المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 26 فبراير 2019

حين تركنا الجسر - عبد الرحمن منيف.



رواية بطعم الهزيمة والانكسار، بمرارة العربي المخذول في حرب الكبارالتي لا يملك الرأي في تغيير مجرياتها؛ رغم إنه يرى أن الخيار الصحيح لميُتخذوكما يُعرف عبدالرحمن منيف، بثوريته ضد الحكومات العربية،واعتزازه بعروبته، يُرجّح البعض أن هذه الرواية تصور مرحلة ما بعدالانهزام للعرب في حرب ٦٧ ضد الاحتلال الصهيوني.

البطل زكي نداوي، يمثل العربي المنسحق والمنكسر نفسيا، بعد أن كانجنديا، يعود خائبا بعد الهزيمة، ويصوّر منيف النقطة المحورية في الحربهي "الجسروترك الجيش لهذا الجسر، الذي له أكثر من دلالة قومية ونفسيةووطنية، فالجسر هو الأمل الذي كان يتشبث به زكي وبرفقة الآخرين الذينمعه، بنوه، وتعاملوا معه أنه سر النصر الآتي أو النصر يأتي منه، فتأتيالخيبة مصحوبة بمرارة الهزيمة والفرار، تاركين الجسر لمن؟  هذا السؤالالذي لم يُجب عليه لا منيف ولا زكي نداوي، يبقى الجواب مفتوح ويمكنللجميع أن يجيب عنه، وبذات الوقت يعطي منيف الصبغة التغيرية لهذاالجواب فمن يدري من سيعبر بعد أن ترك الجيش العربي هذا الجسر، بلاحماية، خطة بديلة للكل الحالات، من سيأتي فوق هذا الجسر، سيجعل الطرفالآخر الفار، معرضا لشتى أنواع الخُذلان الدائم والعيش بمرارة الماضيوصعوبة حاضر لا يُمكن أن يُغير بسهولة فقد تركنا الجسر الذي بنيناهبأيدينا

ويظل السؤال الذي يلاحق زكي نداوي لمَ لمْ ننسف الجسر، الجسر لم تركناهوحيدا، وبقينا ننتظر الأوامر وحين جاءت الأوامر كانت أمرا بالانسحابوليُنقذ كُلًا نفسه، وهنا إشارة واضحة لرداءة التخطيط وقلة التدبير قبل خوضحرب مصيرية تهدد مصير أُمة وأجيال

زكي نداوي الذي يعود أو يمتهن مهنة الصيد -ليست هناك إشارة واضحة عنعمله السابق-، يبقى حبيسا للماضي، ويدور في متاهاته لا يحرى جوابا،وتبقى التساؤلات مضطربة في فكره، تقضُّ مضجعه، وتهدد راحة، وهنايُبرز منيف أزمة الهوية المتصدعة التي يُعاني منها زكي، فهو أضحى بلاهوية، لا شيءَ يربطه بالواقع، بنفسه، غارق في بحار التردد الذي سيّطر عليهوجعله شاكًا بكل شيءٍ ولا ينفك يذكر الجسر

الشق الآخر من الرواية، هو طابعها في تصوير الصراع بين الإنسانوالحيوان، زكي الذي يجوب الأراضي ليصيد ما تطوله يداه، هذا الصراعالمستمر بينه وبين فرسيته التي ينتظرها كل يوم، ويسعى بكل جهده، حتىيُنهي عمله مكللا بالصيد، نحن هنا أمام أدب البراريالطيور تلك العدو التييحاول زكي نداوي أن يُنهي هيمنتها على عالم السماء، ويصبح هو السيد الذييتحكم بهذه البقعة من الأرض أو هذه المنطقة من السماء، ببندقيته التي لا يريدأن تُخطئ، فخطأه هنا هو جسر آخر لا يُريد تركه، إصرار الإنسان في السعيخلف الطريدة، الشريدة، ما بين صبر وخبرة في الصيد والمهنة، وسعي دائمفي معرفة أوقات نزول الطيور للأرض وأماكن تواجدها، كل شيء هنايجري بدقة، كل شيء منتظم، إلا زكي الذي يجد نفسه في عالم غريب عنه،رغم كل محاولته أن يتناغم وينسجم مع الطبيعة ويتوحد معها، ليصل لطرائدهبكل سهولة، لكن هنا ريح مستمرة تعصف بجسره، بجسره الذي لم يعدموجودًا

زكي نداوي هو الشخصية الرئيسية في الرواية رغم ظهور شخصية الشيخفي بعض الفصول، ألا إنها تبقى ثانوية التأثير، فهي رواية الإنسان الواحد،لكنها الإنسان الذي يمثل جيلا بكامله، جيل يكره الماضي الذي خسر بسببههويته التي يتفاخر بها، وأصبح الشرخ كبيرًا، ولا يُرقع، فكان الملجأ الوحيدهو الوحدة، هو أن تكون منعزًلا عن الآخر، حتى وإن تواصلت معه، ألا إنكوهو في عالمين مختلفين، تجلسون تحت ظلال الجسر، الذي لا وجود له إلافي ذاكرة أصحابه

رغم مصائبه وتشتته النفسي وضياعه في ماضٍ ظلَّ حبيسا لجسره، ألا إنهزكي كان مليئًا بالحكمة، فكثير ما ينطق بكلامٍ قيّم، بلسان من عركته الحياةوسبر غورها

من بعض حكمه:

"الإنسان عندما يكون وحيدًا يتملكه برد أزلي، برد بدائي لا يُقاوم". 

"نحن نستحق الموت... الموت أكبر منا ولا يمكن أن نصله بسهولة". 

"فقد الناس القدرة على البكاء.. لا.. إنهم يبكون بدموعٍ تتساقط إلى الداخل..إنهم يبكون كل وقت.. حتى أثناء النوم!" 



زكي لم يكن وحده في براريه، هناك آخر رغم صمته الدائم، ألا إن لدوره لايقل عن دور زكي نداوي، هو الكلب وردان، يُعطي منيف للحيوان دورًا يقومبمقام الخليل والرفيق، فكما كان الحمار هو ذلك الرفيق الذي يسمع كلامصاحبه بأذان صاغية، وردان الكلب الوفي، كذلك لم تقل أهميته عن أهمية أيصديق صدوق، يُشاركه زكي أفكاره وحياته وماضيه وقصصه وأخباره،وبالتأكيد يُشاركه الجسر الذي تركناه، يُقاسمه الألم ومرارة الهزيمة

علاقة زكي مع الكلب أو في حديثه لنفسه، تكشف صدعًا عقائديا، فزكي لايؤمن بالرب، فهو ما بين ضفة الكفر وضفة الحيرة من يختار، يبقى يعوم،وهذا الخلل العقائدي والنفسي، هو واحد من أسباب ترك الجسر، فترك الجسركما يُريد منيف ليس تأثيره نفسي وواقعي فقط، بل كذلك يجعله منيف عائقبين الإله والعبد، فهذا العبد بعد ترك الجسر لم يعد يؤمن بشيء ولا يريد شيئامن الإله

مؤمن الوزان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب