المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 1 يونيو 2021

مَلامِحُ الزَّوَالِ عندَ الشاعرِ الرُّوسِيِّ «سِرغي يَسنِين» "الحائر في تسمية معاناته"



*موزة عبدالله العبدولي
 


ولد الشاعر الروسي سرغي يَسنِين (Sergei Yesenin" (1895 - 1925" المُكنَّى بـ"شاعر الريف الحزين"، وترعرع في قرية كونستانينوفو الريفية، في أحضان عائلة تمتهن الفلاحة. تعلم في مدرسة ريفية، ثمَّ انتقل إلى موسكو عام 1912م حيث كان يساعد أباه الذي يعمل في مخزن، لكنه لم يحتمل طبيعة العمل الرتيبة فتخاصم مع أبيه وعاد إلى القرية، وبعد عام عاد إلى موسكو ليعمل مُصحِّحاً في مطبعة، لكنه أيضاً لم يمكث طويلاً، وبعد هذه المحاولات الوظيفية القاتلة، عكف الشاعر على كتابة الشعر ومحاولة نشره في المجلات، وازداد احتكاكه بحلقة الشعراء وهواة الموسيقى، وقد كانت صلته مع الشاعر الروسي (ألكسندر بلوك) هي البوابة التي قرَّبته إلى الأدباء والشعراء الروس في العاصمة.

  بدأ الشاعر مسيرته الشعرية في سن مبكرة حين كان في التاسعة من عمره، لكن محاولاته الجديَّة كانت في عامه السادس عشر، وقد أصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 1916م بعنوان (رادونيتسا)، الذي يعني في الموروث الديني السلافي عيداً طقسيَّاً تقام فيه صلاة الغائب على الموتى[1]، ودارت موضوعات القصائد حول الحياة الفلاحية والمعتقدات الدينية. في عام 1917م اندلعت ثورة أكتوبر وقد كان الشاعر حينها في العشرين من عمره وعضواً في الحزب الاشتراكي الثوري، وقد أخذته الحماسة في كتابة مطولات شعرية ثورية بنبرة رمزية مسيحية، وقد كانت هذه الثورة ترى أن المستقبل الروسي هو بيد الفلاحين الذي سيجعلون الأرض الروسية جنة من العيش الرغيد، لكن فشل هذه الثورة وخيبة الأماني جعلت في نفس الشاعر معاناة عميقة [2]. والحياة القصيرة التي عاشها يَسنِين مليئة بالأحداث الدرامية، فقد عاصر ثورتين وحرباً عالمية حصدت الملايين من الأرواح البريئة وجلبت المآسي لمن بقي على قيد الحياة، وفي ظل هذه الأحداث العارمة كتب الشاعر ملحمتين "روسيا تمتد" و"روسيا السوفيتية"، ولم يستطع الشاعر أن يجتاز وعيه القروي حتى النهاية [3]، وقد قال في تجربته في كتابة الشعر الثوري: "(إني كشاعر رومانتيكي لا أستطيع أن ألتحق بركب الشعر الثوري لكن روحي ترفرف في طريقه كفلاحٍ مسكين)".[4]

    كان للشاعر حياة مليئة بالتخبُّطات الفكريَّة والعاطفية، إذ كانت له زيجاته كثيرة ما تلبث أن تنفك، فقد تزوَّج حفيدة الأديب ليف تولستوي (صوفيا)، وإحدى زيجاته الأخرى كانت مع راقصة الباليه الأميركية (إيزادورا) التي قضى معها مدة من الزمن ولكن زواجهما لم يستمر طويلاً. في حين عُرف الشاعر بإدمانه على الكحوليات وكثرة ترداده على الحانات، فهُوَّة أساه تزداد اتساعاً بتقدَّم الأيام به. ولعلَّ أكثر ما يرتبط باسم الشاعر هي حادثة انتحاره، التي تناقلتها أغلب الأخبار؛ إذ أنهى الشاعر حياته بالانتحار شنقاً في غرفة فندقه بسان بطرسبورغ -كان في الثلاثين من عمره- وهذا ما تبنَّته السلطات السوفيتية أيضاً، لكن الجدير بالذكر أن هناك محاولة تحقيق تنفي ذلك، وهي لباحث اسمه (إدوارد خليسطالوف) الذي حصل على جائزة الدولة التقديرية على تحقيق مبنيّ على أقوال وأدلّة قدّمها شهود، كان لهم صلة بالتحقيقات التي أجريت حول موت يَسنِين، يؤكد فيه أن الشاعر قُتِل عمداً ولم ينتحر.[5]

   نظراً لطبيعة تقلُّبات حياته، والظروف التي مرَّ بها، يُلحظ في شعره نزعة واضحة تتسم بخيبة الأمل ومرارة الخذلان، وهي في المقابل تعبِّر عن فكرة زوال الأشياء وتلاشيها، فنجده يقول مخاطباً أمه في قصيدة (رسالة إلى أمي): "لا توقظي الأحلام المتلاشية/ لا تثيري تلك الأماني الخائبة،/ قُدِّر عليَّ أن أعاني في الحياة/ من الضياع والنَّصبِ المبكرين للغاية"[6]. إذًا ستحاول هذه المقالة استقراء ملمح الزوال وتجليَّاته من خلال ثلاث قصائد مختارة، والتي سنتناولها حسب تسلسلها التاريخي لنتابع تطور هاجس الزوال عبر توالي السنين.

نبدأ بقصيدة كتبها الشاعر بين عامي 1915 – 1916م، يُظهر فيها سخطه على الواقع، ورغبته بالهروب إلى حياة التشرُّد، فلا مسكن، ولا قلب يأويه، ولا حتَّى موت يحفظ له كرامته:

"أضناني العيش في بلدتي
كئيباً بين حقول الحنطة السوداء،
سأترك كوخي
وأمضي كجوَّال ولص.

أسيرُ في وضح النهار
باحثاً عن مأوى للمساكين.
وصديقي الحبيب يشحذ
سكيناً لأضعها في الجزمة عند ساقي.

الدرب الأصفر يغمره
الربيع وشمس المرج،
وتلك التي أصون اسمها
تطردني من عتبة الباب."[7]

إذا ما تتبعنا صورة التحوُّلات التي بدأت برفض الواقع، والبحث عن حل غير مضمون يقع في التخلي المؤدي إلى عدم الاستقرار، نستطيع أن نرى أن ملمح الزوال هنا يكمن في زوال الراحة والأمان، فلا كوخ بلدته خيار مرجَّح، ولا قلب الحب يقبله عند بابه، إذ إنَّ تبرير كآباته هو قلق الترحال، في حين تظهر علامات الشك والتحذّر بزوال الأمنِ؛ في السكين الذي يشحذها صديقه، استعداداً لحياة الجوَّال المفتوحة على الهجمات والمَخاطر غير المتوقعة، يقول مُكملاً:

"وأعود ثانيةً إلى بيت أبي
متعللاً بفرح غريب،
في مساءٍ أخضر وتحت الشرفة
سأشنق نفسي بكُمِّي.

الصفصاف الأشيب عند السياج
سيحني هامته برقة أكبر،
يدفنوني على نباح الكلاب
بلا استحمام.

والبدر يعوم ويعوم،
قاذفاً المجاذيف على البحيرات،
وتحيا روسيا على النمط ذاته،
ترقص وتبكي عند السياج."[8]

   تتجلَّى هنا ملامح زوال رغبة الحياة، وزوال الجسد؛ فهو يتخيَّل مشهد نهايته الانتحاريَّة، وموته الذليل المقرون بنباح الكلاب ونجاسة البدن، ونجدها صورة مكمِّلة لمشهد المتشرِّد الجوَّال الذي تخيَّل رحلته الشقيَّة ونهايته السوداوية، إذ يتوق إلى الغياب عن الحياة التي لا تتحسن بتقدم الأيام وتجدد الليالي، لأنَّ أحوال روسيا البائسة على حالها لا تتغيَّر. وهروبه -التخيليِّ- الأول نحو حياة مفتوحة الآفاق، ورحلة خفيفة المتاع، لن تأخذه إلَّا إلى نهاية مأساويَّة تتأكَّد من خلالها فلسفته في زوال الأشياء وفناء الجسد وتلاشي الأمل.

وفي قصيدة أخرى نظمها عام 1922م، تتجلَّى فيها بوضوح أشكال الزوال، يقول:

"لا آسف، لا أنادي، لا أبكي،
كلُّ شيءٍ سيزول كدخان أشجار التفاح.
ذبول الذهب يلفُّني،
لن أكون شاباً بعد الآن.

الفؤاد مسَّه البرد
ولن ينبض الآن كما كان،
وبلاد أطمارها شجرة البتولا
لا تُغري على التطواف مشياً.

أيتها الروح المتجوِّلة إنَّكِ نادراً، نادراً
ما تُحركين شُعلة الشفاه.
أوَّاه يا نضارتي الضائعة،
ويا وهَج العيون ويا فيضَ العواطف
الآن بتُّ أكثر ضنَّاً بأمانيَّ،
أهذه حياتي؟ أم طيفٌ تراءى لي؟
كأنِّي مع همهمةِ الربيع الباكرة.
أثِبُ على جوادٍ ورديّ.

كلُّنا، كلُّنا إلى الفناء في هذا العامل،
القطراتُ تسيل من أوراق القيقبِ بهدوء..
كن مباركاً إلى الأبد،
لأنَّك تفتحتَ ومُتَّ."[9]

     يبدأ المقطع بتصريح عدم أسفه على بؤس الحال لأنَّ كلَّ الأشياء آيلة للزوال، وهو اعتراف وتسليم لسيرورة الأشياء، فيظهر في أول مقطعين ملمح زوال الشباب (لن أكون شاباً بعد الآن) وزوال وهج الحب والعواطف (لن ينبض الآن كما كان)، مع تلاشي رغبة العيش والتجوال في بلدٍ خربة. في حين يظهر الزوال في بقية المقاطع بملامح متداخلة، فالزوال أحياناً يظهر في خفوت قدرته على التعبير (نادراً ما تُحركين شعلة الشفاه)، وفي زوال الأمل (بتُّ أكثر ضنَّاً بأمانيَّ)، وزوال قيمة الحياة (أهذه حياتي؟ أما طيفٌ..)، فهذا الكيان الإنسانيُّ الذي يتهاوى؛ يفقد نضارته ووهجه الفيَّاض، ويخفُت إقباله على المُتَع، وحتَّى الأمنيات تعيى أمام حياة رقراقة كالخيال والوهم. وهو يختم القصيدة بتأكيد فكرة الفناء التي تطال الأشياء، إذ إنَّ كلَّ تفتحٍ وازدهار يعقبه انتهاء. وهي قصيدة يتكثَّف فيها معنى الزوال، لأنَّه في كلِّ مقطع يقف أمام مَلمح زائل ويتحسَّر على فواتهِ وانتهائه.

   وفي قصيدته الثالثة التي كتبها عام 1923م، يخاطب فيها امرأة، واصفاً لها تعاسته ومعاناته، والتي من خلالها سنحاول تتبع ملامح الزوال التي واكبت مسيرة تحوُّلاته:


"لا تعذبيني بفتوركِ،
ولا تسألي كم عاماً عمري
أُصبتُ بمرض مرير
وباتت روحي كهيكل أصفر.

مضى وقت، عندما كنت في الضيعة
أحلم بطفولة في السديم،
بأني سأمسي ثرياً ومشهوراً
ويحبني الجميع.

أجل! ثري أنا، ثري بإفراط.
كان عندي قبعة، وراحت الآن.
وبقي قميص واحد حسب
وحذاء حديث بالٍ.

وليست شهرتي أسوأ حالاً-
من موسكو إلى رعاع باريس
يوحي اسمي بالرعب،
مثل شتائم بذيئة عالية."[10]

     تتجلَّى مع بداية المقطع ملامح زوال الشباب والصحة الجسدية والنفسية، فالمرض أعيى جسده، وروحه صارت هيكلاً أصفرَ، لينتقل بعدها لوصف خسارته الأخرى المتمركزة حول زوال المال، فالطفل الذي حلم أن يكون ثرياً يجرحه الحلم وهو بقبعة مفقودة وقميص وحيد وحذاء بالٍ، ويضيف على ذلك زوال السمعة الجيدة، إذ إنَّ اسمه صار كالشتيمة "فقد شكَّلت حول اسمه الشعري جماعة كبيرة من الصبية وفتيات الحانات الذين انتحلوا اسمه (يَسنِين) كظاهرة ينطلقون بها من حانة إلى أخرى، هؤلاء هم (اليسنينيون) الزائفون"[11] أو (رعاع باريس) كما يسميهم، فهم قد أصبغوا على اسمه دلالةً تثير الرهبة وتحاكي الشتيمة، فزالت الراحة وتشوَّهت السمعة وصارت أيامه مُثقلة بالمضايقات والهواجس والقلق. يقول مُكملاً سلسلة الزوال:

"والحب أوليس ضرباً من اللهو؟
أنت تلثم، بينما الشفاه كالصفيح.
أعلم أن شعوري قد أينع
بينما لا يُمكن لشعوركِ أن يورق.

ما زال الوقت مبكراً كي أحزن
لكنَّ الأسى ليس رزءاً
القاقلي[12] اليانع يصخب، وهو
أشقر من جدائلك فوق الربوة.

أود العودة مرة أخرى إلى تلك الأماكن.
كي أغرق إلى الأبد في المجهول.
تحت صخب القاقلي اليانع
وأحلم بطفولة في السديم.

على أن أحلم بشيء آخر جديد،
متعذر إدراكه على الأرض وأعشاب القاقلي-
فلا الكلمة تعبر عن مكنون الفؤاد
والمرء يحار في تسمية معاناته."[13]

    تظهر ملامح الزوال في بقية المقاطع في شكلين: في زوال الحب وزوال الحلم، فهذا الحب الذي لم يورق ولم يبدِ أي تفاعل مأمول كان مصيره الفتور (الشفاه كالصفيح/ لا يمكن لشعوركِ أن يورق)، في حين حتى الأحلام تتلاشى أمام صعوبة التعبير وحيرة الفؤاد. ونلحظ أن صورة الطفولة وأحلامها البريئة تظهر وتخبو، فهي تجيء في سياق التحسُّر على الحاضر البائس والماضي المتلاشي، لذا نستطيع عدَّ انقضاء مرحلة الطفولة هو جرح الزوال الأول.

وخلاصة ملامح الزوال عند الشاعر سرغي يَسنِين، أنَّها نزعة مرتبطة بطبيعة حياته المتغيِّرة، وخيباته المتتالية، فكلُّ الأشياء تتغيَّر وتشيخ وتذبل، لأنَّه لا يرى العالم سوى كيانٍ يتهاوى، في حين إنَّ الماضي والحاضر والمستقبل متصلين بسيرورة الحياة الآيلة للفناء، وكلُّ هذه الرؤى ما هي إلا نظرة غارقة في السوداويَّة نحو الذات والوجود؛ فصورة الزوال تبدأ بزوال الأحلام والآمال ووهج الحب، وتلاشي الماضي الجميل وذكرياته، يليه زوال الأمن والاستقرار في حياة متقلِّبة الأحوال، وصولاً إلى محطة العدم الأخيرة المتمثِّلة في زوال الحياة وفناء الجسد.



[1] من الأدب العالمي: يسينين قصائد مختارة، رمزي العقراوي، مقالة منشورة إلكترونياً، تاريخ النشر: 5\9\2014م: https://elmashadarabe.blogspot.com/2014/09/blog-post_78.html

[2] النضال ضد عبادة الماضي: الاتجاهات الطليعية الروسية (1910 – 1930)، إعداد وترجمة: عبد القادر الجنابي، المركز القومي للترجمة، ط1، 2015م، ص313.

[3] ديوان الغائبين: سيرغي يسينين Sergej Aleksandrovic Esenin - روسيا - 1895 – 1925، ترجمة: فؤاد العلوش، مقالة منشورة في موقع الأنطولوجيا، تاريخ النشر: 29\11\2017م: http://alantologia.com/blogs/5125/

[4] من الأدب العالمي: يسينين قصائد مختارة، رمزي العقراوي، مرجع سابق. 

[5]  يُنظر: أربع قصائد سيرغي يسينِن، ترجمة: نوفل نيوف، موقع مجلة نزوى، تاريخ النشر: 5\2\2019م: https://www.nizwa.com/%D8%A3%D8%B1%D8%A8%D8%B9-%D9%82%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%BA%D9%8A-%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%90%D9%861/

[6]  من ديوان الشعر الروسي، ترجمة وتقديم: حياة شرارة، دار المدى، بغداد، ط2، 2017م، ص472.

[7] المرجع السابق، ص492.

[8] المرجع السابق، ص493.

[9] المرجع السابق، ص489 و490.

[10] المرجع السابق، ص514 و515.

[11] من الأدب العالمي: يسينين قصائد مختارة، رمزي العقراوي، مرجع سابق. 

[12] القاقلي: أعشاب بريَّة ذات أزهار صفراء.

[13] من ديوان الشعر الروسي، مرجع سابق، ص515 و516.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب