المشاركات الشائعة

الخميس، 20 أغسطس 2020

يوليسيس - جيمس جويس (المقال السادس).


مؤمن الوزان.


يوليسيس ما بين الحداثة وما بعد الحداثة 



أود أن أستهلَّ الكتابة عن الحداثة وما بعد الحداثة في يوليسيس بالإجابة عن سؤالين هل يوليسيس رواية؟ وهل يمكن قراءتها من أي حلقة دون الاختلال بفهم العمل؟

حاولت في كلامي السابق عن العمل أن أتجنب استخدام كلمة "رواية" واكتفيتُ بكلمة العمل، لاعتبارات عديدة أن الطبعة الأولى من العمل تجنب جويس استخدام كلمة رواية على الغلاف، وقد يكون لهذا الأمر أغراضًا غير التي فهمتها إلا أن الأمر كافٍ مع من قرأ يوليسيس أن يفكر كثيرًا ويحاول أن يجد تعريفًا فنيًّا وأدبيًّا للعمل، فكل ما فيه العمل من السمات والتقنيات وتنوع أساليب واللغة والحوارات والمونولوج لا يخرج من دائرة النثر لكنه يجعله في مقام أسمى من الرواية العادية أو في الأقل الرواية المعتادة حتى وقت نشرها، فيوليسيس كما ذكرنا وأشاد بها أزرا باوند في كونها فتحت لعصر جديد في الأدب مع الأرض اليباب لإليوت، فتحت عصر الحداثة، الذي كان ثوريًّا في عناصره الفنية في الرواية ويوليسيس كانت مثالًا يُحتذى به للدراسة بل وحوت كل ما يمكن للحداثة وتيار الوعي في الرواية أن يأتيا به. لكن قبل الخوض هذه الحداثة الروائية لأعرج على السؤال الثاني، تبدو إمكانية قراءة يوليسيس بشكل عشوائي واردة ولا سيما في البدء من الحلقة الرابعة ثم العودة إلى الحلقات الثلاث الأُول، وكذلك عدم قراءة الحلقة العاشرة دون أن يخل الأمر بفهم العمل، أو إقصاء الحلقة الأخيرة، 

أو حتى أن تقرأ الحلقات بشكل منفرد وأن تبدأ من أيها تشاء فالعمل سيعمل على تنظيم نفسه تلقائيًا دون أن تختل بنيته أو تفقد رونقها وتسلسلها، هذا ما يمنحها قوتها وحداثتها والمرونة الاستثنائية في قرائتها، وهذه النقاط في الأساس ترتكز على عناصر الحداثة التي ابتكر جويس كثير منها وأبدع في استخدامها. 


تمتاز رواية يوليسيس بعدة عناصر في رواية الحداثة أهمها: الواقعية اليومية العادية، اللا بطل، السرد المنظوري، النظرة المتموضعة بؤريًّا، سرد الوعي (تيار الوعي)، الحبكة الحديثة، المونولوج الداخلي، وزادتها بعناصر من سمات تيار ما بعد الحداثة كالسخرية التناصية، التسنين المزدوج.  


الواقعية اليومية العادية


تدور أحداث الرواية حول أشخاصٍ عاديين، لا يملكون مزايا خاصة بهم، يواجهون صراعات نفسية وفكرية، تمضي حياتهم دون أشياء مهمة أو غير معتادة أو تحمل بشكل صريح قضايا كبرى فلسفية أو سياسية أو اجتماعية واضحة لكنها تُتناول كل هذا من منظور رؤية الإنسان العادي، الذي لا يخرجها إلى مستوى عالٍ من الفحص والتأمل بل تبقى في مستوى يوازي قدرات الشخصيات التي تخوض فيها. 


اللا بطل Anti-Hero 


لا يوجد بطل معين في الرواية بل تتوزع الأحداث حول شخصيات ثلاث رئيسة (ستيفن وبلوم وموللي) وإن كان بلوم يستحوذ على حلقات أكثر من الآخرين إلا أن هذا الاستحواذ لا يرفعه إلى واجهة البطل، فيبقى العمل موجهًا أضواءه على هؤلاء الثلاث وحتى على شخصيات أخرى تصعد فوق خشبة الأحداث، وهذه من أهم عناصر رواية الحداثة. 

 


السرد المنظوري perspective Narrative


يتعدد الساردون في يوليسيس ما بين الشخصيات، والسارد الضمني، والسارد الخارجي، ويتوزع ضمير السرد ما بين ضمير المتكلم وضمير الشخص الثالث، هذا التعدد في العرض السردي، إضافة إلى ما يمنحه من واقعية للعمل بتقريب الشخصيات من القارئ، ويعارض السارد العليم كلي المعرفة- فإنه يقوم بموازاة قدرة السارد العليم كلي المعرفة من خلال تسليطه الضوء على أي قضية من عدة 

زوايا، وكل زاوية تمثل وجهة نظر معينة أو مستوى رؤية خاص، مما يعطي السرد الشمولية لفحص الموضوع المتناول بشكل كافٍ.   


النظرة المتموضعة بؤريًا


يُركز جويس في عمله على جوانب معينة في حياة شخصياته دون التوسع لتناول كل شيء ممكن، هذه المحدودية تتوازى مع قدرات الإنسان العادي في الوقوف على أشياء معدودة سواء في القضايا أو الذات أو الأشخاص المحيطين أو البيئة المحيطة دون أن يملك القدرة الكلية والمطلقة على معرفة خبايا الأمور كما يحدث مع السارد العليم كلي المعرفة. 


سرد الوعي

 

وهو من أهم مزايا هذه الرواية وتحدثنا عنها مفصلا سلفا، وما يمتاز به هذا السرد هو تفكك جمل، وعدم ترابط تدفق الأفكار ولا توافقها، والتنقل العشوائي ما بين المواضيع، والاسترجاعية الزمنية في الذاكرة أو الاستباقية التخيلية أو التنبؤية للأحداث. إضافة إلى عناصر تخص لغة سرد الوعي، كعدم الالتزام بالقواعد اللغوية، أو الإملاء، ولا معنى بعض الجمل، والدقة في استخدام علامات الترقيم في ترتيب هيكلة النص بالشكل المطلوب.   


الحبكة الحديثة

 

في يوليسيس تأخذ الحبكة مفهومًا مغايرًا فهي لا تتبع المسار القديم في الانطلاق في بداية ثم الوصول إلى ذروة وعقدة ثم حل وخاتمة بل هي تمضي بمستوًى واحد من الإثارة والتفاعل ما بين الشخصيات وأحداثها والنص والقرَّاء، حتى يبدو وكأن العمل لا يحوي حبكة أو مغزًى معينًا يسعى الكاتب خلفه أو يريد إثباته، فكما يبدأ العمل ينتهي، وكما نتعرف على الشخصيات نودعّها. 


الزمن


تجري أحداث الرواية في يوم واحد تقريبًا، وهذا ما لم يألفه القرَّاء وقتها، متوزعة فصول العمل على ساعات اليوم، والعمل على الموازنة ما بين حجم مادة السرد والمدة الزمنية التي يستغرقها الحدث المسرود. واستخدم جويس كذلك المونتاج الزماني في العمل، فالشخصيات تعود بالزمن إلى الوراء عبر المونولوج الداخلي وتسترجع الماضي عبر الوعي وهي تمشي أو تجلس أو تضطجع، لذا فالزمن في يوليسيس يكاد يطابق الزمن الحقيقي. 

    


المونولوج

 

تمتاز يوليسيس بالحوار الداخلي الطويل للشخصيات، وهذه التنقية وإن كان متعارف عليها مسرحيًّا، فإن ورودها في العمل بهذا الشكل من الإتقان والضبط والتركيز والهيكلة البنيوية لمادة النص لا سيما في الحلقة الثالثة والأخيرة، يجعل المونولوج واحدًا من أهم العناصر الفنية لرواية يوليسيس ورواية الحداثة. 


لكن يوليسيس لم يتوقف عند الحداثة فقط بل تجاوزتها من خلال عنصرين ظهرا بشكل جلي في روايات ما بعد الحداثة وهما السخرية التناصية، التسنين المزدوج. 


السخرية التناصية


إن العمل مبدأيًا يُبنى ليوازي الأوديسة، وكثير من حلقاته فيها تناص مقصود مع حلقات الأوديسة وأحداثها، وكذلك في شخصياتها، كما نجد في بلوم واتباع المبدأ الهامليتي (أكون أو لا أكون) في كثير من قراراته حيث يحدد نفسه في إطار الهامليتية (أفعل أو لا أفعل، ينبغي أو لا ينبغي)، ويدخل هذا التناص في العمل سواء من أجل المحاكاة الساخرة أو اقتفاء الأثر. 


التسنين المزدوج

 

إنَّ يوليسيس من أول حلقة إلى آخرها قائمة بشكل شبه كلي على التسنين المزدوج، إذ يعمل جويس على جعل نصه متعدد المخُاطَبين، وكل موضوع فيه ذي طبقات كثيرة، قد يفهم قارئ شيئًا لا يفهمه قارئ آخر، وهكذا قس على كل المواضيع والأوصاف والأحداث والشخصيات في العمل. وتسهل المهمة كثيرًا للقارئ العربي الذي عمل مترجمه صلاح نيازي على توضيح وشرح الكثير من مادة العمل بهوامش تجاوزت الآلاف، تساعد على فهم أكثر دقةٍ للنص.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب