المشاركات الشائعة

الخميس، 4 يوليو 2019

أحبابٌ وغرباء - سباستيان فولكس.


عن رواية صانع الصدى (The Echo Maker) لمؤلفها ريتشارد باورز
مؤسسة النشر: Farrar Straus Giroux. عدد الصفحات:451

تعد رواية ريتشارد باورز الجديدة -مغامرةٌ من روايات القسم العصبي- عملًا سرديًا مبهجًا. إن السهولة التي يتمتع بها المؤلف في التحكم بمادته المعقدة مثيرةً للمشاهدة في طور كشف القصة أحداثها.
يفتتحها باورز بهدوء على ضفاف نهر بلات في ولاية نبراسكا، حيث تستعد طيور الكركية لهجرتها السنوية. من الواضح أن لدى باورز معانٍ رمزية معتبرة في اختياره لهذا النوع من الطيور (المشار إليه في العنوان بـ "صانع الصدى").  تبدأ من وسط أمريكا؛ ويوحي مقدار كبير من الجزء الأول من الكتاب أن بين أيدينا رواية تقليدية من ناحية الفكرة والشخصيات، تكملها الرمزية الطبيعية.
تحمل الشخصية المركزية اسم مارك شليتر البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا. يعمل في شركة لتعبئة اللحوم، ويدخل في غيبوبة بعد تعرضه لحادث سيارة غامض. رجل ودود بسيط يكرس وقته لشاحنته، ومما يتعذر تفسيره أن ينقلب بها أثناء قيادته على طريق مستقيم وهو في كامل وعيه. وبينما كان فاقد الوعي، إذ بزائر مجهول يترك ملاحظة على سريره. وتشير الملاحظة إلى أن من كتبها كان في مكان الحادث – ويحتمل أنه الشخص الذي اتصل بخدمة الطوارئ وأنقذ حياة مارك.
يتماثل مارك للشفاء ببطء. ويستعيد كل قدراته وملَكاته؛ باستثناء واحدة: إذ لا يتعرف على أخته الكبرى، كارين، التي لطالما كرست حياتها له. ويظهر أن مارك مصاب بوهم كابغرا أو متلازمة كابجراس Capgras Syndrome (مرض حقيقي)، وفيه يتوهم المريض أن قريبه أو الشخص المقرّب منه ينتحل شخصية أحد المقربين منه ويرفض تصديقه. يقر مارك بأن المرأة التي تعتني به وتأخذه إلى المنزل تشبه إلى حد كبير كارين أخته الحقيقية التي قامت بواجبها في تاريخ عائلته، لكنه لا يصدق أنها أخته حقًا.
عادة يصيب كابجراس Capgras المرضى النفسيين -غالباً مرضى الفصام- لذلك فإن حدوثه بسبب إصابة في الرأس يثير أسئلة طبية وفلسفية غير عادية. وفي حالة من اليأس تكتب كارين إلى أخصائي الأعصاب الشهير في الساحل الشرقي والمسمى جيرالد ويبر الذي يثري الرواية بظهوره.
 اشتهر اسم ويبر -شخصية  شبيهة بالطبيب أوليفر ساكس- من خلال نشره مقالات عن مرضاه. وقلما يثير فضوله سوى حالة من مليون من الحالات غير الاعتيادية.
 أطرق مفكرًا: "كابجراس نتيجة حادث... ظاهرة من شأنها أن ترقى بنظريات الوعي أو تسحقها".
أو كما فسرها لزوجته سيلفي: "إنها حالة لانعدام كلتا الحالتين التي يمكن أن تساعد في الفصل بين نموذجين للعقل مختلفين تمامًا".
ومع تحوّل السرد مؤقتًا إلى ويبر نرى مارك من منظور مختلف، ولكن تظل الشخصيات هي الطابع المحرّك للرواية مع لغز الوعي الإنساني بصفته موضوعها الدسم. 
أظن أن هذا سيكون كافياً لمعظم القراء، لكن لدى باورز أفكارًا أخرى.
عند انتصاف الرحلة، تصبح هذه المواضيع ثانوية في القصة. ماذا حدث حقا لمارك تلك الليلة؟ من كتب تلك المذكرة؟ هل سيتعرف مارك على كارين مرة أخرى؟ حول هذه الأسئلة الثلاثة، يوسع باورز دائرة الشخصيات لتشمل: حبيب كارين وهو أحد مناصري المحافظة على الطبيعة، وصديقها مالك العقار السابق، وصديقا مارك القديمان من مصنع تعبئة اللحوم، والأهم مساعدته ومقدمة الرعاية  باربرا التي تبدو أكثر اضطلاعًا بوظيفتها، وتبدو شخصية مألوفًة لأكثر من شخصية أخرى بشكل محير. يتحكم باورز بهذه القصة المعقدة ببراعة والتي تسير على وتيرة ثابتة بلا تراجع إطلاقًا. ويظل أسلوب الكتابة مباشرًا وواضحًا.
في الوقت الذي يحاول مارك الاندماج مجددًا، يتحرك ويبر مُكرهًا في الاتجاه الآخر. يؤدي  رد فعل العامة السلبي والنقدي لكتاب ويبر الجديد -إلى جانب شعوره بالفشل فيما يخص حالة مارك- إلى حالة مخيفة من التفكك. يشكك في حياته ولا سيما دوافعها، (وفي حالة موازية لمارك) يخفق في إدراك مناقب المقربين منه. هذا الانهيار الذي حدث لويبر يبدو من ناحية نفسية من حيث السبب والنتيجة ، ولم يسبق أن قام بتحليله من جانب عصبي.
هذا الكتاب المليء بإبدال جهات السرد، يجعل منه ضربة موفقة لباورز.
ومع نهاية الرواية ترتفع نسبة السرد بشكل كبير للغاية، وفيما يتعلق بالأسئلة الرئيسة الثلاثة التي قدمها باورز بشكل رائع يحل ألغازها، ويقدم إجابات عنها بشكل مرضٍ. لكن مع هذا التركيز على الحبكة هناك ثمن لا بد من دفعه لهذا الإثراء الموضوعي.
من العبث أن نزعم أنه لم يتم تفسير لغز الوعي الإنساني بالكامل؛ وقد وضحه باورز بقدر ما يسمح به العلم الحالي، وسرد نتائجه التي توصل إليها باهتمام روائي بالشخصية. إلا أن حل مسألة كابجراس -مع واقعيته- لم يواكب العمل، ولم تترك نهاية قصة الملاحظة الغامضة الصدى المرجو. وهذا بالتأكيد لا ينبغي أن يقلل من إعجاب القارئ بجرأة باورز ذي الموهبة الهائلة، وهذه الرواية الشفافة والمسلية جدًا - والتي مع قلة الثراء الفكري المتعذر اجتنابه، ستصنع فيلمًا رائعًا.


  • سباستيان فولكس: روائي وصحفي ومذيع بريطاني. يشتهر برواياته التاريخية في فرنسا، وصدر له أيضًا روايات ذات طابع معاصر؛ آخرها أسبوع في ديسمبر (2009) وصدى باريس (2018).
  •  ترجمة: بلقيس الكثيري
  • تدقيق لغوي: مؤمن الوزان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب