المشاركات الشائعة

السبت، 16 فبراير 2019

قصة مايتا - يوسا.




ماريو بارغاس يوسا هو من الكتاب الذين يحذرون أقلامهم من أن تكتب شيئا سهلا في متناول القراء، فهو القائل في إحدى حواراته "إني أفضل الأدب الجاد، المقلق،  الذي يشغل البال"، قصة مايتا لا تخرج عن هذا النوع من الأدب الجاد، فهي رواية تمنحنا الفرصة للارهاق العقلي والنفسي من تتبع طريقة سرده للقصة عبر نسقيين زمنيين يختلط فيهما زمن الراوي الأول (الكاتب) بزمن الرواة الذين يستجوبهم وبزمن ثالث هو زمن البطل فتتسع دائرة القصة لتصبح متاهة نخرج منها سالمين أحيانا ونخرج منهكين حين يوصد يوسا كل الأبواب ويجعلنا حبيسين لقصة رجل يشبه السراب في تخيل وجوده الفعلي، في قصة مايتا نلتقي بتاريخ مبتور، تاريخ تكثر عاهاته، شبه تاريخ وشبه واقع، كل هذا في جسد روائي صادق، عبقرية يوسا تظهر في أنه نبي كذاب، يكذب ونحن نصدق بمحض إرادتنا الكذبة، هل في هذا إسقاط ما يا يوسا؟ هل يريدنا أن نعتقد أن التاريخ في حد ذاته كذبة كبرى وأن كل الأيديولوجيات لا تعدو أن تكون زوبعة في فنجان مكسر يقول يوسا "لن يكون ما سأكتبه هو القصة الواقعية بالفعل، إنما رواية نسخة مختلفة جدا عن الواقع.. بعيدة عنه، بل مزيفة إن أنت شئت" صفحة 97، ويعود في نفس الصفحة ليؤكد "إنني واقعي، أحاول أن أكذب دائما في رواياتي وأنا أعرف السبب، إنه أسلوبي في العمل، وأعتقد أنها الطريقة الوحيدة لكتابة قصة بالانطلاق من التاريخ".
ونحن نقرأ قصة مايتا نجد أنفسنا نتسائل هل شخصية مايتا حقيقية فنسرع بالبحث عنه في مواقع البحث عن اسمه وتاريخه فلا نجد له أثر في التاريخ فنضحك من أنفسنا ويضحك علينا يوسا فهو يكذب وأكد لنا ذلك مرارا ومع هذا نتعلق بأمل أن يكون التاريخ صادق، ما هذا الهراء، قلتها مرارا لكني سرعان ما أتراجع عنها لأوكد عبقرية يوسا، مبدع لأنه يحكي واقعا بأسلوب فانتازي خيالي أو كما قال في الصفحة 399 "اختلقت بيرو قيامية، تعيث بها الحرب والإرهاب والتدخلات الأجنبية خرابا، ولن يتعرف أحد بالطبع على أي شيء وسيعتقد الجميع أنها محض خيال "يوسا هول لنا القصة حتى تصبح أكثر صدقا يزرع في عقولنا الشك، الشك المثمر الذي يدفعنا للبحث والبحث وهذا البحث ينتهي بنا إلى تاريخ أكثر تنقيحا وهذا بالضبط ما يبحث عنه يوسا.
الملم ولو بالقليل من ترجمة حياة يوسا يستوعب أن الكاتب فيه شيئا  من مايتا أو أنه استخدم هذه الشخصية كرد راديكالي عن اليسار الاشتراكي الذي آمن به سابقا والذي ينكره الآن وهو المنضوي تحت تجمع ليبرتاد أو تجمع القوى الديمقراطية المناهضة للماركسية الذي يمثل اليمين الليبرالي، من خلال مايتا يشرَح اليسار الاشتراكي في البيرو ويلومه على تعثر التقدم في البلد وهذا ما يظهر بشكل جلي في جعله مايتا شخص مخنث أو مثلي ولفظة مخنث أصابتني ببعض القلق لأني أرى استعمالها لا يتناسب مع شخصية مايتا وأفضل كلمة مثلي، يقول يوسا في صفحة    
 417 حين سئل عن سبب جعله مايتا شاذا جنسيا "من أجل التشديد على هامشيته، ووضعه كرجل يغص بالتناقضات، وكذلك من أجل إظهار الأحكام المسبقة حول هذه القضايا بين من يفترض فيهم أن يحرروا المجتمع من عيوبه، حسنا، ولست أعرف بدقة لماذا هو كذلك" هذا هو جوهر قصة مايتا تحميل  اليسار الاشتراكي مسؤولية تأخر البيرو عن نظيراتها من الدول في أمريكا اللاتينية ولهذا أسباب عدة حاول يوسا رصدها في قصة مايتا بين انعدام الوعي والتشققات والخيانات التي تسببت في ترهل جسد الاشتراكية وزوال بريقها.

فمن هو مايتا ؟
في بداية القصة يخبرنا الراوي الأول (الكاتب) أن مايتا زميل دراسة  زرعت فيه بذور الثورة منذ صغره و هو المتسائل "لماذا يوجد فقراء وأغنياء أبتاه، ألسنا جميعنا أبناء الرب؟" وبزهده وابتعاده عن الترف و تعاطفه مع الفقراء لحد الصوم والامتناع عن الأكل تتكون أول خطوات مايتا في درب الثورة، تستمر حياة مايتا مع حكاوي رواة آخرين عاشروه وتقاسموا معه ذكرياته التي يلمها الراوي الأكبر فنعرف منهم انخراطه في اليسار الاشتراكي ثم انتسابه للتروتسكيين ثم انشقاقه عليهم بعد تعرفه على بايخوس الذي وعده باليوم الموعود وقيام الثورة الفعلية في منطقة جغرافية تكدر مزاج مايتا وتنهكه جسديا ولعل يوسا اختاره عمدا لسبب في ذهن يعقوب، في خاوخا بايخوس يحدد مراحل الثورة والتمرد العسكري ويضل مايتا إلى جانبه في حين تخلى عنه الجميع إلا فتيان همهم الوحيد القيام بمغامرات أكثر من الثورة في حد ذاتها ويظهر هذا جليا في جهلهم بالنشيد الأممي واكتفائهم بالغناء والضحك وهم في طريقهم الى القرية مهد الثورة كما أرادوها ولعل هذا أيضا تعمده يوسا ليذكرنا أن اليسار في أساسه صبياني و لا يقوم على أسس جادة وإلا كانت الثورة قد نجحت، مايتا ملامح شخصيته تصبح كخيوط بيت العنكبوت يمسكها الراوي الأكبر ويستخدم لبنائها باقي الرواة فتأتي الشهادة صادقة أحيانا وأحيانا أخرى حاقدة وتجتمع كلها في حقيقة غائبة يصعب الوصول إليها، لن نخبر بنهاية مايتا وبحقيقته لأنها جوهر القصة ولو أخبرنا بنهايتها سيفتقد القارئ متعة قراءتها لهذا ننصح وبشدة بقراءتها لأنها تستحق القراءة و التمعن في كل أحداثها لنسقط ما نقرأ على التاريخ برمته ونسأل، هل التاريخ "المروي" كما وصل الينا وكما درسونا أكاديميا صادق أم تتخلله شهادات شخصية.

إيمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب