، والآخر نموذج التعبير اللغوي المغلق النثري. وكذلك تغيرت النظرة إلى المقامات كمقامات الحريري التي كان يُنظر لها فيما خلا من العصور بالكِبر والإعجاب وحسن الصنعة، من خلال فقدانها لقيمتها اللغوية والإبداعية وعدم توافقها مع حاجيات العصر، وبذلك فقدت قيمتها ومكانتها الريادية لأنواع جديدة أخرى، مع شيوع الصحافة وحركات التعريب، ويؤكد د. عبد الله إبراهيم أن القرن التاسع عشر شهد أفول المرويات السردية القديمة وبداية الإعلان عن عصر السرد العربي الحديث.
القسم الثالث من هذا الكتاب اختص بحركة التعريب ومحاكات المرويات السردية الأجنبية، إذ مثلت مرحلة التعريب مرحلة مهمة من تلقيح الثقافة العربية والأدب العربي بالمرويات والآداب الغربية، رغم التركيز على الكتب العلمية والسياسية والعسكرية التي تصب في مصلحة الدولة وإدارتها للبلاد، وبدأت حركة التعريب مع الطهطاوي ومدرسة الألسن للتعريب، و يقول عنها الطهطاوي أنه عمل على تخريج عدد من المعربين الذي يشهد لهم بالمكانة والاقتدار. لكن التعريب قد اتخذ مسارا خاصا به تمثل في إخضاع المرويات السردية الأجنبية للثقافة العربية السائدة وقتئذ سواء من ناحية الأحداث أو أسماء الشخصيات أو تغيير ما يلزم تغييره ليوافق الذائقة السائدة، مع تضمين لآيات من الذكر الحكيم أو أبيات شعرية أو أمثال عربية، كل هذا يؤكد أن ما قام به المعربون يمثل مسخ للنصوص المعربة مع غياب لأسماء مؤلفيها الأصليين، مما يجعلها تشويه وتخريب لهذه النصوص على أيدي الكثير ممن اشتغلوا بالتعريب.
ولحقت مرحلة التعريب مرحلة هي الأهم تمثلت في الكتابة الروائية، ويناقش الفصل الخاص بإعادة تركيب سياق الريادة الروائية الآراء المتعلقة بكون الرواية ظهرت نتيجة التأثير أم هي نتيجة تلاقح وتمثل ثمرة التقاء الأدب العربي بنظيره الغربي. قبل الخوض في هذه الآراء كان لا بد للكاتب من العودة إلى الانطلاقة الأولى التي ساهمت في ظهور الرواية والتي تمثلت بهجرة الشوام إلى مصر وما أضافوه وقدموه للأدب العربي في مصر وما كان لهم من مكانة ريادية في بيئة خصبة ونهمة ومستعدة لاستقبال الجديد، بحكم ارتباطات واختلاط الشوام بالفرنسيين والغرب وتعلمهم اللغات الأجنبية وقربهم من السلطة الحاكمة في مصر. ويبدأ بعدها د. عبد الله إبراهيم في مناقشة آراء الطرفين بين من يقول بأصالة الرواية العربية وصعوبة نشوء فن نثري/ سردي أدبي كالرواية بدون أصول تساعده وتشد من أزره وتقوّي عوده حتى النضج، ومن يقول بأن الرواية هي غربية بحتة انتقلت إلى الأدب العربي وأن الأدب العربي لم يعرف فن الرواية مسبقا وبعضهم من نفى عن العرب القصة نفيا قاطعا، تبدو هذه الآراء المتضاربة بحاجة إلى النقد والتحليل، وهذا ما قام به الدكتور، بالرغم من أسلوبه في الطرح والتحليل والنقد لما ورد من أقوال إلا أنه لا يكشف عن فريق يُناصره بصورة واضحة، لكن مما يُستقرأ من متن كلامه أنه يقول بقول أن للعرب فن نثري قصصي، وكان للرواية جذورها في الأدب العربي مع صعوبة واستحالة نشوء فن روائي دون أن تكون له جذوره وبيئة ثقافية وأدبية ترعى نشوء هكذا نوع أدبي، وما يقوي هذا القول أن الرواية الحديثة بدأت في القرن السابع عشر مع رواية دون كيخوته لثربانتس الإسباني، في ذات الوقت الذي لا يوافق جميع النقاد على هذا ويعتبرون رواية باميلا لريتشاردسون الإنجليزي في منتصف القرن الثامن عشر هي بداية الرواية الحديثة، مع الأخذ بعين الاعتبار تطور الرواية ومرورها بمراحل متعددة وعناصرها الفنية المختلفة عن الرواية الحديثة، وما قامت به رواية ما بعد الحداثة من ثورة على العناصر الفنية للرواية الحديثة؛ كل هذا يؤكد أن الفن الروائي فن متجدد، قد نتفق على انطلاقة واحدة لكننا لا يُمكننا أن نجزم بأنها تخص أدبا لأمة ما دون سواها. ويختم الكتاب بفصل المرويات السردية العربية في القرن التاسع عشر، والذي تمثل بستة كتّاب؛ الأول كان الخوري وروايته "وي.. إذن لست بإفرنجي" التي تُعد الرواية العربية الأولى التي بدأ نشرها سنة ١٨٥٩، ورواية غابة الحق للمرّاش، وكتاب علم الدين لعلي مبارك، وأول سلسلة روايات عربية للبستاني، وروايات جورجي زيدان، انتهاء بكتاب المويلحي "حديث عيسى بن هشام". يستعرض هذه الروايات ويحللها وينقد عناصرها الفنية وأعمال كتّابها الأُخرى، وشيوع الرواية التاريخية والأهداف من كتابتها عند البستاني وزيدان، وتشتت الصورة عند علي مبارك في كتابه علم الدين. ومثل المويلحي مرحلة تحول وانتقال في المرويات السردية العربية ويُشبهها د. عبد الله إبراهيم برواية دون كيخوته لما فيها من تحولات وتصادم بين الشخصيات والواقع الاجتماعي والثقافي ألا إن ما يميز الباشا عن دون كيخوته هو تقبله لهذا المجتمع الجديد وسعيه لتعلم كل مستحدث فيه، وما امتاز به هذا العمل عن الأعمال العربية التي سبقته هو البناء للشخصيات وتفردها وابتعادها عن إسقاطات الكاتب الشخصية وكونها مجرد قناع له.

مؤمن الوزان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب