المشاركات الشائعة

الأربعاء، 2 يناير 2019

طفل نجم - أوسكار وايلد.






قصة قصيرة


ترجمة
بلقيس الكثيري

قرطاس الأدب
في أحد أيام الشتاء البارد، وفي ليلة من ليال الزمهرير حيث كان الصقيع يغطي أرض الغابة الواسعة، ويلتهم ببرودٍ أغصان الأشجار محوّلاً خضرة أوراقها إلى البياض. كان الحطّابان يشقان طريقهما بين الثلوج عائدِين إلى منزليهما، وقد أثقل ظهر كلٍّ منهما كومةٌ من الحطب. كانا يقطعان طول الطريق وبروده بتجاذب أطراف حديثٍ ليطردا عنهما أشباح السأم والتعب التي تتربص بهما. حتى وصلا إلى أمام قمة جبل تورنت الشامخ بلا حراك، وقد عانقته الثلوج من كل صوبٍ وطبعت على جبينه قُبلة، حيّرت قاطنيه وزواره من الحيوانات.
تمتم الذئب الذي عرَج على غصنٍ فكسره: هذا الطقس فظيع، ألا يجب على الحكومة أن تعمل شيئاً حياله؟
غرّد من فوقه عصفورٌ وكأنه قصد إجابته بقوله: وماذا ستعمل الحكومة؟ لقد ماتت الأرض وها هي مغطاةٌ بكفنها الأبيض!
اعترضت الحمامات البرية على ما قاله العصفور، ورغم برودة مناقيرهن الوردية التي بدت متجمدةً تماماً إلا أنهن شعرن بأنه من واجبهن أن يسلطن الضوء على الجزء الرومانسي من المشهد بقولهن: لا، بل إن الأرض ستُزف قريبًا، وها هي قد ارتدت ثوب زفافها الأبيض!
عوى الذئب باستخفافٍ ثانية: هذا هراءٌ وكما أخبرتكم من قبل إنه خطأ الحكومة، وإذا لم تصدقوني فسألتهمكم ولينتهِ الأمر!
يُقال أن للذئب عقلاً عملياً ولذلك فهو لا يخسر أي جدال، ولكن نقّار الخشب الذي وُلد فيلسوفًا قاطعَه غير آبهٍ بتهديده: حسناً، بالنسبة لي فأنا لا تهمني تفسيراتكم لتلك النظرية الذرية… أيًّا كان ما يحدث، فما أعرفه في الوقت الحاضر هو أن البرد شديدٌ جدًا!
كانت ليلةً شديدة البرودة، حتى السناجب التي تعيش وسط الأشجار ظل كلٌ منها يحكُّ أنفه بالآخر ليشعره بشيء من الدفء، أما الأرانب فقد تكوّر كلٌ منها على نفسه داخل جحره ولم يجرؤ أحدها على النظر خارجًا، وحدها البوم كانت تستمتع بهذا الجو القارس؛ فبعيونها الجاحظة وريشها المتصلب الذي كساه الصقيع لم تبالِ بهذا الجو، وظلت تحرك بؤبؤ أعينها الصفراء في حركةٍ دائريةٍ بابتهاجٍ وتقول لبعضها بسرور: أي طقسٍ مفرحٍ نحظى به هذه الليلة!
استمر الحطابان في طريقهما يقطعان الطريق بمشقة، يتوقفان من حينٍ لآخر لينفخا بين كفيهما أنفاسًا دافئةً ويسيران بأحذيتهما الطويلة التي ما أن تغوص بين حاشية الثلوج حتى تخرج مغطاة بحبيباتٍ ثلجيةٍ ناصعة البياض كما لو كان طحينٌ جُرش بين حجرتي رحى. فجأةً انزلقت قدماهما على سطح جليدٍ لمياه مستنقعٍ متجمد، فوقعا وتناثرت حُزم الحطب على الأرض، فما كان منهما إلا أن قاما متأوهين، والتقطا تلك العصي واحدةً تلو الأخرى، وبعد أن أعادا ربطها نظرا حولهما وعرفا بأنهما قد ضلا الطريق، فأصابهما الهلع ليقينهما بأن هذه العاصفة الثلجية لا تحنو أبدًا على أولئك الذين ينامون بين ذراعيها. فرجعا من حيث جاءا محترسَين، ومتشبثين بكثيرٍ من الأمل، واضعين ثقتهما برب هذه الغابة الذي يحرس المرتحلين. واستمرا في سيرهما حتى وصلا أخيرًا إلى طرف الغابة وظهرت أمامهما القرية.
نظرا أسفل الوادي الذي كانا يقفان على قمته وشاهدا الأضواء التي كانت تشع من بيوت القرية التي يسكنان فيها… تنفسا الصعداء وفي ارتياحٍ ضحكا بصوت عالٍ وهما يرقبان السماء والنجوم الدوارة، فبدت لهما الأرض للحظةٍ كوردة من الفضة والقمر وردة من ذهب!
ولكن سرعان ما اختفت تلك الابتسامة حين تسلل الحزن إلى وجهيهما عندما تأملا في البؤس الذي يعيشان فيه وتذكرا حالة الفقر التي هما فيها، فقال أحدهما للآخر: لماذا نضحك ونبتهج وهذه الحياة من نصيب الأثرياء وليس لمن هم مثلنا فيها نصيب؟ أما كان خير لنا أن نموت بردًا في هذه الغابة أو تمزقًا بين فكي وحش بري؟
أيّده رفيقه: حقًا، يتمتع البعض بالكثير، في حين لا يكون لدى الآخرين سوى القليل جدًا. تعسفيةٌ هي هذه الحياة!
وبينما كانا يندبان حظهما ويشتكي الشقاء كل منهما للآخر إذ بشيءٍ غريبٍ يحدث؛ سقط من السماء شهابٌ مضيءٌ وجميل، مارًا بغيره من النجوم في مساره، شاهدا ذلك المنظر متسائلين واعتقدا أن ذلك النجم قد استقر خلف مجموعة من أشجار الصفصاف الواقعة بالقرب من إحدى حظائر الأغنام، فهتفا في دهشة: حزمة من الذهب، هي لمن يجدها.
ركضا إلى تلك الجهة يدفعهما حرصهما الشديد على إيجاد الذهب. تجاوز أحدهما صاحبه حيث كان أسرع منه وسبقه شاقًا طريقه بين أشجار الصفصاف، ولكن ما من ذهب كان في انتظاره، بل تفاجأ بشيءٍ آخر موضوعٍ في لفافةٍ ذهبيةٍ على الثلج الأبيض، فأسرع باتجاهه وانحنى اتجاه الأرض ليأخذه بين ذراعيه متأملًا في المعطف الذهبي ذي النسيج الرقيق المطوي في كثيرٍ من الثنايا ثم هتف لصاحبه: لقد عثرتُ على الكنز الذي وقع من السماء!
وعندما وافاه رفيقه جلسا وفتحا تلك الطيات؛ لتأخذ الدهشة بلب كلٍّ منهما حين وجدا في تلك اللفافة رضيعًا نائمًا... فقال له رفيقه: هذه نهاية مأساوية لأحلامنا، ليس لنا حظًا فماذا سيجني رجلٌ من طفلٍ رضيع؟ لنتركه هنا ونمضي في طريقنا فنحن رجال فقر، بالكاد نجد خبزًا لأطفالنا الذين من أصلابنا... فمن أين نتكفل بإطعام غيرهم؟!
ولكن صاحبه أجاب: كلا، إنه للشر بعينه أن نترك طفلًا للهلاك في هذه الثلوج، رغم أنني فقيرٌ مثلك ولدي عديدًا من الأفواه لأطعمها وقليلاً من الزاد في القِدر إلا أنني سآخذه معي، وسأطلب من زوجتي أن تعتني به.
حمل الرجل الطفل بحنانٍ وجعل السترة الذهبية حوله ليقيه برودة الشتاء المتجهم، ونزل أسفل التل بحذرٍ باتجاه القرية ليلحق به رفيقه متعجبًا من سذاجة صاحبه ورقة قلبه.
وعندما وصلا التفت إليه قائلًا: بما إنك أخذت الطفل فلِمَ لا تعطني تلك السترة، أليست هذه غنيمة ومن العدل أن نتقاسمها؟
فأجابه: لا يا صديقي فهذه السترة ليست من نصيبي أو نصيبك إنما هي حق هذا الطفل وحده.
ثم ودع صاحبه واتجه إلى منزله. طرق على الباب الخشبي عدة مراتٍ حتى فتحت زوجته، واستبشرت خيرًا بعودة زوجها سالمًا إليها، ابتسمت واحتضنته فرحًا وأخذت حزمة الحطب عن ظهره، ثم قالت وهي تنفض حبيبات الثلج عن ردائه: أدخل يا عزيزي.
ولكنه دون أن يتخطى عتبة الباب قال: لقد وجدت شيئًا في الغابة وأحضرتُه إليكِ لتعتني به. سألته زوجته في اهتمام بالغ: وما ذاك؟
ثم أردفت: أرني فالمنزل خالٍ بحق، وتنقصنا الكثير من الأشياء...
أزاح الرجل الغطاء عن وجه الطفل النائم وقربه منها لتعتريها ألوان الدهشة والاستغراب، قالت بتذمر: ما هذا؟
واستدركت بسيل من الأسئلة: أليس لدينا ما يكفي من الأطفال حتى تحضر لقيطًا يشاركهم الزاد والمأوى؟ ومن يدري إن لم يكن هذا الطفل مصحوبًا بلعنةٍ تجلب لنا الحظ البائس؟ كيف سنعتني به؟
ثم أعرضت عنه وقد اعترتها موجة غضبٍ عارمة.
هز الرجل البائس رأسه وقال مشفقًا على هذا الطفل: لا أعلم ولكنه طفل نجم!
ثم سرد عليها كيف عثر عليه بحماسٍ شديد، لكن ذلك لم يثرها بل جعلها تسخر منه وتقول له بغضب: ينقص أطفالنا الخبز وأنت تفكر في إطعام طفلٍ غريب...من قد يهتم لرحمتك ومن ذا الذي قد يعطينا طعامًا؟
فأجاب الرجل وقد لفحت وجهه نفحات الهواء البارد: سيهتم لنا ويطعمنا من يهتم بالأطيار ويطعمها، الرب جلَّ في علاه.
ولكنها سألت متهكمة: أو لا تموت الأطيار من الجوع شتاءً؟ أنسيت أنه الشتاء أم ماذا؟
شعر الرجل بأن الجدال مع زوجته عقيم، فلم ينبس ببنت شفة، ولم يتحرك عن العتبة شبرًا، وفي تلك الأثناء هب ريحٌ من ناحية الغابة إلى داخل المنزل، فاقشعر بدن الزوجة ورجفت وصاحت به:
ألا تغلق الباب؟ الريح ستدخل وستبرد الجدران.
فقال ساخرًا: أوتظنين أن الريح لن تعرف طريقها إلى منزلٍ به قلبا قاسيا؟
لم تجبه بل جلست بالقرب من المدفأة مطأطئة الرأس، وبعد لحظاتٍ التفتت إليه والدموع تترقرق في عينيها، فعلم أن قلبها قد لان أخيرًا.
أغلق الباب وأسرع إليها ثم وضع الطفل بين ذراعيها لتضمه وتقبله، وبعد أن أكسبته بعض الدفء بالقرب من المدفأة وضعته في السرير إلى جوار طفلها الرضيع الذي كان نائمًا في سكينة.
وفي اليوم التالي أخذ الحطاب تلك السترة النادرة ووضعها في صندوقٍ خاصٍ مع القلادة الكهرمانية التي كانت موجودة حول عنق الطفل.
وهكذا تربى طفل النجم مع أطفال الرجل الحطاب كواحد منهم، ورفيقًا لهم في أوقات الشقاوة واللعب، وفي كل عام كان يصبح أجمل وأوسم من السنة التي قبلها مما جعل أهل القرية يتساءلون عن جماله الأخاذ في دهشة، فبالرغم من أن أبناء الحطاب كانوا ذو بشرة داكنة وشعرٍ أسودٍ كان هذا الطفل ذا بشرةٍ بيضاء ناعمةٍ كعاج منحوت، وشعرٍ أشقرٍ مموجٍ كخواتمٍ من النرجس، أما شفتاه فتشبه بتلتي وردٍ أحمر، وعينيه كوردٍ بنفسجي على حافة نهرٍ من الماء الصافي.
ولكن ذلك الجمال قد أثّر به سلبًا، فكبر متعجرفًا، مغترًا بجماله، أنانيًا وقاسي القلب لا يبالي بغيره. فكان يحتقر أطفال الحطاب وأطفال القرية الآخرين لاعتقاده أنهم من سلالة بشرية بينما هو نبيل نشأ من نجم كما قيل له. كان يقود غيره من الفتية زاعمًا أنه السيد وهم الخدم. لم يكن يشفق على المحتاج أو الأعمى أو المشوه أو أي من ذوي العاهات بل على العكس كان يستمتع بالسخرية منهم، فيرجمهم بالحجارة تارة حتى يغيبوا عن ناظريه، وتارة يدفعهم إلى جانب الطريق ليأخذ منهم ما لديهم من طعام. ولأنه كان نرجسيًا ومعجبًا بنفسه كان يتهكم من الضعاف وذوي الوجوه قبيحة المنظر وينسج حولهم النكات الساخرة، وقد بلغ من إعجابه بنفسه أنه كان يحب أن ينظر إلى الصورة المنعكسة له على سطح ماء البئر أيام الصيف!
وعلى الرغم من أن الحطاب وزوجته دائمًا ما كانا يوبخانه على تصرفاته ويقولان له: نحن لم نعاملك على الطريقة التي تعامل بها هؤلاء البائسين ومن لا غوث له. لِمَ تتصرف بقسوةٍ مع كل أولئك الذين يحتاجون رأفتك وشفقتك؟
كانا يأخذانه إلى القسيس ليعلمه كيف يحب الأشياء وحدث أن حدّثه ذات مرة: إذا كنتَ يا بُني طفل نجمٍ إذن فكل ما يطير أخٌ لك لا تؤذه، إن للطيور البرية التي تجول في الغابة حريتهم، وضع الفخاخ لهم من أجل متعتك لا يجوز. إن الرب قد خلق كل شيءٍ بما في ذلك الدود والحشرات فلهم في هذه الأرض حق. من أنت لتجلب الألم لعالمٍ خلقه الله العظيم الذي يسبحه كل شيءٍ حتى المواشي في الحقول؟!
لكن تلك الكلمات وغيرها من الدروس على شاكلتها لم تجد لها في رأس ذلك الطفل مكانًا.
ففي كل مرةٍ يعود إلى رفاقه عابسًا يستهزئ، يقودهم ليتبعوه فهو النبيل المميز الذي يستطيع الرقص ويجيد استخدام المزمار وهم ليسوا سوى أبناء رجالٍ فقراء، فحيثما يقودهم كانوا يتبعونه ومهما طلب ينفذون، حتى أنه كان عليهم أن يضحكوا عنوةً عندما يثقب عينا حشرةٍ ما أو يرجم مجذومًا لتتحجر قلوبهم كما تحجر قلبه!
**
وفي يومٍ من الأيام مرت بالقرية امرأةٌ متسولةٌ بكساءٍ ممزقٍ وثيابٍ رثة… ولطول المسافة التي قطعتها سيرًا فقد كانت قدماها تنزفان وعندما أنهكها السفر جلست تحت شجرة الكستناء لترتاح، فرآها طفل النجم وصاح في أتباعه: أنظروا هناك متسولةً قذرةً تجلس تحت شجرةٍ خضراء يانعة...دعونا نبعدها عن هذا المكان فهي قبيحةٌ تشوهه.
ثم ذهب في اتجاهها وأخذ يرميها بالحجارة ويسخر منها، نظرت إليه في هلعٍ محاولةً أن تقي نفسها من تلك الحجارة التي أُمطرت بها من غير ذنب، لكنها تفاجأت ولم تبعد ناظريها عنه فكأنما هو ضآلتها. ظلت تتأمله حتى رأى الحطاب الذي كان يقطع الأخشاب بالقرب من ذلك المكان  ما كان يفعله طفل النجم، فركض باتجاهه وأمسكه مُعنفًا: حقًا إن قلبك من حجرٍ ولا تعرف الرحمة أبدًا، ماذا فعلتْ لك هذه المرأة المسكينة حتى تعاملها بهذه الطريقة؟
استشاط الطفل غضبًا واحمر وجهه فضرب قدمه على الأرض صارخًا: ومن أنت حتى تتحدث معي بهذه الطريقة؟ أنا لست ابنك حتى تأمرني!
فرد عليه الحطاب: صدقتَ لست ابني ومع ذلك فقد أشفقتُ عليك وآويتك عندما وجدتك في الغابة.
وما إن سمعتْ المرأة تلك الكلمات حتى شهقت ووقعت مغمًى عليها، فحملها الحطاب إلى منزله، واعتنت بها زوجته حتى أفاقت. قدما لها بعض الشراب وشيء من الطعام الموجود في المنزل وطلبا منها أن ترتاح، لكنها لم تأكل أو تشرب وقالت للحطاب: هل عثرتَ على ذلك الطفل في الغابة؟ أكان ذلك قبل عشر سنوات من الآن؟
فأجاب الرجل: أجل.
سألته: ماذا وجدتَ معه؟ أكان حول عنقه قلادة كهرمانيةٌ وحول جسده سترةٌ منسوجةٌ بخيوطٍ ذهبيةٍ ومزينةً بالنجوم؟
أومأ الحطاب: صحيح، ذلك بالضبط ما وجدته معه. ثم نهض وأحضر الصندوق وأراها ما بداخله. وعندما رأت ذلك بكت فرحًا: إنه ابني لقد فقدتُه في الغابة...هلّا أحضرته بسرعة فقد طُفتُ العالم بحثًا عنه.
ذهب الحطاب مع زوجته ليأتيا به وعندما وجداه قالا له: اذهب إلى المنزل فأمك تنتظرك هناك.
ركض الطفل باتجاه المنزل في شوقٍ ولهفةٍ لرؤية وجه أمه التي أنجبته، ولكن عندما رأى المرأة التي كانت تنتظر ضحك في ازدراء وقال: أين هي أمي؟ فأنا لا أرى هنا إلا متسولةً قذرة.
لكن المرأة لم تمهل الحطاب أو زوجته ليجيبا بل ردت عليه وفتحت له ذراعيها: أنا هي أمك.
فقال الطفل غاضبًا: أنتِ مجنونةٌ ولا ريب وإلا لما قلتِ ذلك… أنا لست ابنكِ، فأنتِ لستِ سوى متسولةً قبيحةً في ثيابٍ رثة، لذا ارحلي من هنا ولا تريني وجهكِ الكريه مرة أخرى.
جثت الأم المكلومة على ركبتيها أمام ذلك الطفل العاق: لكنني أمك لقد هاجمني اللصوص في الغابة ذلك الشتاء وأخذوك مني وتركوك فيها للموت.
انهمرت دموعها وهي تقول: لكنني عرفتك مذ رأيتك وتلك السترة والقلادة تشهد بذلك... لطالما دعوتُ أن تعود إلي وبحثتُ عنك في كل مكان. هيا يا بني تعال معي، فأنا في حاجة لعطفك.
لكن الطفل لم يتحرك من مكانه وأغلق أمامها باب قلبه ولم يكترث لصوت نحيبها الذي كان يتعالى من الألم، فقال لها بنبرةٍ جافةٍ شديدة الخشونة: حسنًا وإن كنتِ كما تقولين أمي فقد كان من الأفضل لو أنكِ بقيتِ بعيدةً ولم تأتِ إلى هنا لتجلب لي الخزي، فقد كنتُ أظن نفسي ابنًا لنجمٍ لا لمتسولة...اذهبي من هنا لا أريد أن أراكِ.
تأوهت الأم المسكينة وقالت: حسنًا ولكن ألا تقبّلني قبل أن أذهب؟ فقد عانيتُ الكثير حتى أصلُ إليك.
هز الطفل رأسه متقززًا: كلا، أفضل أن أقبّل أفعًى أو ضفدعاً على أن أقبلكِ.
وقفت الأم في انكسار، وعادت أدراجها عبر الغابة باكيةً بحرقة، قاطعةً الطريق بالدموع والألم.
فرح الطفل عندما رآها تغادر وذهب إلى رفاقه مبتهجًا، لكن عندما لمحوه قادمًا باتجاههم سخروا منه وقال له أحدهم: ما الذي حدث لوجهك؟ لقد صار كريهًا كوجه ضفدعٍ وصار جسدك قذرًا كجلد أفعى، ابتعد عنا فأنت لست ابن نجم كما كنت تزعم ولا نريدك أن تلعب معنا.
ثم تدافع عليه الأطفال حتى طرحوه أرضًا خارج الحديقة التي اعتادوا اللعب فيها.
عبس طفل النجم ووقف مندهشًا من تصرفهم الغريب معه، وابتعد وهو يحدث نفسه: ما الذي يقوله هؤلاء الحمقى؟! سأذهب إلى البئر لأرى بنفسي.
وعندما نظر في البئر، صعقه ما رأى  فوجهه كما وصفوه صار شبيهًا بضفدع وجلده الناعم الجميل أصبح مرقطًا كجلد أفعى!
رمى بنفسه على العشب وأخذ يبكي وكان لبكائه نحيب: لقد أُخذتُ بذنبي لأنني جحدت أمي وتطاولت عليها مغترًا بنفسي… لا بد أن أسألها الصفح وإن اضطررتُ لأن أبحث عنها في كل مكان، ولن يهدأ لي بال حتى أجدها وتغفر لي.
في تلك الأثناء اقتربت منه طفلة الحطاب وربتت على كتفه برحمة: وماذا يعني أن تفقد جمالك... ابقَ معنا فأنا لن أسخر منك أبدًا.
لكنه هز رأسه بالنفي: كلا، لقد كنتُ قاسيًا جلفًا مع أمي، واستحققتُ العقوبة التي أُنزلت بي… فلن أرتاح حتى أجدها وأطلب عفوها.
ثم ركض إلى الغابة وهو ينادي أمه بأعلى صوته: أماه عودي!
ولكن نداءه كان يذهب أدراج الرياح... مضى نهاره ينادي ويتخبط في نواحي الغابة حتى غربت الشمس ومن ثم حل الظلام، فجلس تحت إحدى الأشجار متعبًا والتحف بوريقاتها. كانت الحيوانات البرية الأليفة حوله تتحاشاه، وتفر منه فهي لم تنسَ كم أساء إليها صاحب هذا الوجه وكم آذاها هذا الفتى الفظ… صار وحيدًا على مرأى من ضفدعةٍ مزعجةٍ كانت تقفز حوله بتثاقل...ولشدة التعب الذي حل به فقد أمال برأسه على الشجرة وراح في سبات. وفي الصباح:
نهض وجمع بعض الثمار من الأشجار وبعد أن أكلها استكمل رحلته التي ابتدأها في اليوم السابق وهو يبكي بحرقة ولم يترك شيئًا في طريقه إلا سأله ما إذا كان قد رأى تلك المرأة البائسة.
بلغ من يأسه أن سأل دودةً رآها أمامه: بما أنكِ تدخلين إلى أعماق الأرض. هلا أخبرتني إذا كانت أمي هناك؟
وقعت عيناه على عينيها المثقوبتين فابتلعه الأسى حين أجابته: وكيف سأرى وقد ثقبتَ عيني بيدك؟
ثم نظر إلى طير كسير الجناح وطلب منه أن يطير أعلى الأشجار وفوق السحب ليرى أين هي أمه ولكنه أجابه: كيف وقد قطعتَ جناحي بيدك تسليةً لنفسك؟
زاد ذلك من أساه ومشى قُدمًا حتى رأى سنجابًا صغيرًا يمشي وحيدًا مثله، فسأله: أتعلم أين هي أمي؟
أجابه: لماذا تسأل عنها؟ أتفكر في ذبحها كما ذبحت أمي؟
انسابت دموعه بحرارةٍ وأخفض رأسه نادمًا. أي شيطان لئيم كان هو! ثم أخذ يدعو الله أن يغفر له!
وفي اليوم الثالث وصل إلى نهاية الغابة واستكمل رحلته مارًا بالقرى التي كان أطفالها يضحكون منه ويسخرون به وهم يقذفون عليه الحجارة، ولم يبدِ أيٌّ من قاطنيها استعدادًا لاستضافته في منزله لقضاء الليلة عنده، بل إن أحدهم رفض أن ينام هذا الفتى في الحظيرة لئلا تتعفن الذرة المخزونة هناك! وكان كلما اقترب من مكان، يطلب صاحبه من أجيره أن يطرد هذا الفتى بعيدًا ...فلم يحظَ بشفقة أحد...
لثلاثة أعوام كان هذا الفتى يجول الأرجاء راجيًا التكفير عن ذنبه يسأل في كل مكانٍ يرتاده عن امرأة متسولة، وكلما تهيأ له سرابها في منتهى طريقٍ ما،كان يركض كالمجنون ينادي حتى تقدح الحجارة قدميه وتدميهما… لم يعثر عليها ولم يسمع من شخص أنه قد رآها فكان في منتهى الأسى.
وطوال تلك السنوات الثلاث لم يلقَ شخصًا يحتويه أو يشفق عليه و لو إحسانًا. كانوا يعاملونه بمعاملته بالرغم من أنهم لا يعرفون ماضيه، فكأنما كان ذاك هو العالم الذي صنعه لنفسه بيديه في أوج زهوه.


**
وفي إحدى الليالي وصل الفتى إلى مدينة يحيط بها جدار عظيم البنيان تطل على نهرٍ جارٍ. وقف أمام بوابتها وقد أنهكه التعب يتأمل قدميه المتقرحتين من السير، وما إن همّ بالدخول عبر البوابة حتى أوقفه حارساها، واتّحدت حرابهما متقاطعة أمامه، لتمنعه من الدخول وصرخ به أحدهما: ماذا لديك حتى تدخل المدينة؟
فأجاب: أبحث عن أمي... أرجوكم دعوني أدخل علّها تكون هنا.
ضحكوا منه ومسح أحدهم على ذقنه وهو يقول له: لقول الحق لا أظن أن أمك ستسعد برؤيتك... إنك قبيح المنظر يا هذا وكأنك خرجت من مستنقع...اذهب من هنا فأمك لا تعيش بيننا.
قال الحارس الآخر الذي كان يحمل بيده راية صفراء: من هي أمك؟ ولِم تبحث عنها؟
فأجابه بانكسار: أمي امرأة متسولة مثلي وقد عاملتها بجفاء مرة… أتوسل إليك دعني أمر لعلي أحظى بعفوها إن كانت في هذه المدينة.
لكنهم لم يسمحوا له وحاول بعضهم أن ينخزه برمحه من أجل أن يبعده عن البوابة، تراجع عن ذلك الطريق وهو يمسح دموعه فإذا برجل ذي درع مرصع بأزهار ذهبية وعلى رأسه خوذة يتوسطها رأس أسد بجناحين- بدا أنه أعلى منهما رتبة- اقترب منهم قائلاً: دعوه يدخل.
فاعترض أحد الحرس: ولكنه متسول ابن متسولة وقد طردناه...
فضحك بمكر: لكنه يصلح لأن يباع عبدًا... وإن كان ثمنه لن يتجاوز قنينة شراب لذيذ.
سمع ذلك الحديث عجوز جشع بملامح شيطانية كان مستندًا على الجدار: وأنا سأشتريه منك بهذا الثمن. وعندما دفع أحضر له الحارس الفتى النجم فسحبه من يده إلى وسط المدينة.
وبعد أن تجاوزا الكثير من ممرات المدينة وصلا إلى باب صغير مستقر في جدار تغطيه شجرة رمان. أمسك الرجل العجوز بحلقة اليشب المحفورة على الباب ففُتح، ونزلا للأسفل مسافة خمس درجات مصنوعة من النحاس الذي كان يصدر صوتًا إثر وقع قدميهما عليه، وفي نهاية الممر ظهرت أمامهما حديقة مملوءة بنباتات الخشخاش قاتمة اللون، وجراتٍ خضراء من الطين المحروق. وسط دهشة الفتى وقف الرجل العجوز وأخرج من العُصابة التي على رأسه، قطعة قماش حريرية وربط بها عيني الفتى النجم، ودفعه أمامه بقسوة فلم تبصر عيناه شيئًا طوال الطريق حتى أوقفه الرجل العجوز، وأبعد الرباط عن عينيه فوجد الفتى نفسه في قبو مضاءٍ بشعلة ترتكز على بوق قرن.
وضع الرجل العجوز بعض الخبز المتعفن في طبق وقدّمه للفتى: كــُل.
ثم صبَّ له في كوب بعضا من الماء المعكر وأصدر له أمره الثاني: اشرب.
فأكل الفتى وشرب مُجبرًا ثم خرج الرجل موصدًا الباب خلفه وأحكم إغلاقه بسلسلة حديدية.
وفي صباح اليوم التالي:
جاء الرجل العجوز الذي كان متمرسًا في السِحر إلى الفتى النجم وعبس في وجهه وقال له: في الغابة القريبة من بوابة المدينة توجد ثلاث قطع من الذهب، قطعة من الذهب الأبيض والثانية من الذهب الأصفر والأخيرة من الذهب الأحمر، وعليك أن تذهب اليوم وتحضر لي القطعة البيضاء وإذا لم تفعل سأجلدك مائة جلدة ...عليك أن تحضرها بسرعة قبل أن تغرب الشمس وأنا سأكون في انتظارك أمام باب الحديقة… تذكر أنت خادمي وقد اشتريتك بأناء من الشراب اللذيذ، فعليك أن تأتمر بأوامري وتطيعني.
ثم قام بتغطية عيني الفتى بالقطعة الحريرية ذاتها وقاده إلى خارج ذلك المكان حتى تركه في قارعة الطريق.
مشى الفتى البائس إلى بوابة المدينة ومنها إلى الغابة التي وصفها له الرجل العجوز. كانت الغابة حسنة المنظر مليئة بالطيور المغردة وشذى أزهارها يغمر المكان، فدخل إليها الفتى مبتهجًا كأنما داوت تلك الطبيعة الجميلة جراحه. بدأ البحث في كل ناحية منها حتى أدمت النباتات البرية وأشواكها قدميه، وأحاطت الأغصان الشوكية بأجزاء من جسده، ولسعته أنواع النباتات القارصة، وجرحته الأشواك بخناجرها الصغيرة. كان في ألم فظيع وبالرغم من كل محاولاته لم يعثر على تلك القطعة الذهبية التي ظل يبحث عنها من الصبح إلى الظهيرة ومن الظهيرة إلى غروب الشمس. وفي وقت الغروب نظر في اتجاه المدينة وبكى  بكاءً مريرًا لعلمه بالمصير الذي ينتظره على يد ذلك الرجل الجشع.
تابع سيره حتى وصل طرف الغابة القريب من المدينة وهناك توقف عندما سمع صوت بكاء أحدهم من بين الأشجار فنسي همه، وذهب في اتجاه الصوت ليرى أرنبًا بريًا واقعًا في فخ من فخاخ الصيادين، فأشفق عليه وذهب إليه وحرره وهو يقول: بالرغم من أنني لست سوى عبد إلا أنه ما زال بوسعي أن أهبَ غيري حريته.
وبعد خلاص الأرنب حدثه قائلاً: قد أعطيتني حريتي فماذا أعطيك في المقابل؟
فقال الفتى مستبشرًا: أبحث عن قطعة من الذهب الأبيض، فحيثما بحثت هنا لم أجد شيئًا، إن لم أحضرها لسيدي قبل الغروب فسيجلدني.
قفز الأرنب أمامه: تعال معي، فأنا أعلم موضعها.
لحق الفتى بالأرنب حتى وصلا إلى شق في شجرة بلوط عظيمة وداخلها قطعة الذهب البيضاء فرح كثيراً والتقطها بسرعة كأنه يخشى أن تختفي من أمامه.
ثم نظر إلى الأرنب قائلا: لقد أسديت لي معروفاً أكثر بكثير مما قمت به معك، وغمرتني بلطفك أضعاف ما فعلت أنا.
نفى الأرنب ذلك وقال قبل أن يغادر: لا أبدا، أسديت لي معروفاً وأسديت لك مثله.
ركض الفتى باتجاه المدينة وأمام بوابتها كان يجلس رجل مجذوم تتدلى على وجهه قلنسوة من الكتان الرمادي، ومن محجر عينيه تلمع عينان كالجمر الأحمر، ما إن رأى الرجل الفتى قادماً حتى رفع أمامه إناءً خشبياً وقال بصوت ضعيف وهو يحرك جرسا معلقاً في رقبته: أعطني قطعة نقدية وإلا مت من الجوع، أرجوك… لقد نُفيت من المدينة ولم أجد أحداً ليتصدق علي خارجها.
شق ذلك على الفتى وقال: لا أملك سوى قطعة ذهب وإن لم أعطها لسيدي فسيغضب علي ويضربني، فأنا عبده.
لكن الرجل توسل إليه واستعطفه حتى تصدق عليه بتلك القطعة. وعندما وصل إلى منزل الساحر أدخله العجوز إلى المنزل وسأله: هل جلبت قطعة الذهب البيضاء معك؟
فأجاب الفتى في حزن: كلا!
فما كان من الرجل إلا أن طرحه أرضاً و انهال عليه بالضرب، وعندما انتهى من ذلك قدم له إناء وكوباً فارغين وقال له ساخراً: هيا كل واشرب هذا ما جنيته لنفسك.
ثم دفع به إلى داخل الزنزانة مرة أخرى.
وفي اليوم التالي:
جاء إليه الساحر العجوز وقال له: إن لم تحضر لي اليوم قطعة الذهب الصفراء سأبقيك عبداً لي وسأجلدك ثلاثمائة جلدة.
عاد الفتى إلى تلك الغابة وظل يبحث طوال النهار من دون جدوى، وعندما بدأت الشمس في الغروب جلس وبدأ يبكي حتى مر به ذلك الأرنب البري وسأله: لماذا تبكي؟ وعمَ تبحث؟
فأجابه الفتى: أبحث عن قطعة الذهب الصفراء المخبأة هنا، وإن لم أجدها سيضربني سيدي ويبقيني له عبداً.
فقال له الأرنب: اتبعني .
فمشى الفتى خلفه حتى وصلا إلى بركة ماء كان وميض القطعة الذهبية يشع من أسفلها.
حصل الفتى على القطعة الثانية وقال للأرنب شاكراً: لا أعلم كيف أشكرك فهي المرة الثانية التي تنقذني فيها.
فقال له الأرنب قبل أن يبتعد: كلا، فأنت من أنقذني في المرة الأولى.
وضع الفتى القطعة في جيبه وأسرع ناحية المدينة ولكن صادفه الرجل المجذوم للمرة الثانية وانحنى أمامه متضرعاً: أعطني قطعة نقدية أو سأموت من الجوع.
فأجابه الفتى بضعف: لكنني لا أملك شيئاً غير قطعة ذهبية صفراء، وإن لم أعطها لسيدي فسيجلدني ويبقيني له عبداً.
لكن الرجل استرحمه وأثار فيه أحزانه حتى أخرج القطعة وقدمها إليه.
وصل الفتى إلى منزل سيده الذي استقبله وأدخله المنزل ثم سأله: هل أحضرت قطعة الذهب الصفراء؟
أخفض الفتى رأسه وقال بألم: كلا.
ففعل به الساحر العجوز أسوأ مما فعله في الليلة الماضية ثم ربطه بسلسلة حديد وألقاه في القبو.
وفي اليوم الثالث جاء إليه وقال له: أن أحضرت لي اليوم قطعة الذهب الحمراء فسأعتقك ولكن إن لم تفعل فسأذبحك!
وكاليومين اللذين قبلهما، بحث الفتى في أنحاء الغابة ولم يعثر على أثر لتلك القطعة الحمراء... ومع حلول المساء جلس أرضاً وأخذ يبكي حتى جاء إليه صديقه المنقذ ومن دون أن يسأله قال له: إن القطعة الحمراء التي تبحث عنها في الكهف الذي خلفك، فابتهج ولا تبكِ.
فقال الفتى فرحاً: كيف لي أن أشكرك؟ فهذه المرة الثالثة التي تنقذني فيها.
فأجابه: لا ولكنك من رأف بحالي في المرة الأولى.
ثم انطلق مسرعاً... ودخل الفتى إلى الكهف ليجد القطعة الحمراء في أبعد زواياه، فوضعها في جيبه وأسرع إلى المدينة، ليلتقي بذلك الرجل المجذوم وسط الطريق يستطعمه ويستعطفه حتى رحمه الفتى وقال في نفسه: إن حاجته أعظم من حاجتي وهو أحق بها مني!
وبالرغم من الغصة التي شعر بها وهو يضع القطعة في يد الرجل لعلمه بالمصير الذي ينتظره هذا اليوم ولكن… حدث أمر عجيب ففي اللحظة التي تجاوز فيها البوابة انحنى له حراسها احتراماً وهم يقولون: ما أجملك يا سيدي!
مشى وسط المدينة مستعجباً وإذا بجموع من الناس تتبعه وهم يهتفون: أنت أجمل شخصاً على هذه الأرض.
انسابت دموعه وظن أنهم يسخرون منه أو يحاولون التخفيف من بؤسه.
وبعِظم الحشد الذي تجمع، لم يجد مكاناً يسير فيه فبدأ يشق طريقه بينهم وتاه عن مقصده، وأخذه ذلك الطريق إلى أمام قصر الملك، ولكن العجيب أن البوابة فتحت له وخرج ضباط الشرطة، ورجال من الطبقة النبيلة ليستقبلوه، ويعلنوا ولاءهم له و هم يقولون: و أخيراً قد وصلت! أنت ملكنا و ابن ملكنا الذي كنا في انتظاره!
لكنه أجابهم في براءة: أنا لست ابن ملك وإنما ابن لامرأة متسولة مسكينة، كيف تمتدحون جمالي وأنا أعلم على أي صورة أبدو؟!
فإذا بالرجل صاحب الدرع المرصع بالورد الذهبي والخوذة التي تعلوها صورة رأس الأسد بجناحيه يتقدم قائلا: كيف تقول يا سيدي أنك لست جميلاً؟
فتأمل الفتى في نفسه لتتملكه الدهشة: فقد اختفت تلك الأثار البشعة عن وجهه وعاد إليه جماله وعاد بريق عينيه كما كان.
فقال له أحد مستشاري الملك: أنت ابن ملكنا وقد عدت إلينا لذا فهذا العرش والصولجان وتاج الملك من حقك، فاحكم بيننا بالعدل والرحمة.
لكن الفتى اعترض قائلا: أنا لا أستحق ذلك فقد جحدت أمي التي ولدتني، ولن أرتاح حتى أجدها واطلب عفوها، لذا فيجب أن أذهب لأبحث عنها في المدن الأخرى، وعلي أن لا أتوانى عن ذلك وإن كان مقابل المُلك والعرش.
وما إن لفظ تلك الكلمات حتى مضى في طريقه باتجاه الشارع الذي يقود إلى بوابة المدينة.
وبينما هو يمشي بين الجموع والحراس يتبعونه ليخلصوه من بين الحشود المتدافعين حوله، فإذا به يرى على قارعة الطريق تلك المرأة المتسولة وإلى جانبها يقف ذلك الرجل المجذوم.
فهتف مبتهجاً وعلت وجهه ملامح الفرح أخيراً… ركض إليها وألقى بنفسه تحت قدميها وهو يقبلهما غير آبهٍ بالجروح التي تملؤها حتى بللها بدموعه، ثم أخفض رأسه أمامها حتى قارب جبينه الأرض وأخذ يبكي وهو يشهق كشخص كسير القلب ومن بين دموعه كان يقول: أماه، لقد جحدتكِ في ساعة زهوي، فاقبليني في ساعة ذلي وتواضعي… أماه قد أعطيتكِ جراحاً فهل تعطيني حباً؟ أماه لقد رفضتكِ يوماً وها أنا أضع طفلكِ خادماً بين يديكِ اليوم.
لكن تلك المرأة لم تنبس ببنت شفه، فالتفت إلى الرجل المجذوم وقال له متوسلا: ألم أرحمك ثلاث مرات؟ اشفع لي عندها أن تكلمني، أرجوك.
لكن الرجل المجذوم لم يجبه، فنظر إلى أمه واستعبر ثانية وقال وهو يبكي آسفاً: أماه… معاناتي أكبر من أن أحتملها، اغفري لي ومن ثم أعيديني إلى الغابة إن شئتِ.
وضعت الأم يدها على رأسه وقالت له: قم يا ولدي.
وتقدم منه الرجل المجذوم ووضع يده على رأسه أيضاً وقال له مثل قول أمه.
وما إن وقف حتى تفاجأ فالشخصان اللذان كان يحدثهما قبل لحظات ليسا إلا الملك والملكة أزاحا عن نفسيهما ذلك القناع الزائف لتقول أمه: هذا الرجل الذي أنقذت ليس إلا أباك!
فنظر إليه الملك مفتخراً: وهذه المرأة التي كنت تبكي تحت قدميها قبل قليل الملكة أمك.
ثم احتضناه معاً وهما يقبلانه فرحاً، وأخذاه معهما إلى القصر ليرتدي أجمل الثياب، ويضعان على رأسه تاج الملك ليصبح حاكم المدينة بعد والده، ويجعل العدالة تعم بين قاطنيها. نفى ذلك الساحر اللعين خارج المدينة وأرسل للحطاب و زوجته اللذين ربياه كثيراً من الهدايا الثمينة وأعطى لأبنائهما منزلة عظيمة كمنازل النبلاء والشرفاء في مدينته.
كان ينشر بين الناس الحب والتعاطف والتراحم فيما بينهم وبين كل شيء، فلا يُترك جائع إلا يطعم ولا عارٍ إلا يُكسى، لكنه لم يحكم طويلاً، برغم أن معاناته كانت كبيرة، ونار ابتلائه كانت حارقة جداً إلا أنه بعد مرور ثلاث سنوات من حكمه مات وحكم من بعده ملك ظالم!
تمت


*أوسكار وايلد: مؤلف مسرحي وروائي وشاعر إنجليزي إيرلندي. احترف الكتابة بمختلف الأساليب خلال ثمانينات القرن التاسع عشر، وأصبح من أكثر كتاب المسرحيات شعبية في لندن في بدايات التسعينات من نفس القرن. أما في وقتنا الحاضر فقد عرف بمقولاته الحكيمة ورواياته وظروف سجنه التي تبعها موته في سن مبكر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب